نزوى هي قلب عُمان. أعود إليها بعد فراق عشر سنين، لأجدها مثلما هي: نائمة في الوادي تنصت إلى همس أفلاجها حيث تذهب المياه بالحكاية إلى جذور الأشجار. بلدة تعيش سلاماً أبدياً، ينبعث من تواضع أهلها وصلتهم العميقة بالمعرفة. لا شيء قد تغيّر. نزوى عصية على التغيير. لا لشيء إلا لأنها لا تعيش زمنا بعينه.
العسل قديم. ولكن هل يعتق العسل؟ لم أسأل الرجل الذي فاجأته نظرتي التي ذهبت من غير قصد إلى علب زجاج صُفَّت كما لو أنها جزء من تجهيز عمل فني.
ريب في الوقت المقدس
في ظهيرة جمعة في نزوى، التقيتُ ذلك الشيخ في السوق القديمة. ما إن رأيته حتى شعرتُ بأني قد وصلتُ أخيراً. نحن في البلاد القديمة. لكنها البلاد التي تنام على أصوات ساحرة تنبعث برخاء من كل آجرة. رائحة تلك الأصوات تحيط بي من كل جانب. جئتَ في الوقت الميت. لم ينه المصلّون بعد طقسهم الجماعي والقلعة مغلقة الأبواب. شكرته وابتعدت، لكن نظرته المطمئنة ظلّت ترافقني. سلام تلك النظرة صار يعبث بانفعالاتي. مشيتُ متوتر الخطوات. صارت الجُمل السعيدة يصطدم بعضها ببعضها الآخر تحت لساني. هوذا واحد من ملوك البلاد القديمة تُحضره العناية الالهية ليكون دليلاً لي. كانت سلال الفاكهة والخضر قد تُركت في أماكنها. لن تمتد يد غريبة لتعبث بما تحويه. كنت الغريب الوحيد في السوق في ذلك الوقت المقدس. صوت ذلك الشيخ غزا أعصابي وصار يدقّ مساميره بين خلايا جسدي. لسليمان جنوده. هل كان الشيخ واحداً منهم؟ الحكاية يمكنها أن تمشي حافية القدمين في تلك الممرات التي تشعّ بخضرة المزارع القريبة وخرير مياه الافلاج. كان التقويم الهجري قريباً من سنواته الأولى يوم بُني أول مساجد نزوى. يحق لهذه المدينة التي تستلهم معنى محلقاً للحياة، أن تكون إذاً بيضة الاسلام، كما لُقّبت. لا تزال الحكاية ممكنة. لم يتأخر الوقت بعد. هذه البلدة لم تقع في التناقض بعد. ما من شيء يوحي بالحديث عن القديم والجديد. لنزوى زمنها الذي يراهن على التناص. وإذا كان النص الأصلي مفقوداً - لنقل غائباً - فإن النص الحاضر هو صورة بصرية، طبق الأصل عما كانت عليه الحال يوماً ما. ولكن أين تقع تلك الحال؟ في الخيال أم في الحلم أم في الاسطورة التي امتزجت بالواقع؟
أثرياء منسيون
أهربُ من السوق حين لا أجد أحداً فيها. هناك اطمئنان كريم يغري بالسرقة. تلك الثروة متاحة لمن يريد. أشهق بالرائحة. اللُبان العماني يحترق في مكان قريب. أتسلل إلى أقرب الأزقة فأكون وحيداً بين أرضٍ أنصفتها الطبيعة وسماء خفيضة إلى درجة الامومة. كل شيء في البلدة المهجورة يوحي بالثراء المنسي. أمشي بحذر لئلاّ يسمع المغادرون وقع خطواتي. كنت أشبه بجملة منسية في مخطوطة لم يقرأها أحد بعد. ولكن أين اختبأ مؤلف تلك المخطوطة؟ أبهة غارقة في رخائها تشير إلى أسلوب في العيش صار مستحيلاً في عصرنا. عليَّ أن أصدّق أن نزوى ليست أثراً. هي مدينة عيش. لكن العمانيين تركوها لأبناء شبه القارة الهندية. البهار ينبعث من النوافذ الخالدة. بدت طيور الإسلام مصبوغة بألوان مستلهمة من عصائر الطعام الحارقة. أبدع معماريو الأزمنة المتفائلة في رسم خطوط مدينة تبهج ناظرها. تسعده بحركة دروبها القصيرة وانحناءات سقوفها المتمايلة ورقّة النوافذ كما لو أنها رُسمت على الجدران وأناقة أبواب بيوتها كما لو أن تلك الأبواب صُنعت لتكون مادة للنظر فحسب. أقف لأمهل خيالي فرصةً للتنفس. لن ينفع التأمل البارد. أصحو على فجر ذهبي. في الوادي الأبيض حيث تقع نزوى، يخترع الورد لغة مختلفة. لقد تسرّب جزء عظيم من تاريخ المدينة الخالدة إلى الأرواح مع ماء الورد الذي تخصص سكّانها في صناعته، شغفاً منهم بفكرة العطر الذي ما إن يمس الجسد حتى يغادره إلى الروح. نزوى عصية على أن تُرى مباشرة، وهي عصية على أن تُشمّ بالطريقة ذاتها.
مقيمة في خلاصتها. ماء الورد هبتها ورسولها وراوي حسناتها.
في براءة الشعراء
ما من أحد. خُيِّل إليَّ أن ابن دريد يرعى حيواناته اللغوية خلف ذلك الباب. وضعتُ يدي باستسلام بارد على المطرقة وأنا أردد: "يا ظبية أشبه شيء بالمها/ ترعى الخزامى بين أشجار النُقا". مرّ الهواء رطباً. الفتيات وقفن قاب قوسين أو أدنى من اللغة الوحشية. صرت أفكر في الاختراع اللغوي الذي يحلّق بالعشب ليجعله نوعاً من الموسيقى في الزخرفة التي تطوّق الجدران بثغائها المبارك. كل النبات كان ممكناً هناك. نبات الجنّة على اليد بالحنّاء مثلما ينطق الآجر كلاماً يُنسب إلى الطير. براءة الشعراء تُقلق. لكني انتهيتُ إلى نزوى لكي أكون آخر: واحداً من شعرائها الضائعين. كان الوقت يمر من غير أن أفهم. هل كان الوقت يمر حقاً؟ نزوى أسيرة وقتها الكوني. ساعتها لا تخضع لحركة الرمل النازل من فوق. بالنسبة إليها، فإن الرمل لا ينفع إلا في كتابة رسائل المهاجرين. جملة من نوع "العسل قديم"، قد تسدد ديناً مؤجلاً لكنها لا تشفي. يظل الحديث معلّقاً. كل الاخباريين مرّوا من هنا. الافلاج، وهي ممرات مائية تروي المزارع، تؤكد ذلك. ابتكرُ طريقاً لكي أتسلّق سلّماً يؤدي إلى مسجد بُني بطريقة ارتجالية. أليس المكان ضيقاً إلى درجة الضنك؟ أتساءل. آسيا كلها تضيق حين يكون المكان المقدس مجرد اختراع لغوي. نحن نقيم في ثقب الابرة. لم يكن المسجد سوى ثكنة بُنيت على عجل. لقد اختفى الخائفون، غير أن أدعيتهم لا تزال ممسكة بالجدران. كنت أبحث عن صورتي. تلك الكلمات التي بُعثرت قبل أن تصل إلى المعنى، تحملني إلى النسيان. سأكون منسياً مثل نزوى. ثمة عدوى سرية تنتشر في المكان. قلت لنفسي: لقد نسيت الموسيقى أيضاً. ومشيت.
أرواح الساحرات
أنا في العالم القديم. هي كذبة أخرى. أسلوب العيش يُقاس بالكرم، ونزوى كريمة. أجلس على بقايا حائط لأتأمل ثلاث نوافذ مغلقات. الاستعمال يخون الجمال. ثمة فقر يصيب الخيال بالعمى. من المؤلم أن تُستباح مدينة ثرية مثل نزوى على أيدي فقراء آسيا القادمين على قارب مهدّد بالغرق. "لقد نجونا"، يقول أحدهم، ويضع قدمه على حجر الصداقة المزيّن بأسرار الالهة. ما من حارس للمدينة القديمة، فيما الابواب صارت أخفّ من أن تُغلق ليلاً. نزوى ليست أثراً، هي مدينة عيش. لكنه عيش كاذب لاختلاطه بفكرة البقاء الموقت. ذهب سكّانها الأصليون إلى الصحراء ليبنوا هناك بيوتاً حجرية خالية من الايحاء السحري الذي كان يؤثث بيوتهم القديمة فيما حضر السكان الجدد بأفكار مطابخهم مثل غزاة جائعين.
كنت ألقي خطواتي بحذر. هذه مدينة مسكونة بأرواح الساحرات. تأبى أن تكون أثراً، غير أنها لا تكفّ عن الإلهام. هنالك شيء فائض منها يمتزج بالنظرة. لقد عدت إليها بعد عشر سنين فوجدتها مدينة أخرى، لكنني أنا الآخر صرت ضيفاً منسياً. لم تعد هي تماماً، لكنني لم أعد كما أنا تماماً. لن أطلب منها ما لم أكن قادراً على طلبه من نفسي. غير أن شعوري بالأسى كان كبيراً. ذلك لأن نزوى تصلح لأن تكون مدينة للعيش، لكنها لا تصلح ملاذاً موقتاً لطاقم سفينة محطمة.
إنها لك. خذها. أنصت إلى صوت الشيخ وهو يقدّم إليَّ جوافة في السوق القديمة. لقد نسيت. سأقدّم النسيان على المعنى. أنا قديم في البلاد القديمة، والعسل قديم مثلي. الموسيقى قديمة أيضاً. هذه بلاد تعنى بالموسيقى. زرت دار الاوبرا في مسقط وكنت في أوقات سابقة قد استمتعت في الانصات إلى عروض الفرقة السمفونية المحلية. اقيم في قلب الجوافة وأفكر في بيضة الأسلام. أنظر إلى أبواب نزوى وأتخيل أشباح من دخلوا إلى تلك البيوت ومن خرجوا منها. مثلي. جرسه في رقبته. ضحية تلك البلاد التي تسعد بخفائها. صورتها المنسية هي واحدة من أعظم تجلياتها. في اللحظة التي توهمتُ أنني تمكنتُ من النظر إليها، كانت نزوى تعيد صوغ قدرتي على النظر. كنت الأعمى الذي يعاد تربيته بصرياً. نزوى لا تصلح للنظر إلا من طريق الروح.
تقع نزوى في المنطقة التي لا تقبض عليها الخرائط.
2012-01-14