فاروق يوسف
(العراق/السويد)

المدن في حالاتها الشعرية غالبا ما يفلت المكان من الذاكرة ما أن تتحرك القدمان بعيدا عنه. كما لو انه لم يكن موجودا. يهبط الضباب تدريجيا ليغطيه. المدن تمّحي. مبانيها، شوارعها، ساحاتها، حدائقها، أنهارها، حاناتها. كل ما يمت إلى خيالها التصويري يذهب إلى الزوال. المدن تتشابه في ذلك. المدن كلها معرضة للهلاك في الذاكرة مثلما هي في الواقع منذورة للخراب، لا الخراب في مظهره السلبي الهدام بل بما يعني من استلاب روحي قوامه الشره العمراني الذي يضيق بالقديم فينبذه ويستولي على الأصيل ليستعمله حجة لدرء الشبهات.

أسوج...

في كل المدن التي عبرتها لتكون محطات في متاهتي، من هرجيسا الاستوائية إلى هولتس فريد في القطب الشمالي حيث أعيش الآن، مرورا بعشرات المدن التي أختلط بغبارها عرق حيرتي، كنت أحرص على أن أحمل معي منها ما يمكن أن يبقيها حية في أحلامي. وما يمكن أن يعيدني إليها ما أن أضع رأسي على وسادة لأنام. يا لغبطتي بأحلامي. تلك الأصابع التي تعيد تركيب قطع لبازلت ببراعة مهندس لتضعني في قلب لحظة جمالية كنت أظنها ذهبت إلى الأبد. غير أنني سرعان ما أتذكر أن هذا المهندس ما كان له أن يفعل ما يدهشني به الآن لو أنني لم أهيىء له المادة التي يصنع بها معجزته. وليست تلك المادة إلا مزيجا بصرياً من أشياء وبشر ووقائع، كنتُ له المرآة في لحظة من لحظات حيرتها وتمزقها وهلاكها. مزيج لا أرى منه غير صفته الشخصية وكأنه جزء فلت من جسدي في لحظة ضياع ثم عاد إليه في لحظة إلهام مقابلة.
كل مدينة جديدة هي متاهة يعلق بي منها ما يبقيها جاهزة لأن تقول ذاتها: ذلك البرق الذي يخترقني بجنون عامر بالشغف. برق هو أشبه بالخلاصة التي تقول الشيء لذاته من غير تزويق حكائي، من غير العودة إلى أشكال في عينها. أحمل من المدن ما يبعدها عن أدعيتها الرمزية. فمثلما أشتهي حياتها وأنا قريب منها، أرغب فيها حية وأنا أراها تبتعد وتتلاشى خلف ركام أبخرتها.
هل أقول كلاما تجريديا؟ لكن، أليس كل كلام تجريداً؟ ألا تحمل الكلمات دائما شحنة مغايرة لتلك التي تحملها الأشياء؟ ألا نخون الحقيقة حين نتابع صلتنا بالأشياء من خلال ما تبقّى منها رهينا بذاكرتنا اللغوية؟ لكن المدن في غواياتها. المدن تقيم في خلاصاتها الشفاهية أيضا، في ما يتسلل إلى دفاترنا السرية من وشايات. أذكر أن أحد الأصدقاء أختصر زيارتي للقاهرة بقوله: لقد شبعت فجورا. وحين أنبأته بأنني لم أر من القاهرة إلا لوعتها وتمزقها بين لفتتين: ثراء روحي تعبق به مآذنها الفاطمية وحاراتها القديمة وأسواقها ومكتباتها وفاقة تتسلق بها سلالم الكفر إلى أعلى الضلالات، فتح فمه كأبله في أشارة إلي.

ما يتبقّى بعد العطور

إذا كانت المدن ما نعيشه منها فإنها بالنسبة إلي ما يتبقى عالقا بالحواس أيضا. وهذا أمر غاية في اليسر. تريد مدينة أهبك ما لديّ منها. لا أدعي أنني أهبك المدينة ذاتها ولا صورة عنها ولكنني أزعم أنني أستطيع أن أُجلسك في أحد مقاهيها أو أمشي بك في أحد شوارعها، أو أرتقي بك أحد أبراجها، أو أتسلل بك إلى دروبها الخفية المعتمة، أو نتناول معا فاكهتها وننعم النظر إلى نسائها. أذهب بك إلى الخلاصة من غير أن أرهقك بالزخرفة. هناك دائما طريق أقصر. طريق يؤدي إلى المدينة، كونها لقية لا تتكرر. لقية شخصية يحملها المسافر معه أينما مضى. المدن التي نحملها معنا دائما هي المدن التي لا تسكن الذاكرة، بل تظل عالقة مثل غبار الطلع بأقدامنا وأهدابنا وثيابنا وحقائبنا، وقبل هذا كله، بأرواحنا. إلهامها لا يفارقنا، والحنين إليها يجتاحنا من غير ما سبب. هناك مدن ملساء، لا يترك المرور بها أي اثر يذكّر بها، وهناك في المقابل مدن تضج روح العابر بها ويمتلىء جسده بشظاياها. وفي كل الأحوال، فان المدن هي الأخرى صناعة خيال. ما يتبقى منها لا يعبّر دائما عن صياغتها التصويرية، بل هو مزيج من الوقائع التي ترشح من خلال مزاج ثقافي في عينه. لذا فقد كنت أحرص على أن احمل من المدن ما يجعلني شريكا في صناعتها. حينها فقط أطمئن إلى أن هذه المدينة أو تلك ستجد لها حيزا محفوظا في مكان ما من روحي.

بين كالفينو وكفافي

قد يصل هوس الشخصية هذا بالبعض إلى درجة اختراع المدن. ايتالو كالفينو أخترع مدنه من مادة غير تصويرية. غير أن كافافي، الشاعر اليوناني، الذي عاش حياته كلها في الإسكندرية، كانت له اسكندر يته الأخرى، تلك المدينة الخيالية المنسجمة مع حقيقتها الخفية، وهي نفسها التي استلهم الروائي لورنس داريل ظلالها في رائعته "رباعية الإسكندرية". كل مدينة اذاً هي أخرى، مثل حياتها التي لا تقود أبناءها الضالين إليها دائما بل قد تكون أحيانا سببا مباشرا في نفورهم. أليست هناك مدن طاردة؟ مدن يشعر المرء أنها لا تلتفت إليه إن مرّ بها ولا تحتفي بدخوله إليها، كما لو أنها تراه يهمّ بمغادرتها. مدن لا تنظر إلا إلى القفا منه. يغادرها المرء كما لو أنه لم يدخلها. فقرها الخيالي يحول دون الإفصاح عن أوهامها. تلك العدوى التي تحول دون النسيان. الوهم في صفته طائرا شريدا لا يمكن القبض عليه. ما يتبقى من المدينة هو بعض من ذلك الوهم الذي يكون مثابة القفص الذي يفتح بابه لاصطياد معنى ذلك الطائر. لا من أجل تأمله بل من الانتشاء بوجوده الموقت. إن ما يفعله المسافر الجوال وهو يستعيد مدينة هو عينه ما يفعله صيّادو السمك. الصيد هنا طقس. طقس هو مزيج من الحيلة والخبرة والمهارة والذكاء والأريحية واللعب الخلاق الذي يعبّر عن علاقة رفاهية بالنتائج، لا من جهة الإنسان فحسب، بل من جهة الفريسة التي هي السمكة أيضا. فهذه الفريسة لا تعيش مشهد القتل إلا للحظات عابرة كما لو انه حالة قطع ثم تعود بعده إلى سالف عهدها في الماء. الصيد هنا يكتسب طابعا أقل عدوانية من خلال هذا التقابل بين تجربتين: الصياد وهو يحقق رغبة دفينة تدفعه إلى احتواء المجهول ومن ثم أعادته إلى مكانه من خلال رمي السمكة في الماء بعد فك اشتباكها بالصنارة، وفي المقابل فإن السمكة تعيش تجربة صراع هي بمثابة سر مضاف إلى أسرار الطبيعة. يخرج الكثيرون إلى الصيد لكن قليلا منهم يعود بسلال ممتلئة بالسمك وهو القليل الأقل خبرة بالصيد، في صفته متعة.

ثقافة الطبيعة

وكما أرى، فإن إنسان هذا العصر إنما يبحث من خلال الصيد الذي هو فعل تاريخي بائد عن اعتراف متأخر بسيادته الجزئية على الطبيعة، غير أن هذا البحث يكتسب هذه المرة طابعا أخلاقيا، لا لسبب إلا لأنه وجد في الطبيعة ما يغنيه عن العدوان عليها. الطبيعة إذاً تسبقنا دائما. حكمتها جاهزة ودرسها مفتوح. وهناك، بيننا، من ألهمته تجربته القدرة على الإنصات إلى إيقاع حفيف ذلك الدرس. وهو البعض المستنير بثقافة الطبيعة. وهي ثقافة النص المفتوح. ذلك النص الذي لا يحتويه تعريف فني أو أدبي جاهز. فهو يعلّم بقدر ما هو مقبل على التعليم. ويغيّر بقدر ما هو مقبل على التغير. فهو نص الفجأة التي تقع في سياقها غير أنها بالنسبة إلينا نحن الجاهلين بتوقيتها، ابنة لحظتها. في الصيف ترى الناس هنا حفاة وتدهش ناسياً إن الإنسان لم يعزل قدميه عن الأرض إلا في وقت قريب وان الناس عاشوا دائما حفاة بل إن هناك اليوم على هذه الأرض شعوبا لم تعرف إطلاقا هذا التعالي المريض على الأرض. غير أن الفعل المبيّت هو غير الفعل الطبيعي. فأن أكون نباتيا على مائدة تغص باللحوم، يختلف عن التهام الأعشاب، كونها المصدر الوحيد للغذاء. الحكاية مختلفة بالتأكيد. حفاة اسوج هم غير حفاة أفريقيا. أن تتحفى هنا، فهذا نوع من الرفاهية. صحيح، غير أن هذه الرفاهية ليست إستعراضا. إنها تعبير عن حاجة. حاجة ملحة للتخفف من أعباء شتاء طويل. هذا الشتاء الذي يحنّ إليه الناس حين يتأخر كما لو أن هلال عيدهم قد تأخر عن الظهور في موعده المرتقب. هنالك نوع من الانسجام مع التوقيت تعيشه الروح مثلما يعيشه الجسد. في ليلهم الطويل لا يستغيثون بالنهار، وفي شتائهم الثلجي لا يعكفون على ذكرياتهم الصيفية. هم في الحقيقة كائنات ترى في عزلتها نوعاً من المزاج التاريخي الذي يجعلها قريبة من ذاتها. وهذا ما يفسر انصرافها المطلق عن الدين كما نعرفه. فهم لا يزعجون الملائكة بأدعيتهم، ولا ينتظرون هبات غير متوقعة. الذهاب إلى الكنيسة لا يعني توجها إلى الصلاة. هو فرصة لتأكيد نوع من الولاء المطلق للإنسانية. هو في معنى من المعاني هرب من الوطنية الضيقة، التي هي صنو العنصرية بالنسبة إلى الكثيرين هنا. وهذا ما يجعل قبول الآخر، غير المماثل، أشبه بالتأكيد من وجود طرق النجاة على الساحل.