بعيدا من الجدال القائم حول مجموعة محمود درويش الأخيرة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" (دار رياض الريس للنشر)، والتي اختلف الشعراء والنقاد حول الأخطاء فيها، ونوعيتها، ومسؤولية محررها الزميل الروائي الياس خوري، فإنها كمجموعة شعرية، يمكن اعتبارها الصوت الأخير لدرويش، أو الكلمات الأخيرة التي آثر أن يشتغلها قبل رحيله. ما نقدمه هنا، لا يتعدى منطق القراءة الشخصية، الخاضعة للذوقية والمفهوم الخاص لجماليات الشعر في هذا الديوان. وهي في طبيعة الحال قراءة لن تتفق وآراء أخرى. غير أن الإختلاف يضيف في النهاية، إلى ما هو سابق ولا يأخذ. ونحن هنا لا ندعي صفة النقد، لما هو مكتوب. هي محاولة، ليس أكثر، لوضع العين على المجاز.
يبحث درويش عن معادلة إنسانية بسيطة، أو أقل تعقيدا من المترتبات الايديولوجية والفلسفية للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يستعيض عن معادلة اللحظة المختنقة تحت ثقل التاريخ، بلحظة من نوع آخر، أقل صخبا وذات امتداد رحب، وهي اللحظة التي يتآلف الزمان فيها ككتلة، مع الفعل الانساني العادي، الذي يصنع تكراره الذاكرةَ اليومية، وتالياً يوطد علاقة الإنسان بالمكان- الجغرافيا، ويؤسس لتاريخ مغاير وأشد عنادا، مما يمكّنه من استباق خطوة الآخر، على الخانة الطوبوغرافية كما يلعب دور الموثّق الحاضر لعلاقة الكائن الأزلية مع الأرض القديمة. لكن من دون أن يوغل في الحنين، ليظل على الحافة، حافة تركيزه في صوغ الواقع بما يتلاءم وفرضية الصراع الراهن، واللاعادل السياسي، لكن من دون أن تقدم شعريته تنازلات.
"لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، يمثل كلمات أخيرة لدرويش. كلمات مسنونة برفق كأسنان منشار مطلوب منه أن يقطع شجرة إسمنتية من دون إحداث غبار يشيح الأفق المختبئ خلف الشجرة. وهو أفق الفلسطيني الذي أراده درويش أن يستعيد أرضه باسترجاع علاقة الحضارات القديمة بفلسطين، ومن ثم إستدراك العوامل المشتركة بين إنسان تلك الحضارات وفلسطيني القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين: "نحن أبناء الهواء الساخن - البارد/ والماء، وأبناء الثرى والنار والضوء/ وأرض النزوات البشرية"، أو حين يقول "نحن من نحن، ولا نسأل/ من نحن، فما زلنا هنا/ نرتق ثوب الأزلية". غير أن هذا كله لا يجعل درويش بعيدا من إدماج ضرورة الفعل المقاوم، كحركة متواترة وحية تتوافق مع حركة تدفق التاريخ إلى الجملة الشعرية. وبذلك يؤلف الشاعر توازنا مزدوجا، فمن ناحية، هو لا يوغل في الحلم، حين يتكلم عن الميثولوجيا، بل يوقظ بالواقع نفسه وشعره وفكرته عن الصراع. ومن ناحية ثانية، يوطد قوة فعل المقاومة الانسانية، ويضعها جهارا أمام عدوه، بالعناد الذي يملكه لاعب شطرنج، وسط الركام. إنسان درويش هنا، يمتلك ملامحه الخاصة الغاضبة، لكنها لا تبدو قلقة أو خائفة. يحضر الإنسان محصنا بحتمية الأشياء، وإحتكام الطبيعة النهائي لها. وهو إذ يدرك هذا الامر، يلجأ الى النفاذ الى قلب هذه الطبيعة، واختراق مفرداتها الساكنة أو غير الملاحظة، مما يجعله يتنفس قليلا خارج دائرة المأساة الفلسطينية وتشعباتها على المستوى الإيديولوجي والفلسفي والميثولوجي والتاريخي والعاطفي، وكل ما تحتمله سوى ذلك.
نجد درويش في هذه المجموعة ناشطا في خلايا الحياة كلها واللون والمرح، والذات: "أنا المعافى الآن/ سيد فرصتي في الحب". يحتفي بها وكأن بهاءها يحضر للمرة الأولى أمام عينيه، بعكس العناصر التي تؤلف دائرته الصغرى – المنزل – حيزه" "ومرآة أمام البيت تعرفني وتألف وجه زائرها". وإذا كان الموت في دواوينه الأخيرة احتل مساحة كبيرة من موضوعات كتابته الشعرية، فإنه هنا يعاود الظهور، لكن بثوب مغاير، فهو لم يعد الشبح الذي يستنفر غضب الشاعر، وخوفه الذي يعمل على تفتيته من خلال مقارعة الموت، وكأنهما جلادان في استاديوم روماني كبير، يجلد أحدهما (الموت) الآخر (الشاعر) بفكرة قدومه، فيما يتذرع الآخر بالوجود والشعر والحلم والتاريخ والشخصي والفن والأمل وتآلف الحواس مجتمعة مع هذا الكائن (الموت) الذي لطلما مر بجوار درويش- الفلسطيني لأكثر من نصف قرن خلت. لذلك، يعدل درويش من موقعه قليلا ليتسع المعنى أكثر في اتجاه الحياة نفسها وليس الموت هذه المرة: "كل شيء يصطفي معنى لحادثة الحياة/... ربما خبأت خوفي من ملاك الموت عن قصد، لكي أحيا الهنيهة بين منزلتين: حادثة الحياة وحادثة الموت المؤجل ساعة أو ساعتين". أو كما يقول في المقطع الأخير من قصيدة "لاعب النرد": "عشر دقائق تكفي لأحيا وأخيب ظن العدم/ من أنا لأخيب ظن العدم؟". إنه اعتراف الشاعر بالموت كحقيقة مجتزأة بالتساوي بين البشر، ومختبئة. لكن هذا الاعتراف الأليف بالموت، يساهم في المقابل في رسم الشعرية المغايرة في اتجاه هذا الموت. فبدل أن يكون الموت هاجسا، نراه صديقا أو كائنا متظللا خلف الفرح الأخير، وكأن الحلم الشخصي وليس المجازي للشاعر، هو السم أو المخدر الذي يجعل الموت يتراجع خطوتين، ليجعلنا درويش نتلمس شفقة العملاق الأخيرة والحاسمة نحو ضحاياه، وأيضا من القصيدة ذاتها: "وإن كان لا بد من حلم، فليكن مثلنا... وبسيطا/ كأن نتعشى معا بعد يومين/ نحن الثلاثة/ محتفلين بصدق النبوءة في حلمنا/ وبأن الثلاثة لم ينقصوا واحدا/ منذ يومين/ فلنحتفل بسوناتا القمر/ وتسامح موت رآنا معا سعداء/ فغض النظر". أو كما في المقطع الأول من قصيدة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" إذ يقول عن الموت: "فأدى تحيته العسكرية للغيب/ ثم استدار وقال: إذا أردتك يوما وجدتُك". مسايسة درويش الماكرة للموت تؤجله قليلا، غير أن المؤجل ههنا لا يلبث أن يتوارى أشواطا من الزمن، لأن ضخ درويش المسبق للذاكرة في هذه القصيدة الاستثنائية "لاعب النرد"، يبدو كأنه يساعد الشاعر نوعا ما في طرد هذا الموت أو نفيه بحجة الحياة الهائلة التي يتم استدراكها واستباقها للفظة "الموت".
هناك عامل يحتمل إضافته هنا، وهو عودة درويش الى الأولي - الأولوي، في البحث عن الهوية وإدراك كينونتها، والتي باتسامها فلسطينيا، تتعرض بين لحظة وأخرى لما يشبه الولادة والموت، المتتاليين وكأن الشاعر يعيش أكثر من طفولة وأكثر من دلالة حياتية (قصيدة على محطة قطار سقط عن الخريطة)، غير أن كل ولادة تأتي تحريضا على إعادة القراءة لمناخ أو ذاكرة كائنه - نفسه السابقة. الولادة التي تلي الموت لا تنتظر شرعية النظام البيولوجي، وإنما النظام المجازي والزمني النوستالجي الذي لا سقف له. يحين موعد هذه الولادة لتشير في اتجاه النسيج الزائف الذي ابتكره الآخر - الإسرائيلي وتفككه ببطء من دون أن تدخل في مباشرة معه: "كان حاضرنا يربي القمح واليقطين قبل هنيهة، ويُرقِّص الوادي". ولقصيدة "لاعب النرد" موقع خاص من المجموعة، لأن محمود درويش يعود بها الى زمنه الأول، غير المحاط بالإيديولوجيا، واشتراطات واقع الأرض على الفرد الفلسطيني، والإرهاق الذي يرافق المطرود لاستعادة الهوية بالتاريخ، والتلاحم مع كينونة الذات المقهورة للشعوب الأصلية في أميركا واليونان وإسبانيا، والرحيل القلق والمتقطع من الجغرافيا الأولى واليها. فالشعر لا بد أن يخضع في مكان ما لقانون الصور التي تنزفها الذاكرة، ولا بد من استقدام العبارة من متتالية بصرية وليس مجازية أولا، غير أن سقوطها النقي وغير المزخرف على بياض الورقة، يماثل تلك الضربات المتلاحقة لمطرقة على الحديد المعلق في الهواء. النظام العروضي والإيقاع الموحد، يشذب العبارة، ويشحنها بطاقة تحرض على التآلف الحتمي معها. لذلك نقرأ طفولة درويش وموقفه العام من الدنيوي، التي يوازنها بتذكّر الناضج لتفاصيل جد شخصية ولا تلمس جدلية الصراع إلا من خلال تكريس الإنتماء، إنتماء الشاعر طفلا إلى أرضه (كما في قصيدة طللية البروة). وهذا أكثر من كاف.
تشكل الطفولة ضفة مجهولة لا يمكن بلوغها بسوى الحنين ما يطرح قصيدة شعرية بيبلوغرافية، أو إعلانا أخيرا لذات محمود أمام الشعر "فهل كنتُ طفلا كما تدعي أمهاتي". فالفعل المضاد للبريء، يشترط في طبيعة الحال وجود نقيضه، أي البريء، والبريء هنا يحال في قصيدة درويش تلك، على معناه الدلالي الأقرب، وهو الطفولة، التي يعجنها الشاعر بالمصادفات أو الحظ "ولست سوى رمية نرد ما بين مفترس وفريسة"، وقبلهما الخوف (الذي يخصص له قصيدة تحمله كعنوان). فالحدث العام يفرض نفسه قبل الابتكار، ويكون على كل ابتكار جمالي أن يتملص من خانة رد الفعل بعد ذلك. إلا أن درويش، وبعكس الإبتكارات اللغوية والجمالية في دواوينه السابقة، يجنح هنا إلى استذكار فراره من الأرض (الحدث الأول) من دون أن يكون ثمة اتساع لشيء في صدره أكثر من الخوف على "مقتنياته" الشخصية (الأب، الإخوة، القطة، الأرنب) في إشارة الى وجوده ضمن معادلة سياسية مسبقة: "ولم أجتهد/ كي أجد/ شامة في أشد مواضع جسمي سرية". إلا أن هذه المعادلة لن تطول حتى يتكشف الاهتمام الدرويشي المتزايد بتعريتها وفضح هشاشتها، من خلال تسليطه الضوء على أحد إحتمالات الحياة، والذي وإن أتى بمستوى مجازي محض، وليس ماديا، غير أنه يُستخدم في القصيدة كأداة لحشر المتنافسَين، العدو وعدوه، في حالة الترقب المشترك والحذر ومن ثم تشابه سمات المأزق الداخلي في كل منهما، مما سيستدعي تآلف الطرفين ولو موقتا، ضد ما يمكنه أن يكون غيبا يفتت منظومة الصراع المفترض، ويشرذم موقع كل من العدو وعدوه الآخر في سمفونية الصراع المرهقة. ففي قصيدة "سيناريو جاهز" نقرأ: "يقول السيناريو: أنا وهو/ سنكون شريكين في قتل أفعى/ لننجو معا/ أو على حدة". تتخذ الذات الدرويشية منحى إحتفائيا بالوقت الحاضر، معطوفا على الزمن والحب، كطرفي مناظرة يتواجهان مع الشاعر. الثالوث الذي يحضر في قصيدة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، هو الزمن والحب - الأنثى والذات، مع كل التشعبات الممكنة لكل عنصر من عناصر هذا المثلث على حدة، وما ينتج من شرارت حين يتفاعل عنصران أو الثلاثة معا. المستند الاستعراضي للفكرة الشعرية وللمعاني والدلالات تنطلق من الحوارية التي يقيمها الشاعر الحاضر مع الأنثى بصيغة الغائب. تعدادية الصوت ومستويات علوه أو انخفاضه، يتمخض عنها الكثير من ثقافة الشاعر العامة على الورقة، فيثير مثلا التاريخ واللحظة الحاضرة والمنظر الطازج والحسي بالكامل والذكريات والمتوارث الشعبي والعائلي، ثم يتحصن هو خلف كل تلك المفردات، ليعيد إنتاج هويته كمحمود درويش فقط، بصفته نموذجا فلسطينيا خاصا سرعان ما يُحال أوتوماتيكيا على العام في سيل من الاستعارات والمجازيات. تخرج هذه الهوية مطوقة بهالة قوة الخلود (للفلسطيني) في مقابل خلود القوة (للإسرائيلي).
تتعدد الأصوات، في تخاطب مباشر وغير مباشر (قلت، قالت، قال...). ففي صيغة "قلتُ" والتي يستخدمها الشاعر لذاته، هناك تكريس لحضور الكيان الفلسطيني، في مقابل صيغة "قالت/ قال" (كما في قصيدة "قمر قديم" و"ورغبت فيك، رغبت عنك") والتي تستخدم في القصيدة للإستدلال على أثر الآخر (الأنثى أو الـ"هو" أو العدو وذلك على اختلاف الحيز المعطى لكل منهم في القطعة الشعرية)، ومن ثم إحالة هذا الآخر على صيغة الغائب، وتالياً تشتيت كيانه المفترض (في حالة العدو)، أو وضعه على مسافة كافية للتمحيص به (في حالة الـ"هو" أو الأنثى)، مما سيخدم الإرتقاء بصاحب الحق (الفلسطيني) على الاسرائيلي، الذي يحضر بمستويات صوتية أدنى، مقارنة بمستوى الأنا المثقفة والأكثر معاندة في استعراض الحجج، والأكثر علوا. تلفت في هذه المجموعة الأخيرة، الغنائية الواضحة، وكأنها عودة إلى شكل كتابي اعتمده في مجموعاته الأولى. إضافة إلى المراثي الثلاث المهداة إلى كل من إميل حبيبي ونزار قباني وسليمان النجاب، الذين يعمل درويش على إيقاظهم من خلال تكثيف لحظة ما تتعلق بكل واحد منهم، أو محيطه أو تصرّف سلوكه العام، ومن ثم إمدادها بدفق عاطفي وشخصي يُقذف تباعا عبر الكلمات، لنكتشف الأثر الذي شغله كل من هؤلاء في حياة درويش (فهو كتب ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" متأثرا إلى حد بعيد بأسلوب نزار قباني، لكنه لم يسمح بإعادة نشره على الإطلاق). قد يجوز القول إن مجموعة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، تتحرك في مناخات ذاتية ونوستالجية وسياسية إلا أنها لا تفلت في المجمل من منظومة الحنين الذي يكمش معظم القصائد من الداخل، وكأنها محاولة أخيرة يقوم بها درويش لاستعادة الذاتي، عبر ثنائية الشعر والأرض، وما بينهما.
النهار
10 ابريلر 2009