وصلتني، من مدينة حلب السورية، هدية ثمينة القيمة متواضعة الثمن في آن، هي أسطوانة مدمجة CD، عنوانها 'لآلىء شعرية'، تتضمن 15 قصيدة عربية وأرمنية، بصوت سالبي دراكجيان. وهذه الفنانة الشابة لا تمتلك صوتاً خاصاً أخاذاً فحسب، بل تبدو عالية التمرّس في إلقاء الشعر، شديدة التمكّن من الفصحى، عليمة بنطق الحروف كما في إشباعها حسّاً وأحاسيس.
القصائد العربية تبدأ من 'دعوة إلى الأحلام' لنازك الملائكة و'بالله يا قلبي' لجبران خليل جبران، و'تعوّد شعري عليك' و'أسئلة إلى الله' لنزار قباني، و'وجدتها' لفدوى طوقان، و'العباءة' و'الثائر' لأدونيس، و'جندي يحلم بالزنابق البيضاء' و'صوت وسوط' لمحمود درويش. القصائد الأرمنية الستّ هي للشعراء تانييل فاروجيان (قصيدتان) وفاهان ديريان وباروير سيفاك وأفيديك إسحاقيان وفاهان تيكيان، والترجمة لناظار ناظاريان وفاروجان كازانجيان. وثمة قصيدة واحدة صاغها الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة، الذي كان قد تعاون مع كازانجيان في كتاب 'مختارات من الشعر الأرمني عبر العصور'، الذي صدر في القاهرة عن 'المشروع القومي للترجمة'
الهدية ثمينة عندي لأني أنضوي في صفّ أولئك المؤمنين بمحاسن قراءة الشعر جهراً، واستنطاق فضائل الصوت والإيقاع والموسيقى، والاستمتاع بمباهج الإلقاء، الكثيرة الوفيرة، حتى إذا كان المرء يلقي على نفسه وحدها. القراءة الصامتة ضرورية، لا ريب، وذات طابع تأملي وتحليلي واستكشافي، تخاطب العين والمشاعر أكثر من الأذن والحواسّ، وليس إنصافاً لأيّ شعر عظيم أن يُؤسر في نطاق أحادي من طاقات الإستقبال الواسعة المتعددة.
ولقد كانت مبادرة حميدة ورائدة تلك التي أطلقها 'المجمّع الثقافي'، وهو اليوم 'هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث'، حين أصدر سلسلة لشعراء من مختلف عصور الشعر العربي القديم والحديث، سُجّلت مختارات من قصائدهم بصوت عدد من متذوّقي الشعر والممثلين العرب أصحاب الأصوات المتميزة. كذلك يحتوي موقع 'جهة الشعر'، الذي يديره الصديق الشاعر البحريني قاسم حداد، على مكتبة إلكترونية ثرية بالقصائد المسجّلة، بصوت الشعراء أنفسهم في أمثلة عديدة. وهنالك، بالطبع، مواقع عربية أخرى على شبكة الإنترنت، يزداد التفاتها إلى هذا الجانب الصوتي في الشعر، ويتنامى اهتمام القرّاء بها، وبنماذج الشعر المعاصرة تحديداً.
والأسطوانة القادمة من حلب أعادتني إلى الناقدة الأمريكية هيلين فندلر، التي قد تكون اليوم أفضل مَنْ يمارس نقد الشعر، في اللغة الإنكليزية على الأقل، وفي حدود ما أعلم بالطبع. وهي ناقدة موضوعية متأنية، وصارمة قاسية حاسمة، ولكنها لا تخجل البتّة من إعطاء القراءة الذاتية الإنطباعية فسحة واسعة حرّة، منطلقة في ذلك من قناعتها بأن قراءة الشعر تجربة شخصية وفردية ووجدانية أحادية أوّلاً.
بين أبرز أعمال فندلر مجلّد ضخم كرّسته لإعادة قراءة سونيتات وليام شكسبير، هذه النصوص الشعرية التي خلبت ألباب الإنسانية طيلة أكثر من أربعة قرون، فأُشبعت شرحاً ودرساً وتحليلاً وقراءة واقتداءً... دون أن تستنفد ما في سطورها من فتنة جمّة. جديد فندلر كثير بالفعل، والمحور الأول في جدّته أن منهجية القراءة إشكالية وصدامية وانشقاقية، ولكنها منهجية عميقة ومعمّقة على نحو يجعل الاختلاف معها عتبة ضرورية لهذا القدر أو ذاك من درجات الإجماع حول جوهر الفنّ في السونيتات.
تفصيل آخر مثير هو أن فندلر أرفقت المجلد الضخم بقرص مدمّج، سجّلت عليه قراءة بصوتها لخمس وستين من السونيتات الـ145. هدفها المعلن من وراء هذه التسجيلات هو توفير 'شكل سماعي' لكلمات شكسبير، و'ترقية وعي قرائي بموقع الصوت الغنائي' في القصيدة، و'إضافة البُعد الشفاهي إلى قصائد قُرئت مراراً بوصفها نَظْماً لفظياً أولاً'. وبطبيعة الحال كان في وسع فندلر أن ترفق الكتاب بنماذج من القراءات الشهيرة التي نفّذها من قبل ممثلون مسرحيون كبار (جون غيلغود مثلاً)، تخصّصوا في القراءة الشعرية إجمالاً، وفي أداء النصّ الشكسبيري تحديداً.
ليست هذه هي الغاية، تقول فندلر، لأنها أرادت للتسجيلات أن تحقّق الأغراض المشار إليها أعلاه، ولكن... من موقع الناقد الدارس لهذه النصوص، بصوته الذي ينبغي أن يكشف مستويات انفعاله بين سطر وآخر، والكيفيات التي تميل فيها قراءته إلى الإنسياق وراء تركيب لغوي ما، خلف صورة أو استعارة أو قافية، وعند خصوصية خفيّة في هذه أو تلك من عشرات ألغاز الفتنة الكامنة في السونيتات. فماذا يمكن أن يتبدّل إذا قرأ الناقد قصيدة بصوت عالٍ؟ وهل يمكن لقراءته الجهرية أن تخون بعض، أو جلّ، استنتاجاته التحليلية؟ وفي الأساس: ماذا يحدث إذا نجح الناقد، بالفعل، في إقناع القارىء صوتياً، بما كان قد حاول إقناعه به تحليلياً؟
وفي الجانب الآخر، هل من الممكن أن نتخيّل ناقداً عربياً يُقْدم على هذه المغامرة؟ السؤال هنا يتجاوز حدود المماحكة حين نتذكّر أننا 'ثقافة الصنّاجة'، كما يحدث أن نتهم أنفسنا بين حين وآخر؛ وأنّ الأذن العربية تختزن الكثير ــ بل أكثر من اللازم، حسب البعض ــ من طبول الإيقاع. ماذا سيحدث إذا فعلها ناقد عربي، ليس في قراءة صوتية للمعلقات فحسب، أو خيرة نماذج قصائد التفعيلة، بل بصدد أرقى نماذج قصيدة النثر المعاصرة، وبالتالي أشدّها مشقّة على العين كما الأذن؟
وهل سيبرهن أنّ الأذن تعشق القصيدة قبل العين والعقل، أحياناً؟
القدس العربي
22/02/2010