"هل يمكننا الاعتراف بجمالية شعر ما، حتى وإن كان لا يتناسب وذائقتنا الشعرية؟"، واحد من جملة أسئلة تبادرت الى ذهني وانا أقرأ مقدمة فاضل السلطاني لكتابه "خمسون عاما من الشعر البريطاني" (دار المدى)، وهو كتاب يستعرض قصائد مترجمة لستة وخمسين شاعرا بريطانيا ما بين 1950 و2000. لا بد بدايةً من الثناء على الجهد الكبير الذي قام به السلطاني بين بحث وانتقاء وتفتيش في سير حياة شعراء لم يكن ليصلوا الينا لولا هذا العمل. غير ان السؤال الأول يتمحور على المعايير التي تخضع لها الترجمة عموما وترجمة الشعر بشكل خاص. بل ويمكننا الاستطراد بالسؤال عن الاعتبارات والأحكام التي يمكن اسقاطها على ترجمة معينة. فالمترجم السلطاني يورد في مستهل مقدمة كتابه أن الشعر الانكليزي هو "الأقرب الى طبيعتنا ووجداننا وتجاربنا الحياتية والشعرية من الشعر الفرنسي
".
لا بد من الوقوف قليلا عند هذا التعبير، فمن هم "نحن" الذين يقصدهم المترجم في مقدمته؟ وهل يمكن فعلا اختزال جماعة من البشر تعيش ضمن اطار جغرافي ليس ضئيلا، بنمط حياتي واحد فقط كي يتوازى مع نمط شعري واحد؟ وهل نحن، كشعوب تتحدث العربية، عالقون فعلاً في ارث شعري، او جينات محددة لقراءة الشعر، من وجهة واحدة فقط، تعنى بالوجداني والتقليدي، والرومنطيقي في تعاطيها مع مكوّنات الحياة العامة منذ قرون والى يومنا هذا؟ وهل ما كتبناه من شعر حديث ونصوص بأشكال تجريبية، كلها لم تستطع العبور بنا الى مستوى الحداثوي العام، كما لم تستطع العبور بنا الى غالبية مجتمعية تتأثر بقصيدة كهذه، لتنزل عليها صمتا - كشكل من أشكال التفاعل معها - في وقت لاحق؟ وماذا يعني ان يقول مترجم ما قاله السلطاني عن الطبيعة الانسانية والوجدانية، والتجربة الحياتية والشعرية، في عام 2008 أي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو المعروف بكونه عقد التكنولوجيا الصارخة، والفاست فود، والتزاحم الزمني الهائل في ذاكرة الفرد الواحد؟ أعني كونه قرناً لا بد ان يتوالد في رحمه حراك فني تأثراً بالحيز العام لهذه الحياة القافزة احيانا كثيرة فوق مستوى الاستيعاب الفردي للأشياء.
الأمر الثاني اللافت هو حصر المترجم ولادة الشعر الحديث بحتمية ان بدر شاكر السياب ونازك الملائكة تأثرا بالشعر الانكليزي، غافلاً ربما بعض الشعراء الذين ساهموا بشكل اساسي في إيصال سفينة "الشعر الحر" امثال صلاح لبكي وادونيس وغيرهما بما يمثلون من رمزية لأناس عبروا بالشعر من ضفة الى أخرى. وهل يعني ان لولا وجود الشاعرين العراقيين السياب والملائكة (اعترفت في الطبعة الخامسة من كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، بأن العراق ليس مصدر الشعر الحر اذ ثمة من سبقها الى ذلك منذ عام 1932)، لما كان هناك شعر حر؟ أليس لكل فاصلة ينقلب بعدها التوجه الشعري السائد نحو أشكال جديدة، ابعاد تاريخية وسياسية واجتماعية بل ومعيشية على مستوى اقتصاد الفرد الواحد؟ تالياً، أليس مصطلح "شعر حديث" هو مصطلح نسبي لا يمكن عزله عن تأثيرات الزمن الراهن، وكذلك المكان؟ وعليه، فإن للعرب شاعرا اكثر حداثة بل وسوريالية من شعراء كثيرين لحقوا به، وهو المتنبي. لا نريد الاستطراد ههنا، فكتاب "خمسون عاما من الشعر البريطاني" نموذج فذ وشديد الصراحة من حيث تعاطيه مع النصوص المترجمة، اذ ان القصائد المنتقاة، ودائما بحسب فاضل السلطاني نفسه، خاضعة فقط لاعتبار ذوقية المترجم: "لقد ترجمت القصائد التي أحببتها أولا، ووجدت ثانيا انه من الممكن ترجمتها او نقل روحها الى القارئ العربي". هذا ما يطرح على ذواتنا الأسئلة التي تقلق من حين الى آخر، كلما وقعنا على كتاب مترجم، في ظل غياب المعايير الأكاديمية (كأداة ترجمة) والأدبية (كمشروع ترجمة من اجل الشعر تحديدا). في مقابل اعتبارات اخرى تقوم مقام الأولوية في اعمال كهذه. فإلى أي مدى يجوز اخضاع عاملين مثلا لذوقية فرد واحد: هما أولا القارئ العربي عموما وقارئ الشعر في وجه خاص، وثانيا المادة المنقولة -المترجمة - نفسها (مثلا اخضاع ستة وخمسين شاعرا لذوقية مترجم واحد). ومع اخلاصنا والثناء الشديد لمجهود المترجمين، الا انه يبدو مستغربا الاعتبار الذوقي وحصره في أرض تشيّد فوقها كل القصائد المترجمة. اين نحن من اعتبارات الأدب في المقارنة والدراسة والبحث في تأثيرات الاجتماعي بالعناصر الشعرية المستخدمة، والشكل الشعري والمحتوى. الذوقية، وإن بدت مسألة غاية في الأهمية عند تعاطي الانسان لأدب ما او فن بشكل عام، الا انها تشبه نفقاً إن عبرناه ولم نتفلت منه بشكل نسبي، نصبح مهددين بالانحسار التدريجي مع مرور الوقت. ربما هذا ما دفع السلطاني الى الاعتراف بغياب بعض الشعراء المهمين (لا يذكر اسماءهم) عن هذه المجموعة، كما وغياب قصائد لم يستطع نقلها الى العربية. كنا نتمنى، وبناء على ما ورد، لو قام المترجم بإدراج النص الاصلي لكل قصيدة في مقابل ترجمتها الى العربية، لساعد هذا السلطاني نفسه وحرره، بعيدا من خوفه فقدان النص الاصلي حرارته الشعرية. كما ساعد القارئ وأغناه اثناء تنقله الرشيق في سنوات الخمسين من الشعرية البريطانية.
الا ان ذلك لا يحول دون حقيقة ان لفاضل السلطاني في مقدمته سياقا سرديا غنيا يستعرض من خلاله تطور قصيدة الشعر الانكليزي في الحقبة الممتدة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، وهو استعراض شديد الخصوبة والافادة لقارئ عربي قلما عثر على ترجمات جدية لشعر بريطاني، مقارنةً بجدية المترجمين عموما وعنايتهم بترجمة الشعرية الفرنسية، الروسية، اليونانية، الأميركية... الخ. من هنا فان لفاضل السلطاني الفضل في دفعنا الى الاطلاع على حركات الشعر داخل الامبراطورية العظمى. وكيف ان بريطانيا ظلت محصنة ضد اي تغييرات قد تصيب جسم قصيدتها، آتية من مطارح اوروبية أخرى او اميركية (نيويوركية) في وجه خاص، وكيف ان محاولات البعض من الشعراء في اختراق هذه المحمية المجتمعية والمؤسسة الشعرية ذات الشكل المحافظ والدمث، باءت جميعها بالفشل. هؤلاء هم "شعراء المجموعة" بأبرز اعضائها الشاعر فيليب هوبزبوم، ومن ثم مبادرات تيد هيوز لتنظيم مهرجان الشعر العالمي في لندن كل سنتين، ومن ثم "شعراء تحت الأرض" و"الشعر الكونكريتي" ومن ثم شعر الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، ممثلا بآلان فيشر وباري ماكسويني وبيتر ديدسبري وسواهم، ومن ثم "شعر البوب". "خمسون عاما من الشعر البريطاني" كتاب لا يمكن في أي من الاشكال، غض الطرف عن أهميته نظرا الى احتوائه قصائد قد يفوق تعدادها المئة قصيدة، وهو بمثابة عين القارئ العربي على الحراك الشعري البريطاني، وان تفاوت بين السوريالي، والرومنطيقي المحدث، واليومي، وفي بعض الاحيان، قصيدة اللحظة نوعا ما. وقد يتعذر علينا دراسة كل منها على حدة، لتفاوت مناخاتها وتركيبها اللغوي وإن مترجما وخاضعا لاعتبارات مترجمها الذوقية، الا انها ذوقية صبورة وتحمل الكثير من الوفاء لذاتها في المقام الأول والأخير. وهنالك قصائد تثير الدهشة واخرى قد لا تفلح في بث حرارتها الشعرية في ذاتك، لكنها قصائد تؤلف ما يمكن اعتباره قاموسا حديثا وطازجا لشعر نحن اكثر ما نفتقر اليه كقراء يعنى معظمنا باللغة الانكليزية من خلال استعمالها كأداة تواصل ومعرفة.
وتبقى الاشارة الى تلك الامانة التي يثقلنا بها فاضل السلطاني حين يعبر من شاعر الى آخر مقدّما أفقا موجزا عن كل شاعر، معرّفا بعوالم صغيرة ومختصرة لكنها أخاذة، وخصوصا حين نقرأ مثلاً ان بعض الشعراء قد شارك في الحرب العالمية الثانية كجندي أو ضابط وأنه قتل في معركة ميدانية كعدو، في حين انه كان يكتب قصائد تكشف لنا مدى عمقه الانساني وعلاقته بالمكان الغريب عنه، وكتابته الشعر، ربما ليهيئ نفسه لمعركة كبرى لم يستطع النفاذ منها، كما لم يستطع فاضل السلطاني النفاذ بعيدا عن حساسيته في اهدائه الينا تلك النصوص على طبق من أسئلة شتى.
النهار
3 -1-2009
إقرأ أيضاً:-