فاروق يوسف

عدتُ من الطريق لتوّي، بعدما تركتُ الأفعى نائمة بين أجراسها. الحالم يضع رأسه على أعشاب الأيقونة ويعدّ الخراف المحلقة. واحد، اثنان، الخروف الثالث ينظر متألماً إلى الخزانة الزجاجية فارغة. كان هناك جسده الفارع. كانت فأسه معلّقة مثل ثوب قديس، تلعب بين طياته الريح. كل طية هي ذنب. كل ذنب هو خصلة. كل خصلة هي نبرة خوف. بعد كل هذا الموت نعود أحياء. سنكون أحياء. تلك حكاية مختلفة. نسيتُ أنني رويت القصة من قبل لصديقي حسن حداد، وهو رسام عراقي يعيش في لايبزيغ. كنتُ في حاجة إلى أن أسمعها بصوتي مرةً أخرى. حين يختفي المكان الذي يولد فيه المرء يصبح وجود ذلك المرء موضع شك. منذ زمن طويل اكتشفتُ أن مسقطي قد انزوى بعيدا، في فضاء مبهم لا تصل إليه عيون الجغرافيين. تلبّسني يومها عناد الادريسي، فقررت أن أستعير عيني طائر. غير أنني اكتشفت بيأس أن الطيور لا تحلّق في فضاء القيامة. يقع الطائر مثلي على صيحته المذعورة. لقد أفقت من أجله لكي أجعله يتكرر. الطائر يتكرر. آخر أشجار الغابة تتكرر. أنا في بحة الناي، على قارب سومري ضائع، بين نخلتين يتيمتين أتكرر.

"دفنوا لفراشة"

يضحك القرد. كلنا قردة. مَن قال إن الماضي لا يتكرر؟ كنا قد نمنا في قاعة الدرس قروناً. أنقر بالإصبع. الظباء واقفة بين يدي الله وجلجامش كان قد اختفى في غابات لبنان، وأنا أنقر. البيانو. اللوح الأسود. فجر إسرافيل. همت به وهامَ بها. المنسية في عماها. زليخا البلاد تذوب في قاع الكأس. قل "استكان" مثلما علّمنا الانكليز. سفينة الآثاريين التي غرقت في نهر دجلة. أمشي بقدميها. أقصد قدمي زليخا الطاعنتين في البهاء. أميري في السينما وشيخي في البلاهة الصيفية. عدت يا يوم مولدي. أين تقع محلة الصنم؟ قبلة من شفتي رومي شنايدر. اربعمئة من الامتار المربعة هي بحجم الثقب الاسود. أقصد متراً سموياً هو بطول يوم إلهي. لكنها، أقصد المحلة، ابتلعت الشعر والموسيقى والشوق وعلكة أبو السهم ومصطفى جواد والزورخانة ومقامات القندرجي ودعاء كميل المثقلة ظهورهم بالبنادق التشيكية واختفت. ذريعتها أنها لم تكن موجودة وأنا لم أولد في أحد بيوتها. افترض أن شنايدر كانت هي القابلة المأذونة الذي جرّتني إلى العدم. النمسوية الحلوة هي الآخرى ترقد الآن تحت التراب. ما من دليل في يدي. قد أكون واحداً من الذين شُبِّه لهم. شُبِّه لي أني ولدت ذات فجر بين صيحتَي ديك رماديتين في فضاء تشقّه أزهار الرازقي، وكان الملك الذي استورد جدّه من الحجاز لا يزال حياً. سبحان الذي جعل الصوماليين عرباً. صورتنا في المستقبل: عرب لا يتقنون اللغة العربية، نطقاً وكتابة وقراءة. سيعمّ النباح والعواء والمواء والنعيق والنعيب والنقيق والنهيق.

أكانت محلة الصنم، حيث ولدت جزءاً من جمهورية الصومال أيام الماركسي محمد زياد بري؟ سأذهب إلى أوغادين المنسية بنعال من ريح. مَن يتذكر المشّاء الفرنسي؟ دخل رامبو إلى حارتنا. نهر أزرق من التوابل جرت مياهه بين قدمَي شاعر "الاشراقات". كنا على الخريطة. لو أجريت تمارين خيالية على خريطة الادريسي لرأيت مسقطي. كانت أزهار كلود مونيه المائية تنبت هناك. تتكرر الزهرة من أجل أن تكون أخرى. سي تومبلي يقدّم تقريره الى نرسيس. ستراك الزهرة وتراني مبهَمين. ربما الزهرة لن تكون موجودة بعد هذا الاعتراف. مثل أوغادين بعد رامبو، وقبل زياد بري. كانت القوافل تمشي بأمان. ما من اثيوبيا، هناك الحبشة التي لجأ إليها المسلمون وكان نجاشيها حكيماً، استطاع بذكاء أن يكتب اسمه بذهب حضارة أخرى. كان نجاشيّو رامبو قتلة ولصوصاً ومتآمرين. هلكوا وهلكنا. صار علينا بعدهم أن نبحث عن ممالكنا في سمّ الافعى.

أنظر في البئر فأرى يوسف. يومها لم يكن الغرام قد استبد بامرأة العزيز. كان من الممكن أن يبقى يوسف طفلاً، مثلما هو المهدي. تماما سيكبران معاً في الغيب. معهما تكبر زهرة تومبلي. هي مثلهما، وليدة تخصص نادر في استعادة الفضاء كونه قوة فتح. "إلى الامام"، مَن هو أول قائليها؟ على الأرض ما من أمام. الأمام الذي نمشي إليه هو قدر عضوي. لو كنا نستطيع أن نمشي إلى الخلف لقمنا بذلك بخيلاء أباطرة وتفاؤل شحّاذين. لكن البشر لا يجيدون سوى مهنة واحدة: حفر القبور. لقد رأيتك حياً، لكن يهمّني أكثر أن أراك ميتاً. مرثيات على الطريق. مَن يرثي مَن؟ زليخا أم تومبلي؟ محلة الصنم أم زياد بري؟ يدها أم يدي؟ أشدّ ما أخشاه أن نكون كلنا قد شُبِّه لنا. فلا الناصري ارتقى الصليب، ولا الحلاّج مات صلباً، ولا يوسف خرج من البئر، ولا زليخا جمعت نساء الحي من أجل أن تبهرهن بجمال مَن شغفها حباً، ولا أنا ولدتُ في محلة اسمها "الصنم"، تقع بالقرب من ساحة الطيران، وسط بغداد، ويقابلها على الجانب الآخر من الشارع كامب الارمن.
أهدي الى الادريسي زهرة من تومبلي من أجل أن ينقر بأصبعه على خريطته.

الحجلة تمشي بثقة. إلى أين تذهبين؟ لم أسألها.
الغزل يتكرر والغزلان مرسومة على السقف. لِمَ لا نذهب إلى الأندلس؟ كل شيء لا يزال ليّناً هناك. الدفاتر مفتوحة والريشة تكتب بحبر أبيض على ورق مصنوع من ريش الطيور. لقد بُني كل شيء وفق إلهام إلهي. كانت الهندسة تستحضر شكل الكون في سابع أيام الخلق، حين استراح الرب ونظر بإعجاب إلى ما خلقه. باخ وحده من بين الموسيقيين كان حاضراً حينها هناك. نيتشه هو الآخر لا في صفته فيلسوفاً بل باعتباره مجنوناً. كانت اللحظة في حاجة الى ثرفانتس للتخلص من إحراجها المربك. ضحكة متأنية يحقنها وودي ألن بمجاز يهودي. لا شكسبير ولا دوستويفسكي ولا بلزاك ولا رودان ولا برانكوزي. جاكومتي باعتباره مصوّراً، وبيكاسو باعتباره مجسداً.

حيث ولدتُ كانت المتاهة العظمى.

سيزان أعنّي بتفاحاتك. بلدي تحت الصحن. ضربة منك على الطبل الخيالي من شأنها أن تطلق صيحة ديكه. الفجر يشرق من بين سطور رسالة تسلّمتها عمتي نوعة من زوجها الميت وهي الآن ميتة. كانت هناك بلاد في حجم الإصبع. بلاد تتسع لدكان التبغ الذي كان البرتغالي بيسوا ينوي اقامته. سندخن كثيراً. سيدخن العباد سجائر مستوردة. أنت وأنا والعسس وحرّاس رامبرانت الليليون. في الاربعمئة متر مربّع من هذه الارض التي هي مساحة محلة الصنم، حيث ولدتُ، كان الرب قد ترك ملائكته وهم يهذون. ذهب المكان ولا تزال الملائكة تهذي. أهم أناث أم ذكور؟ سنضحك كثيراً من عقلنا التبسيطي. الملائكة لا تتزوج. كل ملاك هو خلاصة. ذكر وأنثى. ما من ملاك يحنّ إلى مسقطه. وهل للملاك رأس لكي يسقط. أظنني فقدتُ محلّتي حين اكتظت تلك المحلّة بالملائكة. فجأة لا مكان. لقد ابتلعها الفضاء، لم تعد موجودة، كما لو أن القيامة قد وقعت فيها مبكرا، من أجل أن تلحقها بمقتنياتها الثمينة. لقد رأى الثعلب الخزانة الزجاجية فارغة، هل كان الأرنب لامرئيا؟

تعينني ذكرى محلّة الصنم، حيث ولدتُ، على مقاومة فكرة البقاء حياً.
مَن يريدني حياً، عليه أن يتبعني إلى موتي. كنا مرسومين بلغة مائية كما لو أن ديفيد هوكني هو الذي اخترعنا. أضع يدي على يدك فتمّحي يدك. العكس يحدث أيضاً. أخرج من الحفلة شفّافاً. أنا هناك حيث لا مكان. محلّة الصنم هناك حيث لا أحد. كنيسة الارمن بناقوسها الأبيض، الموتى وهم يذهبون إلى الموتى. "أبونا"، هبني شيئاً من عدميتك. العالم كله يعدّ خرافاً محلقة. واحد، اثنان، الخروف الثالث ينظر متألماً إلى الخزانة الزجاجية وهي فارغة.