ينفصل الحوار ما بين ادونيس وابنته نينار اسبر عن صورتي الاب والابنة في العديد من جوانبه، فإذ تضع نينار والدها المفكر والشاعر نصب عينيها، تسقط عنه في مخيلتها حضوره كأب، وتبقي على وجهه الانساني محاولة استفزازه في مطارح عديدة ومقارعته فكريا. ما يقرب المئة سؤال وسؤال تختزنه الفنانة التشكيلية في جعبتها لتفرغه بشكل متأن ومتأهب للرد على إجابات ' الوالد'. لا يتعب الواحد منهما ولا يحاول استعراض فكره بقدر ما يحاول الانغماس في الاجابات نفسها ومن ثم التعمق فيها والرد عليها إن اقتضى الأمر.
ليس معروفا إن كانت نينار قد خططت لنشر هذا الحوار المؤلف من عشرة فصول والصادر حديثا عن ' دار الساقي' في كتاب بعنوان ' احاديث مع والدي ادونيس'. ومهما يكن من أمر فإن المفارقة الكبرى تكمن اولا في جرأة نينار، وليس في جرأة ادونيس التي اعتدناها عبر مؤلفاته وفكره.
نلتفت في الكتاب إلى الخانة المحايدة التي تضع نينار نفسها فيها، وتلقي الضوء على استقلالية امرأة واثقة ببنات أفكارها ومعتقداتها حول المجتمع والمرأة والجنس والحب والفكر والتراث والعائلة والأبوة والذكورية والشهوة.. إلخ.
يظهر غلاف الكتاب صورة لأدونيس ونينار متعانقين، هي صورة الأب والابنة حصرا هنا، فلا ذرة من الشك قد تحضر لدى القارئ بأن هذين القريبين سوف يتقارعان داخل الكتاب بشكل منافس، ويتبادلان الأدوار أحيانا ليصبح أدونيس السائل ونينار الراوية والقاصة. الفتاة التي في الغلاف، تبدو مزينة بأحمر شفاه غامق اللون وكحل اسود يحيط بعينيها. تضع قرطين في أذنيها، قرطين شبيهين بعنقودي عنب، كما تبدو أظافرها مطلية بالمانيكور، وقد وضعت في خنصرها خاتما غير نحيل، فيما يبدو ادونيس مرتديا بدلة بربطة عنق، ونظارته الطبية، وابتسامة تقابل ابتسامة الفتاة ـ ابنته. قد تبدو هذه الصورة مجرد شكل استخدم لضرورة فنية بغية تبيان الاب وابنته للقارئ، فهي الصورة الوحيدة في الكتاب، التي تظهر ايا منهما او كليهما.
لكن ما يلفت الانتباه هو أن أدونيس وفي سياق حديثه في الكتاب، يبدي آراء صارمة حول عدم استساغته للتبرج النسائي أو الزينة، فهو لا يحب احمر الشفاه مثلا ويعتبر أن جلد المرأة هو الأغلى، فلماذا تضع المرأة فوقه مادة أرخص منه. اما نينار فتدافع عن رؤيتها بهذا الشأن قائلة العكس تقريبا، إذ لا تمانع حتى في أن يضع الشاب قرطا في أذنه، فذلك يجعله اكثر جاذبية بحسبها. هذا التضارب ما بين وجهتي نظر، ينعكس أول ما ينعكس في صورة الغلاف من خلال الشكل اولا ومن ثم الحوار نفسه الذي يأخذ اتجاهين، أحدهما منحاز إلى نينار والآخر إلى ادونيس. مقارعة الابنة لوالدها في بعض مطارح الكتاب وحول جانب من المواضيع تحمل دلالات عدة، اولها ان كل فكر قابل للمساءلة وللتغير، كما انه قابل للاشتقاق وللبناء عليه او هدمه، وبالتالي فلا شيء يمكن ان يكون ثابتا بالمطلق ولا شيء يمكن أن يكون كذلك معمما بالمطلق.
لكننا قد لا ننحاز إلى ادونيس في كل القضايا، وهذا يعود إلى المرونة التي يبديها الشاعر نفسه في طرحه لكل فكرة على حدة، فهو يفتح الباب كذلك للنقاش، مع انه يضطر في بعض الاحيان إلى إغلاقه وبقوة ( حين تسأله نينار عن طبعه الحاد حين كان شابا وكيف كان يقطع النباتات عشوائيا لمجرد انه غاضب، فيجيب ادونيس بأنه لا يذكر تلك الحقبة، ولا تخلو الإجابة من آثار الهرب أو التملص في الحد الأدنى). إشكالية الحوار الاولى تبدو في إعادة التموقع التي تتبعها نينار امام أدونيس، فهي تفرغه أولا ً من صورة الأب، وتساعد في ذلك المسافة التي تكونت بينهما منذ كانت صغيرة، فهو كما يرد ' كان مشغولا بتأمين المعاش' وبالتالي ترك مهمة الاعتناء بالطفلتين نينار وأرواد إلى أمهما، ومع ذلك لا يخفي اعترافه بأنه أسهم في نقص ما يخص ابنتيه. إنها مشاكسة متبادلة بين شريكي حياة واحدة، وإن انفصلت كنصفي حبة فول بعد تقشيرها واتخذ كل نصف شكلا غير مطابق تماما للآخر بفعل تدخل الزمن.
لكن ذلك يناسب ادونيس كما نينار، فهو لم يرد لها ان تكون على شاكلته وأن تنهمك في قراءة ابيها على حساب تكوينها لذاتها. تسأله نينار ' هل يفاجئك او يشق عليك إذا قلت إنني لم أقرأ شعرك؟'، فيسألها مباشرة ' لم تقرئي أي شيء؟'، قبل أن يفتح المظلة على ' فكرنة' هذه الفكرة القاسية بحد ذاتها، إذ يقود الحوار إلى محيط مفتوح ويسلك في غير ما نتوقعه مبتعدا عن اي انفعال ومنساقا خلف فكره، فأدونيس مرتاح تماما لهذا الأمر، ويطوعه لصالح رؤيته بألا يكون أبا حتى في الشعر، مع أنه ينتج الشعر لكي يُقرأ وليس ليطبع في كتب ويوضع في المستودعات. الأكيد أن ادونيس الذي يؤكد لابنته ارتياحه لأنها لم تقرأه وبالتالي لم تتأثر به، يغفل وإن مضطرا، ان هناك الكثيرين ممن يقرأونه شاعرا ويتأثرون به وبأفكاره وفي هذا بحد ذاته تفاعل أبوي قوامه فرد ' متمرد' وجماعة ' مستقبلة'. أحاديث نينار اسبر مع ' والدها' أدونيس هي عبارة عن فسيفساء لبيوغرافيا كبيرة، تجتزأ لصالح نينار أحيانا ولصالح أدونيس احيانا اخرى، وتشكل تفاصيلها في النهاية جزءا من بيوغرافيا التاريخ المعاصر سياسيا واجتماعيا على الأقل.
هو كتاب أسرار صغيرة وفتات سير ذاتية لفنانة ومفكر، يجلسان قريبا من بعضهما بعضاً، لا يطالب الواحد منهما الآخر إلا بالتفاعل معه بعيدا عن منزلتي الاب وابنته، وإن شكلت صلة القربى بينهما فرصة فريدة لنينار بأن تحاور أدونيس المعروف بقلة حديثه عن دواخله.
8/13/2010