عبد الرزاق القادري

الطيب صالحيرحلون عنا.. ويختفون بعيداً عن تلك الدروب التي اعتدنا أن نسير عليها كل يوم، يسحبون متعلقاتهم، روائحهم، أصواتهم ويختفون.. هكذا في كل مرة يشتاق أبطال الروايات إلى خالقيها فيجبرونهم على الانضمام إليهم في رحلة السرد والوصف والكلام.. يغلق الغلاف وتنتهي الرواية.
خبر الرحيل يكون أقسى وأشد لوعة، حين يكون الراحل بحجم الوطن، كل الوطن بجنوبه وشماله شرقه وغربه. وهكذا كان الطيب صالح أديباً تخطى «سودانيته»، ليرتحل بها إلى أقاصي الأرض ويحولها نزعة إنسانية عميقة، فيستحق بذلك لقب «العبقري» في الأدب العربي وأوسمة كثيرة وجوائز رفيعة، كان لرفعته غير مهتم بها.
هكذا يكون الكبار برفعتهم وانتمائهم، صدقهم وأدبهم، الذي يبقى مهما غابت عنا أجسادهم وارتحلت شمالاً أم جنوبا.
ولأن كبيرنا اليوم أثرى الساحة العربية بكتاباته ورواياته التي وجدت لها طرقاً فرعية إلى حقيبة كل مثقف وقارئ، فقد كان للخبر صداه في الكويت، وهنا بعض الشهادات لمثقفين كويتيين في رحيله:
يقول الأديب طالب الرفاعي: «لقد كان الطيب صالح قامة روائية ثقافية، ورحيله اليوم يمس كل الساحة العربية، خصوصاً أنه يمثل جيلا مليئاً بالاحلام والطموحات التي كانت تشكل آمالا كبيرة ولكل الدول العربية، لن يستطيع أحد أن يعكس هذه الآمال أكثر من المثقفين. لقد استطاع الطيب صالح أن يشخص علاقة العربي بالآخر الأوروبي وكيف هي ملتبسة، لقد استطاع أن يكون قامة حاضرة، قد ينظر إليه على أنه قليل الإنتاج لكنه كان قادرا على تحقيق المعادلة بين الكم والجودة، وروايته «موسم الهجرة الى الشمال» ستبقى حاضرة ما حضرت الرواية العربية. يكفي أنه استطاع أن يشكل واجهة حضارية جميلة للسودان، بكل صفاته وسماته فقد امتلك فلسفة خاصة يعرفها أصدقاؤه، فيها من الإصغاء وتقبل الآخر وإعطاءه الفرصة للتعبير ما يؤكد طيب أخلاقه. إن فقدانه خسارة كبيرة نتمنى أن نجد بعده من يكتب الأدب والرواية ويقدم أدباً كبيراً مثل إبداعه».
بصمة متميزة
وعنه قال الدكتور أحمد البغدادي: «هو أحد العلامات المهمة في الرواية العربية، وبالرغم من قلة إنتاجه لكنه استطاع أن يخلق له مكانه متميزة في التاريخ الأدبي الحديث، متمتعاً بلغة جميلة ونفس أدبي رائع، مؤكداً بصمته الخاصة في القصة القصيرة التي صنعت منه عبقرياً، نأسف أسفاً عميقاً لفراقه في هذه الأوقات».
أما أمين رابطة الأدباء :حمد الحمد فقد علق قائلاً: «فقدنا أديباً ورائداً حقيقياً، وهو واحد من أهم من ساهموا في نشر الرواية في الأدب العربي.. وفاته خسارة كبيرة نأسف لها في كل مرة نفقد قامة بحجم الطيب صالح. أعتقد أن كل مثقف وأديب يشاركني الحزن على الروائي الكبير، لما له من أثر في مخزوننا الأدبي الحديث».
نقطة تحول
أما الدكتور مرسل العجمي فقد اعتبر أن رحيل الروائي الكبير الطيب صالح، انطفاء لشمعة روائية عربية أضاءت المشهد الروائي العربي على مدى قرابة أربعة عقود يقول: «يشكل الراحل نقطة تحول ومنعطفا مفصلياً في تطور الرواية العربية، سواء على مستوى الموضوعات التي شكلت الهاجس الحضاري، أو على مستوى التقنية الروائية المستخدمة في الكتابة، أو على مستوى اللغة التي مزجت بين تفاصيل النثر وألق الشعر. لقد أضاف الطيب الشيء الكثير وسيبقى مع محبي النثر والرواية على وجه الخصوص ما بقيت الرواية وما بقي محبوها».
مؤسس أدب صدام الحضارات
الشاعر صلاح دبشة اعرب عن حزنه لرحيل الطيب وقال: «هذا الدرب يمضي فيه كل إنسان لا محالة، لكن تبقى المسيرة الإنسانية متجاوزة بإنتاجها وإبداعها كل العناوين الدالة على السكون والفناء والنهايات. والطيب صالح ممن ساهموا في صنع هذا التجاوز برواياته كـ«موسم الهجرة الى الشمال» و«عرس الزين»، إلى أن رحل رحمة الله عليه وهو قامة شامخة في الأدب العربي لن تسقط من ذاكرتنا أبداً».
ووصف رئيس تحرير مجلة العربي الدكتور سليمان العسكري الراحل بمؤسس أدب صدام الحضارات وعن رحيله يقول: «رحم الله الطيب صالح الروائي المؤسس، الذي استطاع رغم قلة أعماله أن يصنع ما يشبه تياراً أدبياً تأثر فيه كتابه، بما حققه هو في روايته الرائدة «موسم الهجرة الى الشمال» التي تعد من أهم ما قدمه الأدب العربي المعاصر في بحث وتأصيل أزمة علاقة المغترب العربي بالحضارة الغربية التي يعيش فيها. إلا أن أعماله الأخرى وبينها عمله الجميل «عرس الزين» احتل مكانة رفيعة ومؤثرة لدى جمهور القراء، لما قدمه من تناقضات مجتمع الريف السوداني، وخفاياه بشكل فني وعميق نادرين، وهو ما تسبب في تأثر العديد من الفنانين بها، وبينهم المخرج الكويتي خالد الصديق الذي قام بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، بل وانتقل إلى السودان لتصوير وقائعه هناك على الطبيعة، ونفذ فيلماً ذا مستوى فني راق في أواخر السبعينيات تسبب في حصوله على جائزة في مهرجان كان السينمائي آنذاك».
أما الكاتب فهد توفيق الهندال فقد اعتبر أن الطيب صالح كان بالنسبة له، أول تحدّ نقدي ويضيف: « تناولت أعماله الروائية الثلاث ضمن رسالة الماجستير، لأتعرف من خلال هذه الأعمال على الشخصية الروائية التي يحاكيها والمكان الذي انطلق منه والأفق الذي رصده، ليرى العالم من خلاله. رحيله خسارة كبيرة للرواية العربية لا تقل عن خسارتنا لنجيب محفوظ لكونه من المجددين في الكتابة الروائية التي لا تنسلخ من مكانها وزمانها المعلوم».

***

الطيب صالح.. يموت شمالا

منى كريم

توفي صباح الثلاثاء الروائي السوداني الطيب صالح عن عمر يناهز الثمانين عاماً ليُكمل بذلك «موسم الهجرة إلى الشمال» الذي قدمته كأديب عربي بارز لطالما طالب العرب والسودانيون خاصة، بأن يوضع على قائمة جائزة نوبل للآداب. وولد صالح في إقليم مروى شمال السوان ليعيش حياة القرى البسيطة ويخلق منها تفاصيل روايته السردية الفريدة بالنسبة للقارئ العربي الذي غالباً ما يجهل تفاصيل العوالم السودانية، وهو الذي انتقل للخرطوم ليكمل دراسته ومنها إلى لندن حيث تخصص في القضايا الدولية.
وكان لصالح تاريخ جميل بمشاركاته مع قناة البي بي سي ليصبح مديراً لقسم الدراما ومن ثم مديراً إقليمياً لليونسكو في باريس، وممثلاً لها في الخليج العربي. وكانت حياة صالح بذلك مجموعة كبيرة من الهجرات ما بين شمال العالم (لندن) وشمال القلب (المنطقة العربية). كما كانت أعماله متخمة بالعلاقة بين الغرب والشرق ليستعرض رؤيته للسياسة والاستعمار والجنس، التي أثارت اهتمام القارئ الغربي به.
واعتبرت رواية صالح الثانية «موسم الهجرة إلى الشمال» من أفضل مئة رواية في تاريخ الأدب العالمي عن بقية روايته الأخرى منها عرس الزين، مريود، ضو البيت، دومة ودحامد، ومنسى، التي حصدت الانتباه وتوجت بجوائز عربية عدة منها رواية «عبقري الأدب العربي» و»الرواية العربية الأفضل في القرن العشرين». كما كتب صالح قصصا قصيرة عدة وتحولت روايته «عرس الزين» لفيلم أخرجه السينمائي الكويتي خالد الصديق والذي فاز في مهرجان كان السينمائي، وحُول لاحقاً إلى مسلسل درامي في ليبيا.
وفي دراسات غربية لرواية صالح الشهيرة، وجد القارئ الغربي نموذجاً أدبياً من الطراز الراقي، يتناول نظرة إنسان العالم الثالث للثيمات المختلفة من حوله التي تتحول إلى صدامات والقياس ذاته على روايته «بندر شاه» مع اختلاف المستوى الفني، حيث حاول صالح أن يقدم صورة لهذا الإنسان بصوته العربي ورغباته المتضاربة والمكبوتة تحت اسم التابوات، لتكون تجربة على قضيتي العنف والجنس.
ووجد بعض النقاد العرب التميز في تجربة صالح في أنها جمعت بين قوة النص السردي ودرايته بثقافة شعبه السوداني والثقافات الأفريقية أحياناً، ليحاول أن يعكس هذه التعددية التي شهدها وقرأ عنها من دون أن تخلو أعماله من الثنائيات الفضفاضة، التي نجدها في الغالبية العظمى من أدب العالم خاصة الصراع بين الخير والشر برمزياته وأبعاده المختلفة. ولم يكن صالح في هذه القراءة للإنسان السوداني عشوائياً، لأنه أراد – بتأثير من توجهاته الأيديولوجية – أن يوضح كيف يقوم المجتمع بمعتقداته وأساطيره بطحن الإنسان وتحويله إلى آلة وذات منقسمة تتصارع لتقدم المثالية أمام الآخر والرغبة
أمام ذاتها.
وقد احتفى القارئ السوداني عن غيره حتى في المهجر بتميز صالح الأدبي، ليكتب عنه ويؤسس جوائز باسمه ويعمل على نقل أعماله إلى اللغات الأخرى المتاحة، مؤكدين من حين إلى آخر على أن صالح كان يستحق المزيد من التقدير من المؤسسات الثقافية العربية بشكل عام، كما يحصل الروائي المصري، العراقي، والمغاربي، خاصة وأن صالح عمل على تقديم صورة مجتمعاتهم وحقيقة الإنسان السوداني للقارئ العربي، ليقتل بذلك الجهل السائد في هذه المنطقة الأفريقية العربية ومزيجها المميز.
وعلى الرغم من وفاة هذا الروائي الجميل، إلا أنه من خلال أعماله مهد للأدب السوداني بفتح نوافذ له ولفت الأنظار حوله، كما أن جائزته السنوية تقدم لنا كل مرة اسم سوداني مبدع ومغاير خاصة وأن التجربة السودانية – كمثيلتها اليمنية – تنفرد بالمزج بين بساطة الواقع وتفاصيل التراث والمخيلة السردية، التي يكتسبها الروائي بطبيعته من ذكائه وقراءته وتجربته وأدواته.
هو جيل جميل إذن، هذا الذي يرحل، فبعد أن امتلأ عام 2008 بأهم الأموات أولهم محمود درويش ويوسف شاهين وأحمد الربعي، يستقبلنا العام الجديد برحيل الطيب صالح، إلا أن الكلمة التي كانت عشبة خلود جلجامش تملك كل الفضل في إبقاء روح صالح بيننا من خلال أعماله التي يقرأها ويدرسها كل جيل بدهشة متواضعة، وجوع لما سيجيء ليكمل مسيرة الإبداع.

***

مثقفو وأدباء مصر يتحدثون عن رحيل « الزين»

القاهرة - عيد عبدالحليم وإبراهيم الحسيني

لم يغب أدباء ومثقفو مصر عن عالم الطيب صالح الروائي؛ فالتفاصيل التي كان يرسمها في أدبه حاضرة في أذهانهم، لذا كان لرحيله أثره العميق عند مجايليه وقرائه ومحبيه.
الناقد الأدبي ورئيس المركز القومي للترجمة د.جابر عصفور انتابته موجة من الحزن العارم، وبعد أن عاد إليه بعض الهدوء قال عن الطيب صالح: إنه أهم الروائيين في العالم، كتابته لها طعم لا يشبه الكثيرين، وبفقدانه خسرنا هذا الاختلاف، وإنك حين تقرأ روايات أو قصص «الطيب» تشعر أنك أمام كتابة لأديب تجري الكلمات من قلمه لتدخل إلى قلبك مباشرة.
والطيب صالح من وجهة نظر الروائي محمد جبريل هو أحد اكتشافات العبقرية العربية، إذ ذكر جبريل أنه كان يكتب في صمت حتى تنبه له الناقد المصري رجاء النقاش وقدم له روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي ناقشت العلاقة بيننا وبين الآخر، وأضاف جبريل أن «صالح» رغم أنه أجاد التعبير عن البيئة السودانية إلا أن أي قارئ عربي يقرأ رواياته يشعر أنها تعبر عنه في أي مكان من العالم العربي، وأي قارئ غربي يقرؤها يشعر أنها تعبر عن الإنسانية بعامة.
بينما قال السيناريست أسامة أنور عكاشة إن الطيب صالح إحدى علامات الثقافة والأدب العربي الحديث المهمة، وأحد أعمدة الرواية العربية والعالمية أيضاً، وقامته تطول أهم الروائيين العرب، وأعماله تكشف بشكل خاص طبائع الناس والأمكنة في السودان وكذا الصراع الحضاري، فقدنا برحيله رجلاً وروائياً عظيماً من طراز نجيب محفوظ ويوسف إدريس.
أما الناقد الأدبي د.حامد أبو أحمد فقال: إنه كان مرشحاً لجائزة نوبل في الآداب لأهميته وبصمته المتفردة في الثقافة العربية المعاصرة، وأضاف أن أعماله (خصوصاً «موسم الهجرة إلى الشمال») تعتبر من الأعمال الرائدة كرواية «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، وكأعمال طه حسين، وصالح ينسب لهذه الكوكبة من العمالقة، وكان الرجل محبوباً على المستوى العربي ومعروفاً بقوّة على المستوى العالمي.
وعن سؤاله إذا ما كان «صالح» يستحق جائزة نوبل أم لا؟ أجاب: إنه يستحقها، فالأعمال لا تُقاس بكثرتها لكن تقاس بتأثيرها، وأعماله لها هذا التأثير.
أما الناقد الأدبي د.مدحت الجيار فقال: إن رحيل الطيب صالح عن عالمنا يمثل خسارة كبيرة في الرواية العربية، فهذا الرجل يتوازى مع نجيب محفوظ في مصر وحنا مينة في سورية ومجموعة كبيرة أخرى من الكتاب العرب، وقد استطاع بروايته «موسم الهجرة إلى الشمال» أن يجعل الرواية العربية منارة كبيرة، خصوصاً بعد أن تُرجمت إلى الإنجليزية، ورصد صالح في أعماله السردية تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في السودان، كما كشف عن مكونات الشخصية العربية عموماً والسودانية خصوصاً، وما تصادفه من معوقات الحياة المختلفة، ولغته على رغم نثريتها إلا أنها كانت أقرب إلى الشعر حتى مع توسلاتها الكثيرة باللهجة العامية السودانية تلك التي كان يقيمها بين شخصيات رواياته.
كما أضافت الروائية سلوى بكر إلى ما سبق أنه كان إنسانا كبيرا وجميلا قبل أن يكون كاتبا متميزا، واعتبرت خبر وفاته أسوأ الأخبار التي استمعت إليها منذ زمن طويل.
ويرى الباحث أن للموت أثراً ملحوظاً في بناء العالم الروائي إذ نجح الطيب صالح في تقديم عطيل جديد هو «مصطفى سعيد» القرن الـ 20 الذي حاول عقله أن يستوعب حضارة الغرب لا يبالي ولا يهاب، وله القدرة على الفعل والإنجاز، يحارب الغرب بأسلحة الغرب.
إضافة إلى ما سبق يمكننا أن نؤكد أن عنصر الزمن كان أحد العناصر المؤثرة في رؤية الطيب صالح، فالكتابة عنده انعكاس لقضايا معاصرة كالسلطة ومركزية المدنية، وإن اتسع مفهومها عنده لتشمل مدناً أكبر وعواصم مختلفة، وهي كتابة تعبر عن أزمة المثقف تجاه ما يحدث.

اوان
19 فبراير 2009-02-1