ترددت طويلاً قبل قراءة "موسم الهجرة إلى الشمال" قبل سنوات طويلة، كعادتي كلما سمعت عن عمل أدبي جماهيري، أو متفق عليه. لكن النص الفريد تمكن من إسكات أصوات ارتيابي وترددي، بل، ومع استغراقي في النص، بدا فاتنا، قادرا على إغوائي لمنطقه، كنص، يمتلك لونا من التجريبية، تراوح بين مستويات سرد خطابية وصفية، وشفاهية، وثالثة تتناول المونولوغ الداخلي للشخصية، له نبرة خاصة، والأهم من ذلك كله، أنه نص مكتوب بحرية كاملة.
هذا الحس بالحرية لم يتعلق بالتعبير عن المواقف الحسية بين مصطفى سعيد وعشيقته فقط، وإنما تعدى ذلك الى التجريبية في النص، مما جعله يعبّر عن موضوع الصدام الحضاري الدامي بين ثقافتين تتهم كل منهما الأخرى ولا تزال، في صوغ فني لا يعدم الدقة ولا الإيقاع الموتر، والمتأمل في أحيان أخرى، مقدّماً نموذجا لنص رفيع المستوى، بينما ظل البطل وعشيقته يعيشان في خيالي طويلا كنموذج لذلك التناقض المرعب الذي يصوغ علاقة شديدة التعقيد عمادها الحب – الكراهية - الانتقام. وكذلك مشاهد القرية السودانية والتفاصيل، التي كان يحفرها بدقة شديدة، وهي سمة في أعماله عموما، كاشفا نسيجا مجتمعيا معقدا وبسيطا وأصيلا في آن واحد.
لعل هذا الحس بالحرية هو الذي اعطى الرواية ثقلها مقارنةً بأعمال أخرى سبقت في تناول الموضوع نفسه وعلاقة المثقف العربي بالغرب، وبينها مثلا "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، لكنها بالتأكيد كانت مختلفة في تلك النبرة المتحررة التي تضمنها نص الطيب صالح باقتدار. ثم قرأت عمله البديع "عرس الزين" فتأكد إحساسي بأني إزاء كاتب متمكن، من أولئك الكتّاب الذين يبحث الفرد عن أعمالهم جميعا.
لكنه كان مقتّرا في إنتاجه، إذ لم ينتج سوى خمسة أعمال، صنع بها اسطورته الخاصة، وهذه واحدة من أبرز سمات الطيب صالح حين تتأمله. فقد استطاع أن يظل حاضرا في المشهد الثقافي والأدبي العربي بقوة، على رغم قلة إنتاجه، كما استطاعت روايته أن تستقطب اهتمام القراء من جيل الى آخر، كأنها كلما مر بها الزمن تبين قارئها ظلا أو طيفا كان غائبا من قبل.
ومثلما كان مقلا في إنتاجه كان مقلا في الظهور الإعلامي، أو في إجراء المقابلات الصحافية، وأذكر انني في إحدى المناسبات الثقافية في القاهرة اوائل التسعينات حاولت التسلل إلى غرفة فندقه بعدما حاولت الاتصال به طويلا بلا جدوى، لإجراء حوار صحافي. لكنه رفض ذلك بشكل قاطع، لم يخل من المودة التي حاول بها تلطيف حسمه، مؤكدا أن ليس لديه ما يقوله. وتلك مفارقة لافتة اخرى، فعلى اللرغم من إصراره التام على عدم الظهور في المشهد الإعلامي، وعزوفه ونأيه عن الأضواء، فقد ظل مكانه في الوسط الأدبي، ممتلئاً، وحضوره، بالمكانة والصيت، قويا الى درجة لا يمكن تجاهلها.
عندما تلقى جائزة ملتقى الرواية العربية في القاهرة لم يعدم جمهورا عريضا من الكتّاب والقراء معا، ممن تحمسوا لحصوله على الجائزة، لكن قبوله لها إثر رفض صنع الله ابراهيم للجائزة نفسها في الدورة الأسبق، وبسبب تعليقاته السلبية الضمنية لموقف الكاتب المصري، إثر إعلان فوزه بها اصاب عددا كبيرا من المثقفين المنحازين الى موقف صنع الله ابراهيم بنوع من الفتور. لكن ذلك لم يحرك مكانته ككاتب كبير، أو يقلل من قدره لديهم كروائي من طراز رفيع كثيرا، فقد كان ذلك مما لا يختلف عليه، وذلك على الرغم من اتهامه المستمر بالتكاسل، وتوقف مشروعه الإبداعي أو نضوبه. ولعل هذا على نحو خاص من ابرز مميزاته؛ لأنه استطاع أن يظل في قلب المشهد الأدبي، دائما على رغم ذلك كله.
قبل أسابيع قليلة أعلنت جهات سودانية عديدة عن ترشيحه لجائزة نوبل للآداب، لكنها من جهة أخرى، قدّمت بذلك دليلا ساطعا على عمق الأثر الذي رسّخه الطيب صالح، وتأكيده أن مشروع الكاتب ليس مشروعا كميا، بقدر ما هو مشروع فني، يتضمن ما يرغب أن يعبّر عنه، مخلصا، وإلا فليتوقف.
لكن ما يثير الدهشة بالفعل هو طغيان حضوره الى الدرجة التي لم يتمكن معها اي صوت روائي سوداني آخر ان يبرز من بعده، على الرغم من أن روايته الذائعة الصيت يعود نشرها لمرة أولى الى عام 1966. هل كانت موهبته استثنائية الى تلك الدرجة؟ ام أن المناخ السوداني لم يستطع إفراز موهبة نظيرة؟
لا يقين لديَّ في هذا الصدد، لكن إذا كان إحساسي بالحرية في كتابة النص أحد ما لفت انتباهي مبكرا في قراءة هذا العمل، فإنه من الممكن فهم الأمر في سياق تعرض "موسم الهجرة إلى الشمال" لمصادرة السلطات السودانية، لكن المفارقة أن ذلك القرار اتخذ بعد ما يزيد على نحو ثلاثين عاما على صدورها. وبغض النظر عن الدوافع والظروف، فقد كان موقفا مريبا، أو على الأقل تأخر كثيرا، فقد نُشرت الرواية وترجمت واثّرت في اجيال عديدة، ليس من القراء فقط، بل ومن الكتّاب ممن تناولوا الموضوع نفسه لاحقا من رؤى مغايرة عدة. لكنه ربما أحد المؤشرات عالى المناخ الرقابي الذي قد يكون سببا من اسباب تعطل الحركة الأدبية السودانية.
إستطاع الطيب صالح ان يقدّم في اعماله القليلة تلك صورا دقيقة للقرية السودانية، والتراث الشعبي، وأدوات الزينة للمرأة السودانية، ونماذج من الشعر الشعبي السوداني، والتقاليد الاجتماعية. في اختصار، قدّم ذاكرة لمكان عابر للزمن، باقتدار، كما تمكن من أن يقدم الى الأجيال العربية من الكتّاب نموذجا للكاتب الحقيقي الذي لا تستهويه الدعائية، ولا وهج الأضواء، وان يقدّم الى تاريخ الرواية نماذج رفيعة من النصوص التي يتزين بها تاريخ السرد العربي المعاصر، وفي ذلك كلّه ما يعزينا في الكاتب الراحل الكبير، الذي تمثل وفاته خسارة جسدية لمحبيه، وإرثا لا يستهان به للأدب والثقافة العربيين.
في سطور
- ولد الطيب محمد صالح أحمد في مركز مروى، المديرية الشمالية، السودان عام 1929.
- تلقى تعليمه في وادي سيدنا وفي كلية العلوم في الخرطوم.
- مارس التدريس ثم عمل في الإذاعة البريطانية في لندن.
- نال شهادة في الشؤون الدولية في إنكلترا، وشغل منصب ممثل الأونيسكو في دول الخليج ومقره قطر في الفترة 1984 - 1989.
- عمل في الأونيسكو في باريس.
- حصل على عدد من الجوائز العالمية بينها جائزة الملتقى الروائي العربي.
مؤلفاته
- عرس الزين، موسم الهجرة إلى الشمال، مريود، نخلة على الجدول، دومة ود حامد.
إبراهيم فرغلي
****
اصطياد الواقع بالأدب
لا شك أن في خسارة أديب كالطيب صالح، ألماً من نوع آخر. فهو واحد من أولئك الأدباء الذين لطالما نجحوا في التعبير عن واقعهم الذي لا يعني الكثير للبعض، بلغة روائية اتسمت بالشفافية والجرأة والألم الذي يسخر من جرحه. ليس أمامك الكثير من الخيارات إذ تقرأ الطيب صالح، فأنت تتأرجح بين عفوية اللغة وجاذبية البناء الأدبي من جهة، والواقع الذي تصطدم به من جهة أخرى. استطاع الروائي ان ينقل السودان من كونه ذلك الوطن البعيد والفقير والمحيّد عن اهتمامات الشعوب العربية الأخرى، الى قلب تلك الشعوب، بل الى العالم أجمع.
روايته "موسم الهجرة الى الشمال" التي اعتبرت من بين أهم مئة رواية في العالم، خلال القرن العشرين، والتي قد تكون الأكثر شهرة بين أعماله قاطبة، حمل بها تلك الأرض السودانية، وعلاقة الإنسان السوداني بترابها. وهي الرواية التي "طيّرته" على جوانحها الى بقاع العالم كافة، وترجمت الى لغات أوروبية عديدة إضافة الى اللغة الانكليزية. ولا أزال أذكر كلما مررت بحقل أو ببستان صغير، تعبير الطيب صالح الذي يصف فيه الأرض التي يقوم أهلها بحرقها ليغسلوا التراب وتهيئته لموسم زراعي جديد. لم تحده معاناته الشخصية مع الرقابات العربية عن إكمال مشواره الروائي. وهو الفلاح العنيد الذي لطالما كانت رواياته موضع دراسات لباحثين أوروبيين وعرب.
اعتمد صالح منهجا خاصا في الكتابة الروائية مستندا الى ثقافته الواسعة والعميقة واطلاعه المشغوف على أدب العالميين الروائيين، فكان دائما مأخوذا بهاجس التجريب من دون أن يتجاهل المنهج التقليدي. فمثلا يرى بعض الدارسين أنه أشار الى جوزف كونراد من دون أن يغفل "عطيل" في "موسم الهجرة الى الشمال". وبذلك فإن تقريبه المناخ الإفريقي المعيشي المعدم، في أسلوب ذي روح شكسبيرية، لأمر في غاية الاختلاف والتمايز. فالتباين بين القديم والحديث في العرض السردي، وما يتخلله من مناقشات حول الأجدى من تلك الأساليب، وما يجب عدم العودة اليه، تحوّل بفعل الطيب صالح الى جثة مكسوة بالغبار. وبذلك، أدى دورا زائدا إضافة الى مهمته الأخلاقية كروائي، ممهدا بذلك لجيل آخر من الروائيين وجدوا أن الطريق الى كتابة الرواية تخلص اخيرا من ثقل المساجلات حول الأسلوب المحدد، الامر الذي رسم له تلك الهالة التي لم تبهت يوما.
هو كالكثير من الأدباء الذين اذا جرحهم أبناء وطنهم، جرحوا بذلك مخيلتهم ليستولدوا كل همومهم في شكل شعري أو روائي أو أي فن آخر. أطلق عليه النقاد لقب "عبقري الرواية العربية". وتوّجته "موسم الهجرة الى الشمال" كواحد من أفضل روائيي القرن العشرين، ومنذ نشرها للمرة الأولى في بيروت، لاحقته الترشيحات لينال جوائز عديدة. وفي عام 2001 تم الاعتراف بتلك الرواية على يد الاكاديميا العربية في دمشق باعتبارها "الرواية العربية الأفضل" في القرن العشرين. أما روايته "عرس الزين" فقد تحولت إلى دراما في ليبيا والى فيلم سينمائي من اخراج الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينات.
الطيب صالح واحد من أوائل الروائيين الذين انتبهوا الى مسألة ما عرف لاحقا بصدام الحضارات والقلق الذي يكتنف إنسان العالم الثالث الضعيف مصطفى سعيد والذي تتجاذبه قوى خفية بين التقاليد والعالم الحديث، وتمزقه اختلافات العالمين. يكوّن لنفسه رؤية خاصة بين تقبّل وتقلّب. إضافة الى مواضيع أخرى في رواياته اللاحقة كالفقر والبطالة والعلاقة التي لا تزال قائمة بين الاقطاعيين والفلاحين الفقراء، وذلك الصراع الذي كان الكثيرون يظنونه شبه منته، الى أن أعاده الطيب الى الواجهة عبر رواياته. كما مواضيع اخرى كعلاقة الوالد بأبيه وبإبنه (رواية "ضو البيت") وهي علاقة ملتبسة وفيها الكثير من الضربات التي تنهال من الواقع عليك عبر لغة روائية، تراوح بين السرد والوصف العميق للكائن الانساني الحساس الذي يتعرض لظلم مزدوج. هناك الكثير من الألم البطيء سريانه في عروقنا. وكل روايات الطيب صالح تبدأ من ارضه السودان، وتتحول الى كم هائل من التفاعلات الانسانية عبر ما يعتمده الروائي من أسلوب عزل نماذج من الحياة اليومية، ثم تأليف عالم خاص بها وغير خرافي في الوقت نفسه. ذلك كله على الرغم من تطعيمه رواياته بنكهة فلسفية وإن خفيفة حتى لكأنها قريبة نظرة اسطورية لا نستطيع تطويقها وإن قدّمها على طبق نظيف. حتى لنتساءل كيف أننا لم ننتبه الى تلك التفاصيل أمامنا. وقد اظهرت دراسة في جامعة الكويت أن الموت في روايات الطيب صالح شكّل حضورا دائما، وهو متشعب ولا يستثني الشخصيات بل ويحكم الموت علاقة الانسان بالمرأة وعلاقة الفلاح بأرضه، وعلاقة الاب بإبنه وابيه وعائلته.
تكمن جمالية رواياته في أنه نجح في رفع هذا الواقع بعد اصطياده، الى مرتبة رفيعة من الأدب من دون أن يزيح عن المسار الحقيقي لحياة الشخصيات والبيئة التي نشأت فيها.
مازن معروف
النهار
19-2-2009