غاب الطيب صالح لكن غيابه الأدبي تم قبل ذلك بعقود واذا استمعنا لبعض صحبة الطيب فهمنا انه لم يكتب الا تحت الحاح. اذا عجل الطيب الى هجر الأدب فقد هجره غير آسف، قابلته فلم أجده شقيا بما فعل شأن كثيرن خذلتهم مواهبهم وتخلت عنهم النعمة، ظل الطيب أنيسا محدثا وظل خزانة للأدب القديم وراوية للشعر كأن السحابة التي أمضاها في دنيا الأدب لم تنتزعه من مكانه الأولي، مكان المحدث والراوية. مع ذلك لا يجهل عارف بالأدب أيا من عناوين الطيب الخمسة او الستة، لم يكتب كثيرا لكن القليل الذي كتبه بقي جميعه في الذاكرة وقلما تسنى هذا لكاتب من جيله.
كانت «موسم الهجرة الى الشمال» حدثاً مدوياً في الرواية العربية وقلما كان لرواية سواها هذا الحظ. لقيت «عرس الزين» حفاوة حقيقية لكن الناس ظلت تتحدث عن «موسم الهجرة الى الشمال». أما «بندر شاه» ومريود فكانا روايتين لكاتب «موسم الهجرة الى الشمال». هل كان الطيب الصالح كاتب الرواية الواحدة. أم ان الجمهور الذي اقتحمته «موسم الهجرة». وفجرت فيه تطلبا جديدا كان مهيأ لذلك، ولم يكن مهيأ لأكثر منه. لقد سمح لرواية في عنف موسم الهجرة وصداميتها ان تحتل مخيلته لكنه بالتأكيد وجد فيها جوابا راديكاليا. كانت دراماتيكية الرواية تناسب وعيا تاريخيا صراعيا وديناميكيا اوعزت به الموجة القومية. اما الروايات التي تلت موسم الهجرة فقد سبقت تقريباً وعي القارئ. كانت احتفالية وملحمية عرس الزين وسحرية أو فانتازية «بندر شاه ومريود» قفزة اكثر مما يحتمل. كانتا (الروايتان اللتان كتبتا كجزء من ثلاثية لم تظهر فيها ثالثة) فتحا روائيا بحق ولحظة في الرواية لم تتأخر عن العالم بل وجدت، بدون جهد او تقصد، فيه، لكن القارئ لم يكن بهذا التطلب. لم يكن مستعدا لرواية بلا موضوع لكنها كما يدل اسمها (عرس الزين)، نوع من عيد أدبي، من سرد ملحمي لا يتغذى من أي شيء سوى من شاعريته الخاصة، ومن قدرته على انشاء الواقع وعلاقاته في تشكيل فسيفسائي. لم يكن القارئ مستعدا بعد أيضا لاستعارات كبيرة كالتي في «مريود» و«بندر شاه»، اذا كانت لحظة الصراع العنيف قد فتنته في «موسم الهجرة» فقد فاته ان يلحظ الانذار القدري الذي فيها والاستحالة التي تنتهي بالاختفاء والغياب وربما العودة الى مصدر أول خيالي. لقد كان هذا فوق تطلبه. الأرجح ان المديح الرائع في عرس الزين شاقه لكنه لم يلحظ ما فيه من هشاشة ومن مصالحة وهمية. لم يلحظ ان كل ذلك يحمل انذارا بنهاية عالم ما لبث ان انهار في استعارة رائعة في بندرشاه ومريود. استعارة يخرج فيه الاولاد على الآباء، قبل ان يُسحقوا بين الأجداد والأحفاد. لقد كان كل ذلك، من «موسم الهجرة» الى «مريود» نوعا من مرثية توراتية، مرثية عالم يتحول فيه العنف الى سند روحي قبل ان يغرق في الظلمات وتخرج اشباحه من القبور معلنة انهيار الواقع واغتيال الحاضر.
أصدر «الطيب صالح» بعد احدوثته مريود نصوصا من بينها واحد شبه بيوغرافي «المنسي» لكن الناس والقراء بقوا في خبر نصوصه الاولى، اذ ان هذه النصوص لم تستنفد بعد، لم يصدر الطيب سوى أربع روايات تقريبا لكن واحدة منها فحسب وربما اثنتين في الأكثر عرفتا قراءة واسعة. كانت القراءة تقل بمقدار تقدم فن الطيب الروائي. كانت موسم الهجرة رواية قضية، وربما هنا سر انتشارها. لقد وضعت علاقة الشرق والغرب في سياق عنيف وأمام استحالة، لكنها اوحت بأن امتلاك الغرب مثله مثل العودة الى الأصل مسدودان. مع ذلك يمكن الآن النظر إلى موسم الهجرة كرواية ايديولوجية. ان لغتها هي لغة حكم ورسالة متقصدة، لكنها ككتاب ادوار سعيد اللاحق عن الاستشراق حملت نقدا ايديولوجيا. كان مصطفى سعيد مستشرقا ضديا ولم يستطع ان ينزع عنه هذه اللعنة، لكن الطيب صالح في «عرس الزين» كتب بلغة بلا حكم. لغة ذات شاعرية وإيقاع وتشكيل فحسب. كتب ملحمة ناعمة وعيدا لغويا ونصا من شغاف الواقع وماويته، كتب منمنمة كبيرة ولم يعد الموضوع ولا القضية خارج النص او خارج نسيجه. أما في «بندر شاه» و«مريود» وقبل ان تصل رواية اميركا اللاتينية فقد أسس فانتازيا عربية.
رواية بعد رواية كتب الطيب صالح الرواية المضادة اذا كانت رواية نجيب محفوظ هي عمود الرواية العربية، رواية اللغة والشعر والسحر. لقد كان هذا فوق طاقة القارئ العربي. هكذا بقي انتاج الطيب صالح على قلته غير مقروء كفاية. اليوم نجد هذا الأدب يملك من الاصالة ما يتيح له ان يبقى في الزمن، كتب الطيب صالح رواية وآثر بعد ذلك ان يكتب احدوثة، كتب الدراما وبعد ذلك فضل ان يكتب الشعر. كان مقروءا جدا وغير مقروء، مشهورا ومغمورا في آن معا، روائيا كبيرا عاطلا عن الكتابة. لقد كان مقلا ومع ذلك لم يستنفد، وبهذا المتاع القليل نحلم ان المستقبل سينصفه أكثر من الحاضر فكاتب في قامته لا يفوته المستقبل.
***
فراغ لا يملؤه الجدد
لكل أجل كتاب، وحين يجيء الأجل لا يمكن إلا أن نخضع لإرادة الله التي حددت أجلنا في يوم وساعة، ويؤسفني بهذه المناسبة أن أعود إلى عدد كبير من المبدعين الذين رحلوا في الأعوام القليلة الماضية من محمد الماغوط، إلى العجيلي، وسهيل ادريس والطيب صالح أخيراً، لا نملك اتجاه القدر الذي يحكمنا جميعاً إلا أن نطلب الرحمة لهؤلاء الأعزاء من المبدعين الكبار الذين رحلوا فتركوا فراغاً كبيراً في المجال الإبداعي العربي، لأنه من البـدهي أن المبــدعين ليس لهم وقت محدد أو شروط محددة.
لقد سمعنا في السنوات الأخيرة من الشباب، الذين لهم المستقبل كلاماً فيه استعجال، قالوا فيه إنهم جيل بلا أساتذة، وهذا ليس لمصلحة هؤلاء الشباب فحتى الفلسفة اليونانية قالت لا شيء يخرج من لا شيء. وهذه مسألة موضوعية، لقد تعلمنا على يد أساتذتنا الكبار ونحن سنرحل بدورنا. إن هذا النكران فيه بعض التشوف والغرور وبعض الاستسهال، وأنا أحب بهذه المناسبة أن أعلق أملاً كبيراً على الشباب أن يتمهلوا وأن يمتلكوا معلمية الإبداع ومعلمية الكتابة، ولست راضياً عن الأدب الإباحي المتبع هذه الأيام والأدب الذي يتعلق بالجسد فقد طال الكلام على الجسد وذاكرة الجسد. أما رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) فقد كانت رواية عظيمة جداً، لكنني بصرف النظر عن مأخذي السياسي عليها، فإنني أقدر كاتبها المرحوم الطيب صالح الذي كنت ألتقيه في مناسبات بعيدة وقد فجعت اليوم بهذا النبأ الذي ذهب بمبدع كبير في عربة الموت إلى اللانهاية.
إنني أقدر المرحوم الطيب صالح وأرثيه وأبكيه وأبكي كل مبدع يغيب عن الدنيا العربية، لأن الأعوام الأخيرة شهدت رحيل عدد كبير من المبدعين العرب، ومع ايماني بالشباب فإن الفراغ الذي تركه هؤلاء الراحلون ليس بالإمكان أن يملأه جيل الشباب بسهولة. رحم الله الطيب صالح، والعزاء لعائلته ولأسرة الإبداع العربي كلها.
روائي سوري
القابض على روح الجنوب والشمال
الطيب صالح واحد من اكبر رواد الادب السوداني والرواية تحديدا .عندما اسمع اسم السودان يتبادر الى ذهني على الفور اسم الطيب صالح. آخر مرة التقيته كانت عندما فاز بجائزة مؤتمر القاهرة للرواية في دورته الثانية. وقتها استمعت الى كلمته التي كانت على مستوى عالٍ من الثقافة والعمق مغلفة بروح الفكاهة. هذا هو الطيب صالح كما عرفته منذ ان التقيته في المرة الاولى في لندن عن طريق الصديق المشترك مصطفى بدوي وكان وقتها الطيب يعمل في اذاعة BCC .
على مستوى الكتابة الابداعية استطاع الطيب القبض على روح الجنوب بطبيعته واشخاصه ونيله واساطيره الى جانب روح الشمال المتقدم المختلف على مستويات كثيرة .وظل انحيازه لجنوبيته هو المحدد لرؤيته.
برحيل الطيب صالح تخسر الكتابة السردية العربية عموما والكتابة السودانية بشكل خاص واحدا من اهم فرسانها والذي كان قادرا على صناعة ضفيرة متمازجة تخصه وحده.
موهبة استثنائية
تعرفت المرة الاولي على الطيب صالح في بغداد في مهرجان المربد في اوائل الثمانينيات تقريبا .كنا جلوسا في بهو الفندق وفؤجئنا برجل اسمر يرتدي الزي السوداني ويسأل «وينه ابراهيم اصلان؟؟». ومن ساعتها بدأت بينه وبينه صداقة عميقة قائمة على الود والتقدير اكثر من كونها قائمة على كثرة اللقاءات. وكنا عندما قرأنا روايته «موسم الهجرة الى الشمال» التي اصدرها الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش في سلسلة روايات الهلال اصابتنا بحالة اشبه بالسحر. وبعد ذلك وقت رئاستي لتحرير سلسلة افاق الكتابة التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية نشرت له مختارات وتعمدت الا تكون بينها «موسم الهجرة»، من جانب لاني اردت تقديم وجه آخر للطيب صالح ومن ناحية اخرى اظن ان «عرس الزين» هي افضل اعماله على الاطلاق.
الطيب صالح موهبة استثنائية. استطاع انجاز اعمال على قدر هائل من الاصالة ورغم انه كان جوالا واستقر خارج السودان اكثر من استقراره في داخلها، لكنه استطاع تجسيد الروح السودانية بلغة قص عالية المستوى مكنته من التربع على مرتبة لا يستطيع ان ينازعه عليها الكثيرون.
كلامي عن الطيب صالح لن يضيف اليه كثيرا فيكفي ان اعماله الابداعية كانت وستظل تحتل ركنا كبيرا في اذهاننا على الرغم من انه لم يكتب ابداعا منذ فترة تقارب الثلاثين عاما. رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة ومؤلمة.
روائي مصري
الإنسان في مستوى الكاتب
ربما لأنني اجتمعت به شخصياً أكثر من مرة، وترافقنا لأكثر من أسبوع في تونس عقب أحد المؤتمرات، ربما بسبب ذلك أستطيع القول إن الطيب صالح الشخص لا يقل أهمية عن الطيب صالح الإنسان، ليس بسبب سعة ثقافته وعمقها فحسب، بل لروح المرح والقدرة على ارتجال النكتة والسخرية بشكل إبداعي خاطف، بل بشكل فني مذهل.
ماذا أروي عنك الآن يا صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال» وقد سبقتني إلى الوعد؟ في السودان لا يعترف بك الجميع، لأنك كنت دائماً ضد أنظمة الاستبداد التي تعاقبت على وطنك وهجرتك بعيداً عنه، ولكنهم اليوم جميعاً سيحنون الرأس للموت، وللموهبة الكبيرة التي صنعت للسودان في مسيرة الأدب العربي الحــديث اسماً رفيعاً.
لو كان حياً الآن الطيب صالح (مصادفةً) وأذيع نبأ موته خطأ لكان أول من يضحك عالياً على الخبر ويصيح: (ليته كان صحيحاً! ولكن اسمحوا لي أن أختار من يرافقني إلى القبر). كلنا سنرافقك إلى القبر يا صديق، عاجلاً أم آجلاً، وقد نتوقف قليلاً على الحفرة أما أنا فسوف أطلب السماح لي بالوثوب خلفك لأنني صرت وحيداً يا أبا الطيب، وأريد رفيقاً طيباً في العالم الآخر، وليس أطيب منك.
شاعر سوري
لمسة الأدب العظيم
يجوز القول، إنني مثلــما فتــحت عينيَّ على نجـيب محفوظ، أدركت بعــده الطـيب صالح في رائعتــيه «موسم الهــجرة إلى الشــمال» و «عرس الزين»، وأتــذكر أنــني انتظــرت بفارغ صــبر أعمـاله التالية «مريود» و «ضو البيت» وغيرهما. وكانت قلـيلة بالمقارنة مع محفوظ، لكنه استــطاع أن يــهزني في أعمــاقي، وأضــفت إلى ما أعرفــه عالماً آخر من الكــتابة. المفاجــأة كانت أن الطــيب صالح من السودان، ذلك البلد الذي لا نعرف عنه سوى القليل، فأصبحت أرغب في معرفة الكثير.
شحنتني روايته الأولى بانفــعالات قويــة، تلك لمسـة الأدب العظيم التي لا تخفى. وكان في إشارته إلى تأثره بـ«قلب الظلام» ما حفزني على قراءة كل ما ترجم لجوزيف كونراد إلى العربيــة. في السنوات الأخيرة قرأت له مجموعة كتبه التي تضم مـقالاته التي نشرها في «المجلة» اللندنية، وكانت عن صديقه «منسى» وجولاته في العالمين العربي والغربي، وبعض الذكريات وانطباعاته عن قراءاته في شعر المتنبي والمعري... ما سمح لي بالتعرف اليه من الداخل وإلى مناقبه الشخصية أيضاً، وجعلني أحس أنني ازددت اقــتراباً منه. وأصبح صديـقاً عزيزاً عليَّ من خلال كلماته وحدها، مثلما حدث معي عندما قرأت الكـتب التي ضــمت مقالات أديبنا الراحــل عبد السلام العجيلي، والتي قــرأتها كلها مثلما قرأت كـل ما كتب الطيب صـالح، أو ما وقع تحت يدي.
لم أكن أتمنى على الإطلاق، أن يكون لقائي معه في مناسبة نعيه، لكن في تذكره اليوم، مناسبة أخرى وهي أن اعترف بكل أمانة وفخر بأنني تأثرت به وبأخلاقياته العالية... كما أنني مدين له بأجمل ساعات عمري تلك التي قضيتها وأنا أقرأ رواياته.
روائي سوري
روايتي المفضلة
كتب الطيب صالح روايات اخرى «كعرس الزين»، ولكن تلك الروايات لن تستطيع سحبي بعيداً عن «موسم الهجرة الى الشمال»، فهي روايتي المفضلة حتى أن القارئ الحصيف يجد بســهولة تأثيرها في الأعمال الروائية العربية المعاصرة. أهمية هذه الرواية التي ذاع صيت كاتبها بهذا الشكل بسببها هي في جمعها لعالمين سوف يأتي يوم ينشغل فيه الناس في التساؤل حول إمكانية الحوار بينهما.
منذ سنوات كتابتـها (الستينيات) وحتى اليوم يشكل هذان العالمان أي الشــرق والــغرب (أو الشمال والجنوب لا فرق) معادلة غير متساوية الطرفين: شمال متقدم وجنوب متخلف، أو شمال قوي وجنوب ضعيف.
الطريف في هذه الرواية هو أن كاتبها أراد الإيهام بتصحيح هذه المعادلة بطريقــة فرويديــة ساخرة تلائم ايروتيكية الشرق الساحر في عيون الغرب. من أجل ذلك بنى الطيب صالح في روايته مشهد السودان بطـريقة رائعة، وهو المشهد ذاته الذي دفع «كتشنر» لقيادة الحملة الانكليزية لاحتلاله، وعندما سافر بطله مصطفى سعيد إلى انكلترا، وهي الامبراطورية الغازية، وجد انه يستطيع ان يقارع الغزاة ويهزمهم في عقر دارهم بسلاحه الوحيد الذي يمتلكه ألا، وهي ذكورته التي لا تنضب.
روعة هذه الرواية هي أن هذا الاسلوب في مقارعة العدو يسيطر حتى اليوم على عقول اهل الشرق الذين أرادوا الاستفادة من علم النفس في صراعهم مع أعدائهم، فعكسوا المقولة الشهيرة إلى «العضو الذكري امتداد للمسدس» أو ربما للصاروخ.
لقد صرع مصطفى سعيد الانكليزيات بذكورته انتقاماً لاحتلال اخوتهن للسودان بالتقنيات الحــربية المتطــورة، وإذا أردنا قــراءة أحـداث هذه الأيام بعيون موسم الهجرة، فإننا نجد ان الطيب صالح لم يذهب بعيداً.
روائي سوري
مات مصطفى سعيد
مات الطيب صالح في لندن ليحقّق ربما أمنية بطله مصطفى سعيد: «أنا جنوب يحنّ إلى الشمال». هذا الحنين الذي انتهى به إلى الذوبان فيه والموت في أحضانه. فعلى الرغم من تعارضه مع الشمال والتحامه بأرض الجنوب ومصيره بل ومأساته، لم يجد الطيب/مصطفى، في نهاية المطاف، من يفهمه، من يحاوره، من يستوعب خصوصيته، من يلجأ إليه محتمياً سوى الشمال. هذا الشمال الملتبس: شمال النزعة الإنسانية والهيمنة الاستعمارية في آن، الشمال الليبرالي والشمال اللاغي للحضارات ومختصرها في ذاته المتعالية. الشمال الذي أصبح رمزًا للـ«حضارة»، فلا حضارة ولا إنسانية ولا ثقافة خارجه.
ولكن ما الذي جعل من هذا الروائي الآتي من السودان رمزاً للحداثة العربية؟ ما الذي جعل منه أكثر الروائيين قرباً منّا وأكثرهم حضوراً في عالمنا المشرقي؟ فكل شيء عنده مختلف عنا: شرقنا جنوبه، وغربنا شماله. إنه من بلاد السودان، أي من هذا المساحة الموجودة خارج حدود رؤيتنا التي تتوقّف عند تخوم القاهرة ونيلها من ناحية، وبغداد من ناحية أخرى.
على الرغم من بعض الأسماء الكبيرة في الرواية العربية، يبقى اسم الطيب صالح يسطع في سماء الحداثة العربية ملهماً جيلاً من الروائيين الذين أعطوا هذا النوع الأدبي الموقع الذي يستحقّه في المشهد الأدبي المعاصر. وقد اتّسم عمله بالجرأة والدقة: جرأة في معالجة الشأنين اللغوي والنفسي، ودقّة في بناء عالمه الروائي المركّب والمعقّد. ما قرّبه إلينا هو همّه الحداثي، وبحثه عن أشكال مبتكرة في تجديد الكتابة العربية على صعيد السرد، وهذا ما جعله رديف الجهد الذي بذل على صعيد الشعر.
غير أن الحداثة التي كان من روّادها لم تكن بالنسبة إليه معطىً مطلقاً وثابتاً، فقد أخضعها من خلال تجاربه الروائية المختلفة إلى مساءلة دائمة، مساءلة نابعة من صميم تجربتنا وتراثنا، من صميم ثرائنا وفقرنا الثقافيين. هذه المساءلة المتواصلة والمستمرّة للحداثة، لقدراتها وقدرات الطامحين إلى بلوغها، كانت تتطلّب جرأة وحرية لم يتحمّلهما النظام الاجتماعي ـ السياسي ـ الثقافي المسيطر على العالم العربي اليوم، نظام ميّال إلى الثبات وتعميم ثقافة الأجوبة الحاضرة سلفاً. لم يتمكّن الطيب صالح من العيش في جنوب يكره السؤال وآفاقه الخطيرة، فعاد إلى وطنه الثقافي ليموت فيه، عاد إلى حيث كان بطله مصطفى سعيد يحن إليه.
فبالنسبة إلى المبدعين والمثقّفين، لا يزال مسقط الرأس الثقافي هو الشمال لسوء الحظ، فيما الجنوب هو مدفن من لم يعد يملك اسماً ولا سؤالاً ولا تساؤلاً.
الوحيد الذي توقف
قد يكون الطيب صالح الروائي العربي الوحيد الذي توقف عن الكتابة منذ ثلاثين عاماً ولم يفقد ألقه. وقد يكون الروائي العربي الوحيد، مع نجيب محفوظ، الذي شهد صراع أعماله مع الزمن والتاريخ، وشهد أعماله «موسم الهجرة إلى الشمال» وسواها تربح معركتها بهدوء وتؤدة، وما يثيرني في تجربة الروائي السوداني العظيم هذه البساطة التي تناول فيها بيئته وبلده السودان، وجعل منها بطلاً ومكاناً نابضاً بالحياة. لم يجرؤ كاتب عربي واحد أن يتوقف عن الكتابة سواه، ولم يتعلم منه الكتاب العرب الكبار الذين يكررون ذاتهم وكتاباتهم مرة تلو المرة.
روائي سوري
أهم من كتب عن الأنهار
يوم حزنه ثقيل، يوم وفاة إنسان يجــمع بين ســمو الخُلق وعمق المعارف وسطوع الإبداع. فقط رأيته مرات وصافحته. في محافل ثقافية أخذت انظر إليه من بعيد أتابعه باعــجاب وتوقــير. لم املك الشجاعة مرة فأحاول مجالسته. الطيب صالح، من أعمق الأدباء كيــفا رغم محدودية الكم. من أكثر الأدباء انتــشارا رغم اعــتذاراته عن التــواجد في التجمعات الثقافية العديدة. ولا أقول انه أهم من كتب عن النيل العفي في الجنوب، بل أقول انه أهم من كتب عن الأنهار المتدفــقة في العالم. الكثير من المشاهير في بلادنا المتخــلفة، نالوا شهرتهــم بناء على جوانب لا تمت للأدب بصلة، فتكون مشاهدتهم مقرفة تدفع الفرد للشراسة ضدهم، أما أمثال الطيب صالح رحمه الله، فهو نال جزءا بسيطا من حقه، ونال ما نال بناء على موهبة ساطعة وخُلق قويم. لنتــصور أن الطيب صالح كان في الجنوب الأميركي مثلا وكتب عنه، لنتخيل كم التواجد العالمي في هذه الحالة؟ عندنا.. المبدعون المطبوعون حقا، تخــذلهم أوطانهم المتخلفة، وفي العالم المتقدم، المبدعون على حرف، ترفعهم بلادهم المتقدمة.
وأنا في حالات الكتابة عن النوبة الأصلية بنيلها الأسطوري، أمر بخيالي على التلال الكهرمانية والزراعات الخضراء والنخيل متصاعد من بينها، أمر على البيوت المتحفية عصرا، فأرى الطيب صالح بجلبابه وعمامته، يجلس على مصطبة مع مجموعة المزارعين الذين كتب عنهم كثيرا. يتحاورون ويتشاكسون ويتصاعدون بأفكار عملية لاصلاح حال القرية. وفي الأمسيات أجده بالجلباب الأبيض الخفيف على الرمال مع نفس المجموعة وقد انـضم إليهم مصطفى سعيد وعُرس الزين وغيرهما، يضحكون ويرفهون عن أنفسهم. ألقي السلام فيجيبني بلطفه لكن يترك مصطفى سعيد ينظر لي نظرة مـاكرة تــقول.. مهما كتبت عن نيل البلاد، فلن تصل لتيارات الطـيب صالح. فأكتب وأجوّد قدر استطاعتي لاتجاوز هذا العملاق الطيب في معاملاته والشرس في دمدمة موهبته، لكن هيهات فهو من هو.. الطيب صالح. الإنسان الذي مر على الدنيا وذهب بجسده، وترك لنا غابة نخيل على النيل، لنستمتع بطيبات الطيب ونذكر الصالح بكل خير.
روائي مصري
****
بطـاقــة
بعد ثمانين عاماً على ولادته في المديرية الشمالية في السودان في العام 1929، رحل الطيّب صالح بعد أعوام مديدة أمضاها في العملين الأدبي والصحافي. متحدّر من قبيلتي البديرية والركابية، تلقّى الطيّب محمد صالح أحمد (اسمه الكامل) مبادئ القراءة والكتابة في «الخلوة» (أي الكُتّاب)، التي أشرف عليها، حينها، علي ود حاج الماحي، أحد أجداده، وكان يُطلق عليه تمييزاً «الفكي» (أي الفقيه). عاش طفولة عادية، كتلك التي يعيشها أقرانه الصبية في قريته: رعاية الغنم، جمع التمر والزرع في الحقل. انتقل إلى بورت سودان لتلقّي دروس المرحلة المتوسّطة في مدرسة بربر، حيث تعلّم اللغة الإنكليزية، والتحق بعدها بمدرسة وادي سيدنا في أم درمان، حيث توجد مدرسة ثانوية واحدة معروفة باسم كلية غوردون، التي تحوّلت إلى جامعة الخرطوم، لاحقاً.
في نهاية الأربعينيات المنصرمة، رفض أهله السماح له بالسفر إلى لندن لإتمام دراسته الجامعية في كمبردج أو أوكسفورد، فانتسب إلى كلية الخرطوم الجامعية خلال العامين 1949 و1950. استهوته دراسة الزراعة (لأن المتخرّج من كلية الزراعة يُعيّن في وظيفة مفتش زراعي، وهي وظيفة محترمة. لكنه لم يُكمل دراسته الجامعية تلك، لانصرافه إلى العمل مدرّساً في المرحلة الوسطى (الإعدادية) في مدرسة الشيخ لطفي في رفاعة (وسط السودان)، وانتقل منها إلى معهد بخت الرضا، حيث أمضى نحو خمسة أشهر، قبل سفره (أخيراً) إلى لندن في العام 1953، حيث عمل في «هيئة الإذاعة البريطانية» أعواماً طويلة، قبل أن يتركها في العام 1974 متوجّهاً إلى قطر، للعمل مديراً لوزارة الإعلام خلفاً لمحمود الشريف، الذي أصبح رئيساً لتحرير الصحيفة الأردنية اليومية «الدستور». في قطر، أمضى الطيّب صالح سبعة أعوام، سافر خلالها إلى الهند وتايلندا وأوستراليا واليابان ودول أوروبية، ثم استقال من وظيفته هذه للالتحاق بمنظّمة «الأونيسكو».
زار بيروت، للمرّة الأولى، في العام 1958، عندما كان لا يزال عاملاً في «هيئة الإذاعة البريطانية»، فتعرّف إلى يوسف الخال وأدونيس، وكان لبيروت تأثير واضح على مسيرته الأدبية. أقام في لبنان فترة طويلة، تعرّف خلالها إلى كتّاب وفنانين لبنانيين عديدين، وهو يعتبر أن شهرته في العالم العربي انطلقت من بيروت التي أحبّها وأحبّ ناسها وطبيعتها، وتجوّل كثيراً في شوارعها، وكاد يموت فيها. ربطته صداقة بمحمد أحمد محجوب، أحد أقطاب حزب الأمة الإسلامي. واقتُرح عليه، بعد عودته إلى السودان، أن يتبوّأ منصب مدير الإذاعة، لارتباطه بـ«هيئة الإذاعة البريطانية»، لكنه قبل منصب مستشار.
ألّف روايات قليلة، عرف بعضها شهرة واسعة: «دومة ود حامد» و«عرس الزين» (1964) و«موسم الهجرة إلى الشمال» (نشرتها، أولاً، مجلة «حوار» في العام 1966) و«نخلة على الجدول» و«بندر شاه» بجزءين: «ضوء البيت» (1971) و«مريود» (1977). تُرجمت رواياته إل اللغة الإنكليزية، وأصدرت «دار العودة» في بيروت كتاباً عن سيرته الذاتية بعنوان «الطيّب صالح، عبقري الرواية العربية المعاصرة». فاز بجوائز متفرّقة، منها «جائزة ملتقى القاهرة الثالث للإبداع الروائي المصري» في العام .2005
السفير
19 فبراير 2009-02-1