من النافذة في شقتي التي تقع في الطبقة الأولى من بناية تاريخية تعود الى القرن الثامن عشر، أنظر إلى الحياة. أمستردام، بلديرداك سترات 64، على القناة مباشرة في الفجر الذي بدا كما لو أنه قد نظف ثيابه من حفلة الليلة الماضية.
آنا، وهي صاحبة الشقة، تركت كتبها على الأرض على شكل تلّ يتكئ على الحائط. عوليس، أعمال شكسبير الكاملة، "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، زمن مارسيل بروست المفقود، أوديسة هوميروس، "الحرب والسلم" لتولستوي، "إسم الوردة" لأمبرتو إيكو، وهكذا تتالى الكتب التي أقلبها، وكلها تجب أن تُقرأ. لكنها في الهولندية. مع ذلك فإن المشهد كان يبعث على السعادة.
شابة في الثامنة والعشرين من عمرها قرأت كل هذا التل من المعجزات الأدبية. يمر قارب، صدقت زوجتى أن مياه القناة سوداء. في القارب فتاتان ورجل. يرفع الثلاثة كؤوسهم لي. "في صحتك"، لوحتُ لهم مبتهجاً. لا بأس أن يبدأ نهاري بليلهم. ليلهم لا يزال مترفاً وأنيقاً وضاجّاً بالمفاجآت. كانت المياه سوداء من تحت قاربهم حين رأيت المقهى على الضفة الأخرى من القناة يفتح أبوابه.
نادلة بشورت وساقين من رخام كانت تُنزل الكراسي من على المناضد المبتلة. اقترحت عليَّ زوجتي أن نتناول طعامنا ذات صباح في ذلك المقهى. قلت لها: ما الفرق بين أن نفطر هنا أو نفطر هناك؟ هم على يسار القناة ونحن على اليمين، والمشهد نفسه. طبعاً كنت مخطئاً. هنالك فرق كبير بين الحالتين، غير أن ذلك الفرق هو من النوع الذي لا يُوصف. أن تجلس في مقهى غير أن تجلس في بيتك. المشهد وإن كان نفسه فإنه سيتغير. مقاهي أمستردام هي جزء من ثقافة الشارع. وهو شارع هادئ وآمن، ذلك لأن شوارع هذه المدينة غالباً ما تكون خالية من السيارات. كما أظن فإن نسبة السيارات التي تمر في الشوارع هي الأقل في أمستردام قياساً بالمدن الأوروبية الأخرى، وربما تكون الأقل في العالم. جرّبتُ أن أحصي من نافذتي عدد السيارات المارة. كانت الغلبة دائماً للدراجات الهوائية. ما بين عشرين دراجة وعشرين أخرى تمرّ سيارة واحدة. كانت شرفة الشقة تطل على باحة البيت الداخلية. لكن أحداً لن يجلس في شرفة بيته في هذه الساعة من النهار. كان الحمام يعرف ذلك. يمتد هديله في فضاء الباحة مثل حبال الغسيل.
طبّاخو الضواحي
مشّاء مثلي لا يخيفه الضياع بين دروب مدينة ساحرة مثل أمستردام، لكن الضياع في مدينة دائرية حلم بعيد المنال. كل الطرق تؤدي الى ساحة دام. هناك حيث يزعجني مشهد المصطفين انتظاراً للدخول إلى متحف مدام توسو. سبقت تلك المدام "ماكدونالدز" في اكتشاف المزاج الشعبي الرخيص، حيث لا فرق بين تشي غيفارا وآل كابوني. كلها كتل شمعية مؤنسنة. الطبخ السريع يتبع ذائقة لا تتساءل. السياحة تجترح معجزات سلبية. لكن الأتراك وهم الأكثر عدداً بعد المغاربة بين الأجانب هنا، صاروا سادة الطعام السياحي. يمكنك أن تثق بما يقوله صاحب المطعم التركي وهو الطبّاخ أيضا. "دونر" أو "كيباب" تعني شاورمة، وهي تمثّل بالنسبة إلى كثير من السياح حلاً مثالياً لمشكلة الجوع. للأتراك أحياؤهم في أمستردام. صحيح أن تلك الأحياء تقع في الضواحي، غير أنها لا تتصف بالفوضى، كما يتوقع المرء. بل هي أحياء جاذبة، مريحة بما تقدمه من أطعمة فاخرة وبأسعار رخيصة، فيما تفوح أسواق تلك الاحياء بروائح الفواكه والخضروات الطازجة. في تلك الأحياء يرى المرء أمستردام أخرى يتقاسمها الأتراك والمغاربة. يتبادلون فيها الأدوار، فلا يفرّق أجنبي بينهم إلا إذا كان خبيراً في الأجناس. أدخل إلى "ملحمة الدكتور عاصم" فأرى امرأة ناعمة، تفيض رقة، بملابس بيضاء تذكّر بالممرضات. "هي مساعدة الدكتور عاصم بالتأكيد"، قلت لنفسي. كان المكان نظيفاً بما يذكّر بمستشفى، غير أن الخزانة الزجاجية وقد احتوت على أنواع مختلفة من اللحوم، في إمكانها أن تحيلنا على الدرس مباشرة. "هذه كبدة. هذه لحوم عجول. هذه شاورمة من الديك الرومي". أتخيل تلك المرأة الرقيقة قادمة من غرفة العمليات. البائعة المغربية كانت جزءاً من فيلم جنائزي. ليست وحدها. كل شيء في تلك الأحياء يلهم العين لقطات سينمائية، كما لو أن المرء يتطلع الى مجموعة متلاحقة من الأفلام الوثائقية عن حياة شريحة من البشر، وخصوصاً اذا جلس في المقهى الرئيسي في ساحة يافا. تلك الساحة التي تتقاطع فيها كل الشوارع، كما لو انها صورة مصغرة من ساحة دام. صنع الأتراك والمغاربة متعاونين أمستردامهم الصغيرة هنا.
فأر ينصت الى الموسيقى
"لا تزال أمامك قناتان"، قالت لي بائعة الأجبان، بعدما سألتها عن موقع قناة الأمراء. غير أنني لم أتحرك من مكاني. صارت المرأة تنظر إليَّ بعينين حائرتين. قلت لها متسائلاً: "لم يبدأ الكونسيرت بعد". نظرت إلى ساعتها وقالت: "أمامك نصف ساعة. لكنك لن تجد مكاناً قريباً من الفرقة حتى لو ذهبت الآن". قلت: "سأمضيها هنا"، وأنا أقصد النصف ساعة التي لن تكون مجدية. كانت رائحة الجبن قد حلقت بي في فضاءات بعيدة. مزيج من الحليب والأعشاب والتوابل في معادلة يصعب التعرف إلى عناصرها إلا بعد التذوق. لكن هل يتمكن المرء من تذوق ما لا يحصى من أنواع الأجبان في الوقت نفسه؟ يد الصانع تلهم العناصر بداهة الطبيعة. كانت المرأة قد صفّت أمام كل نوع، قطعاً صغيرة للتذوق. يحسن أن يجرّب اللسان بلاغته التي هي نوع من الحذلقة. بعد تجربتين في التذوق، تصبح الخبرة محض افتراء جانبي. يصير التذوق نوعاً من اللمس. الطعم الذي لا يذكّر بشيء بعينه يفلت من الذكرى. قلت لنفسي "إنك تضع عطرا فوق آخر" كل تلك الأجبان ممكنة، لكن إن حضرت منفردة. اما وقد جاءت مجتمعة في هذا البيت الزجاجي، بيت المزارع الهولندي المتخيل، فإنها لا تدع شيئاً من خيال الطبيعة إلا وتستدعيه. حين سألت البائعة عن عدد أنواع الأجبان في هولندا، ضحكت وردّت: "ربما بعدد سكان هولندا". كان الكونسيرت قد بدأ وأنا لا أزال واقفاً مثل فأر أمام قطعة جبن. صارت الموسيقى تصل. أصوات مغنّي الأوبرا تمزج المياه بالغيوم في ليل يبيض عتمته بصمت الالاف من الواقفين على الجسور وعلى ضفاف قناة الأمراء. المحظوظون جلسوا في قواربهم ينصتون. وكنت محظوظاً إذ عثرتُ على حجر فأجلستُ زوجتي وبقيت لأكثر من ساعة واقفاً أتأمل الوجوه من حولي فيما كانت الموسيقى تعينني على الاسترسال في ذلك التأمل. حين صار الغناء جماعياً، كان هناك رجل يوزّع على الواقفين نسخاً من النص المُنشد من أجل أن يمرّ هواء لغة بعينها بين الشفتين. كانت الأغنية تشف عن بعدها الموسيقي أكثر من أن تستجيب لمعاني كلماتها. بيسر يمكنك أن تنصهر في الطقس الغنائي من غير أن تكون معنياً بمعاني الكلمات. سلاسل من الراقصين كانت قد تشكلت من حولي فيما كان النشيد يرتقي سلالم الغيم. حينها فهمتُ الجملة التي سمعتها من بائعة الجبن: "حتى لو أمطرت فإن طقساً سنوياً من هذا النوع سيقام في موعده".
غموض المدينة
أين تقع المدينة؟ كنت أستعيد مشاهد من لوحات فنّاني القرن السادس عشر. فيرمير هو الأكثر وضوحاً في خيالي. تبدو واجهات البيوت مرسومة، النوافذ بالذات، ترى كيف يجرؤ المرء على لمسها؟ تسقط أقدامي خطواتها على الشوارع، في الدروب الجانبية الضيقة، على الجسور فوق القنوات، فوق حصر الدروب المتشعبة وهي تصنع متاهاتها في المتنزهات الشاسعة. أهو مكان للعيش أم للتأمل التصويري؟ هنا أتذكر البيت الذي أقيم فيه، حيث تتكئ البناية الضيقة على البنايتين اللتين تجاورانها. غالباً ما تكون أبواب تلك البنايات التاريخية ضيقة. أما سلالمها فإن ارتقاءها يهب الاقامة فيها معنى المكابدة التي تستحق أن تُروى. تضع قدمك على درجة السلّم فلا تتسع تلك الدرجة إلا لجزء من تلك القدم، لنقل ربعها. الباقي يبقى معلقاً في الهواء. أين يقع السلّم؟ سؤال يشبه بقوته الروحية السؤال الأول: أين تقع المدينة؟ حتى لو طالت الإقامة في أمستردام فإن المرء لا يفلح في القبض عليها. في جزء منها يراها كاملة كما يخيّل إليه، ثم يكتشف أنها كانت تخدعه. كلما توسع المرء في نزهاته، رأى جزءاً من المدينة، من غيره ستكون زيارته ناقصة. حينها تتلاشى ذكرى الأجزاء السابقة. يحلّ جمال محلّ جمال كان قد سبقه. السحر يأتي في موعده من أجل أن يتلف تأثير سحر، صار نوعا من الذكرى.
أمستردام تقع في خيالها
النهار- 23-9-2012