أخري وهي عاصمة لـ (لا بلد) اسمه الكون

فاروق يوسف
(العراق/السويد)

بغداد مدينةكل شيء هناك جري بالمقلوب: نبدأ بالحداثة لننتهي الي القدامة. فن تجريدي يتلوه فن واقعي بل ومدرسي يزين ببلادته الوقحة جدران الفصل الطائفي، شعر حديث ريادي بتحرره ومرسل في تمرده يقودنا الي شعر عمودي مقفل علي ابتذاله ورثاثته ووضاعة أفكاره، نواد اجتماعية لتبادل الافكار والرؤي تصبح حسينيات للّطم ، وأقبية لصناعة الدسائس والمؤامرات الحزبية، نقابات مهنية تتحول الي عصابات طائفية، مؤسسات صحية تضع الموت حاجزا بينها وبين الحياة، مجالس ومنتديات واتحادات أدبية هي اليوم بؤر للنفاق ولتبادل الخبرات الشريرة. يخفي السواد جسد الانوثة الذي كان يصرخ الي وقت قريب بتجدده. مصابيح تنتحر لتبدأ العتمة سياحتها المجانية في العقول والارواح والعيون والاكف والالسن. في بغداد القاتل والقتيل يقيمان في الجثة ذاتها، يمتصان رحيق زهرة عاطلة امعنت اوراقها في الفشل والهذيان والضياع. اقتطع العراقيون جزءاً من زمنهم العصيب وهم يناقشون ثنائية فجيعتهم: احتلال أم تحرير؟ سقوط أم فتح؟ مقتدي أم صدام؟ لينتهوا الي المرارة التي تفتح الباب علي مصراعيه لهاوية بل لهاويات لا تزال في ضمير المجهول. لم يعد الخوف مجديا أو مفيدا. لا شيء مما نخاف منه لم يحدث في تلك البلاد. اي بلاد هي؟ الي اي كوكب تذهب؟ عاجزة عن ان تجيب. عاجزة عن ان تفهم نفسها. عاجزة عن ان تذهب بقدميها الي عراء مأتمها. يوما ما نعت صدام الحشود الغاضبة والحزينة والتائهة بالغوغاء. الان هناك من يحكم باسم اولئك الغوغاء ليضطهدهم، ليزيد من شقائهم وفاقتهم وحرمانهم وأميتهم، وليؤجل صلبهم. البرجوازية هزمت. الطبقة الوسطي محيت. الاثرياء غادروا. ما الذي ينتظر بغداد من زمانها؟ هي اليوم عاصمة لـ(لا بلد). عاصمة منفية عن ذاتها. مقتطعة من عزلتها. مجزأة، مبتورة ومهشمة كعواطف ابنائها. ضحية مرمية في غرفة عمليات مظلمة ولا أحد من جلاديها يتحدث بلغة تفهمها. هناك يوم لم يمر بها بعد، هو يوم الحداد العظيم، حين تكون عاصمة لكون لا تحيق به الشبهات، ولا تلمسه الأكف، ولا تلحس كلماته الألسن. بغداد في حقيقتها هي ذاكرة العراق الحي، لذلك فان موت العراق لن يكون مؤكدا إلا إذا محيت تلك المدينة.

2

القرية التي يتألف اسمها من مقطعين (بغ) و (داد) كانت منسية قبل أبي جعفر المنصور بانيها ومخترع خيال دائرتها. مر بها الاسكندر الكبير ذاهبا الي بابل ولم يلتفت اليها، اباطرة فارس بنوا عاصمتهم قريبا منها غير أنها لم تثر اهتمامهم المترف والمسرف في خيلائه الاسطوري الباذخ . كان وعدها لم يحن بعد. كان لدي العباسيين براياتهم السوداء خيارات أخري، غير تلك القرية التي ظل اسمها يشي بعجمتها. كانت البصرة والكوفة يومها تتناحران من أجل نغمة تنزلق علي اللسان في لحظة غفلة بلاغية. السفاح ابو العباس لم يقصدها، ترك الامر لأخيه، وهو الذي حلم أكثر من سواه بمركز لخلافة عالمية، يكون العراق ملعبا لتجلياتها. (يومها لم يكن البريطانيون قد اخترعوا العراق بعد كما أوحت بذلك كتابات الكثير من مثقفي الاحتلال الامريكي). كان العراق يومها موجودا وكان الخليفة يبحث عن عقل ذلك الجسد فوجده في تلك القرية التي كره اسمها، غير أنه اضطر للقبول بها عاصمة لمملكته مترامية الاطراف، لا لشيء إلا لأنه أدرك أن عقل العراق انما يقيم هناك. بغداد هي عقل العراق. ولدت الخلافة العباسية في بغداد وولد العراق مرة أخري هناك. لا تختصر بغداد العراق، بل هي فكرته عن الحياة. هي المدينة الوحيدة التي اشتق من اسمها فعل يدل علي المدنية. قيل أنه: يتبغدد. العراقيون كلهم كانوا يتبغددون، والعرب أيضا. كانت مدنية بغداد دائما ممزوجة بالترف، بخيالها الدائري الذي اخترعه أبو جعفر المنصور، الخليفة الذي اطاح صبيان الاحتلال مؤخرا برأسه البرونزي. هي كل الجهات، فأينما تلتفت هناك بغداد. شيء منها يشي بها.
وهي بسبب كل ذلك كانت ولا تزال سر العراق وخزانته. لقد هرب المتوكل منها بجنده الاتراك الي سامراء، لكن خيالها هزمه، ولطالما هزمت بغداد خيال خدمها.

3

أكتب عن بغداد، القصيدة التي تقيم جملتها الاولي علي الارض فيما تلهو جملها الاخيرة مع الملائكة في أقاصي السماء، وأنا أعرف أن أحدا لن يستطيع الامساك بها أو القبض عليها. فهي ليست حجرا مصريا أو اغريقيا، يذهب الي المتحف بعد أن يكف عن الكلام. شيء عظيم منها يظل لصيقا بالأجنحة مثل الرفرفة، يرتفع وينخفض ليضرب بهوائه الشفاه والأهداب والاظافر لينحرف بالحواس الي بقاع مضيئة لا يصل اليها إلا الشعراء والقدسيون والانبياء. ليست بغداد هنا، ولا قدت من مادة صلبة لكي يجد بوش وخدمه موطئاً لأقدامهم القذرة عليها. ليست هي الارض، بل السماء وقد شبه لنا. بغداد هي المدينة الوحيدة في التاريخ التي في امكانها أن تعيش التاريخ مقلوبا وتستمر في الحياة. ذلك لانها لا تقيم في الزمن. تنقص وتزداد، تتضاعف وتتضاءل، تصغر وتكبر، وقد تختفي أحيانا لكي تظهر بعد قليل. عصية وعنيدة غير أنها تتسلي. يسليها أن تكون هنا مثلما تكون في عمق المرآة، شبحا مقيما في اشباهه. هي ليست اوروك ولا اريدو ولا لكش ولا حتي بابل، رمزيتها لا تشبع غرورها، وهي التي لا تكف عن اختراع أسباب جديدة للعيش. كل الحكايات تسعي الي أن تكون جزءاً من حفيف ثوبها الذي يلهم الهواء موسيقاه. فلبغداد امكانية أن تحل في أشياء بالغة الصغر بالرغم من سعتها التي يضيق بها الكون كله.
ذات يوم رأيتها وأنا اتمشي علي أحد سواحل بحر البلطيق في علبة ثقاب ملقية علي الشاطئ، لا لشيء إلا لان تلك العلبة كانت تتزين بثلاث نجوم حمراء. هي ذاتها العلبة التي كان العراقيون يستعملون عيدانها لاضاءة طريقهم في ليل بغداد. كل فكرة تقود اليها هي أرض مستحيلة. لذلك فقد كانت تلك العلبة بمثابة قارب نجاة، أقلني الي بغداد بعد سنوات طويلة من الفراق. أفكر بالعاقين من أبنائها الذين ارتضوا أن يرسموا خرائط تقود الأجنبي اليها، هل أدركوا الان أن تلك المدينة التي ظنوا أنهم يعرفون الطريق اليها، لن تكون موجودة إلا بشرط الحب؟ القلب النقي وحده هو من يستطيع العثور عليها. لقد شبه لهم ولأسيادهم في لحظة ما أنهم قد أمسكوا بالطائر الذهبي، وهاهم اليوم بعد أكثر من أربع سنوات من ذلك اليوم الاسود يشعرون أنهم قد ضلوا الطريق اليها وضللوا أسيادهم ولم يحصدوا إلا عار الخيانة. لذلك فانهم يخططون اليوم للهرب باجزاء متناثرة من جسد العراق انتقاما من عقله.

4

ماذا يحدث لبغداد حين يحل يوم الحداد العظيم، ليكون العراق بعده نسيا منسيا؟ بغداد التي كانت ولا تزال وستظل مدينة أخري، لن تكون الجثة التي يحلمون بالذهاب بها الي المشرحة، ليست أرضا لكي يتم اقتسامها والفرار بجهاتها، هي شيء آخر يعرفه الحب. ليرحلوا الي النجوم وليسألوها عن نجمة عبرت منذ هنيهة، ليذهبوا الي الزهرة وليبحثوا في ثناياها عن العطر الذي انبثق منها مثل دمعة، ليقبضوا علي ثدي الام وليبحثوا في حلمته عن الحليب الذي نز في لحظة الهام، ليتلمسوا الطريق في اتجاه الفم من اجل أن يقبضوا علي ابتسامة امتزجت بالهواء، ليتيهوا في البحر بحثا عن حوت يونس، ليفتشوا كل الآبار بحثا عن ذلك الفتي الذي امتزج جماله بشقوق أكف النساء، ليقتفوا آثار خطي جلجامش ذهابا وايابا بحثا عن عشبته الخالدة، ليجلسوا في الحانة في انتظار انكيدو، ليقيموا أخيرا في غيابها. في غياب تلك المدينة الحاضرة كالفجر، الممتلئة أحلاما مثل وسادة عاشق، المنداة بصبرها، النابتة في عيون حاسديها، الملهمة كدمية سومرية. لقد أخطأ العملاء والمتعاونون مع المحتل الطريق اليها فأنكرت الدروب كلها أقدامهم. حين حملهم ليل الغزاة اليها صار ذلك الليل قدرهم ومأوي أشباحهم الي الابد فلم يروا منها شيئا، يقودهم الي معاجم السياسيين، حيث يقيم ذلك الاسم الذي يتشبه باسمها. ولكنهم بعد كل الذي جري صاروا يعرفون أنها لم تكن مركزا للحكم، إن سقط ذلك الحكم استسلمت.
مكانها علي الخارطة هو المجاز بعينه. ما فعلوه في بغداد انما يعود عليهم ولا شأن لمدينة المنصور به. خرابها وفقرها ويأسها وجثثها ورمادها ومزابلها وعتمتها وبكاؤها وعطشها وأمراضها هي صفاتهم التي جلبوها معهم بعد أن استخرجوها من عقولهم المريضة بالانتقام. اما بغداد فلها أجراس نزقها وقرآن دعائها وعصيان جنونها. إنها المدينة التي تقيم في الـ (لا مكان)، وهي عاصمة لـ (لا بلد) اسمه الكون. القيامة في بغداد.

القدس العربي
06/10/2007