مَن يصدّق أن هارولد بنتر (1930 ـ 2008)، ذلك الضمير الذي ظلّ يقظاً وحيّاً وناشطاً في عشرات القضايا السياسية، تعرّض ذات يوم لتهمة الإبتعاد عن السياسة في مسرحياته وقصائده؟ العجب يزول سريعاً إذا تذكر المرء مقدار الأصالة في تلك النصوص، التي لم تكن تُسلم قيادها لتحليل لا يلحظ السياسة إلا على السطح من جهة أولى، ويصاب من جهة ثانية بالكثير من الإرتباك إزاء أدب يشتغل على الصمت، ولكنه يستنطق شعرية الصمت. هو، كذلك، إبداع يكشف مفردات الذعر الإنساني البسيط من أطوار الوجود العاتية، دون أن يكون وجودي الفلسفة؛ ويلتقط دقائق الحيثيات في الموقف البشري اليومي، دون أن يكون طبيعيّ النزعة؛ كما ينحرف كثيراً، وعن سابق قصد، عن واقعية الواقع دون أن يغرق البتة في أيّ استيهام فانتازي إستعراضي، أو شطحة سوريالية مجانية.
ولم يكن غريباً أن يدخل إلى الإنكليزية، وإلى قاموس أكسفورد العريق أيضاً، إصطلاح الـ Pinteresque المنحوت من اسم بنتر، والذي يفيد معنى المناخ الدرامي الإنساني الخاصّ، االمعقد والبسيط، المحليّ والكوني، الفردي والجَمْعي، الرحب العريض والضيّق حبيس الحجرة الواحدة، في آن معاً. كما لم يكن بغير مغزى لافت أنّ الأكاديمية السويدية توقفت عند هذا النحت مراراً وهي تطري بنتر، الفائز بجائزة الأدب للعام 2005، بل وتستزيد حين تنحت مصطلحاً ثانياً هو "الأرض البنترية" Pinterland، ذات "الطبوغرافية المميزة، حيث تتمترس الشخصيات خلف حوارات مباغتة، وبين سطور تهديدات لا حلّ لها، فيكون ما نسمعه علامات على كلّ ما لا نسمعه".
والحال أنّ الاكاديمية بدت وكأنها طربت لقرارها، فأخذت تتغنى به في غمرة إغداق المديح على فائز كبير، كان في الواقع يستحقّ كلّ المديح. إنه أحد كبار أدباء هذا العصر، الذي ردّ المسرح إلى عناصره الأساسية، مثل الفضاء المغلق والحوار الصاعق والأنماط البشرية التي تخلق الدراما الكثيفة حين تتصارع وتتقاطع وتتلاقي وتفترق. وهو صاحب تنويع عريض في أساليب مسرح العبث، والمسرح الطبيعي والواقعي، وتقاليد الفرجة؛ فضلاً عن دوره في إغناء مدارس الإخراج المسرحي، والسيناريو السينمائي، والتمثيلية الإذاعية.
ومحاضرة نوبل كانت وثيقة جبارة، برهنت من جديد أنّ بنتر ليس واحداً من أعظم أدباء عصرنا فحسب، بل هو أيضاً أحد أنقى وأشجع وأنصع ضمائر العالم، من حيث انحيازه الدائم إلى قضايا الإنسان في وجه القوّة الغاشمة: من تشيلي، إلى كردستان، إلى فلسطين، إلى البوسنة، وصولاً إلى العراق مؤخراً. وهذا الإنتماء، الذي يطلق عليه الليبراليون السعداء اسم "القضايا الخاسرة"، لم يكن أمراً طارئاً على مسار حياة بنتر، وكان بعيداً تماماً عن رفاه بعض النجوم في ادعاء الدفاع عن حقوق الإنسان، وركوب الموجة كلما لاح أنها عالية ورائجة.
وقد لا يعرف البعض أنّ التضامن مع أكراد تركيا، في ما يتعرّضون له من اضطهاد سياسي وثقافي وإنساني، كان بين القضايا الأساسية التي تبنّاها بنتر، وسلّط الضوء عليها. وكان قد رافق الكاتب المسرحي الأمريكي آرثر ميللر في رحلة إلى تركيا، سنة 1985، لكنه بدل السياحة والإستجمام ذهب يحقق في انتهاكات حقوق الإنسان، والتقى بعشرات المعتقلين السياسيين السابقين. وأثناء حفلة أقامتها السفارة الأمريكية على شرف ميللر، وبدل عبارات المجاملة واللباقة الدبلوماسية، ألقى بنتر خطبة عنيفة استعرض فيها طرائق أجهزة الأمن التركية في تعذيب السجناء، حتى أنّ السفارة لم تجد وسيلة أخرى لإسكاته سوى طرده من الحفلة، فتضامن مسللر معه، ولحق به. وكانت تجربته في تركيا، مع الأكراد بصفة خاصة، قد أوحت له بكتابة مسرحية قصيرة بعنوان "لغة الجبل".
كذلك قد يجهل البعض أنّ بنتر بدأ شاعراً، بل وكانت القصيدة هي أوّل منشوراته، قبل أن ينخرط أكثر فأكثر في الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج. والبواكير تلك انطوت على موضوعة الإحتجاج العميق، التي ستهيمن على أشعار بنتر اللاحقة، كما أنّ معظم القصائد عكست مناخاً درامياً واضحاً، وكانت تنذر بأنّ المسرح هو الخيار الرئيسي الذي سيقتفيه هذا الفنّان الكبير. وثمة، في هذا الصدد، معلومة راجت في بعض الصحف والمواقع العربية، مفادها أن بنتر رثى محمود درويش بقصيدة عنوانها "موت"، ألقيت بالنيابة عنه خلال احتفالية أدبية اقامتها "رابطة أدباء المنفى" في لندن مؤخراً. ورغم أنّ الراحلَيْن الكبيرين كانا على صلة، فإنّ الوفاء لذكراهما معاً يقتضي تصحيح تلك المعلومة، إذْ أنّ القصيدة ليست في رثاء درويش خصيصاً، بل كُتبت سنة 1979، كما أعاد بنتر اقتباسها في الفقرة الختامية من محاضرة نوبل.
وغير بعيد عن الشعر والشعريات، كان الناقد البريطاني مارتن إسلن قد ترك لنا هذا النصّ المدهش في امتداح لغة بنتر المسرحية: "حواره منضبط متراصّ كالشعر الموزون، أو أكثر ربما. كلّ مقطع صوتي، وكلّ تصريف، وتعاقب طويل أو قصير للأصوات، والكلمات، والجمل... كلّ هذا محسوب بعناية، لكي يبدو بديعاً. ونزعة التكرار على وجه أدقّ، وانقطاع الإتصال، وحَلَقية الكلام العاديّ العامّي، تُستخدم هنا كعناصر شكلية تتيح للشاعر أن يؤلّف الباليه اللغوي الخاصّ به".