شاء حسن الطالع أن أستمع ـ في صفوف الجمهور، من داخل القاعة المعتمة، وليس عبر أيّ تسجيل سمعي أو مرئي ـ إلى محمود درويش يلقي شعره في مدن عديدة: دمشق، وباريس، ولندن، وبرلين، وأمستردام، وصنعاء، وعدن، وتونس، وعمّان، والرباط، والقاهرة، ودبي، وسواها. وقد اعتدت أن أسرق نفسي من سحر الإلقاء، ومهارات الراحل المشهود لها بالبراعة، لكي أسترق النظر ميمنة وميسرة، متلصصاً ـ كما يتوجب القول، في الواقع ـ على متغيرات ردود أفعال القاعة، إزاء هذا المقطع أو ذاك، وبواعث تصاعد التفاعل أو مراوحته أو سكونه. وأحسبني كنت، في هذا، أسعى إلى الوقوف على طبائع استقبال المتلقي للنسخة الصوتية من القصيدة، وليس اقتفاء خصوصيات الأداء وحده، من منطلق انحيازي القديم إلى التعاقد السوسيولوجي بين الفنّ والذائقة الجَمْعية، أو ذائقات الجموع إذا جاز لي القول.
ويتوجب أن أتوقف هنا، بإيجاز شديد، عند سمة محددة شدّتني على الدوام في شخصية درويش الشعرية، وأعني علاقته بالقاعة خاصة، وبالجمهور بصفة عامة. ومن المعروف أنّ الراحل تعرّض، مراراً، لـ"تهمة" عجيبة مفادها أنه شاعر جماهيري؛ وكانت هذه الصفة تُساق ضدّه على محمل القدح والذمّ. بيد أنه، وهذه هي السمة التي أعنيها، حرص دائماً على الوفاء بشروط علاقة مزدوجة مع الجمهور، سبق لي أن أسميتها "التعاقد الثنائي الشاقّ":
- مع مشروع شعري كبير لم يكفّ عن التطوّر والاغتناء والارتقاء، في الشكل والمستويات الجمالية، كما في المحتوى والموضوعات؛
- ومع قارىء عنيد، مدمن على طراز قياسي من شعر درويش، تغذّيه الشعبية الطاغية لقصائد مثل "سجّلْ أنا عربي" و"أحنّ إلى خبز أمّي" و"أحمد الزعتر" و"بيروت" و"مديح الظلّ العالي"...؛ ولكنه، في الآن ذاته، قارىء مرهف وحساس وعالي الإستجابة لجديد درويش.
وفي جميع المدن التي ذكرتها، أو بالأحرى من داخل جميع هذه "الجماهير" الشعرية ـ لأنها لم تكن جمهوراً واحداً متجانساً، ولا يصحّ أن تكون في الأصل ـ شهدت درويش يعاند القاعة، فيختار قصيدة جديدة بعد أخرى، وصبر الناس يكاد ينفد، حتى يبلغ تلك البرهة الخاصة الفائقة، حين تُقْبل القاعة أخيراً على جديده، الصعب وغير المألوف لديها، وتَقبل به. ذلك لم يمنع الراحل من اختيار مدينة بعينها، لأسباب تخصّ مستجدات المكان أو وقائع الزمان، فيكرّمها من خلال الإستجابة إلى رغبات جمهورها، أو بوسيلة إهدائها قراءة متميزة لها سياقات خاصة غير مألوفة.
على سبيل المثال الأوّل، ظلّ درويش يمتنع عن قراءة "بطاقة هوية"، التي اشتهر السطر الأوّل فيها: "سجّلْ أنا عربي!"، أينما طلبها الجمهور، ليقينه بأنّ القصيدة نهضت على دلالات تاريخية محددة، تبدّلت بعد خروجه من فلسطين إلى العالم العربي. لكنه اختار العاصمة الأردنية عمّان، سنة 2004، ضمن أنشطة مهرجان جرش، ليلقي عدداً من قصائده القديمة ذات الجماهيرية الواسعة، وبينها "بطاقة هوية". كانت الوحشية العسكرية الإسرائيلية قد انفلتت من كلّ عقال آنذاك، وتوجّب أن تتعالى مجدداً صيحة الهوية الوطنية الفلسطينة.
المثال الثاني شهدته العاصمة المغربية، الرباط، سنة 2000: حين نشر الراحل مجموعته "جدارية"، والتي تقوم على قصيدة واحدة، في أكثر من ألف سطر شعري، تساءل عمّا إذا كان من الممكن عملياً قراءة النصّ كاملاً في أمسية شعرية منفردة. كان التساؤل لا يدور حول ما إذا كانت القاعة ستحتمل، أو تتحمّل، القصيدة الطويلة فحسب؛ بل حول ما إذا كانت حالة درويش الصحية، هو الذي لم تمض سوى أشهر على خروجه من جراحة في القلب، تسمح بإلقاء تلك القصيدة. وبعد استشارة الجرّاح الفرنسي، والتداول في الأمر مع بعض أصدقائه، والتدرّب على إلقاء مقاطع منتقاة، قرّر درويش أنه إذا لم يقرأ "جدارية" كاملة في المغرب أوّلاً، فإنه لن يقرأها كاملة في أيّ مكان!
غير أنّ مدينة صغيرة تدعى قفصة، تقع على مشارف الصحراء الأطلسية، جنوب غرب تونس، كانت هي التي شهدت، في حزيران (يونيو) 1995، ما سيطلق عليه درويش تسمية "ولادة نقدية" للدراسات التي تناولت شعره، حتى تلك الساعة. وبدعوة مشتركة من مندوبية الثقافة في المدينة، و"بيت الشعر" التونسي الذي انطلق حينذاك بإدارة الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد، كانت قفصة قد احتضنت سلسلة من الأنشطة التكريمية لدرويش، تضمنت أمسية لشعراء توانسة، ومعرضاً لرشيد القريشي وخطوط حسن المسعودي بعنوان "حفر النشيد"، مستوحى من قصائد درويش، وأمسية موسيقية لنصير شمة، وجلسات نقدية شارك فيها عبد الحميد الزاهي ومهدي الزعفوري وتوفيق بكار وأبو القاسم الثليجاني ومحمد بنيس ومحمد لطفي اليوسفي والمنصف الوهايبي ومحمد الغزي والمنصف المزغني وكاتب هذه السطور؛ وكانت الذروة، بالطبع، أمسية للشاعر المكرّم.
ولقد بدأ البرنامج بفقرة غير مألوفة في تكريم الشعراء، وهي زيارة إدارة مناجم الفوسفات، حيث استمع الشاعر والضيوف إلى مداخلة بدأت اقتصادية حول تاريخ الانتاج، وتحوّلت سوسيولوجية حول النشاط المنجمي بوصفه "أسلوب حياة" يطال المشتغلين وغير المشتغلين، ثم انتهت سوسيولوجية ـ جمالية حين دار النقاش حول الشعر المنجمي في المنطقة، فعلّق درويش بالقول: "كلّ شعر حقيقي هو نشاط منجمي بالضرورة، لأنه ينقب في أرض اللغة". وفي هذه الزيارة علم الشاعر أنّ العديد من روّاد العمل المنجمي والنقابي ذهبوا للجهاد في فلسطين عام 1948، فأعرب عن رغبته في زيارة أسر هؤلاء المجاهدين.
خلال الجلسات النقدية كانت القاعة تغصّ بحضور يقارب الألف، من أجيال متباينة، شيباً وشباباً، نساء ورجالاً، لم يكتفوا بالاستماع إلى المداخلات حتى النهاية، بل شاركوا في النقاش بشكل معمّق. وكانت احتشاد هذه الجموع للاستماع إلى ورقة نقدية، ثمّ مناقشتها، بمثابة مفاجأة بهيجة عندي، وضعتني أيضاً في سويداء غابة من الأسئلة حول مدى "جماهيرية" درس نقدي يتناول شاعراً جماهيرياً استثنائياً. نقاش الجمهور دار حول جوانب غير تقليدية في شعر درويش، مثل التأويل وحدوده، والرمز، وخيار السيرة في الشعر، والأبعاد الفلسطينية والكونية في الشخصية الشعرية، وسيرورات التطوّر بين مجموعة وأخرى، والأرض والآخر، وأسئلة الشعر والزمن والحداثة... وخلال ذلك كله كان درويش يجلس في عمق القاعة، بين الجمهور، يراقب عن كثب، ويصغي بانتباه شديد، ويدوّن ملاحظاته.
تعليقات الراحل، التي نُشرت بعدئذ في الصحافة التونسية، شدّدت على أنّ التصوّر السابق للشاعر الفلسطيني قد انقلب إلى مبالغة مضادة، مثلما كانت الصورة السابقة مبالغة أيضاً: "ما أدعو إليه في هذا الموضوع هو أن يخضع النص للمقاييس النقدية بغضّ النظر عن كاتبه أو موضوعه، لأنّ أي نص قادر على تحقيق انفصال عن موضوعه. أهداف النص الشعري هي تحقيق شعريته، وهناك في هذا المجال جدلية بين تاريخية النص وبين لا ـ تاريخيته عندما يتحقق، وهذا ينطبق على أي نص مكتوب عن أي بلد وأي شعب". كذلك أوضح درويش أنّ "في التجربة الفلسطينية شعرية عالية جداً، في شعرية تاريخ فلسطين، وفي الشعرية الانسانية عن فلسطين. فلماذا تطرد فلسطين من حقها في أن تصنع نفسها شعرياً؟"
وعن النقد، قال: "ما يعنيني في مسألة النقد، خاصة مع النقاد الشبان، أنهم بدأوا يتعاملون مع نصي كنص جمالي خاضع لكل المعايير النقدية القائمة، وفلسطينيته أو لا ـ فلسطينيته هي في غير مجال التناول النقدي. أنا سعيد لأنني أجد هذا النوع من التناول، بغض النظر عن الاتفاق أو عدم الاتفاق في النتائج. المداخلات إيجابية جداً، وتشجعني. لقد كنت أشتكي دائماً من كوني وكأني وحدي، وليس هناك من يعينني في مشروعي الثقافي الذي يمثّل الشعر مرتكزه. أرى ولادة نقدية لشعري، هنا في قفصة".
وفي افتتاح الأمسية الشعرية، قال درويش: "تلك هي أرضي، أرض سمائي. ولست مكلفاً إلا من الغياب بكتابة أسماء حضورها الجغرافي، والثقافي، والحضاري، والإنساني في كتابها وفي كتابة الشعر العربي. وهل هي كتابة على كتابة سابقة؟ ربما... فلست إلا ما أعرف. ولكن افراط الكتابة السابقة في خفّتها اللاهوتية يكسرني ويكسر واقعاً تكسره الهشاشة من شدة ما امتلكه السيف الممتد إلى جسدي وإلى لغتي وإلى غدي السابق، في صيرورة مصير إنساني لا تدافع عنه تراجيديته وحدها، بل حقه في الكلام عن ذاته العادية، إسوة بما يفعل الأدب المعاصر، الساعي إلى التحرر من البطولة ومن الجماعة، من الأسطورة ومن الواقع معاً. فهل أذن له بذلك؟ هل أذن له أن يخرج إلى المطلق من تاريخية لا يعترف لها بأي تاريخ؟".
وكان واضحاً لأيّ متابع لحوارات درويش وتعليقاته ذات الطابع النقدي والنظري، أنه هذه المرّة قد رفع الجرعة الفلسفية في خطابه، على مستوى غير مسبوق، بدا ذهنياً لدى البعض، لكنه في واقع الأمر كان يلاقي الجلسات النقدية النوعية في مناطق اشتغالها، نظرياً، بعد أن تكفّلت قصائده الجديدة بتقديم مادّة خصبة، نوعية ورفيعة وجديدة، للدراسة التطبيقية. ولهذا فقد حرص النقاد المشاركون على ملاقاة الشاعر، بدورهم، وسنّ قدوة حسنة في شكل ومحتوى تعامل النقد مع الإبداع العربي والإنساني، فأصدروا ما أسموه بـ"بيان قفصة: من أجل منطلقات جديدة لقراءة الراهن المتغاير في الشعر العربي". وأوضحوا أنهم "عملوا في سياق ما يشبه الورشة النقدية التعددية، الساعية إلى بلورة رؤية مغايرة" لشعر درويش، هي في الآن ذاته "تأسيس لمنطلقات أخرى جديدة في قراءة المشهد الشعري العربي بأسره"، وذلك هو "المضمون المعرفي والجدلي والمسؤول في شكل ومحتوى الورشة النقدية، وتلك هي الدلالة العميقة للقاء والوفاء".
والحال أنّ تلك "الورشة" النقدية كانت قد انشغلت بإبراز سؤالين أساسيين:
- حول معنى أن يكون الشعر ضرورياً مرتبطاً بأسباب الحياة، وصانعاً لجمالياتها وعبقرياتها، في الألم والفرح، في الحضور والغياب، وفي الوجود والعدم.
- وحول مبررات هذه الضرورة، وإشكالية إمكانها، وتحقيقها وتَحَقُّقها.
وبذلك فقد استحوذت على الورشة "قضايا الشعرية في النص وزمنه، من أجل أن تُحرّر قراءة محمود درويش مما ليس واجباً شعرياً، لا إلغاءً للسياسي، بل دفاعاً عن الشعر الذي لا يمكن أن يكون ضرورياً في حال تبعيته ولا ـ إبداعيته". وكان من الطبيعي أن يتكيء البيان على كلمة درويش نفسه، التي ألقاها في مستهلّ أمسية قفصة، حين قال: "لا أستطيع أن أضع الضمير في مواجهة لا مبرر لها مع الجمالية، ولا أستطيع أن أخون حواسّي، كلّها أو بعضها، لأنتمي إلى جسد حداثة مشوّه، يغيّر اسمه وملامحه كلّ لحظة. ولكنني، وأنا مثقل بما لا يعينني، أعرف كيف أموت وأولد في سياق قصيدة لا تبحث، وهي تكتب، عن هدف سوى شعريتها التي لا تستطيع أن تُحقق لا ـ تاريخيتها من خلال الإندماج فيها، ولا الاغتراب عنها".
واختُتم البيان بإشارة إلى أنّ لقاء قفصة كان "لحظة تأمّل جماعي" حول شعر درويش، "في ضوء إشكالات نظرية جديدة، أظهرت أنّ مسألة الحداثة الشعرية العربية الآن، هي أبعد من أن تنحصر في منازعات الحدود بين قصيدة النثر وسواها". ولهذا فإنّ اللقاء كان "فرصة تأمّل في الخطاب السائد عربياً حول الشعر، لأنّ رؤية جديدة لشعر محمود درويش غير ممكنة إذا لم يتعلم الخطاب النقدي كيف يتواضع أمام القصيدة".
.. أو، في التتمة المنطقية التالية، كيف تتواضع مقاييس النقد أمام ذائقة معقدة وتعددية، متجبرة وغاشمة تارة، مطواعة متسامحة طوراً، ولكنها في كلّ حال لا تضلّ الطريق إلى الشعر العظيم!
القدس العربي
9 اغسطس 2010