انقضت خمس سنوات على رحيل الشاعر السوري علي الجندي (1928 ـ 2009)، وتوجّب اليوم أن أستعيد، مجدداً، ذكرى مواطن استجمع، في نصف قرن من عقود عمره، قسطاً وافراً من العناصر السياسية والثقافية والنفسية والإبداعية التي ميّزت شخصية سورية محددة ومعيارية: المثقف، البرجوازي الصغير، حامل مصائر، ثمّ جراحات وانكسارات وهزائم، طبقة توهمّت أنّ عقيدتها (التي بدأت كمزيج قومي ـ ميتافيزيقي، يستلهم المثالي الفيختوي والسوبرمان النيتشوي، ليُسقط على العربي صفة «سيّد القدر»)؛ جديرة باحتكار تمثيل الوجدان السوري، والنيابة عن الاجتماع الوطني بأسره، وليس الطبقة وحدها.
والجندي كان شاعراً رائداً، بحقّ، رغم انتمائه ـ من حيث النشر والحضور الثقافي، وصدور مجموعته الأولى «الراية المنكسة» سنة 1962، بعد سنوات أعقبت نشر قصائده في دوريات أدبية سورية ولبنانية ـ إلى مجموعة شعراء الستينيات (علي كنعان، ممدوح عدوان، محمد عمران، فايز خضور، محمود السيد، أحمد سليمان الأحمد، خالد محي الدين البرادعي، وسواهم). وفي ظنّي أن مكمن ريادته يبدأ، أوّلاً، من حقيقة إقامة الصلة الحداثية، والتجديد المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط الصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل «الشعر الحرّ» أو التفعيلي، وإنْ اختلفت الأساليب وتباعدت التجارب؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، ذات الميول السوريالية؛ والحلقات المنفردة الكبرى كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط، إضافة إلى أدونيس حين نحتسبه على مشهد الشعر السوري، وليس اللبناني.
جانب آخر هامّ، في تشخيص هذه الريادة الحداثية، كانت قد جسّدته مبادرة الجندي إلى إقامة تلك الصلات، وبالتالي نشر قصائده الحداثية الأولى، وهو على وعي تامّ بمقدار الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقة العامة؛ سواء على يد مجايلين، أمثال وصفي القرنفلي وحامد حسن وسعيد قندقجي وعبد الرحيم الحصني؛ أو تأثيرات السطوة الكلاسيكية المتجذرة لقصيدة عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد وعبد المعين الملوحي، من جيل الكبار السابق. وهكذا، فإنّ مكمن ريادته، في المقام الثاني، كان اختراق تلك الغابة المتشابكة من الأشكال والأساليب والموضوعات واللغات والتجارب، والاستئناس الحيوي بمنجز الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب (وكانا على صلة صداقة)، في ما يخصّ سيولة التفاعيل ومعالجات موضوعة الموت؛ والنجاح في النأي بذاته عن موجة الشعر التموزي، موضة العصر الحداثية آنذاك؛ والإفلات، التامّ والمدهش في الواقع، من طوق أدب الالتزام، في صياغاته القومية والبعثية تحديداً، رغم أنّ الجندي كان قريباً من سلطة البعث حتى أواسط السبعينيات.
وكانت مجموعته/ قصيدته الطويلة «طرفة في مدار السرطان»، 1975، بمثابة كشف حساب مفصّل، جارح وحادّ وتراجيدي، عن حال انكسار الشاعر الرائي، والشاعر العرّاف، والشاعر البطل، والشاعر المثخن بالجراح النرجسية، والشاعر الرجيم… خلاصة صفات الممثّل الحقّ للخريطة الشعورية التي رسمت تضاريس البرجوازية الصغير السورية في تلك الأحقاب. الأرجح أنّ هذه العناصر، متشابكة متلاطمة في عباب عقيدة وجودية، فضلاً عن طراز حياة صاخبة وأبيقورية… جعلت الجندي قليل الاكتراث بتطوير قصيدته وترقية أدواته، فظلّ أسير نبرة واحدة، ولغة مقتصدة، وإيقاعات متماثلة، مع استثناءات محدودة في الواقع، كانت على الدوام تؤكد شاعريته الدافقة ومراسه العالي.
لكنّ هذا المزيج، المصطخب المتصارع، لم يمنع الجندي من التوقيع على «بيان الـ99»، الذي أصدرته نخبة من المثقفين السوريين، ونُشر في أواخر أيلول/ سبتمبر 2000، وتضمّن المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية، وإصدار عفو عام، وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والمدنية. ولقد قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (بلدته التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته «السيول تجتاح سلمية»، حتى صعد ممدوح عدوان إلى المنبر، وأتمّ القصيدة بالنيابة عنه)؛ احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك، مدير المركز الثقافي الأسبق، وعضو مجلس أمانة «إعلان دمشق».
ذلك لأنّ الأنموذج الأوّل في تكوين شخصية الجندي كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد («أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة/ وما تَنقُصِ الأيامُ والدهرُ يَنفدِ»)؛ وأمّا أنموذجه الثاني فقد كان الشاعر الأموي قطري بن الفجاءة، فارس الأزارقة الذي قال لنفسه وقد طارت شعاعاً: «وما للمرء خير في حياة/ إذا ما عُدّ من سقط المتاع».
القدس العربي- August 3, 2014
أقرأ أيضاً: