لا أدري أين يقيم السيد محمد بورارة في هذه الأيام، وما إذا كان أخلد إلى التقاعد، أم أنه لا يزال على رأس عمله مندوباً جهوياً للثقافة في مدينة قفصة التونسية الجنوبية، يواصل أعباء الصفة التي يطلقونها عليه هناك: "حامل الخيمة الثقافية المتنقلة". لكنّ هذا الرجل كان، في حزيران (يونيو) 1995، المسؤول عن تنظيم واحدة من أرقى ملتقيات تكريم محمود درويش، بالتعاون مع "بيت الشعر" التونسي في انطلاقته الأولى أيام الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد. ولقد شهد الملتقى، أيضاً، سلسلة من أعمق الندوات النقدية حول منجز درويش الشعري، شارك فيها نقّاد توانسة وعرب (سوف يقول درويش بعدها، علانية، إنّ ولادته النقدية كانت هناك، في قفصة)؛ فضلاً عن معرض للفنان رشيد القريشي والخطاط حسن المسعودي بعنوان "حفر النشيد"، مستوحى من قصائد درويش.
ولقد تذكّرت السيد بورارة قبل أيام، ليس في قفصة أو في في أيّ من المدن التونسية، بل في العاصمة المغربية الرباط، أثناء جلسة نقدية أقامها "بيت الشعر" في المغرب احتفاءً بمئوية الشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي (1909 - 1934)، صحبة الأصدقاء محمد الغزّي والمنصف الوهايبي وبنعيسى بوحمالة ويوسف ناوري. ذلك لأنّ الشطر الآخر من فعاليات ملتقى قفصة ذاك، تضمّن تنظيم زيارة إلى مدينة توزر (التي تتبع لها بلدة الشابة، مسقط رأس الشابي)، وفيها يقع ضريحه، ويحتوي أيضاً على مركز ثقافي، ومسرح هواء طلق. زيارة الصخرة، التي كان الشابي يلوذ بها على الدوام، وشهدت ولادة العديد من قصائده، كانت محطة أولى تهب الناظر الكثير من مفاتيح الاقتراب من ذلك المزيج البديع الذي ظلّ يكتنف وجدان الشاعر: غناء النفس الرومانسية الطليقة، والتوحّد في منعرجات مطلق صوفي غامض.
زيارة واحة توزر كانت محطة ثانية شهدت واقعة طريفة، ومؤثرة تماماً، أخال أنها أدهشتنا جميعاً، الضيوف مثل الأصدقاء التوانسة، كما أثلجت صدر محمود درويش، بالطبع. كان فلاّح مسنّ يروي حقلاً مجاوراً للطريق التي كنّا نمرّ فيها، وشاء أحدنا ممازحته بالقول: معنا، يا عمّ، شاعر لا يقلّ شهرة عن شاعركم الشابي، ولكنك لا تعرفه. ولست أنسى نظرة العتب التي اكتسى بها وجه الفلاّح الشيخ، حين ردّ بصوت خافت: "محمود درويش، مرحبا بكم في تونس"! آنذاك، لم تكن الفضائيات متوفرة بكثرة، ولم يكن نقل وتناقل الصورة يسيراً على نحو يتيح للشيخ التونسي أن يميّز محمود درويش بسهولة، والأرجح بالتا! لي أنه ك ان قارئاً مثابراً وشغوفاً بالشعر، لأنّ ما تبادله بعدئذ من حديث مع درويش كان يتجاوز حكاية تمييز وجه شاعر شهير.
من جانبي، أثار الشيخ لديّ انتباهاً شديداً، لأسباب لا تقتصر على طرافة الواقعة، أو ذيوع صيت درويش، أو جماهيرية الشعر الحداثي المعاصر، أو حتى حضور الأدب في الحياة العامة إجمالاً، بل كان علم اجتماع الأدب هو الذي يعنيني في الواقع. وهكذا عدت إلى الشيخ بعد أن ودّعه الجميع، لأعرف منه ما يفضّل، أو ما يحفظ، من أشعار الشابي، فكانت إجابته هي الشطر الأكثر إدهاشاً عندي، بين كلّ تفاصيل الواقعة: إذا كنتُ أعتقد أنه يفضّل القصيدة الأشهر، "إرادة الحياة"، ومطلعها: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بدّ أن يستجيب القدر"، فإني أجانب الصواب؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى القصيدة الأخرى الشهيرة، "إلى طغاة العالم"، ومطلعها يقول: "ألا أيها الظالم المستبدّ/ حبيب الظلام عدو الحياه/ سخرتَ بأنّات شعب ضعيف/ وكفّك مخضوبة من دماه".
ورغم إعجابه العالي بالقصيدتين، وغالبية شعر الشابي، فإنّ قصيدته الأولى المفضّلة ليست سوى "نشيد الجبار"، التي تصحّ أيضاً تسميتها الثانية: "هكذا غنّى بروميثيوس"، سارق النار في الميثولوجيا الإغريقية. مصدر دهشتي أنّ القصيدة فلسفية، تنهض على روح التحدّي، ومصارعة القدر، والتمرّد على الإرادة الفوقية، وتقول مطالعها:
سأعيشُ رغم الدّاءِ والأعداءِ
كالنّسر فوق القمّة الشمّاءِ
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً
بالسُّحْب والأمطار والأنواءِ
لا أرمق الظلّ الكئيب ولا أرى
ما في قرار الهوّة السوداءِ
وأسير في دنيا المشاعر حالماً
غرِداً، وتلك سعادة الشعراءِ...
سألت: لماذا هذه القصيدة بالذات، يا عمّ؟ لأنها تجاهر بعداء الداء، من شاعر يعرف أنّ المرض العضال قد يفتك به (سوف يرحل الشابي عن 25 سنة فقط)، ولأنها تبعث على الأمل والبقاء، ويمكن أن تصبح سلوى للمريض واليائس، خصوصاً في بيتَين من خواتيمها: "النور في قلبي وبين جوانحي/ فعلامَ أخشى السّير في الظلماء/ إنّي أنا الناي الذي لا تنتهي/ أنغامه ما دام في الأحياءِ"، أجاب الشيخ.
ولقد تملكني الحرج، قبل أن أتجاسر وأسأل: سامحني، ولكن هل تعاني من مرض عضال؟ ابتسم الشيخ بحيوية، وأجاب: كنتُ، بالفعل، ولكن ألا ترى اليوم كيف أعارك ساقية الماء.
القدس العربي
29/06/2009