لم يتسنّ لي أن أقرأ نصّ شهادة الناشر السوري المعروف رياض نجيب الريس، في ندوة "المجلات الشعرية: انحسار أم تراجع؟"، التي شهدتها دمشق مؤخراً، وفيها اختار الريس الحديث عن تجربة مجلة "شعر". لكني ـ اعتماداً على ما اقتبسته بعض التغطيات الصحفية من أقوال الريس في تلك الشهادة، ما خلا تصريحه بأنّ أدونيس لم يكن "موجهاً للمجلة" بل كان له "دوره التخريبي" فيها ـ أحسب أنّ النصّ يستعيد مقالة قديمة بعنوان "ما بيني وبينه، شعر"، أعاد الريس نشرها في كتابه "ثلاثة شعراء وصحافي"، منشورات الريس، 1996.
ورغم أنه بدأ شاعراً، وأصدر بالفعل مجموعة بعنوان "موت الآخرين" سنة 1962، إلا أنّ الريس اختار موقع الصحافي في تحاوره، وتراسله، مع الشعراء الثلاثة: جبرا ابراهيم جبرا، يوسف الخال، وتوفيق صايغ. وفي توصيف طبيعة علاقته بمجلة "شعر"، شاء أن يكون نزيهاً تماماً: "كانت لي علاقة بـ"شعر" وبصاحبها يوسف الخال، إنما لم يكن لي أي دور فيها. هناك فارق أساسي وعظيم بين العلاقة والدور. أما العلاقة فكانت حميمية مع يوسف الخال الشخص، واما الدور فكان هامشياً مع "شعر" المجلة".
وتلفت الإنتباه قناعة الريس بأنّ دور "شعر" في الحياة الثقافية العربية "مبالغ فيه"، و"اخترعه الذين كانوا خارج" المجلة، و"ضخّمه الجيل الذي لم يعاصرها"، كما "عزّزه أعداؤها لتكبير دورهم"؛ وهذا لا ينفي، في يقينه، أنها كانت "رائدة في عملية لفت الإنتباه إلى حركة الشعر الحديث في العالم، محاولة أن تكون مخالفة للسائد الثقافي والسياسي في تلك الأيام، الذي كان منغلقاً ومتعصباً ومحكوماً بالمقولات التقليدية". ورغم أنّ الريس يضع في هذه السلّة خليطاً عجيباً من تيارات "عروبية" أو "ماركسية" أو "اشتراكية" أو "قومية عربية"، فإنه يغفل تماماً الإشارة إلى تيّار "القومية السورية" الذي كان العقيدة الأكثر شيوعاً في صفوف المؤسسين؛ كما يسبغ على "شلّة" المجلة، حسب تعبيره، سمة فكرية وسلوكية مفاجئة بعض الشيء، هي الليبرالية.
والحال أنّ صفات مثل "غربية الإتجاه" و"مغامرة في بحثها عن الجديد" و"منفتحة على العصر"، التي يغدقها الريس على المجلة، ليست كافية لاكتساب صفة الليبرالية، سيما وأنّ حماس "الشلّة" ذاتها لاعتناق الطليعي والحداثي في الشعر تحديداً، اقترن عند الكثيرين منهم بأفكار أنطون سعادة وممارسات الحزب السوري القومي الاجتماعي، التي يصعب تصنيفها في خانة الليبرالية عموماً، أو حتى الليبرالية العربية في تلك الأزمان (طراز طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، مثلاً) بصفة خاصة. كذلك من الإجحاف القول، كما يفعل الريس في تقريظ "شعر"، إنّ المجلة كانت منفتحة "في وقت كان الإنغلاق هو سمة الفريق المعادي لها"، إذْ هل كانت مجلة "الآداب"، خصم "شعر" الأبرز، منغلقة أمام التيارات الفكرية والأدبية الحداثية الأهمّ في عصرها، غربية كانت أم عربية؟ وهل الموقف المناهض لقصيدة النثر، الذي اتخذه مؤسس "الآداب" الراحل سهيل إدريس، يكفي في ذاته لإصدار حكم الإنغلاق على مجلة رائدة احتضنت قصيدة بدر شاكر السياب ونزار قباني وصلاح عبد الصبور وأدونيس نفسه؟
ولعلّ إعادة تدوين ذاكرة مجلة "شعر"، التي يقترحها الريس، لا تكتمل إلا باستذكار علاقة محمد الماغوط بها، ثمّ موقفه منها بعدئذ. لقد نشرت المجلة مجموعته الأولى "حزن في ضوء القمر" سنة 1959، وكان نصّ الإعلان التجاري الترويجي، الذي واظبت على نشره المجلة باعتبارها الناشر، يقول: "هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهوض الشعر العربي". بعد سنتين فقط، أواخر 1961، انسحب الماغوط من المجلة (مثلما فعل أدونيس وخالدة سعيد في الواقع، ولكن لأسباب مختلفة تماماً)، وشنّ عليها هجوماً عنيفاً، استهدف السياسة قبل الثقافة أو الإبداع.
وكتب الماغوط، في مقال نشرته صحيفة "الأنوار" اللبنانية، يصف "جماعة هذه المجلة" بأنهم "ضحلو الموهبة، غير قادرين على دخول المعركة من باب الشعر الأصيل المنزّه، فراحوا يحاولون فتح أنفاق عديدة تحت الأرض للطم التاريخ العربي بأسره، ليخوضوا المعركة خارج ميداننا ضدّ وهم كبير يسمّونه بكلّ رعونة "الجمهور الأمّي" والغوغاء. والدليل على ذلك أنّ حكمهم النهائي على نجاح القصيدة هو أن يرفضها الجمهور، أن يسخر منها ويشمئز. وهناك وقائع عديدة عن هذه الظاهرة وقفت عليها شخصياً عندما كنت عضواً عاملاً ومخدوعاً بينهم طوال ثلاث سنوات ونيف". وأضاف الماغوط تلك الجملة القاتلة: "قلْ لأحدهم ثلاث مرّات: المتنبي، يسقط مغشياً عليه. بينما قلْ له على مسافة كيلومتر: جاك بريفير، فينتصب، أو يقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع. لماذا؟ الجواب بسيط: لأنّ هذا غربي، وذاك عربي!".
وهكذا، ورغم أنّ ما كُتب في التأريخ لتجربة "شعر" ليس ضئيلاً بالقياس إلى سواها من مجلات ثقافية، فإنّ شهادة الماغوط بالأمس، مثل شهادة الريس اليوم، تبرهنان على أنّ ملفّ كتابة تاريخ المجلة ما يزال مفتوحاً وإشكالياً و... متفجراً أيضاً!
****