لعلّ الأمريكية هيلين فندلر هي اليوم أفضل مَنْ يمارس نقد الشعر في الولايات المتحدة، وربما في العالم الأنغلو ـ ساكسوني بأسره، إذا أخذ المرء بعين الإعتبار حقيقة أنّ الناقد المخضرم هارولد بلوم ينأى بنفسه عن دراسة الشعر الجديد أو المعاصر، ويغرق أكثر فأكثر في النصوص الكلاسيكية أو في تحرير الأعمال ذات الوظائف الأكاديمية والمدرسية. إنها، بين حفنة أسماء أخرى قليلة، تؤمن أنّ الشعر ينبغي أن يكون في متناول الناس على النطاق الأوسع، ليس بمعنى تبسيط القصيدة أو تقريبها من الذائقة الشعبية أو الشعبوية، بل في بذل كلّ جهد ممكن لتقريب الشعر العظيم ـ أياً كانت صعوبات قراءته، ومشاقّ تذوّقه ـ من القارئ العادي، الذي يتوجب أن يتنبّه، كما ينبغي تنبيهه، إلى ما يخسره من متعة فريدة جرّاء ترك الشعر للنخبة.
وثمة مصداقية إضافية يكتسبها هذا الرأي، تنبثق من حقيقة أنّ فندلر لم تختصّ بالأدب في المراحل الأولى من تعليمها الجامعي، إذْ درست الكيمياء، ثم حصلت على منحة للتخصص في الرياضيات، قبل أن تقرّر الإلتحاق بجامعة هارفارد لتقديم أطروحة في الأدب الإنكليزي والأمريكي. وهي سيّدة عالية الإيمان بتقليد معرفي، عريق وضروري، اسمه 'المراجعة النقدية' للإصدارات الشعرية، بوصفها جسراً حيوياً ـ بين جسور أخرى، لا ريب ـ لربط النتاج الشعري بالقارئ. ولأنّ هذا التقليد آخذ في الإنحسار منذ عقود طويلة، فإن فندلر تعمل على إحيائه ما وسعتها الوسيلة: من منبرها التدريسي في جامعة هارفارد، وعلى صفحات مطبوعات مختلفة تتفاوت شرائح قرّائها، ومن الإذاعة والتلفزة، وعبر الندوات هنا وهناك.
وخلال الأشهر الأخيرة، في مجلة مثل New York Review of Books تُعدّ واحدة من أبرز الدوريات المختصة بمراجعة الكتب، كتبت هندلر عن المراسلات الكاملة بين إليزابيث بيشوب وروبرت لويل، ومجموعة جديدة للشاعرة جوري غراهام، وقصيدة جديدة مطوّلة للشاعر شارلز رايت، وخاضت في سجالات حول موضوعات شعرية شتى... كذلك تولّت سلسلة 'محاضرات ميللون' الشهيرة التي يرعاها الرواق الوطني للفنّ في واشنطن، حيث ألقت ستّ محاضرات في موضوعة مشتركة بعنوان 'آخر النظرات، آخر الكتب: شعر الموت في منظاره الثنائي'، تناولت أشعار والاس ستيفنز، سيلفيا بلاث، روبرت لويل، إليزابيث بيشوب، وجيمس ميريل.
بيد أنّ هاجس فندلر الأكبر، هذه الأيام وطيلة 15 سنة خلت، يظلّ الموضوع الغنائي في القصيدة الحديثة، وتشهد على ديمومة هذا الهاجس تسعة أعشار ما كتبت من محاضرات ومؤلفات، آخرها كتاب 'نظامنا السرّي: ييتس والشكل الغنائي'، 2007؛ وكتاب 'مستمعون لامرئيون: الحميمية الغنائية عند هربرت، ويتمان، وآشبيري'، 2005. ومنذ كتابها الشهير 'تقول الروح'، 1995، تحدثت فندلر عن تجربتها القرائية الشخصية في هذا الصدد، وأوضحت أنّ نجاح الموضوع الغنائي في تفادي الفخاخ الاجتماعية للنثر يجعله أقرب إلى 'صوت الروح نفسها'، ويسمح لنا بالتماهي التامّ مع ضمير المتكلم. وحين كانت في مقتبل العمر، متلهفة على معرفة المزيد عن العالم، شعرت أنه 'إذا كان الشاعر منتبَذاً، فهي منتبَذة أيضاً. وإذا تحسّر على وطنه، تحسرت هي بدورها على وطن سوف تفقده، وإذا كتب أودن عن درع آخيل، شعرت هي أن هوميروس مِلْك يدها مثلما هو ملك أودن. لقد عرفت الكثير عن الإمكانات المستقبلية في حياتي الداخلية من خلال الشعر الذي يبدأ من غنائية العالم'.
خلال السنة ذاتها، 1995، أصدرت فندلر 'المعطى والمصنوع'، فوسّعت موقفها من الغنائية، واعتبرت أنها 'نصّ يُكتب لكي يقوم القارئ بأدائه. وحالما يتوغل هذا القارئ في الغنائية، فإنه بذلك يكفّ عن دوره كقارئ، ويصبح الناطق بالقصيدة، المردّد لكلماتها، الصانع للمزيد من مشاعرها ومعانيها'. وفي تطبيقات نقدية بارعة، تتناول فندلر هذه الغنائية في الشعر الأمريكي من خلال جيلين: جيل ما بعد الحرب، وفيه روبرت لويل وجون بيريمان؛ والجيل الحالي، الذي يضمّ الشاعرتين ريتا دوف وجوري غراهام.
وفي حدود ما أعلم، لم تُترجم أعمال فندلر إلى العربية، والأرجح أنّ دار نشر خاصة لن تتحمس لنشرها حتى إذا شاء أن يجترح المبادرة مترجم عليم بالوظيفة الفائقة التي يمكن لتلك الأعمال أن تؤديها في تفعيل حال الركود التي يعيشها نقد الشعر في العالم العربي اليوم. مهمة ينبغي أن تُحال، مثل العشرات على منوالها، إلى مؤسسات كبرى معنية بالترجمة خارج، أو قبل، معادلات الربح والخسارة، من طراز مشروع 'كلمة' ومؤسسة محمد بن راشد في الإمارات، و'المشروع القومي للترجمة' في مصر. وما يشجّع على التفكير في مؤسسات كهذه هو حقيقة أنها أصدرت سلسلة من الأعمال الفكرية المميّزة، وذات 'العيار الثقيل'، التي يفكّر الناشر الخاصّ طويلاً قبل أن يغامر بطرحها في السوق.
وافتقار المكتبة النقدية العربية إلى أعمال فندلر أمر محزن، لأنه إذا كان الشعر ديوان العرب، أو هكذا ينبغي أن يبقى؛ وكانت القضية الكبرى في كتابات فندلر هي البرهنة على أنّ الشعر فنّ العامّة، وليس امتياز النخبة؛ وأنّ مشاع البشر، وليس الصفوة، هم الأكثر عرضة لحال العزلة التي تدفع الشاعر إلى تأسيس صلات حميمية مع منصت غير مرئي... ألا تصبح ترجمة فندلر حاجة ماسة، في ضوء الحال الراهنة من علاقة الشاعر بالقارئ... على الأقلّ؟
القدس العربي
16/02/2009