في مطلع التسعينيات أتاح لي حسن الطالع أن أتابع، عن كثب، طراز البحث التاريخي والأدبي والثقافي والبصري ـ السمعي الذي غرق فيه محمود درويش قبل أن يكتب السطور الأولى من قصيدته الطويلة 'خطبة الهندي الأحمر ـ ما قبل الأخيرة ـ أمام الرجل الأبيض'، التي ستُنشر بعدئذ في مجموعته 'أحد عشر كوكباً'، 1992. لقد شاهد عدداً من الأفلام الوثائقية والروائية، وتفحّص مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية القديمة، واستمع إلى أشرطة متنوعة تضمنت مقطوعات موسيقية وتراتيل ومؤثرات صوتية طبيعية وتمثيلات أدائية طقسية صرفة. كما قرأ عشرات النصوص من تراث الهنود الحمر، في موضوعات اللقاء مع الأبيض، والإقتلاع من الأرض، والإبادة الجماعية، والشعائر، وأنماط العبادة، والمقدّس البيئي مثل المقدّس الروحي. وكان، على نحو خاصّ، شديد الإفتتان بتلك الخطبة الشهيرة التي ألقاها الزعيم سياتل، سيّد قبيلة الـ 'دواميش'، سنة 1854، واقتبس درويش مقطعاً منها في صدر قصيدته: 'هل قلتُ موتى؟ لا موت هناك، هناك فقط تبديل عوالم'.
وفي حوار مع درويش، يعود إلى عام 1993 ونُشر على صفحات 'القدس العربي' وفصلية 'الكرمل'، قال الشاعر: 'منذ بداياتي الشعرية وأنا أتعامل مع موضوعة الأرض وعناصرها، من عشب وشجر وحطب وحجارة، ككائنات حيّة.
إنني، إذاً، مكوّن بطريقة تتيح لي إلتقاط رسالة الهندي الأحمر. وحين قرأت ثقافتهم، أدركت أنهم عبّروا عنّي بأفضل مما عبّرت عن نفسي. ولسوف يشرفني أن يرتقي دفاعي عن الحق الفلسطيني إلى مستوى دفاع الهندي الأحمر، فهو دفاع عن توازن الكون والطبيعة الذي يشكل سلوك الأبيض خرقاً له'. كذلك لم يخفِ درويش مضمون الرسالة في قصيدته: 'لقد تقمصت شخصية الهندي الأحمر لأدافع عن براءة الأشياء وطفولة الإنسانية، وأحذّر من تعاظم الأداة العسكرية التي لا ترى لأفقها حدوداً، بل تقتلع كلّ المعاني الموروثة، وتلتهم بجشع ونهم الكرة الأرضية بسطحها وقاعها.
التهام معرفة الآخر هو عتبة أولى لإفنائه وإقصائه، وهو مشروع إبادة يؤشّر على الطريقة التي ينشأ بها النظام الدولي الجديد: غزوٌ، وهيمنة، وإلغاء، ،محاولة فهم الآخر بوسيلة إبادته. قصيدتي حاولت تقمّص شخصية الهندي الأحمر في ساعة رؤيته لآخر شمس، ولكنّ الأبيض لن يستطيع امتلاك الراحة والنوم بهدوء لأنّ أرواح الأشياء والطبيعة والضحايا سوف تحوم حول مجال وجوده'.
والسطور الأولى من القصيدة تكاد تفصح عن جملة ستراتيجيات التعبير التي سيعتمدها درويش لتحقيق غرضَيْن حاسمين: تقويض تنميط الهندي الأحمر في سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية، ثم الإنطلاق من ذلك أساساً إلى إطلاق فضاء المواجهة بين أهل الأرض (أينما كانوا، ولكن في المسيسيبي وفلسطين على وجه الخصوص)، والآخر القادم الذي اجتاح واستوطن وغرق أكثر فأكثر في عماء جهل الأرض وتواريخها وعناصرها ودفاعاتها السرية عن روحها وأرواح قاطنيها: 'يا سيّد الخيل، ماذا تريد من الذاهبين إلى شجر الليل؟/ عالية روحنا، والمراعي مقدّسة، والنجوم/ كلام يضيء... إذا أنت حدّقت فيها قرأت حكايتنا كلها:/ ولدنا هنا بين ماء ونار... ونولد ثانية في الغيوم/ على حافة الساحل اللازوردي بعد القيامة... عمّا قليل..
فلا تقتل العشب أكثر، للعشب روح يدافع فينا عن الروح/ في الأرض'.
وثمة دلالة عميقة في أن درويش يبدأ من المسيسيبي (موطن قبائل الجنوب الشرقي التي بنَتْ حضارة عمرها 2500 سنة، واستخدمت الطين على نطاق واسع في تشييد الأهرامات الشبيهة بالزيقورات البابلية)، ليُسقط مقولة الفراغ الحضاري التي أشاعها الغرب على سبيل تبرير الغزو؛ ثمّ ينتقل من التصوير المحسوس ('لون السماء تغيّر') إلى الجملة الإستعارية التي تمزج المحسوس بالمجرّد ('شجر الليل'، 'عالية روحنا') إلى التصوير التركيبي المشحون بدرجة إضافية من التجريد ('النجوم كلام يضيء'، 'ولدنا هنا بين ماء ونار... ونولد ثانية في الغيوم') لكي يسقط مقولة افتقار المخيّلة الهندية إلى المفاهيم المجرّدة وركونها إلى البلاغة الفطرية المباشرة وغير المركّبة.
لكنّ درويش أراد للقصيدة أن تتوقف عند دلالات العام 1492، بحدثَيْه المحوريين: رحلة كريستوفر كولومبس وسقوط غرناطة؛ وكيف اقتضى تأسيس مفهوم الغرب، الجيو ـ سياسي والجيو ـ ثقافي، إبادة سبعين مليون هندي، و'إدارة حرب طاحنة ضدّ فلسفة تقترن بالأرض والطبيعة، وبالشجر والحصى والتراب والماء'. المادّة المعرفية، والموقف الأخلاقي من 'الإكتشاف'/الغزو، والوعي التاريخي بجوهر الصراع في أيّ مشروع إستيطاني، وارتفاع سؤال الأرض عند الفلسطيني من المستوى السياسي إلى مستوى القداسة، وتماهي الفلسطيني مع التراجيديا عموماً، ونهوض منجز درويش الشعري على المشروع التراجيدي... كل هذه كانت عناصر حاسمة في اكتمال القصيدة على الهيئة الوحيدة اللائقة بشروط كتابتها:
أنها واحدة من النصوص الأدبية النادرة التي تناولت موضوعة الهندي الأحمر بوعي إنساني تاريخي يتفادى التمثيلات الإيديولوجية السائدة التي تكتفي، عن سابق قصد، بأسر الهندي الأحمر في صورة كائن بريء نبيل عفوي بسيط، يهرب من زحف الحضارة إلى أحضان الطبيعة الأمّ.
ولعلّ المرء، إذْ يعيد قراءة 'خطبة الهندي الأحمر...' اليوم، في أربعين محمود درويش، يدرك بمزيد من الوضوح أيّ شاعر كوني كبير خسرت الثقافة الإنسانية المعاصرة، وليس الثقافة العربية وحدها.
القدس العربي- 22/09/2008