إبراهيم اليوسف

ظبية خميستحتل الشاعرة ظبية خميس مكانة لافتة، ومرموقة، في المشهدين الشعريين الإماراتي والخليجي، إضافة إلى أنها اسم معروف في خريطة الشعرية العربية الجديدة، من خلال دورها الريادي إلى جانب أصوات شعرية أخرى وضعت حجر الأساس لمشروع القصيدة الجديدة، في الإمارات، مواكبة مع أبناء جيل الثمانينيات الشعري، الذين شكلوا منعطفاً في الحركة الشعرية العربية، استكمالاً لما حققه السابقون عليهم في جيل السبعينيات، ومن قبلهم من رادة الحداثة العربية .

تأتي المجموعة الشعرية السادسة عشرة للشاعرة خميس والمعنونة ب”شغف” وهي “رسائل حب”، كما دوّن ذلك في أسفل عنوان الديوان مباشرة، بعد خمس عشرة مجموعة سابقة للشاعرة منذ العام ،1981 وعلى امتداد ربع قرن من إصدار أولى مجموعة شعرية لها، وهي خطوة فوق الأرض “لتترى بعدها مجموعات الشاعرة في الإصدار، الواحدة منها تلو الأخرى، دونما انقطاع، ولتكون أحد أهم الأصوات الأصيلة التي تصر على تجاوز ذاتها، من خلال الإسهام في رسم ملامح القصيدة الجديدة، سواء أكان ذلك من خلال حضورها اللافت في كتابة النص الموقع، أو من خلال انخراطها في لجة قصيدة النثر كصوت ذي خصوصية لافتة .

وإذا كانت الشاعرة خميس تكتب القصيدة الجديدة، أياً كانت الأداة التي تشيد بها عمارة هذا النص، فإن في ذلك ما يرتب على قصيدتها إذابة الأغراض والمضامين في مثل هذا النص، وتداخلها، وعدم إمكان تمايز حدودها، كما كان ذلك يتم -عادة- في النص التقليدي الذي كانت الأغراض الشعرية تشكل ثيمة لافتة في عالمه، كما أن قضية الأنثى -في المقابل- تشكل جزءاً رئيساً في دائرة اهتمام الشاعرة، سواء أكان ذلك من خلال التركيز على عالم الأنثى، أو ما هو مؤنث، وليس أدل على ذلك من أن مجموعتها الأولى- وعلى سبيل المثال- معنونة- كما تمت الإشارة- ب”خطوة فوق الأرض” وعند وضع العنوان تحت الموشور النقدي، وبعيداً عن أي استطراد، فإن كلمة “خطوة” هي مؤنثة، ناهيك عن كلمة “الأرض”، وهو ما اتبعته، وفسرته في مجموعتها الشعرية الثانية: الثنائية: أنا المرأة، الأرض، كل الضلوع، واعتماداً على الموشور السابق نفسه، فإن هذا العنوان أيضاً، أٌسّ الحياة، مادامت الشاعرة قد كررت كلمة الأرض -في مجموعتها الثانية- وهو ما لم نجده عند أي شاعر عربي من قبل، وله دلالات كثيرة، يمكن قراءتها ضمن رؤية خاصة في استراتيجية العنوان لدى الشاعرة، وهو موضوع آخر .

أجل، بعيداً عن الاسترسال، وراء مثل هذه التحليلات -التي قد يكون لها مكان آخر- يمكن تقديمها من خلاله، من قبل أية دراسة، خاصة، فإن الشاعرة وضمن فهمها الحداثي المتقدم، لكنه، وجوهر، الشعر، تسلط عدسة روحها على عالم الأنثى، لتجعل منها كل “ضلوع” الوجود، ولهذا -بكل تأكيد- دلالاته المهمة، وإن كانت الشاعرة تروم من وراء مثل هذا الإلحاح الدفاع عن الحيز الروحي الذي تشغله، لتجازف بقصيدتها كي تكون سفيراً لواقعها، وحلمها، وقبل كل ذلك تمردها، على كل ما يعيق إيصال صوتها إلى الأمداء التي من حولها، وهو في حدّ ذاته موقف جمالي، وأخلاقي، وإبداعي، من قبلها، إذ ترفض التماهي في فضاء الصوت المهيمن، من خلال خلق مسارات صوتها، وإن كان انتماؤها إلى بيئتها، ومعرفة طبيعة وخصوصية هذه البيئة-تحديداً- يسجل لها بلوغ تمردها هذا أعلى درجات الخط البياني، وما يجعل صوتها جديراً بالقراءة والاحتفاء .

والشاعرة خميس لا تتورع عن التطرق لكل ما يمكن أن يدرج ضمن ثقافة ذكورية مهيمنة، عادة، وذلك من خلال تقديم روحها، كما هي، من دون أي دثار، يواريها، عن تقديم جمالياتها، ولحظات انكسارها، وألقها، بل ورسم صورة الحلم الذي ينبغي أن تكون عليه، بل أن تعود إليه .

من هنا، فالشاعرة إذا كانت قد كررت كلمة “الأرض” وهي المهاد الأول للكائن البشري، في مجموعتيها الشعريتين الأوليين، فإن كلمة “المرأة” “الأنثى” تظهر تلميحاً، وتصريحاً، في هاتين المجموعتين، بل وفي مجموعاتها الشعرية الخمس الأولى، كما تمت الإشارة من قبل، كما أنها كذلك قد أوردت كلمة “حب” صراحة، في مجموعتها الثالثة، وإن كانت كلمة “صبابات” هي استحضار لترجمة -من نوع آخر- للمفردة نفسها، وترد في المجموعة الرابعة، فإن الكلمة نفسها وردت في مجموعة الشاعرة الثالثة عشرة، لتتكرر في شرح عنوان مجموعتها السادسة عشرة “شغف” وهو ما يجعل القارئ -فجأة- في مواجهة حالة “حب”، وإن كانت الشاعرة في هذه المرة لم تذكر أنها -قصائد حب- كما فعلت ذلك مع إحدى مجموعاتها السابقة، بل أشارت إلى “رسائل حب” فحسب .

كما أن القارئ -هنا- أمام تكرار موضوع “الحب”، جوازاً، لأنه لا يمكن فصله عن سواه، ما دمنا أمام تحول فني في العنوان، من قصيدة إلى رسالة، ما قد يوهم باختلاف في فهرست إصداراتها الشعرية، دونما مواربة، بل ولتردف كلمة “رسائل” بكلمة نصوص، في تمهيدها الذي جعلته مدخلاً إلى عالم هذه المجموعة، حين تقول: “الشعراء مولعون بالحب المستحيل، ويبدو في آخر الأمر أنني منهم وإليهم . هذه النصوص، أو الرسائل ليست لعيون النقاد، إنها لعيون العاشقات فقط، لا أعرف كيف كتبتها، أظن أنها هي التي كتبتني، كنت أدرك أنها مشاعر من النار .

اليوم قد خرجت هذه التجربة من يدي، وربما تكون قد انتهت، ذلك أنني قررت ذلك في لحظة ألم قصوى . كي تقول بعد ذلك “ولأنني أشعر بهذه الحرية” ولا أعرف مدى صدقها، أو عمقها، بعد، فإنني أستطيع، أيضاً، الآن، أن أنشر هذه النصوص -الرسائل- الحب- ربما تخلصاً من خصوصيتها في الروح” .

واللافت في هذه المجموعة أن الشاعرة، وبعد مقدمتها السابقة التي جاءت تحت عنوان “تمهيد” راحت تقسم نصوص هذه المجموعة إلى ثمانية أجزاء، هي: 1-رسائل حب إليك 2- رسائل انتظار وعشق 3- رسائل حب ساذجة من امرأة ناضجة 4- ما بعد ذلك الانتظار 5- بابك أقرع فلتدخلني إلى ملكوتك 6- أنت غائب . . كما البهجة 7- ليس لحبي باب أغلقه عنك 8 - أمطار الشغف .

تأتي قصيدة -لحظة أولى- والتي قد يخيل إلى قارىء المجموعة أنها-الشرارة الأولى- التي تشعل الحبر، كي تكتب الشاعرة رسائل حب، إلا أن -الآخر- “المرسل إليه” مادمنا أمام محض رسائل، يكاد يتوارى محلقاً في الطائرة التي ترصد الشاعرة اللحظات معه، لئلا تبدو منه سوى -كاف الخطاب- من دون أية ملامح أخرى:

“في الطائرة معك
وأنت تختبىء وراء الأوراق
تلك
التي تقودك إلى اللامكان
يمكن لليلك أن يكون أسود، أيضاً”

ثم تظل الشاعرة محلقة في هذا الفضاء، حيث العصافير، والمطر، والنسور، والحياة، التي تمشي على أطراف السماء، ليخرج البشر العاديون عن شرطهم، ويتحولوا إلى أبطال الأساطير، هواء ملتصق بالشفاه .

والشاعرة التي قد أبقت -الآخر- ضمن حدود الضمير المتصل لا المنفصل، تحاول في النص الثاني من مجموعتها، وهو الوقوع في الحب “أن ترسم بعض ملامحه، مادام أنه محور اهتمام عاشقته:

“أرى عينين هما الزمرد، وقلباً وهو الياقوت

كي تقول:

“أنا الليونة تلك
التي يدعوك قلبك إليها
ذراتي تذهب إليك طائعة”

تنذر الشاعرة على قصيدتها أن تكون لسان حال المرأة، في أقصى درجات هيامها، بعد أن أوقد خافقها بذلك القبس المقدس، لتؤسطر هذا الحب، وتكون هذه -المرأة- في موقع تعرب من خلاله، عن إحساسها تجاه الرجل، مشتهية، لا مشتهاة، فحسب:

“أنت معي تجوب
نصف الكرة الأرضية
. . . . .
كلانا منشغل بالآخر
كل بطريقته
أنت في وقارك
وأنا في رعونتي
. . . . . . .
ليس لحبي باب أغلقه عنك”

إن ذلك الحب السامي الذي ترصده الشاعرة، يدفعها لتوقن بأن-عشبة واحدة- تنمو في قلب العاشق، مادامت أنها قد نمت في قلب العاشقة:

“فكرت أن عشبة في قلبك
أيضاً، تنمو بنعومة وسعادة
مثل تلك التي تنمو الآن في قلبي”

ولعل الحب يتسامق بأكثر، ليصل إلى ما يشبه تلك الأرومة الكيوبيدية، عندما تؤنسن ما حولها من جماد، ليكون القمر، والهواء، والشجر، والبحر، والطير، رسلاً لحبها الكبير:

“في كل ليلة أقول
للقمر
وللنجوم
ولهواء المساء، إنني أحبك
في كل فجر أخبو الندى
أيضاً
وفي كل نهار الشمس والطيور
والشجر والبحر
أقول: إنني أحبك
وأطلب منها أن تخبرك”

ويكشف نص -تأكيد مضاعف- سمو حالة الحب، وبلوغه الذروة، وممارسته لمحو كل ما قبله، ليكون استهلال تأريخ جديد:

“حضورك في
غياب لكل ما جاء قبلك”

ما يدفعها لأن تطرح أسئلتها في حضرة هذا الرجل المستبد الذي احتل كل عواصم خريطتها:

“كيف تسكنني دون أن أراك؟
كيف تصحبني كظلي؟
كيف أن روحي طوال الوقت تراك
وجسدي يحلم بك؟
وعقلي يلهث خلفك مثل طفل يطارد بالونة
في الهواء؟”

ولعل رهافة الحس تجاه الحب، تجعلنا نكون أمام حالة حب، تتعدى اقتصارها على طرفين يشكلان معادلتها، بل إنها “حدث” يعرفه جميعهم على حد سواء:

“الجميع يتوقع حدوث شيء ما
بيننا، لو التقينا
الجميع يرى أننا لن نغض الطرف
عن كوننا امرأة أو رجلاً
وأن نارنا عندما نلتقي
ستكون أقرب نيران الأرض
إلى نار الشمس”

والشاعرة تذكر تلك التفاصيل الصغيرة التي تشعر بها الأنثى -في أعماقها- عندما تكون في حضرة حب جارف:

“لم أعرف ما الذي أفعله بكل تلك العاطفة
ترنحت، وأنا أتركك
غارقة في عرقي
مذعورة وهاربة
ترنحت أكثر فيما بعد
وأنا أكتبني، وأكتبك
غامرت أكثر غير أن مغامرتي
كانت فاشلة، أو متعجلة
. .
. .
لم أعد أمشي
ولم يعد سواك في الخيال والذاكرة
. .
. . .
قلت لصديقتي
إنك الرجل الوحيد الذي التقيته
الذي قد أترك من أجله الأشياء
سوى الحب والشعر
والرجل الوحيد الذي لو أراد أمنحه طفلاً
وأغسل قدميه بماء الورد
وأصير ظله الذي يمشي معه
تحت السماء”

إن مجموعة -شغف- هي ديوان الهيام، في أعلى درجاته، بل اللوعة، والشوق، والشاعرة ترصد خلالها روح المرأة، وهي تدون إخلاصها لروحها، هذه، دونما أية قيود:

“أراه فيطير قلبي إليه
ولا أعود أملك من أمر نفسي
شيئاً
وحتى ظلي يهجرني
كي يمشي معه بعيداً حيثما
يمم وجهه
لا أملك من أمري شيئاً
مهما نأيت
لا صحوي، ولا نومي
كلي انتظار له
يدخل الفرح مع أصابع
قدمي وأنا أحييه
ويغادرني كله حينما أودعه
تغادرني نفسي
لا شأن لي بهذا العالم
من دونه”

لعل الشاعرة قد وفقت إلى حد بعيد، عندما عنونت مجموعتها ب”شغف” واتبعتها بعبارة تشي إلى أنها رسائل حب، حيث أعطت النص إمكان تناول لحظات وتفاصيل صغيرة، تنتمي -عادة- إلى معجم الحب، ولعل تقنية الرسائل كانت خير وعاء، استطاعت من خلاله رصد حالات مختلفة، للمرأة، وهي تكتب حبها، ليكون -في التالي- حب المرأة -بعامة- مقدمة لواعج نفسها، وحرائق روحها، وصدقها في حضرة هذا الحب الطاهر، والاستثنائي .

تعتمد الشاعرة في نصوص المجموعة على لغة بسيطة، تنهلها من “المعجم اليومي للحياة” دونما أي تكلف، لتعتمد في قصيدتها الشفافية التي تكتبها على شعرية الحالة التي تتناولها، مادام أن موضوع الحب لما يستنفد منذ أولى النصوص التي دونها الإنسان، ومروراً ب”نشيد الإنشاد” وحتى الآن .

الخليج
27/11/2010


إقرأ أيضاً:-