المثقف العربي الأبرز في جنادريتهم
تنبأ قبل 30 عاما بطوفان الرواية النسائية السعودية

الدمام: ميرزا الخويلدي وعبيد السهيمي الرياض: فتح الرحمن يوسف
على مدى 23 عاما من دورات المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، كان الراحل الطيب الصالح هو المثقف العربي الأبرز الذي يضيء أمسياتها كما يضيء ملتقيات المثقفين العرب الذين تحتضنهم العاصمة السعودية كل عام. ومبكرا التصق الطيب الصالح بالحياة الثقافية السعودية والخليجية، التي درسها واقترن برموزها، وكان الراحل الشيخ عبد العزيز التويجري أحد أبرز أصدقاء الطيب الصالح الذي كان مجلسه هو الآخر صالونا للثقافة والفكر يحتفي كل (جنادرية) بمناقشات ثقافية ومساجلات مع الطيب الصالح، وبرز من بين تلك المساجلات مباراة في الذاكرة بين الشيخ والطيب بشأن أبيات منسوبة للمتنبي، ومعلوم أن الكتاب الأول للراحل التويجري كان (في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء).

كان الطيب الصالح قريبا حد الالتصاق بالمشهد الثقافي السعودي خصوصا والخليجي بشكل عام، وقلّ أن يغيب عن مهرجان أدبي أو احتفالية ثقافية كبرى، وفي حضوره في الرياض كان دؤوبا في الالتقاء بالمثقفين السعوديين وزيارة بيوتهم، كما كان يلتقي بالمثقفين السعوديين وبالأدباء الشبان في بهو الفندق كل عام لمناقشة رواياته بكل أريحية وشفافية، وطالما تقبل النقد، أو راح يفسر شيئا مما يلتبس في الفهم.

وبسبب اقترابه من الهوية الثقافية والأدبية الآخذة بالتشكل منذ الثمانينات تنبأ الطيب بما بات يعرف اليوم (تسونامي الرواية النسائية السعودية). فقبل أكثر من ثلاثين عاما نقلت مجلة (عالم الكتب – العدد الرابع 1981) عن الطيب الصالح قوله: «إذا كان الخليج عنده أدب حديث وأصيل وليس ازدهارا مجبرا فسيكون مكتوبا على يد امرأة لأن النساء هنّ اللواتي يعشن تحت ظروف اجتماعية صعبة تجعلهن مؤهلات للكتابة في الرواية والشعر .. وأنه إذا كان هناك رواية خليجية خلال العشر سنوات المقبلة فإنها سوف تكون رواية امرأة كتبت بالقهر والغضب».

الطيب صالح بعيون سعودية

تركي الحمد: لماذا لم يكرم في حياته

من السعودية يقول الأديب والمفكر السعودي تركي الحمد، إن وفاة الطيب صالح تفتح الملف القديم الجديد، حيث يجب أن يموت المبدع والمفكر لكي يتم تكريمه، فهذه القضية التي تطرح باستمرار وأشبعت نقاشا وجدلا، لكنها ذات القضية لم تتغير، فعندما يموت شخص بحجم الطيب صالح، نردد ذلك لماذا لم يتم تكريمه أثناء الحياة.
ويقول الحمد إن الطيب صالح لو لم يقدم سوى روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) فقط لكفاه، وذلك في إشارة من الحمد إلى ما يقوله بعض المثقفين العرب إلى الطيب صالح من أنه لم يقدم أي عمل روائي خلال الـ20 سنة الأخيرة من حياته، ويضيف الحمد، في الثقافة الغربية هناك كتاب ورموز عالميون لم يكتب الواحد منهم سوى عمل واحد خلد اسمه.
ويضيف الحمد: «تكمن روعة الطيب صالح في الكيف وليس في الكم، فمثلا رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) حظيت بالعديد من الدراسات وأسند عليها من تفسيرات، حول علاقة الشرق بالغرب، والمستعمِر بالمستعمَر، وما إلى ذلك من تفسيرات.
وكان الحمد قد التقى بالطيب صالح في عدد من المؤتمرات الفكرية والثقافية، ويصفه بأنه كان متواضعا يمثل بساطة البيئة التي أتى منها.

د. ثريا العريض:

الرواية إذ تتعدى الفرد إلى المجتمع

الشاعرة الدكتورة ثريا العريض تقول: «التقيت بالطيب صالح في لندن في إحدى أمسياتي الشعرية هناك بمناسبة احتفال السفارة السعودية بمئوية المملكة. وبعد إلقاء الشعر وجدت الأديب الفارع يتقدم نحوي وعرفته حالا بملامحه التي رسمتها مئات المطبوعات الأدبية كلما نشرت له أو عنه. نسيت وقتها كوني نجمة الحفل و لم يبق يسطع أمامي غير الأديب الشهير. فلم يكن من السهل أن أستوعب الموقف: الطيب صالح يصافحني ويبدي استمتاعه بما سمع. قلت له إنني أيضا استمتعت بكل ما قرأته له من روايات وعلى رأسها «موسم الهجرة إلى الشمال». وإنني من أشد المعجبات بأسلوبه المتميز الذي رسم لي ولغيري عالما عن الريف السوداني لم يكن لنا به علم. توقف لحظات يفكر ثم قال: لقد كتبت بعد موسم الهجرة عددا من الروايات أراها أكثر تميزا ولكن القارئ مصر على أن يربطني بتلك الرواية الأولى.
سألته وقتها ما الذي يفضله هو من رواياته الأخرى فأجاب: «دومة ود حامد» و«عرس الزين». في اليوم التالي اشتريت تلك الروايات وعدت من لندن أحملها محملة بعبق من صوته وهو يتحدث عنها.
وتقول العريض، حين تلقيت خبر رحيله شعرت بحزن كثيف. فقد مات الأديب المثقف المبدع.. وبرحيله أعزي فيه نفسي والساحة الأدبية العربية وأهله في السودان وفي لندن.
وتضيف: «الطيب ترك آثارا أدبية تشرف الثقافة العربية.. أدعو روائيينا الأحداث أن يقرأوها ويتعلموا منها كيف تكتب رواية تتعدى الفرد إلى التعمق في نفسية المجتمع دون فوقية مرفوضة. وبرحيله فقدنا أديبا متميزا. وتميزه ليس فقط في لغته وأسلوبه بل أيضا في عمق تواصله بانفعالات الشاب العربي الذي يقف بين شفيرين: إدراكه أن معتقدات مجتمعه لا تسمح أن يكون هناك تقبل متبادل مع من يتجاوز وعيه تلك المعتادات البسيطة بما في ذلك الخزعبلات المتوارثة، والشفير الثاني هو إدراكه أن المجتمعات البعيدة التي يجذبه إليها تطورها المعرفي لا تراه إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية التي تنجذب إلى تفاصيل سطحية ينفر منها هو ولا يتقبلها في ما يراه ذاته الفردية. وهنا تأتي إشكالية العبور إلى الشمال حيث هو عبور لا يتم أبدا».
وتتساءل العريض: «هل عبر الطيب صالح بعد ذلك الهوة التي فصلته في برزخ بين المجتمعين؟ هل حقق الهدنة والتصالح مع ذاته ومجتمعه ومجتمع الآخر؟» وتجيب: لا أعرف، و لكنه الآن ارتاح من مواجهة الصراع في تلك المساحة الضيقة بين الشفيرين والكتابة عنه.

يوسف المحيميد:

رحيل الضلع الثالث

الروائي السعودي يوسف المحيميد يصف وفاة الطيب صالح بأنها تعني رحيل أحد أهم رموز السرد الروائي العربي، ويضيف: «بموته سقط الضلع الثالث من المثلث الذي شكل رؤيته الأدبية ولغته السردية وذائقته الفنية، فبعد رحيل محمود درويش الذي تتلمذ على أشعاره ولغته الشاعرية التي ظهرت كما يقول بشكل جلي في أعماله الأدبية الأولى، وكذلك رحيل يوسف شاهين الذي شكل ذائقته البصرية ورؤيته الفنية قبل نهاية العام، ليحلق الضلع الثالث الذي كان له دور في تشكيل لغته السردية مع بدايات العام الجديد».
ويبين المحيميد أن «كثيرا من الناس يخلطون بين شخصية الطيب صالح وبين شخصية مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال، أحد أهم أعمال الطيب صالح، ويضيف هذا لا يعني أنه ليس هناك أعمال أخرى مهمة مثل رواية عرس الزين، ودومة ود حامد، إلا إنها أغفلت وتم التركيز على موسم الهجرة إلى الشمال كعادتنا في تناول الأعمال الإبداعية.
ويعتبر المحيميد موقف الطيب صالح بتوقفه عن كتابة الرواية موقفا شجاعا وجريئا، حيث صرح في أكثر من مرة بأنه ليس لديه شيء جديد لكي يكتبه، رغم أنه منضبط في كتابة المقالة، وهذا موقف نادر ليس على المستوى العربي بل على المستوى العالمي. ويشير المحيميد إلى رواية الأديب العالمي غربيال غارسيا ماركيز (مذكرات غانياتي الحزينات)، التي وصف إصدار ماركيز لها بالتهور، لأنها لا ترقى إلى اسمه ومكانته في عالم الرواية، بينما موقف الطيب صالح يحسب له، فقد كان يستطيع أن يكتب رواية من ذكريات الطفولة وسيسوقها باسم الطيب صالح، لكنه لم يفعل».
وهو يعتبر أن تجربته الأدبية تفتحت على اسم الطيب صالح، فقد شكل ذائقته السردية في عالم الرواية كما كان ليوسف إدريس حضوره في القصة. وعن لقاءاته به يقول: «التقيت به مرارا في مؤتمرات الرواية العربية في القاهرة. كان بسيطا فلم يكن يشبه كثيرا من الروائيين أو الشعراء العرب المغرورين».

عبد الله الوشمي:

صلة الوصل بين الغرب والعرب

من الرياض يقول عبد الله الوشمي، نائب رئيس نادي الرياض الأدبي: «الروائي الطيب صالح أحد الأسماء العربية الكبرى في عالم الرواية، وهو يمثل بالنسبة لي ولجيلي واحدا من جيل الأدباء العرب الآباء. ونستطيع أن نجد تأثيره في عدد كبير من الأدباء والروائيين العرب وبالأخص نحن السعوديين الذين عرفناه أديبا وكاتبا وإنسانا من خلال رواياته ومن خلال مقالاته المضيئة بالصحف والمجلات السعودية والخليجية ومن خلال زياراته للسعودية في مواسمها الثقافية (الجنادرية).
وقد نشأ جيل يتذكر رواياته بلا حدود كـ(موسم الهجرة إلى الشمال) بوصفه أحد أبرز الذين دشنوا الصلة بين الغرب والعرب من خلال النصّ الروائي.

أحمد الدويحي:

صانع الحوار

أما الروائي السعودي أحمد الدويحي فيقول: «إن الطيب صالح روائي كبير يعد من الجيل المؤسس للرواية العربية. وقد تكون روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) واحدة من الأعمال الروائية الخالدة في خارطة الرواية ليس فقط العربية وإنما العالمية أيضا.
ويعرف له القارئ العربي سياقا روائيا ثريا حيث وضح ذلك في نقله المخزون التراثي والحياتي والاجتماعي والثقافي والسياسي في السودان مثل (دومة ود حامد).
ويضيف الدويحي: «شاركتُ الطيب صالح في كثير من الأمسيات الرائعة، ووجدت أنه يمتلك اهتمامات ثقافية كبيرة، فروايته (موسم الهجرة إلى الشمال) هي واحدة من أوائل تجربة الحوار عبر النص الأدبي بين شمال العالم وجنوبه في الثقافات والحضارات قبل أن يقوم حوار الحضارات بشكله الذي عليه اليوم.
المثقف الخليجي عموما والسعودي خصوصا عرف الطيب صالح عن قرب وعرف عنه إلمامه بالمعرفة من كل جوانبها ومعرفته بتفاصيل الثقافة المحلية الخليجية والسعودية من خلال حضوره مهرجان الجنادرية والمواسم الثقافية الأخرى.
وقد عرفت عنه صراحته وجرأته، وعدم قبوله الإملاءات، كما إنه لم يطبل ولم ينفخ بوق أحد أيا كان. كان فنانا حتى الموت ولم تستطع السياسة أن تجرفه من الأدب برغم ثقافته السياسية وآرائه الواضحة فيها وقلبه السوداني الخالص كاللبن فقد ظل وفيا للفن والأدب والجمال حتى مماته».

صلاح القرشي:

أبطال رواياته وقصصه سيبقون أحياء طويلا

ويقول الأديب صلاح القرشي: «إن الصباح الذي رحل فيه الطيب الصالح كان حزينا. فالأديب الكبير الطيب صالح يشعرك وأنت تقرأ له أنك تشعر بكلماته وكأنك تعرفه تماما، بل وتعرف شخصياته وأعماله وتصادقها وتحبها.
رحل الطيب صالح لكن أبطال رواياته وقصصه سيبقون أحياء طويلا، وبينهم «مصطفى سعيد» الذي خلد في واحدة من أهم الروايات على المستوى الإنساني والعربي «موسم الهجرة إلى الشمال» .. وكذلك الحال بالنسبة لـ«الطاهر» و«د الرواسي» ومعه «محجوب» في بندر شاه و«مريود» وضوء البيت و«دومة» و«د حامد». فهكذا يقبض الكبار كالطيب صالح على شيء من الخلود في حلم الإنسان الأزلي.. فهم يرحلون لكنهم لا يتوارون أبدا».
> بافقيه: علامة في الرواية العربية
الشاعر علي بافقيه يقول إنه حين كان يتجه إلى الكويت منذ 35 عاما لشراء الكتب كان يضع على رأس القائمة مؤلفات عبد الرحمن منيف والطيب صالح.
ويضيف: «ذهلت بعد قراءة «موسم الهجرة إلى الشمال». تلك الرواية هي علامة في الرواية العربية فأصبحت أبحث عن كل ما يكتبه الطيب صالح. إنه يتدفق بعفوية وإبداع هو أحد رواد الرواية العربية الأوائل الذين ارتقوا بالسرد العربي أمثال محفوظ ومنيف.

الكاتب الكويتي سليمان الشطي:

إنه ضمير متوثب

من الكويت، يقول الأديب والروائي الدكتور سليمان الشطي لـ«الشرق الأوسط»: «إن الأدباء مثل الطيب صالح ضمائر متوثبة تنفض فينا الجذور فتدب الحياة من حولنا..
أذكر تلك الظهيرة الساخنة، فيها كانت الرحلة المذهلة معه في موسم رحلته الشمالية، رحلت مع بطله مصطفى سعيد، وجين موريس إلى الشمال البارد، تجولت في خلايا أرض السودان. أدركت يومها دقة العنوان الذي اختاره رجاء النقاش وهو يتحدث عن عبقرية روائية جديدة..
وقامت الصلة الأدبية بين قارئ وكاتب، وتحققت المعرفة الشخصية بين إنسان وإنسان في لقاءات فيها من ثراء الفكر ما فيها، ودفء الإنسانية الشيء الكثير.
وبدا لي، بل رسخ في فكري، وتغلغل في ثنايا وجداني تصور لقيمة هذا المبدع الذي كان يتفرد سلوكا وأدبا. فيه تلازمت مجتمعة رؤى متعددة، كما بدا من روايته موسم الرحلة إلى الشمال، حيث معضلة اللقاء مع الآخر، وهو لقاء متجدد دائما قديما وحديثا، التقط عن معاناة ما سبقه آخرون قريبون منه، الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس، عالج كل واحد منهم طرفا من الأطراف أما هو فقدم اللقاء فالصدام فالانكماش. كانت معالجته موغلة ضاربة في أعماق النفس، لذلك يمد يده، أو مدها من قبل، ليقبض قبضة من طين أرضه فتستوي شخصية (الزين) في روايته (عرس الزين) لتقدم كمال الصورة.. ويستمر التكوين والصقل في أعماله المعروفة، مركزة، مشيرة، مستوعبة، ناضجة.
كان الطيب صالح تراثيا موغلا في التراث، شعبيا متذوقا للحس الشعبي البارز الظاهر، وفي الوقت نفسه لا تراه إلا ويقربك من روح الصوفي الهائم.
هكذا كان الطيب صالح، أديبا وإنسانا وللناس في أسمائها دلالة».

د: سلطان القحطاني:

حوّل وجهة الرواية

يرى الدكتور سلطان القحطاني أن «الطيب صالح يمثل قامة من قامات الأدب العربي الحديث، ورائد من رواد الثقافة العربية بشكل عام والرواية بشكل خاص. فقد استطاع بإنتاجه الروائي أن يحوّل وجهة الرواية من التقليدية إلى الحداثية. ولحسن الحظ أن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» ظهرت في الوقت الذي أوشك فيه نجيب محفوظ على التوقف عن الكتابة، فعندما ظهر جلينا (نحن جيل السبعينات) تفتحنا على أدب الطيب صالح وأساليبه الجديدة وأصبحنا نقلده حتى استقل كل منا بأسلوبه الخاص فيما بعد غير أن الطيب صالح ما زال أستاذنا الذي ننهل منه حتى حين رحيله.
وخلال وجوده بمنطقة الخليج وتحديدا بقطر الشقيقة كنا نلتقي معه بين الفينة والأخرى ونتناقش معه حول بعض الأساليب وبعض الرؤى التي يمكن أن نخرج بها نحن كجيل إلى عالم الرواية، فأكد لنا أن توقفه بعد روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» أنه أراد ألا يكرر نفسه مرة أخرى. وهذا دليل على أن الرجل كان محافظا على فنّه وأراد أن يترك الفرصة لمن جاءوا بعده ليقدموا أنفسهم إلى عالم الإبداع والرواية.
وبرحيل الطيب صالح فقدت ساحة الثقافة والأدب الحديث بشكل عام وعالم الرواية بشكل خاص عمودا من أعمدتها الذين أسسوا لفنها الحديث».

زياد السالم:

رواياته مسكونة بالجنون ورعشات الشعر

أما الشاعر زياد السالم، فقال: «إن الطيب صالح أحدث تحولات فكرية في أفق الرواية العربية، إذ يمتاز عالمه الروائي بالثراء وتعدد مستويات البناء كما أنه بارع في خلق الحيلة الفنية الاتهامية داخل العمل. ورايته العالمية «موسم الهجرة إلى الشمال» مسكونة بالجنون ورعشات الشعر.. ذات فضاء ينفتح على الأساطير والطقوس الأفريقية بشكل لا يمكن أن يرسمه فنان تشكيلي محترف.
كما يتضح من خلال الرواية ملامح الشخصية السودانية المرتبة.
وكان الطيب صالح على علاقة جدلية مع الآخر بكل مكوناته اللامتناهية.. فاستطاع أن يصنع هويته الفائضة بالتمرد على الأصول والمسلمات. وهذا الروائي المجنون تنطبق عليه مقولة خفة الكائن.. وبرحيله تفقد الرواية العربية رمزا من رموزها الأفذاذ النادرين وأحد فرسانها الذين لا يشق لهم غبار».

***

الطيب صالح.. مزج الشرق والغرب روائيا وأعاد رسم خارطة الرواية العربية
رحيل الروائي السوداني والعربي الكبير

الطيب صالحلندن: «الشرق الأوسط»
رحل فجر أمس فبي العاصمة البريطانية الكاتب والروائي السوداني والعربي الكبير الطيب صالح عن ثمانين عاماً بعد تدهورت صحته في الأيام الأخيرة.
وقال حسن تاج السر، أحد الأصدقاء المقربين للأديب الراحل الطيب صالح، لـ«الشرق الأوسط» إن الطيب صالح أصيب في الفترة الأخيرة بفشل كلوي اضطره إلى إجراء عمليات غسيل كلى ثلاث مرات في الأسبوع، مما استدعى أصدقاءه للبحث عن متبرع لإجراء عملية زراعة كلى. وبالفعل تبرع شاب سوداني بكليته للطيب، وبدأت الاستعدادات لإجراء العملية الجراحية لزراعة الكلى في أحد مستشفيات دبي، ولكن حدثت تعقيدات في حالته المرضية أدت إلى تأجيل العملية، إذ اكتشف الأطباء عند الإعداد لتلك العملية أنه يعاني من ضيق في الشرايين ويحتاج إلى دعامة، وبالفعل أجريت له عملية الدعامة، التي لم تسمح بإجراء عملية زراعة الكلى.

وأضاف تاج السر أن حالة الطيب صالح الصحية تردت بصورة سريعة، إذ أصيب قبل بضعة أشهر بجلطة في القلب ثم انتقلت إلى المخ، مما جعله يمكث لفترة طويلة في العناية المكثفة بمستشفى برومتون في وسط لندن، ثم نقل إلى مستشفى في ويمبلدون بالقرب من منزله بجنوب غرب لندن إلى أن توفاه الله فجر أمس.
وقال محمد حسين زروق نائب رئيس البعثة السودانية في لندن لـ«الشرق الأوسط» إن الرئيس السوداني عمر البشير ونائبه علي عثمان محمد طه وكبار المسؤولين في الدولة والسفارة السودانية في لندن كانوا يتابعون إجراءات علاج الأديب السوداني الراحل، ويستفسرون عن حالته الصحية للاطمئنان عليه طوال فترة علاجه في المستشفى.

وأوضح زروق أن السفارة السودانية في لندن فور سماعها خبر وفاة الطيب صالح، وبعد التشاور مع أهل الفقيد، تكفلت بكل إجراءات نقل الجثمان من لندن إلى الخرطوم، إذ قررت الأسرة دفنه في مقابر البكري بأم درمان، ومن المتوقع وصول الجثمان إلى الخرطوم فجر الجمعة، حيث يتقبل العزاء فيه بمنزل شقيقه بشير صالح في مدينة النيل بأم درمان. وقررت السفارة السودانية في لندن عقد مجلس عزاء وفتح سجل للتعازي، حيث تقبل العزاء في الفقيد عمر صديق السفير السوداني وبشير صالح شقيق الراحل، الذي جاء قادماً من البحرين لمرافقة الجثمان إلى السودان وأسرة الفقيد وصديق الفقيد محمود عثمان صالح مساء أمس في مقر السفارة السودانية في لندن.
ولد «الطيب محمد صالح» ، وهذا هو اسم بالكامل عام 1929، في بلدة « كرمكول» على ضفاف نهر النيل تتبع لمنطقة «الدبة» في شمال السودان ، عند منحني نهر النيل، في ما يعرف بديار«الكابية». في طفولته درس بالخلوة لحفظ القرآن الكريم ، وحين بلغ الثامنة انتظم في المدرسة الأولية، درس المدرسة الابتدائية بمدينة بور تسودان الميناء البحري السوداني على البحر الأحمر شرق البلاد. درس صالح الثانوية بمدرسة وادي سيدنا الثانوية في مدينة أم درمان . قبل بكلية الخرطوم الجامعية ابا الاستعمار الانجليزي، الذي تحول فيما بعد إلى «جامعة الخرطوم» ، وبالرغم من تميزه في العلوم إلا أن ميوله الأدبية كانت تدفعه لكلية الآداب. ولم يجد استجابة لنقله لكلية الآداب، ترك الدراسة الجامعية إلي مهنة التدريس.ع مل الرائي السوداني الراحل مدرساً بالمدرسة الأهلية الوسطي بمدينة رفاعة.أغترب إلي لندن في عام 1952 حيث عمل بالقسم العربي في الإذاعة البريطانية وترقي في فترات وجيزة حتى تسنم وظيفة رئيس قسم الدراما.

ثم عمل صالح خبيراً بالإذاعة السودانية 1967. وعمل مستشاراً بهيئة اليونسكو بباريس، ثم مقيماً لليونسكو بالدوحة وعمان لمنطقة الخليج، ثم عمل وكيلاً لوزارة الإعلام، لدولة قطر في السبعينات من القرن الماضي

***

سيبقى الطيب صالح أمة في كاتب وكاتباً في أمة
قال عن نفسه: يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها

واشنطن: طلحة جبريل
غادر الطيب صالح الخرطوم في شتاء عام 1953 في رحلة ستمتد أزيد من نصف قرن، وكان ذلك في فبراير (شباط) من تلك السنة، ويتوقع أن يعود الطيب صالح إلى السودان فجر غد الجمعة من شهر فبراير (شباط) أيضاً، جثماناً يرافقه شقيقه بشير محمد صالح وصديقه محمود عثمان صالح، ليدفن في مقابر البكري في أم درمان، هذه المدينة التي قال عنها «هي المدينة التي ترنو إليها باقي بلاد السودان... كان كل واحد منا يجد أن لديه أقارب أو أهلا في أم درمان ... مكاناً ميكروكوزم... لقد بدأت أم درمان تتكون بكيفية طبيعية لكننا كسرناها لسوء الحظ».

في آخر حديث هاتفي بيننا تحدثنا أيضاً عن أم درمان ، وأحسست بفرح غامر عندما قلت له إنني ربما أعود إليها عودة عاطفية هذه المرة، ولم يكن يدور بخلد أحد منا أن الطيب نفسه سيعود إلى أم درمان ليوارَى الثرى في المدينة التي درس خلالها المرحلة الثانوية في واحدة من أهم ثلاث مدارس ثانوية في أربعينات القرن الماضي.

الطيب صالح تلخص شخصيته عبارة كتبها هو نفسه يصف فيها أحد الكتاب «هو من طراز مبدعين يظهرون في حياة الأمم خلال فترات متباعدة كان كاتباً في أمة أحبها وأحبه كثيرون... وكان أمة في كاتب».
كان الطيب صالح هو السودان، وكان السودان هو الطيب صالح، لأنه جمع في كتاباته بين قدرات كاتب عملاق، ومبدع مرهف الإحساس، ومفكر عميق الفكر، وإنساناً قل أن يجود الزمان بمثيل له.
وعلى الرغم من أن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» اختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية، يقول الطيب بتواضعه الجم «أقول لك صادقاً ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر».

هذا هو الطيب صالح في حقيقته، تلخصه كلمة واحدة « التواضع» ولعل من مفارقات لعبة التواريخ في حياة الطيب صالح، أنه ولد عام 1929، واحتفظ برقم تسعة أيضاً وهو يغادر.
أطلقت والدته عائشة أحمد زكريا عليه اسم «الطيب» بعد أن فقدت اثنين من أشقائه قبل أن يأتي الطيب، وكان الناس في قرى شمال السودان، يعتقدون أن «الطيب» اسم تحل به البركة إذا كانت الأسرة تفقد مواليدها، والده محمد صالح أحمد، وأهله يتوزعون ما بين «الدبة» و«العفاض» وهي من قرى منطقة مروي. عاش الطيب مثل أهله حياة المزارعين. لذلك يعتقد الطيب صالح أن بيئة القرية في المجتمع المتساكن والمندمج هي التي ستحفزه بعد ذلك بسنوات طويلة على الكتابة «كتبت حتى أقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها ولن أعود إليها مرة أخرى».

عاش الطيب صالح في قريته كما يعيش أهلها، وهو يقول بحنين يبدو جارفاً عن تلك الفترة «في هذه البيئة بدأت مسيرة حياتي، ورغم أنني تعرجت في الزمان والمكان بعد ذلك لكن أثر البيئة لا يزال راسخاً في أعماقي، وأعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة. حين كبرت ودخلت في تعقيدات الحياة كان عالم الطفولة بالنسبة لي فردوساً عشت خلاله متحرراً من الهموم، أسرح وأمرح كما شاء لي الله، وأعتقد أنه كان عالماً جميلا». «ذلك هو العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ، وأحسست فيه بسعادة كاملة وما حدث لي لاحقاً كان كله مشوباً بالتوتر...».
ويكشف الطيب صالح النقاب عن مسألة في غاية الأهمية «لقد كانت قريتي مختلفة تماماً عن الأمكنة والمدن الأخرى التي عشت فيها، ولاشك أن هذه المنطقة هي التي خلقت عالمي الروائي»

انتقل الطيب صالح إلى دراسة المرحلة الوسطى (المتوسطة) في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر، بيد أنه ظل مشدوداً إلى قريته «في بورتسودان بدأ يراودني إحساس أن هذا الشيء الجميل الذي تركته خلفي سيضيع».
في المرحلة الوسطى ستبدأ علاقة الطيب صالح مع اللغة الإنجليزية «حين بدأت تعلم اللغة الإنجليزية اكتشفت مدى حبي لها... والواضح أن سبب تفوقي في اللغة الإنجليزية كان مرده حبي لهذه اللغة».
بعد المرحلة الوسطى، سينتقل إلى أم درمان ، حيث سيتابع دراسته الثانوية في مدرسة «وادي سيدنا» ولا يخفي الطيب صالح إعجابه بتلك المدرسة «كانت مدرسة وادي سيدنا مدرسة فاخرة، بناها الإنجليز بناءً باذخاً على غرار أعظم المدارس في إنجلترا وكنا ندرس تماماً كما يدرس الإنجليز في مدارس الارستقراطيين في أيتون وهارو».

كان طموح الطيب صالح أن يدرس في كلية الزراعة بعد المرحلة الثانوية، ولعله في ذلك بدا متأثراً وشديد الانجذاب إلى بيئته الزراعية، بيد أن الميولات الأدبية أيضاً كانت حاضرة وهو يفكر في دراسته الجامعية «كنت أفكر في دراسة الآداب، حتى مستر لانغ ناظر مدرسة وادي سيدنا الثانوية شجعني على دخول كلية الآداب، لكن كانت تستهويني دراسة الزراعة إذ بدت لي مسألة رومانتيكية».

بيد أن الطيب صالح الذي التحق بكلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم) عام 1949، سيقرر ترك الجامعة برمتها عندما وجد أن السنة الأولى في كلية العلوم التي ستقوده بعد ذلك إلى دراسة الزراعة تتطلب منه تشريح الصراصير والفئران، ونفر من هذه الأمور وقرر قطع دراسته الجامعية حيث التحق بالتدريس، ليدرّس اللغة الإنجليزية في مدينة رفاعة في وسط السودان.

وعلى الرغم من أن الطيب صالح كان يود العودة إلى الجامعة من جديد لاستكمال دراسته الجامعية في كلية الآداب، بيد أن إعلاناً من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) يطلب مذيعين ومحررين ومترجمين سودانيين، قلب حياته رأساً على عقب. وهذه التجربة القاسية لشاب عمر 24 سنة فقط، هي التي ستمنحنا كاتباً وروائياً عالمياً، لأن الطيب كتب «فقط لأقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها بدون سبب».
بيد أن الطيب لم يكن سعيداً على الإطلاق في هجرته إلى لندن «جئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه لأعمل عملا هو كذلك ليست لي رغبة فيه... تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق في بلد غريب بين قوم غرباء».

اهتم الطيب صالح خلال سنواته الأولى في بريطانيا بالمسرح، وقرأ كتباً كثيرة في الأدب والفن والتاريخ والاجتماع، وفي السياسة وجد نفسه ميالا للاشتراكية العمالية، واندمج في حياة لندن وتزوج من زوجته جولي (بريطانية)، ورزق منها بناته زينب وسارة وسميرة.

بدأت علاقة الطيب صالح مع الكتابة في وقت مبكر، عكس ما هو رائج، إذ كتب أول قصة قصيرة عام 1953، بعنوان «نخلة على الجدول» ستنشر لاحقاً ضمن المجموعة القصصية «دومة ود حامد».
يقول عنها الطيب صالح «قصة بسيطة كتبتها ببساطة شديدة جداً... كانت القصة تعبيراً عن حنين للبيئة ومحاولة لاستحضار تلك البيئة».

وبعد «نخلة على الجدول» لم يكتب الطيب صالح على مدى سبع سنوات حرفاً واحداً، ثم كتب «حفنة تمر» ثم «دومة ود حامد» ونشرتها مجلة «انكونتر» الأدبية الإنجليزية التي كانت آنذاك زوبعة ثقافية، واعتبر نشر تلك المجلة لقصة الطيب صالح، هو بمثابة الميلاد الحقيقي لأديب عالمي. وفي عام 1964 كتب الطيب صالح روايته الأولى «عُرس الزين» وفي عام 1966 سيكتب روايته ذائعة الصيت «موسم الهجرة إلى الشمال».

كثيرون يعتقدون أن مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال فيه بعض ملامح الطيب صالح نفسه وفي هذا السياق يقول الطيب «الذي يطرح أفكاره على الناس علناً عليه أن يتحمل تبعات ذلك، لذلك لا يزعجني أحياناً حين يسألني بعض الناس هل مصطفى سعيد يشكل جزءاًً من سيرتي الذاتية». ويضيف الطيب «يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك لا أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب».
قبل أن يرقد الطيب صالح يوم غد الجمعة رقدته الأبدية تحت سماء السودان الصافية التي تعج بالنجوم، سيقول المشيعون «جنازة رجل» قبل الصلاة عليه. لكن، أي رجل سيوارى الثرى، الرجل الذي جعلنا نقول باعتزاز «نحن من بلد الطيب صالح».

أما أنا شخصياً الذي اعتقدت دائماً أن مجرد وجود الطيب صالح في هذه الدنيا يجعلها خيّرة، وفي هذه اللحظة التي تطفح بالمشاعر أقول صادقاً إن أحزاني فاضت وفاضت. وعندما قال لي شقيقه بشير هو يعتقد أنك أفضل من ستكتب عنه، بقيت ساعات في حالة ذهول وفجيعة، وسط دموع رجوت أن أغلبها ولا تغلبني. ما أوسع الحزن وما أضيق الكلمات. كان الطيب صالح في حياته أكبر من الحياة وسيظل الطيب صالح في موته أكبر من الموت.

***

الطيب صالح.. نهاية رحلة الشمال

السيد ولد أباه
كنت كغيري قد قرأت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» في نهاية السبعينات قبل أن أعرف المؤلف شخصيا، الذي سمعت عنه الكثير من أصدقائنا المشتركين، ومن بينهم احد الأقارب الذي ارتبط به بعلاقة وثيقة خلال زيارته اليتيمة لموريتانيا أيام توليه إدارة الإعلام في دولة قطر.
هالتني الرواية الفريدة التي حققت انتشارا هائلا أذهل صاحبها الذي لم يكن، لشدة تواضعه الجم، يرى فيها ما يستحق التنويه والإشادة. ففضلا عن السبك الإبداعي القوي في الرواية المذكورة شدتني بمشاهدها وشخصياتها التي لا تختلف في شيء عن سمات المجتمع الريفي الموريتاني، الذي كان الطيب يراه توأم المجتمع السوداني.
مضت سنون على قراءتي لرائعة الطيب صالح، قرأت بعدها كامل أعماله من رواية «عرس الزين» و«بندر شاه» والمجموعات القصصية الأخرى، ثم تعرفت على الرجل في لقاء عابر بتونس، في منتصف الثمانينات، وكان يومها موظفا ساميا في منظمة اليونسكو. شدني الطيب لأول وهلة بأدبه النادر ولطفه المميز وثقافته الواسعة. أذكر انه سألني عن العديد من الشخصيات الموريتانية التي التقى بها في مساره الوظيفي، من بينهم عمي الدكتور محمد المختار الذي زامله في اليونسكو، وكذا المرحوم عبد الله ولد اربيه، الذي عمل معه في مكتب اليونسكو بالدوحة، وكان يتحسر عليه مليا ويقول «إن له دينا كبيرا في عنقي.. فهو الذي علمني شعر ذي الرمة ففتح لي فتحا لا شكر يسده»، كما سألني عن العلامة محمد سالم ولد عبد الودود مفتي موريتانيا، الذي ذكر انه لم يجد أحدا في الدنيا يضاهيه في ذاكرته الأدبية واللغوية.
غاب الطيب عن عيني فترة، وإن بقيت أتابعه بانتظام في مقاله الأسبوعي الجميل في الصفحة الأخيرة من مجلة «المجلة» اللندنية، وأذكر انه خصص مقالاته الأولى فيها لزيارته لموريتانيا. ولم تكن موريتانيا بأدبها وصحرائها ورجالها غائبة في مقالات الطيب التي تذكرنا بمقابسات أبي حيان التوحيدي ورسائل الجاحظ، ولذا يمكن القول إن فقيدنا جدد أدب الإمتاع والمؤانسة الذي اختفى من الثقافة العربية منذ قرون طويلة.
تجددت لقاءاتي بالطيب في مهرجان الجنادرية، الذي كان يحرص على ارتياده سنويا، مهما كان الظرف والمشغل. وكم كنت أستمتع بالجلسات الصباحية الظريفة في بهو فندق «قصر الرياض» وفي الأماسي العذبة في بيت الراحل الشيخ عبد العزيز التويجري. وعلاقة الشيخ التويجري بالطيب صالح قصة طويلة تستحق الرواية، كتب بعض فصولها وألجمه الحياء عن بعض الفصول الأخرى، فالرجلان من الطينة نفسها كرما وأدبا وتواضعا.
حكى لي الطيب كيف تعرف في السبعينات على الشيخ التويجري، وسرد لي حكايات نادرة تجسد صداقتهما التي لا تزلف فيها ولا منفعة شخصية. ذكر لي بقهقهته الخافتة المألوفة دور صديقه الغريب الأطوار «منسي» في هذه العلاقة المميزة.
حبب إليّ الطيب شعر المتنبي الذي كان يحفظه بالكامل عن ظهر قلب، وعرفني على درر الأدب الإنجليزي الكلاسيكي، التي كنت أجهلها، وكان يقول لي «إنكم أيها الشناقطة سادة الأدب والشعر.. فلا يجمل بك جهل تشارلزديكنز».
عرف عن الطيب عزوفه عن السياسة وابتعاده عن الشأن العام، وان كان لم يخف نفوره من «ثورة الإنقاذ» التي قامت على تحالف البشير - الترابي، بيد أن مقالاته، التي عرّض فيها بحكام السودان الجدد، لم تخرج عن مألوف خطابه اللبق اللين. وقد سألته مرة لماذا يحجم عن الكتابة السياسية المباشرة وهو الذي بدأ تجربته المهنية صحافيا لامعا في القسم العربي بالإذاعة البريطانية؟ أجابني ضاحكا «يا أخي إن للسياسة فرسانها وأنا رجل عبيط لا أفهم في أمور الحكم والدولة شيئا.. وقد تعلمت من تجربة سيدنا المتنبي أن الأديب غير صالح للسياسة».
كنت على موعد هذا الصيف مع الطيب في مدينة أصيلة المغربية، التي ألف مهرجانها السنوي منذ التئامه، ولم يكن يغيب عنه أبدا. إلا أن الطيب لم يأت، وقد فهمت من تعبير ولسان حال صديقنا المشترك، الوزير الأديب محمد بن عيسى، أن صحة الرجل ليست على ما يرام. خلف غياب الطيب مسحة حزن في المهرجان المتألق الذي كان دوما أحد رموزه، بما يطلقه عليه من مسحة لطف وظرف في مسامراته الليلية المتصلة على شاطئ المدينة الهادئة التي أحبها كثيرا وكتب عنها بعض نصوصه الجميلة.
وفي الوقت الذي كنت أمني نفسي بلقاء الطيب صالح في مهرجان الجنادرية لهذه السنة، جاء نعي الرجل، وكأنه يذكرنا بتاريخ اللقاء السنوي الذي سيتخلف عنه، ربما لأول مرة منذ تنظيم المهرجان.
وإذا كان مصطفى سعيد بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» اختفى في نهايته الغامضة في إحدى قرى السودان النائية، هاربا من ظله الزائف، فإن الطيب يموت اليوم في المدينة نفسها (لندن) التي عاش فيها جل حياته متخفيا، على طريقة خوارق دراويش الريف السوداني الذي لم يغادره قط.

***

الطيب صالح... روايات نقلت ملامح السودانيين إلى العالم
رحل بعد أسابيع من ترشيحه لجائزة نوبل

الخرطوم: إسماعيل آدم
فُجع السودانيون صباح أمس بنبأ وفاة الكاتب الروائي العالمي الطيب صالح في العاصمة البريطانية لندن عن عمر ناهز الـ80 عاما. وقطعت وسائل الإعلام المحلية إرسالها لتبث النبأ، وقدمت بعضها مقاطع من الأعمال الدرامية، التي اعتمدت على نصوص من روايات صالح، فضلا عن مقتطفات من اللقاءات الإعلامية، التي أجريت معه في أوقات سابقة، وبعد ساعات من النبأ نشطت حركة البيع في المكتبات، التي تعرض أعمال صالح الروائية ومؤلفاته، وما تم تأليفه حول أدبه، واحتشد الناس في دار عبد الكريم ميرغني الثقافي في الخرطوم، يعزّي بعضهم بعضا في «عبقري الرواية العربية» كما يصفه النقاد، على رأسهم الأديب والناقد المصري رجاء النقاش، الذي ألف كتابا حول أدب صالح حمل هذا العنوان.
ورحل صالح بعد أسبوعين فقط من قيام مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي في مدينة أم درمان في السودان بترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب لدورة الجائزة الجديدة. يقول مدير المركز لـ«الشرق الأوسط»: «الآن بعد رحيله فقدنا الفرصة.. الطيب صالح يستحق نوبل للآداب بجدارة». ويتفق النقاد السودانيون أن صالح «بلغ بالرواية سقفا عاليا في الإنتاج الأدبي وجماليات الكتابة، هزت عرش الرواية العربية التقليدية»، وفقا للناقد السوداني معاوية البلال في حديث لـ«الشرق الأوسط» حتى بات النقاد يصنفونه بأنه «واحد من ظواهر الأدب ما بعد العصر الكولونيالي»، طبقا للدكتور والأديب السوداني عبد الله على إبراهيم. ويقول النقاد إن استهلالات صالح في رواياته التي بلغت 5 روايات، وعشرات القصص القصيرة، تمردت على ما يُعرف بالنظام «الموبسابي» في كتابة الرواية، وهو تراب سردي يقوم على «البداية والنهاية»، ويشيرون إلى أن هذا التمرد يتجلى في استهلال روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي صُنفت ضمن أفضل 100 رواية عالمية، كما يتفق النقاد على أن الطيب صالح وضع سقوفا في الرواية لم تستطع الرواية السودانية من بعده أن تصله، على كثرة الروايات التي كتبها الروائيون السودانيون. كما يرون أن «كتابات صالح رسائل متعددة موضوعها أن حب الناس هو أساس كل شيء»، ومن بين هؤلاء الناقد السوداني الدكتور محمد إبراهيم الشوش. ويؤكدون أن الفن الروائي للطيب صالح يمتاز بالالتصاق بالأجواء والمشاهد المحلية ورفعها إلى مستوى العالمية من خلال لغة تلامس الواقع خالية من الرتوش والاستعارات، منجزا في هذا مساهمة جدية في تطور بناء الرواية العربية ودفعها إلى آفاق جديدة.
ووُلد الطيب محمد صالح، وهذا هو اسمه بالكامل، عام 1929، في بلدة كرمكول على ضفاف نهر النيل تتبع لمنطقة الدبة في شمال السودان، عند منحني نهر النيل، في ما يعرف بديار الكابية. ويقول الراحل صالح، في هذا الخصوص: «كانت أمهاتنا صغيرات السن، ففارق العمر بيني وبين والدتي سبع عشرة سنة، أذكر أننا كنا نلعب مع أمهاتنا ومن كن في جيلهن.. لها ذاكرة قوية وشديدة الحفظ، تقف في حلقة المديح فتحفظ كل ما يقال، وقد سمعتها مرارا تروى المدائح والأغاني وشعر الدوبيت (شعر البادية في السودان)».
في طفولته درس بالخلوة لحفظ القرآن الكريم، وتعلم القراءة والكتابة، حين بلغ الثامنة انتظم في المدرسة الأولية، درس المدرسة الابتدائية بمدينة بورتسودان، الميناء البحري السوداني على البحر الأحمر شرق البلاد. درس صالح الثانوية بمدرسة وادي سيدنا الثانوية في مدينة أم درمان. قُبل بكلية الخرطوم الجامعية إبان الاستعمار الإنجليزي، التي تحولت فيما بعد إلى جامعة الخرطوم، وعلى الرغم من تميزه في العلوم فإن ميوله الأدبية كانت تدفعه إلى كلية الآداب. ولم يجد استجابة لنقله إلى كلية الآداب، ترك الدراسة الجامعية إلي مهنة التدريس، وعمل مدرسا بالمدرسة الأهلية الوسطي بمدينة رفاعة. اغترب إلي لندن في عام 1952 حيث عمل بالقسم العربي في الإذاعة البريطانية، وترقي في فترات وجيزة حتى تسنم وظيفة رئيس قسم الدراما.
ثم عمل صالح خبيرا بالإذاعة السودانية 1967. وعمل مستشارا بهيئة اليونسكو بباريس، ثم مقيما لليونسكو بالدوحة وعمان لمنطقة الخليج، ثم عمل وكيلا لوزارة الإعلام، لدولة قطر في السبعينات من القرن الماضي، وكان من المساهمين بفاعلية في تطوير مجلة «المجلة» مع صديقه الناقد الدكتور محمد إبراهيم الشوش رئيس تحرير مجلة الدوحة آنذاك. كتب صالح في مسيرته الأدبية 5 روايات: «عرس الزين»، و«موسم الهجرة إلي الشمال»، و«بندر شاه»، و«ضوء البيت» (الجزء الأول من بندر شاه)، و«مريود» (الجزء الثاني من بندر شاه). ومن قصصه القصيرة الشهير: «دومة ود. حامد»، و«حفنة تمر»، و«هكذا يا سادتي»، و«نخلة علي الجدول»، و«الرجل القبرصي»، و«وهكذا يا أستاذ»، و«رسالة إلي إيلين»، وفي السـيرة والتراجم كتب رواية «منسي» في التسعينات من القرن الماضي.
طُبعت في عام 2004 م للطيب صالح مقالات في مجلة «المجلة» السعودية اللندنية تحت بابه الشهير في المجلة «نحو أفق بعيد»، جُمعت وصُنفت في 9 أجزاء، ومنها: «المضيئون كالنجوم»: من أعلام العرب والفرنجة، و«للمدن تفرد وحديث: الشرق»، و«للمدن تفرد وحديث: الغرب»، و«في صحبة المتنبي ورفاقه»، و«في رحاب الجنادرية وأصيلة»، و«وطني السودان»، و«ذكريات الموسم»، و«خواطر الترحال». وأسهم صالح في العديد من اللجان والمؤتمرات القطرية والإقليمية والدولية المعنية بفعاليات الإعلام والثقافة، وهو من الأعضاء الدائمين في جملة من المهرجانات الثقافية العربية العالمية منها: «الجنادرية» في السعودية و«أصيلة» في المغرب، ومعرض القاهرة الدولي السنوي للكتاب.
استطاع صالح أن يصنع من خلال رواياته شخصيات أسطورية مقدمتها: مصطفى سعيد بطل رواية «مواسم الهجرة إلى الشمال»، والبطلة الثانية في «ذات» بت مجذوب، والزين بطل رواية «عرس الزين»، ومريود في قصة «مريود».
وفي لقاءاته الصحافية ينفي بشدة أن يكون مصطفى سعيد هو شخصيا، أو حتى أصدقاءه الذين لا يتردد البعض في ذكر أسمائهم حين يقومون بمقاربات بين شخصيات صالح في رواياته وأصدقائه في الحياة، من «كرموكول إلى الخرطوم لندن إلى المدن الأخرى»، التي عاش فيها، ويقر في حوار على الأقل أنه أبعد ما يكون عن شخصية مصطفى سعيد، وهي صورة لشخصية الإنسان القادم من العالم الثالث إلى العالم الأول فانهزم هناك، ولكن سعى إلى تحقيق انتصارات في الجانب الذي يتفرد فيه: الجنس، إنها شخصية معقدة مريضة، قاسية. ولخصها صالح في الرواية ذاتها في أثناء محاكمته في بريطانيا على لسان قاضي المحكمة: «إنه رجل استوعب عقله الحضارة الغربية، ولكنها شطرت قلبه». ويرى أنه أقرب إلى شخصية الزين في رواية «عرس الزين».
ويرى الروائي السوداني والناقد عيسى الحلو في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن صالح يُعتبر أهم الروائيين الذين جاءوا بعد الروائي العربي الكبير الحائز على جائزة نوبل للآداب نجيب محفوظ. ونبه الناقد السوداني أحمد يونس إلى أن الروائي صالح إلى أن صالح اخترق حواجز الزمان والمكان والثقافة وحول بها الثقافة المحلية إلى ثقافة عالمية. وقال لـ«الشرق الأوسط» إنه «استخدم لغة سهلة ومفردات غاية في البساطة، ولكن محصلة ذلك تأتي شاعرية شديدة النصوع بما يعرف في آداب اللغة العربية بأنه «السهل الممتنع». وقال الناقد السوداني المقيم في أستراليا معاوية البلال، في وصفه للراحل صالح إنه «اختزل تاريخنا في خمسة روايات ترجمت إلى أكثر من 20 لغة سكب فيها ملامحنا وشهواتنا وأشواقنا وعذاباتنا وتصوراتنا وأحزاننا ومراراتنا وأحلامنا وتجلياتنا في مرآة كلماته الروائية، كأرواح في التاريخ وكبشر عصفت بنا الصراعات مع أنفسنا ومع الغرباء ومع العلم»، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «إن صالح استطاع أن يفتح دروبا جديدة للثقافة العربية وأن يوصل شخصية السودانيين بكل تاريخها وملامحها إلى العالم. وقال أستاذ النقد والناقد الدكتور حسن الطيب ابشر لـ«الشرق الأوسط» إن الطيب صالح يمثل أعظم وزارة ثقافة في تاريخ السودان الحديث، فقد جعل اسم السودان في كل مكان وعلى الصعيد الدولي أيضا، وأضاف: «أدخل تكتيكا جديدا في لغة الرواية يبرز دقة الملاحظة عند صالح»، وضرب مثلا في ذلك بقول صالح في إحدى رواياته: «أزبدت عيونه»، وقال إنه مُقِلّ، ولكن ذلك «لأنه متواضع ويكتب بالمزاج ويحب القراءة أكثر من الكتابة».

***

سيدي الطيب.. ذاكرة السودان المتنقلة

الطيب صالح

محمد بن عيسى يسلم للطيب صالح جائزة محمد زفزاف للرواية العربية في أغسطس (آب) 2002 («الشرق الأوسط»)

محمد بن عيسى
عرفت الطيب صالح - كأغلبية الناس - من خلال قراءتي لرواياته وكتاباته، عرفته حينئذ معرفة البعيد القريب. كان بالنسبة إليّ أكبر بطل بين أبطال رواياته، وتخيلته كما يتخيل القراء أبطالهم يلتقون في الخصوصية الكبرى ويختلفون في تخيلاتهم للصفات الأخرى، وأعجبت به.
وفي عام 1978، مع ولادة أول موسم ثقافي في أصيلة، كانت ولادة صداقتي مع الطيب صالح، سمعت أنه كان مقيما في الدوحة مسؤولا كبيرا في وزارة الإعلام القطرية، وكنت أيامها أقوم باستشارية في منطقة الخليج لحساب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فقررت أن أعرج على الدوحة، وأن أمضي بها ليلة واحدة لألتقي بالطيب صالح. ذهبت إليه بروح الصوفي الذي يقصد شيخه ليستشفّه وليتبرك بمكرُماته، وينهل من صنيعه الفكري والروحي. التقينا في فندق الخليج، واجتمعنا مدة لا تتجاوز الساعة. تحدثنا بعضنا إلى بعض، وشغف بعضنا ببعض، تكاشفنا، واستحلينا اللقاء والموضوع والحديث.
وتكررت لقاءاتنا بعد ذلك، وتجدرت علاقتنا إلى أن قدم طيب صالح مع أسرته لحضور موسم أصيلة الثقافي الثالث عام 1980، في ذلك الموسم تأسس المنتدى العربي الإفريقي (منتدى أصيلة) وأصبح الطيب صالح عضوا مؤسسا للمنتدى.
كانت إقامة الطيب صالح في أصيلة غير مريحة على الإطلاق، وعجبت، وما زالت، كيف كان الطيب صالح صبورا ووقورا وبشوشا دائما، يا الله ما أبدع هذا الرجل بتواضعه وبساطته وقناعته.
أقام الطيب مع زوجته وبناته الثلاث ضيفا على الموسم ببيت لا يصله الماء كل يوم إلا ساعة واحدة، ولم يكن بالبيت حتى الضروري من المتطلبات المنزلية، ولم أكتشف ذلك إلا قبيل مغادرة الطيب مطار طنجة إلى لندن.
في أصيلة صلى الطيب صلاة العيد مع سكان المدينة بالمصلى في الهواء الطلق، كان جميلا بعمامته البيضاء وجلابيته وقامته التي دخلت المصلى وخرجت منه في حشمة وتواضع ملحوظين.
أحب الطيب صالح أصيلة، قال لي إن حواري المدينة وصبيانها وهم يلعبون في الأزقة ودكاكينها الصغيرة ووتيرة الحياة اليومية بها، في السوق والمقهى والممشى الطويل، كل ذلك كان يذكره بصباه في بلدة الدبة في مروي شمال السودان حيث ولد وترعرع.
كانت أصيلة حين زارها الطيب في بداية صحوتها التنموية تنفض عنها رواسب سنين من الإهمال والتردي.
ومرت بضع سنوات لم يعد بعدها الطيب صالح إلى أصيلة. كنت كلما التقيت به بعد ذلك في الدوحة أو باريس أو لندن أو الرياض أو تونس، أكرر له العذر، وألتمس منه السماح على ما تكبده من معاناة مع أولاده في تلك السفرة الأولى إلى أصيلة. وكان كل مرة يقول لي: «كيف تعتذر لي يا رجل وقد استرجعت صباي في أصيلة؟».
تركت صلاة العيد في نفس الطيب صالح أثرا كبيرا، كانت محطة مهمة في موسم هجرته الأخرى إلى الجنوب، صلى مع الناس البسطاء.. مع الصيادين والتجار الصغار، والخضارين والعجزة من المتقاعدين الهاربة عنهم الحياة، وصلى الطيب للناس جميعهم. الطيب صالح يحب الناس ويحبونه، رهافة أحاسيسه ورقة تعامله مع نفسه ومع الناس، مصدر قوته ومرتع متعته بالحياة وبالناس.
تقاسمت مع الطيب أحاسيسه وانشغالاته وبعضا من معاناته. وهو كل كامل، يقاسمك كل أحاسيسه أو لا شيء. لا يعادي ولا يحاسب ولا يلوم. وهو كل كامل لا ينافق ولا يحابي، قنوع لدرجة إهمال حقوقه ومستحقاته، دؤوب بقهقهته وتقاسيم وجهه وشرود نظراته. كل شيء لدى الطيب ملفوف في الحشمة والتقشف ونكران الذات. وليّ صالح حتى دون عمامته.
حكاية الطيب صالح عن أيام مناسك الحج في مكة المكرمة، وزيارته بالدموع والخشوع والتسليم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم. حكاية الشاعر والمؤمن والصوفي بسباته مرفوعة دائما لتوحيد الله. ومنذ حجته هذه غرق الطيب صالح في بحر الوحدانية كما يقول شيخه أبو الحسن الشاذلي، ينام وبجانبه كل ليلة آلة تسجيل تدير أشرطة القرآن الكريم.
والطيب صالح رمز الاعتدال في كل شيء، في أفكاره السياسية ومواقفه العلمية والأدبية، وأحكامه على القادة والزعماء والمفكرين والعلماء والمبدعين.
اسميه سيدي الطيب كما نسمي في المغرب الأولياء والصالحين. أجالسه كلما التقيت به مجالسة المتعبدين، نتحدث عن أنفسنا في حميمية ولطف وحنان.
الطيب صالح لطيف حنون تشعر به وهو يحدثك عن نفسه كما لو كان في كل مقطع من كلامه يذيب جزءا من نفسه، وبخاصة حينما يحدثك عن حبه وشغفه بما هو عربي ومسلم وسوداني.
معاناته من الغربة بارزة في كل أحاديثه الحميمية.
سيدي الطيب، هو ذاكرة السودان المتنقلة، يحفظ لكتابه وشعرائه، زجاليه بالخصوص، ويحن إلى وطنه الأم ويحس بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان. مجالسه التي يستحليها هي مجالسه مع السودانيين، من خيرة مفكريها وعلمائها ممن عرفت، ولكن الطيب صالح هو إنسان كل الدنيا، يستسيغ الثقافات ويقرأ لكل الكبار وفي مقدمتهم الإنجليز.
سيدي الطيب، يتحدث معك عن أي شيء إلا عن نفسه وعن أعماله، ويتحدث معي عن كل شيء بما في ذلك نفسه وأعماله.
كان آخر حديثنا حميميا مؤثرا، التقينا مرتين في الأشهر الأخيرة في واشنطن، وكتب لي الطيب بعد عودته إلى لندن سطورا في منتهى اللطف والألم المكبوت، عن نفسه وعن قلبه وعني وعنه.
وتحدثنا مرات بالتليفون بين واشنطن ولندن للتحضير لحفل تكريمه في أصيلة، شيء لا يصدق؛ في كل مناسبة شعرت بأن الطيب صالح كان يتهرب في عفوية الطفل وامتعاض العذراء لم يستسغ قط فكرة تكريمه: «لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه»، كان يردد لي ذلك كلما فتحت الموضوع معه حتى أحسست أنه فعلا لا يرغب في أن يكرم وأنه فعلا غير قادر على الرفض، وصارحته بذلك، واعترف، وأخيرا قبل.
هكذا هو سيدي الطيب.. الحشوم الوقور المتواضع المتقشف البسيط.. الإنسان المسالم بقلبه ووجدانه وعقله وتصرفاته..وقلمه.
وأصيلة وهي تكرم سيدي الطيب إنما ترد للرجل بعضا مما أعطى للعرب أولا، وللفكر والإبداع العالميين ثانيا. في أصيلة تنوب ثلة من المفكرين والأدباء والباحثين من الوطن العربي ومن خارج الوطن العربي عن كل من قرأ للطيب صالح وقدره وأحبه، تماما كما كرمت أصيلة قبله الشاعر محمد الحلوي، والشيخ المكي الناصري، والشاعر الرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور، وغيرهم ممن أعطوا من أنفسهم للإنسانية وللفكر والإبداع.. مثل سيدي الطيب صالح.. الصالح.
* أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة
في كلمة بمناسبة تكريم
الطيب صالح بأصيلة
يومي 13 و14 أغسطس 1994

***

لعنة «موسم الهجرة إلى الشمال»

لندن: فاضل السلطاني
في منتصف الستينات، نشرت مجلة «حوار» اللبنانية في أعدادها الأولى نصاً روائياً لشاب سوداني لم يسمع به أحد من قبل. وسرعان ما اشتهر النص في أرجاء الوطن العربي بسرعة قياسية من النادر أن تحصل مع نص منشور في مجلة متخصصة محدودة الانتشار. كان ذلك النص هو «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. نص أول مكتمل روائياً، سيترك تأثيره اللاحق ليس فقط على الرواية العربية، بل على الروائي نفسه منذ بدايته حتى رحيله أمس. سيُعرف الطيب صالح بهذا النص للأبد.
سيلتصق به الاسم بلا فكاك، مهما قدم من أعمال لاحقة ربما لا تقل أهمية عن «موسم الهجرة للشمال»، مثل «عُرس الزين» و«بندر شاه» بشكل خاص. ومن هنا، يصبح العمل الأول الناجح بشكل استثنائي بركة ولعنة في الوقت نفسه. بركة في البداية، ولعنة لاحقة. فكل مبدع يريد أن يتجاوز عمله السابق إلى ما هو أنجح منه، وأن يشكل نتاجه اللاحق علامة أخرى في مسيرته الإبداعية، وأن لا يقرن اسمه بعمل واحد، يكبر ويكبر حتى يطغى على اسم صانعه.
كتاب كبار في التاريخ الأدبي كانوا ضحايا أعمالهم الأولى، أو اقترنت أسماؤهم بعمل واحد معين. ما إن يذكر أحد تورغنيف، حتى تستحضرنا روايته «آباء وأبناء» بالذات، وليس أية رواية أخرى. وحشر دي. أتش. لورنس في «عشيق الليدي تشاترلي» إلى الأبد. وربما قاد النجاح المذهل لرواية «الحارس في حقل الشوفان» – حسب ترجمة الروائي الأردني الراحل غالب هلسا- مؤلفها الروائي الأميركي سالنجر إلى الصمت الأبدي، فقد انسحب إلى معتزله منذ نشر الرواية في الخمسينات، ولا يزال لحد الآن محتجباً عن العالم الخارجي، ولم ينشر أية رواية لاحقة، وربما كان خائفاً أن يفعل ذلك، ما عدا قصتين أقرب للنوفللا، ولم تثيرا اهتماماً يذكر.
وفعلت مواطنته هاربر لي صاحبة «قتل الطائر المحاكي»، روايتها الوحيدة، التي فازت بجائزة البوليتزر الأدبية الأميركية، الشيء نفسه، إذ اختفت تماماً عن المشهد الثقافي، ولم يعرف أحد أين مكانها، بعد أن اشتهرت روايتها بشكل فاجأها، وأصبحت من أشهر الأعمال الأدبية التي تحولت إلى أفلام سينمائية. وقام ببطولة الفيلم الذي حمل الاسم نفسه النجم الأميركي الشهير غريغوري بيك. ولا تزال محتجبة لحد الآن في مكان ما من بلدها، لكن روايتها بعد أكثر من خمسين سنة لا تزال تشهد إقبالا عالمياً في كل مكان.
عربياً، من الصعب أن نعثر على عمل أدبي راقٍ مستوفٍ شروطه الجمالية، قد أطلق صاحبه بهذا الشكل الكبير كما فعل «موسم الهجرة إلى الشمال» مع الطيب صالح. لقد راكم روائي كبير آخر مثل نجيب محفوظ شهرته عملاً بعد آخر في مسيرته الروائية الطويلة. ومن الصعب أن تعرفه بعمل واحد، أو يطغى على أعماله الأخرى عمل واحد حتى لو كان الثلاثية أو «أولاد حارتنا»، وكذلك الحال مع عبد الرحمن منيف، وإن يكن قد اشتهر بعمله الأول «شرقي المتوسط»، لكن لا أحد يقرنه به فقط، فهناك «مدن الملح» و«سباق المسافات الطويلة» و«الأشجار واغتيال مرزوق»، بشكل خاص.
هل جنت «موسم الهجرة إلى الشمال» على «بندر شاه» و«عُرس الزين» و«دومة ود حاد»؟ وهل كانت لعنة على الروائي نفسه؟
نعتقد أنها فعلت ذلك. وربما كرهها مبدعها مع الزمن في أعماق نفسه في الأقل

***

أدباء وكتاب مصريون: فقدنا قيمة كبيرة في الأدب العربي

القاهرة: محمد الكفراوي
في القاهرة تلقى الكتاب والأدباء والأوساط الثقافية نبأ رحيل الطيب صالح، بالصدمة والذهول، ووصفوا رحيل صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال»، و«دومة ود حامد»، و«عرس الزين»، و«مريود»، وغيرها من الأعمال التي وضعت الأدب السوداني بقوة وجدارة على خريطة الأدب العالمي، بالخسارة الفادحة. لقد كانت القاهرة محطة مهمة وأساسية في مسيرة الطيب صالح، ومثلت له نافذة خصبة، تلونت بها شخوصه، وأطلت على العالم، مفعمة بسحر الأسطورة السودانية والإفريقية.
وقد ارتبط الطيب صالح بعلاقات محبة وطيدة بالعديد من الكتاب والمثقفين المصريين. وتوجت مصر محبتها له بمنحه جائزة «ملتقى القاهرة للرواية العربية» في عام 2005.
عن الطيب صالح، يقول الروائي إدوار الخراط «الطيب صالح علامة من علامات الأدب العربي والعالمي ، وإسهامه في تاريخ الرواية العربية لا يحتاج إلى تنويه أو تقييم، وبرحيله نفتقد علما من أعلام الثقافة الإنسانية». وأكد الخراط أن إنتاج الطيب الأدبي كان مؤثرا بدرجة كبيرة، ليس في الأدب العربي فقط، وإنما في الأدب والثقافة الإنسانية عموما.
أما الروائي إبراهيم أصلان، فقال «إن خبر رحيل الطيب صالح هو خبر حزين ومحزن تماما، فهذه خسارة فادحة لكاتب صاحب موهبة استثنائية ومكانة متميزة ومتفردة بين الأدباء العرب، فضلا عن أنه ـ والكلام لأصلان ـ كان صديقا دافئا، والجلوس إليه كان شيئا ممتعا إلى أقصى الحدود. إنه أحد الكتاب الذين يصعب أن يعوضوا، ولا أعرف هل كان مريضا أم لا، إلا أنه سيظل موجودا معنا طوال الوقت».
وقالت الروائية رضوى عاشور «برحيل الطيب صالح، فقدنا قيمة كبيرة في الأدب العربي الحديث. لقد قدم الطيب صالح عددا من النصوص الروائية المهمة؛ وضعت السودان على خريطة الأدب العربي الحديث بشكل واضح، وكان الطيب مثقفا كبيرا يجمع بين المعارف العصرية وموروث الأدب العربي الكلاسيكي والعالمي، إلى جانب أنه كان إنسانا متواضعا ودمثا وحلو المعشر، ومن ثم أتقدم بالعزاء لقرائه والمثقفين في السودان والعالم العربي كله».
في حين كتب الأديب سعيد الكفراوي رسالة ينعى فيها الأديب الراحل قال فيها «رحل السوداني الطيب.. يرحل الأحبة فتغيب برحيلهم ألفة الوطن.. رحل أحد المؤسسين الكبار لفن الرواية العربية الحديثة.. أذكر في أواخر الستينات حين نشر الراحل رجاء النقاش ـ كلهم رحلوا ـ رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، في القاهرة، كنا في ذلك الوقت نحاول الإسهام في كتابة جديدة، فصدرت الرواية ونبهتنا للقيمة الحقيقية للكتابة، وكشفت عن ثراء الواقع باعتباره المادة الأولى للفن. صحبني «مصطفى سعيد، وود مجدوب، وضو البيت، وبندر شاه، ومريود»، أهم شخصيات رواياته، وقادوني إلى اكتشاف ما يوازيهم في واقعي المصري الذي لا يختلف كثيرا عن الواقع السوداني».
ويضيف الكفراوي «إن الطيب صالح إلى جانب موهبته الفطرية الكبيرة كان إنسانا لا يُنسى، كان أحد البهاليل الذين تفتقدهم بمجرد أن يغادروك، وكانت علاقته بالدنيا وبالناس علاقة تقوم على التقدير والاحترام، بعيدا عما هو شخصي.
وكانت تربطني بالطيب صالح علاقة قوية، بالرغم من قلة لقاءاتنا، وأذكر أنني رافقته في مهرجان الجنادرية السعودي عام 1986، وارتبطنا، هو يحكي بالسوداني، وأنا أحكي بالمصري، حتى إننا نصبنا في حديقة الفندق الفخم خيمة أطلقنا عليها «المقهى الثقافي»، نلتقي بها مع الشباب الكتاب السعوديين، نطرح الأسئلة حول متغيرات الحياة والفن بغاية الصراحة والوضوح، وكان الطيب يحفظ شعر أبى تمام والمتنبي وصلاح جاهين والشعراء الشعبيين بالسودان، وأنا أرد عليه بفؤاد حداد، وكأنها حالة أشبه بسوق عكاظ الشهير».
ويضيف الكفراوي «إن الطيب صالح لم تكن لديه فروق بين الإنسان والفنان، وقد أحب وطنه السودان فأغناه الوطن بهذا الكم الذي لا ينسى من الكتابة العظيمة، التي ستقودنا دائما من حالة الضرورة إلى حالة الحرية».
أما الناقد الدكتور عبد المنعم تليمة، فيقول «إن الطيب صالح يقف في مصاف الرواد، ولابد على مؤرخي الأدب أن يقفوا طويلا أمام منجز الطيب في فن الرواية والقصة القصيرة، ذلك لأنه صاحب مدرسة بالمعنى التاريخي، فهو من مبدعي رواية ما بعد محفوظ، رغم سنه الكبيرة. ونقصد بمرحلة ما بعد محفوظ خروج الرواية العربية إلى آفاق غير مسبوقة، واتخاذها مكانا مرموقا في الإبداع الروائي العالمي، فقد استطاع أن يمزج بموهبته الأدبية بين الثقافة العربية والعمق الإفريقي والموروثات الزنجية، ومن هنا خرجت لنا كتابة الطيب صالح برؤى ملحمية، صوفية، عقيدية، ليعبر عن موهبة حقيقية فريدة في القص والحكي والسرد».
و يصف الناقد فاروق عبد القادر الروائي الطيب صالح بأنه واحد من أهم الروائيين العرب، رغم أن منجزة يتمثل في رواية واحدة جاءت على أربعة أجزاء، تنطلق جميعها من قريته «دومة ود حامد». وعلى الجانب الإنساني، يشير عبد القادر إلى علاقة الصداقة التي ربطتهما ببعض، وأن «الطيب كلما كان يحضر إلى مصر، كنا نتقابل. لقد كان الطيب إنسانا ودودا ومريحا بطبيعته، بالإضافة إلى العلاقة الخاصة التي تربط المصريين بأشقائهم السودانيين، فكلاهما يعتبران نفسيهما أبناء وطن واحد». وأكد عبد القادر في نهاية كلامه على أن الطيب صالح أدى دوره جيدا، سواء كروائي أو كصحفي.

***

ناشر الطيب صالح يروي حكاية إصدارات جديدة له ستبصر النور
الأمير ودويهي: رجل الأصالة الذي نهل من الشعر

بيروت: سوسن الأبطح
«خلال أشهر تصدر المجموعة الروائية الكاملة للطيب صالح، وتصبح بين يدي القراء. وبعد أيام قليلة فقط سيصدر الكتاب العاشر من مقالات الطيب صالح التي جُمعت في تسعة كتب لغاية الآن». وستبصر الإصدارات النور بناء على اتفاق بين الطيب صالح وناشره رياض الريس، تم قبل رحيل الكاتب، والريس ماضٍ في الاتفاق. ليس ذلك فحسب، بل إن رسائل رائعة تبادلها الطيب صالح مع أدباء عدة وكذلك مع ناشره رياض الريس موجودة في عهدة الدار، لا بد أن تبصر النور لاحقا. هذا ما أخبرنا به رياض الريس أمس، بعد أن علم بنبأ وفاة الراحل الكبير، مبديا حزنه من رحيل كتّابه واحدهم بعد الآخر. فلم يمض على وفاة محمود درويش أشهر، حتى جاء النبأ الحزين لوفاة الطيب صالح. ونستفسر من رياض الريس عن صاحب فكرة جمع مقالات الطيب صالح، خصوصا وأن الأخير كان رجلا كسولا لا مباليا، لا يُعنى كثيرا بأن تجمع مقالاته أو تضيع، هنا يضحك الريس ويقول: «بالفعل هو كاتب كسول جدا، لكنه كسل جميل، كان يتخفى وراءه ليهرب من الكتابة أو يتقاعس عنها. نحن فقط طلبنا إذنه، وما قاله حينها أنه لا يمانع، لكنه لا يريد أن يتكفل بالبحث والتنقيب وترك لنا هذه المهمة، وهو ما فعلناه. والنتيجة أننا أنقذنا هذه الكتابات التي كانت لتضيع لو أننا لم نجمعها وباتت اليوم بين دفتي عشرة كتب، بعضها أكثر شعبية من رواياته نفسها. وقد كان الطيب صالح سعيدا بها وهو يراها تبصر النور على هذا النحو».

يتحدث الريس عن الطيب صالح بكثير من الحزن، فقد أراد أن يكرمه لمرة ثانية في بيروت، فالتكريم الذي أقيم له منذ ست سنوات أسعده كثيرا، وكان يريد له أن يعود، لكن المرض الذي يقعده منذ سنتين حال دون ذلك. «هذا الرجل هو أحد أعمدة الرواية العربية في الخمسين سنة الماضية»، هكذا يصف الريس الطيب صالح «هو على مستوى محفوظ. هناك جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، وربما لا يزيد عدد هؤلاء الكبار على العشرة». يستذكر الريس أيضا كيف أن أول من شجع الطيب صالح على نشر روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» هو توفيق صايغ، وصدرت في العدد الأول من مجلة حوار. ولا يمكن أن نغمط الطيب صالح دوره الذي لعبه في الصحافة أيضا، وفي العمل الإذاعي عبر الـ«بي بي سي». بكثير من التأثر يتحدث الريس عن الفشل الكلوي الذي أصاب الطيب صالح، وعن معاناته في البحث عن متبرع بكلية، وعن الجلطة الأولى والثانية اللتين أصابتا الأديب، ثم الثالثة التي لم ينجُ منها على ما يبدو، والمتبرع بالكلية الذي اختفى قبل أن يسدي إليه خدمة تساوي عمرا.

أصدقاء الطيب صالح في لبنان ليسوا كثرا، لكن محبيه أكثر من أي يحصوا، الروائية رشا الأمير التي التقته لمرات ثلاث، تتحدث عن قدرة بديعة له في إلقاء الشعر. قرأ على مسمعها المتنبي فطربت: «في القاهرة التقيته، وجمعنا حب المتنبي، فقرأ لي من أبياته، بصوته الجميل الدافئ. صوته كما كتاباته لا مكان فيه للبروتوكولات والتكلف. اليوم أشعر بالأسف لأنني لم أسجل له تلك القراءات. حين يخطب أيضا كان يملأ المكان بصوته الجهوري وقدرته القوية على الإلقاء». وتضيف رشا الأمير: «لو طُلب إليّ أن أختصر هذا الرجل الشديد الراقي بكلمتين لقلت إنه أديب كبير وصوت مدرب ومتمرس، سواء في مخارج الألفاظ أو في الإلقاء». «مشكلة الطيب صالح وسره» كما تقول رشا الأمير «في خجله وخفره. رجل لا يحب الضوء، لا، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرموه دون أن يطلب أو حتى يبحث عن ذلك، لا، بل كان زاهدا ومتعففا. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده». وحين نسألها عن سرّ أسلوبه السلس وعربيته المرنة اللدنة، تقول رشا الأمير: «الطيب صالح كان عاشقا للشعر العربي، وهو أحد الروائيين العرب القلة الذين فهموا أن النثر العربي لا يستطيع إلا أن يتغذى بالشعر. صحيح أنه ترك لنا ثلاث تحف صغيرة لا أكثر، لكنها كانت كافية لإسعادنا. فمن ميزاته أيضا أن زهده وتقشفه انعكسا على أسلوبه، ولربما كسله أيضا، فهو يكتب جملته على قد المعنى دون ثرثرة أو إطالة». تتحدث الأمير عن كاتب «راق، ومترفع، عاش حياته بالطول والعرض، بعيدا عن لوثة الضجيج، لذا فمن يستطيع أن لا يحب الطيب صالح؟».

الروائي اللبناني جبور الدويهي يقول: «لعل البعض يلومني لو قلت إنني أحبه أكثر من نجيب محفوظ، لكنني معه أشعر بأنني في مكان رحب وعالم متسع. لقد استطاع الطيب صالح أن يقدم إنجازا لم يقدر عليه غيره، فلقد استطاع تحويل المحلي إلى عالمي. ليس سهلا أنه تمكن من أن يجعل هذه القرية السودانية النائية التي كتب عنها، مكانا يجسّد حالة عالمية وإنسانية فياضة». ما يعجب جبور دويهي في الطيب صالح أيضا إحساسه معه بأنه «رجل أصيل وبلا عقد. أصيل في أسلوبه وسرده، ولا يتعامل بموقف مسبق مع الرواية الغربية. فروايته تتمتع بحرية تشبه تلك التي يتمتع بها هو نفسه في تعاطيه مع ذاته، وكل هذا ينمّ عن ثقة كبيرة في النفس. صحيح أنه مقل، لكن كل ما قرأته له كان يمتعني، فهو أديب يمد يده إلى قارئه».

ولعل أفضل من تكلم عن الطيب صالح هو الطيب صالح نفسه، في مقابلة قديمة مع الزميلة هدى الحسيني تعود إلى السبعينات، يقول فيها شارحا ما يعتلج في نفسه في أثناء الكتابة: «مشكلاتي النفسية مرتبطة بعملية الكتابة فقط، لأنني أغرق في ينبوع داخلي عميق، وهذا الينبوع هو منطقة الفوضى. الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا. وكلما أوغل الكاتب داخل نفسه بحثا عن الضوء، ازدادت الفوضى. ثم تأتي فكرة تستقر خلالها عملية الخلق فيتضح الطريق، وقد يكون خطأ أو صحيحا، المهم في تلك اللحظة هو: الضوء».