لندن 'القدس العربي':
ريادية الطيب صالح (1929 ـ 2009) الكاتب والاديب السوداني في حقل الرواية العربية مجمع عليها. فهو الكاتب الذي اكد موقعه في سجل الخلود العربي والعالمي عبر رائعته 'موسم الهجرة للشمال' (1966)، الرواية التي ظهرت مثل القنبلة في ستينات القرن الماضي وكأنها عصارة كل العصارات، مساحة للتفكر والتفكير ونهاية لعصر كتب فيه الرجل العربي علاقته مع الغرب وانتهت شهوته بالمواجهة بعنف ارتكبه بطله مصطفى سعيد، وظلت الرواية مع مرور قرب نصف قرن على صدورها نصا مفتوحا على كل البدايات والنهايات، فهي في رؤية منها رحلة معاكسة لبطل جوزيف كونراد 'قلب الظلمات' وهي في اطار منها صورة عن رواية المقاومة والتمرد على الغرب وهي نص ما بعد كولونيالي.
لكن الرواية جعلت من الطيب صالح الصوت المهم في جيل ما بعد المداميك التي رصفها نجيب محفوظ للرواية العربية واسسها كجنس ادبي مقبول ينافس الشعر بل احيانا يتجاوزه ويتفوق عليه. الطيب صالح اكد في روايته على بعد الغموض الخلاق والضبابية الشفافة كما يرى حليم بركات وهو ما يصنع الرواية وجاذبيتها لدى القارئ العربي والعالمي حيث ترجمت اعماله الى 34 لغة عالمية.
وأهمية الطيب صالح الذي رحل عن عالمنا صباح امس انه عبر عن تجليات الثقافة السودانية وقيمها والتقاليد القروية، خاصة قرية ود حامد التي تحاول الصمود امام التقدم والتغيير. وفي كل اعماله 'عرس الزين' و'بندر شاه' التي يخلط فيها صالح بين العربية المعاصرة الفصيحة واللهجة السودانية ظل حريصا على تأكيد ولائه لثقافته السودانية الشمالية والوان الحياة فيها، وكان قادرا على استيعابها واستعادتها في اكثر من اطار وطريقة، فهو وان عرف لدى القارئ العربي بروايته 'موسم الهجرة' الا انه كان كاتبا للقصة القصيرة فمجموعته القصصية 'دومة ود حامد' صدرت عام 1960.
ولكن ريادية الطيب صالح توقفت عند روايته الاولى او رواياته الاولى التي لم يقدم بعدها جديدا، ذلك انه قدم للرواية العربية معلما من معالمها وشخصيتها الاشكالية مصطفى سعيد التي عاشت الى جانب شخصيات الرواية العربية مثل احمد عبدالجواد وسعيد مهران ابني نجيب محفوظ. وفي سنواته الاخيرة انخرط صالح في كتابة المقالة الادبية التي ابدع فيها واظهر اهتمامه وثقافته المتجذرة في الثقافة العربية الكلاسيكية وحبه للمتنبي والشنفرى وشعراء الصعلكة. وكتب في زاوية اسبوعية في مجلة عربية عن مشاهداته في العالم ورحلاته التي غطت اقاليم العالم العربي والآسيوي، وقبل عامين صدرت في مجموعة من ستة اجزاء تقدم رؤى الكاتب ومواقفه من الاماكن والمدن والشخصيات. وتذكرنا المقالات في بعدها بالطيب الصالح المثقف العارف بثقافته العربية والمطلع على الثقافة، الغربية ففيها حاول بطله السباحة ضد تيار النيل في تدفقه ورحلته عبر السنين. في مقالاته ومساجلاته الادبية كان الطيب صالح قادرا على استحضار اللحظة السودانية بتنوعها والقها وقصصها وحكاياتها فهو في احيان كان يشبه عبدالله الطيب في كلاسيكيته واقترابه من القديم، وكان قريبا احيانا من محمد سعيد العباسي الشاعر الفرح المرح المحب للحياة والقريب من مدرسة التجديد الكلاسيكية، وفي احيان اخرى كان يقترب في معرفته بالعالم من الدبلوماسي والمثقف المبرز جمال محمد احمد وكلها اسماء سودانية صنعت زمنا جميلا في الثقافة العربية. كان الطيب صالح في نزوعه نحو العالم وانحيازه لانفتاح النص على العالم في القلب سودانيا وكم كنا نتمنى لو كتب كثيرا عن هذا السودان الذي كان صديقه الشاعر المبرز صلاح احمد ابراهيم يصارع في تعريفه وجدل صورته. لكن الطيب صالح لم يبخل علينا في فتح 'الحقيبة' السودانية واستكشاف اجوائها الغنائية. لكن الملمح الاخر والذي يجب ان لا يغطي على هوسنا في تأكيد عالمية الطيب الصالح كروائي هي تلك النزعة الصوفية والتيار الصوفي الذي يغلف كتاباته والتي جاءت نتاجا لعلاقة السودان بالصوفية وطرقها وشعائرها التي لا تزال بارزة في التدين عند السودانيين في الداخل والخارج. في كتاب صدر بعد صدور روايته بقليل وصفت نخبة من الكتاب العرب صالح بانه عبقري الرواية العربية وموسم الهجرة للشمال كانت مشروعا ناجزا لهذه العبقرية ولانها مشروع مكتمل ظل القارئ العربي وعلى وهم ينتظر عملا اخر على نفس السيرة والاطار ولكن الاعمال الناجزة تظهر مرة واحدة وما يكتبه الكاتب هو في النهاية يظل على حوافها، وربما كانت قصة الطيب صالح هي رحلة رائعة في اطار مشروعه الكبير. مع انه مشروع كبير الا ان روايته منعت في بلده السودان نظرا لمشاهدها الجنسية وظلت ممنوعة في عدد من الدول العربية فيما كانت جامعة بيرزيت اول جامعة عربية تقرها على الطلاب. ولد كاتبنا في قرية كرمكول شمالي السودان عام 1929 ثم انتقل الى الخرطوم حيث التحق بالجامعة التي لم يتم دراسته فيها. غادر السودان الى بريطانيا عام 1952، وعمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حيث شغل منصب مدير قسم الدراما. عمل ايضا في وزارة الاعلام القطرية في الدوحة ثم تولى منصبا في مقر اليونيسكو في باريس. كان يعاني منذ فترة من فشل كلوي ودخل غيبوبة قبل وفاته. تزوج من سيدة انكليزية وله منها ثلاث بنات.
بغداد
كتب الطيب صالح في شؤون أدبية عديدة من بينها: أدب الرحلة. هنا لقطة رحلية له عن بغداد:
حين قدمت على بغداد كانوا قد عينوا عبدالحسين زويلف لتوهم مديراً لجهاز تعليم الكبار ومكافحة الأمية. كنت فرحاً بتلك الرحلة، أن مكتب اليونسكو الإقليمي في عمان، الذي يرأسه الدكتور محمد إبراهيم كاظم، قد جنّدني في هذه المعركة. أن أكون أمياً بين الأميين، يا له من شرف عظيم. وقد اتضح لي بالفعل خلال هذه الرحلة، كم أنا جاهل. زرت سبع دول عربية، من العراق إلى المغرب، وفي كل بلد كنت أكتشف أشياء جديدة. لقد طوفت هذا العالم المتنوع الجميل عدة مرّات من قبل، وظننت أني أعرفه، ولكنني اكتشفت هذه المرة، أنني لم أعرفه حقاً لأنني لم أنظر إليه من قبل، من هذه الزاوية، زاوية الأميين. أكثر من مئة مليون أمي في العالم العربي! معنى ذلك أنك لن تستطيع أن تصنع تنمية، ولا أن تقيم حاضراً ولا مستقبلاً. لن تستطيع أن تحقق شيئاً من هذه الأحلام الجميلة التي تعنّ لهؤلاء الناس الأكابر. وإذا صدّقنا شعار منظمة اليونسكو، وهو حق (بما أن الحرب تنشأ في عقول البشر، فلا بد من إقامة حصون السلام في عقول البشر) فمعنى ذلك أنك لن تستطيع إقامة أي من هذه الحصون، إلا إذا فتحت كل هذه العيون المغمضة.
كانت بغداد جميلة كعهدها، بل كانت أجمل. كان سوق (المربد) عامراً وتبارى الخطباء والشعراء وألقى محمد الفيتوري قصيدته العصماء (لم يتركوا لك ما تقول). تنفس الناس الصعداء، ودفنوا موتاهم وجففوا دموعهم. الحزن دائماً قريب من السطح في طبع العراقيين الأريحي، ولكنهم تناسوه وأخذوا ينظرون إلى المستقبل بثقة من قاوم وصمد، ودفع الثمن. ينظر حوله ويرى ماذا تهدم وماذا ظل واقفاً. ماذا ضاع وماذا بقي. وكان من بين ما تهدم جهاز مكافحة الأميّة.
توقفت الحملة خلال سنوات الحرب، وبدأت الأميّة تزحف من جديد، حتى وصلت الآن إلى 15% من عدد السكان حسب تقديراتنا. إلا أن عبدالحسين زويلف كان واثقاً أنهم يستطيعون القضاء عليها بسهولة، وقد صدقته، فقد كانت وراءهم تجربة عظيمة، والحملة التي قاموا بها، أصبحت مضرب المثل في المجتمع الدولي.
استقبلني بابتسامته الودود ووجهه الطيب، ورافقني طوال إقامتي، وكان سعيداً متفائلاً. لا غرو فقد خاض المعركة من قبل، مساعداً لطه يس إسماعيل، الذي كان رئيساً للجهاز التنفيذي. استمرت الحملة سبع سنوات منذ عام 78. لاحقوا الأميين في كل مكان، في الأهواز حيث يعيش الناس في جزر في الماء في مضارب البدو. في قرى السواد بين النهرين. قضوا على الأمية قضاء تاماً. وكما تتحول أحداث الحروب إلى أساطير، تحولت تفاصيل حملة مكافحة الأميّة، إلى أسطورة مثيرة في خيال عبدالحسين زويلف. قصدت الكويت بعد بغداد، وهنالك لقيت عبدالعزيز النجدي، مدير جهاز تعليم الكبار ومكافحة الأمية في وزارة التربية. رجل آخر من هؤلاء الرجال الصالحين. مثل أخيه في بغداد تماماً. كأنه هو. وقد اكتشفت خلال تلك الرحلة أن كل الرجال والنساء العاملين في ميدان مكافحة الأمية في العالم العربي، هم من طينة واحدة. الطيبة ودماثة الخلق وحب الخير والإيمان العميق بقيمة الإنسان.
بعض المهن والحرف تفعل هذا الأثر في أصحابها. الأطباء، على وجوههم شيء ما، كأنهم يعرفون سراً لا يعرفه بقية الناس، ربما لكثرة ما رأوا من تقلبات الحياة والموت. وهؤلاء يرون معجزات تحدث أمام أعينهم يوماً بعد يوم، هذه الكتل البشرية البكماء، مثل الحجارة قبل أن تصنع منها التماثيل، فجأة تنطق وترى. الرجل في السبعين، والمرأة في الستين، بعد أمد من الظلام، تنحلّ لهم الرموز، وتنفكّ ألغاز الحروف. ك.. ت.. ب.. /كتب/ ع.. ر.. ف.. /عرف/.
نظرت مع عبدالعزيز النجدي في فصول محو الأمية إلى وجوه الأميين، رجالاً ونساء، فجأة تشعّ بالحياة حين يقرأون ويكتبون، ترى على وجوههم فرحاً مشوباً بالدهشة، كمن يخرج دفعة واحدة من الظلام إلى النور. ما الذي جاء بهذا الرجل الطاعن في السن؟ وهذه المرأة ماذا يجديها أن تتعلم الآن؟ إنها تلك الرغبة المتأصلة في الإنسان أن يعرف ويدرك ويتواصل بطريقة أفضل مع الآخرين، إلا أن معظم الناس الذين يقبلون على فصول محو الأمية تحدوهم أيضاً رغبات مُلحّة لتحسين أوضاعهم المعيشية.
وجدت في الكويت جهازاً ضخماً لمكافحة الأمية، وهو أحسن جهاز رأيته في البلاد التي زرتها. كان معدّاً إعداداً عالياً، وفيه كفاءات ممتازة في ميادين البحوث التربوية والبحوث المتعلقة بمكافحة الأمية، من الكويتيين وغيرهم.
تركت الكويت قاصداً صنعاء، وقد حرمني ضيق الوقت أن أعرّج على دار كريمة وأسلّم على ساكنها الكريم، الأستاذ عبدالعزيز حسين. كان رئيسنا طوال أربع سنوات في لجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية التي كونتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بدعم مالي من دولة الكويت. اجتمعنا في الكويت وفي تونس وفي صنعاء. وكنا نزداد مع مرور الأيام تقديراً وحباً لرئيسنا الفاضل. كانت زمرة طيبة من بلاد عربية شتى وحين انصرفت الأعوام وفرغنا من عملنا، شعرنا بحزن عظيم، فقد طابت لنا الصحبة، وطاب لنا العمل برئاسة ذلك الإنسان الفذ. ومهما يكن فإن تقرير اللجنة، وهو من عدة مجلدات، وقد ترجم إلى الإنكليزية والفرنسية، سوف يظل أثراً جليلاً في ميدان العمل الثقافي العربي، ومأثرة لا تنسى لدولة الكويت.
غذّت بي الطائرة نحو صنعاء. هنالك سوف ألقى محمد المضواحي، سوف يكون مثل صاحبيه العراقي والكويتي. وسوف أجد صديقي عبدالعزيز المقالح. وسوف أزور (حجة) وأرى العيون اليمانية تضيء بالذكاء من ثنايا البراقع. في العالم العربي عالم الأميين، على الأقل، عالم واحد.
19/02/2009