(يوميات عراقية تتشبه بالشعر)

فاروق يوسف
(العراق/السويد)

هذا مو إنصاف منك

بعد العراق هناك معاجم لبلاغة بيضاء. يمكنني أن أقول كل شيء من غير أن أقول شيئا. كنت طفلا عراقيا، غير أنني اليوم لم أعد أصدق ذلك. صار علي أن أعيد قراءة كل الدفاتر التي اعتقدت أنها لم تعد مفيدة فرميتها في أماكن لم أعد أتذكرها، أماكن هي في الحقيقة جزء من سيرة ناقصة لم أعشها بعد. أنا مهدد الآن بفقدان كل ما يعينني علي معرفة من أنا. الطفل الضائع مني يعني أكثر من صورة قادمة من الماضي. بل إنني لا أملك أية حياة ما لم أستعد تلك الصورة. لن أكون موجودا في مكان ما مثلما كنت في تلك الصورة، التي هي أحق بي أكثر مني. التيه الذي كنت ارتجيه بسبب شغفي بالجغرافيا صار قدرا. كنت أقصده صفة شخصية تجعلني في منأى عن التشبيه، فإذا به يضعني في الجمع، كما لو أنني أسير عنوة في تظاهرة لا أعرف أهدافها. لقد محيت أجزاء كثيرة من روحي، يا لحظها الحسن. بقيت تلك الأجزاء عراقية صافية. حين أعود إليها يوم القيامة ستشهد بعراقيتي. ستقول ما أنا عاجز اليوم عن قوله. لقد خانتني الجغرافيا مثلما فعل التاريخ. خيانة مزدوجة ستجعل مني كائنا فريدا في كل مختبر. هل يعني العراق كل هذه المجرة التي أقف أمامها اليوم مخذولا؟ ليس بإمكاني أن اكتفي بالسؤال: خاله شكو؟ إن النار التي اشتعلت في الغابة كان مصدرها قلبي. لقد اندس القتلة والقتلى بين دفتي كتابي من غير أن يلتفتوا الي براءتي. العراق من هو؟ كان عقابي وذنبي وحزني وعفويتي وطهري وفقري ومصدر أناقتي وحمامتي التي أناغي جناحيها كل شهوة ورمادي ونعاسي ومرادي وهمي وموقع شبقي وجليسي وضحكتي الواقية ونقاء مائي ودمعتي بعد فيروز وشاي عصري ونظرة أبي. لم يكن العراق شيئا لأصفه، صار علي الآن أن أستعيده كما لو أنه كان شيئا. لذلك أحلم بظلم أقل.

يا نبعة الريحان

البنات الظليات مثل النبات عليهن أن يؤخذن بقامتي. العراقي مثل نخلة وحيدة، أسير رجولة صاخبة لم يستأنفها بعد أن خذلته أنوثته الخبيئة. عليهن أن يرين ما لم أره وقد لا أراه إلا من خلال عيونهن. هنالك يوم مائي وهناك وديعة لا تزال يدي ممسكة بها. سيخطئني التعبير دائما، لست أنا من يقول دائما. صورة العراقي تربكني، تلك الصورة التي تفلت من أبدها، ذلك لأنها لا تنتمي الي ما يظهر منها، أعرفها لا تعيش إلا لحظة النظر إليها، كما لو أنها لم تكن موجودة قبل النظر إليها. العراقي هو ابن تلك اللحظة التي يري فيها. هو العاكف علي خفائه مفتونا بسحره. صفي توتره وقرآن عاطفته الساخنة. كل دقيقة يعيشها هي أبد مرتجل.

يا الماشي الله وياك لحظة تأنه
اسمع كلامي وروح صوتك فتنه

كان ما كأنه، لكنه رآنا أخيرا. لم يقل كلمة تعنيه، حين ودعنا بعينين ثابتتين. لم تقلقه وحشة الطريق ولا غربة السفر، بلاغته المتأنية شقت طريقها مثل سكين في هواء ليلنا الثقيل. كان لديه وقت طويل، ليقول الجمل التي لا يفكر بها الموتى القلقون. نظر ألينا كما لو أنه لم يرنا أبدا من قبل، وهي الحقيقة التي أخلص لها في اللحظة الأخيرة من حياته. كان دائما يعرف أن موته علي مرمي حجر منه، قريبا من خطوته المقبلة، في الزقاق التالي، بين شجرتين إحداهما تخفيه والثانية يتخفي بها القاتل. دائما كان الموت عزاءه في حياة لم يعشها إلا بصفته آخر. في لحظاته الأخيرة وحدها تمكن من الكراهية التي تملأ قلوبنا شجنا. من مثله لا يمكن أن ينتظر سوي أن يكرهه من هم مثلنا. غير أنه وهو الذي لم يتوقع أنه سيعيش كل هذا العمر لم ير في تلك الكراهية عائقا دون استئناف حوار لم يتوقف يوما. يكفيه أنه لا يلتفت ليري، فلا وقت لديه لكي يتذكر. لقد رآنا أخيرا. في لحظة الموت تمكن من أن يرانا. كنا دائما نراه ذلك الآخر الذي يقوي علي الموت. وحين أقبل عليه ذلك الشبح لم يخيب ظننا. كان قويا بما لا يمكن توقعه من إنسان آخر. أخذنا به لحظة موته وصار علينا أن نسحر به، أن نمحو تلك الكراهية التي شغفت بها ضحكاتنا المنفية وأقداح خمرنا وكراسينا المضطربة ودموع أمهاتنا المنتظرات منذ عقود في ذلك البلد الذي خطفه منا وخبأه في قمقمه. صار علينا أن نقول عنه كلاما مختلفا، وهو العدو الذي لن يجرح الإعجاب به كرامتنا. بل جعلنا نعجب بأنفسنا: عدو من هذا النوع يليق بشعب عظيم. كان في إمكان قوته التي لم يضعفها الدنو من الموت أن تكون فضاء لكل ما يمكن أن نكتبه من شعر، كان لكرامته التي لم يتمكن منها الجلادون أن تكون ملاذا لكل قلوب الأمهات وهي تطلق نداءاتها الفاتنة. ولكنه لم يفعل ما كنا نتمناه. في عزلته عرف أننا نحتاج الي موته مثلما عرف الحسين ذلك من قبل. لذلك مشي واثق الخطوة في اتجاه المشنقة. في لحظة الموت لقننا درسه الأخير: فلسطين عربية. أشد ما أخشاه أن يكون قد أخذ فلسطين معه.

يا حافر البير

هناك بلد ضاع، هناك بلد يضيع. هل تنفع النصيحة؟ الذي ينصح غير الذي ينصح (برفع الياء هذه المرة). العمائم المطرزة بالدسائس تعرف أنها لا تمضي بحامليها الي الوراء وحدهم، بل وأيضا بشعب لا راد لمصيبته إلا الله. ولا ينفع في هذه اللحظة تشخيص الداء، فلقد اختارت العمائم أن تنضم علانية الي حلف الشيطان. لقد استطاع أن يغوي حامليها، فصارت أصواتهم تصرخ بما لم يجرؤ هو علي قوله في أشد لحظات عصيانه عمي. صار كل البلد علي خشبة: خشبة الصليب أم خشبة المسرح، لا فرق. المهم ان تلتهمه النار، الجحيم التي وعد بها المارقون. لقد رفع الله يده عن بلد يحرق فيها مصحفه الكريم ويقتل الناس عنوة في الأيام الحرم. أذكروني أذكركم، شيء من هذا القبيل يتعلق بالنسيان. يا للهول الذي نحن فيه. قررت العمائم أن تغرقنا في الفضيحة: أن لا نكون مسلمين وهي تقصد أن لا نكون عربا.

هله يا نور عيني و يا هليه
يا غاتي من تمر سلم علي

لا بأس. لأتخيل أحدا آخر. أحدا يكون في إمكانه أن يسألني الاقتراب منه وسؤاله عن أحواله. عن الثمرة التي تركها معلقة علي الشجرة. عن الشباك الذي لم يجرؤ علي أن يغلقه خشية أن تخطئ الفراشة طريقها الي مخدته، عن البلاد التي صارت تختفي كما لو أنها لم تكن يوما بلادا، عن النمر الذي أمحت ابتسامته الماكرة بعد أن بلل قدميه العشب بأناشيد السماء، عن جاره الذي هو أنا، من غير أن أزج به في متاهة براءتي والجرم الذي أنا ضحيته. الرجل الذي أتخيله لن يكون جاري بالتأكيد، ذلك لأن جاري مر بي قبل أن أتمكن من أن أدعوه إلي ان يلتفت الي. كان لديه ما يشغله وكان لدي في المقابل ما يشغلني.

أخاف أحجي

لن يسأل إيراني عن طريق الحج، سيجدها سالكة أمامه دائما. لن يسأل أمريكي عن الطريق التي تؤدي الي آبار النفط، هناك لافتات في كل الطرق مكتوبة بالانكليزية تقوده الي ضالته. إما أبي فانه لم يجرؤ علي عبور جسر الصرافية (الحديدي) في بغداد لكي يستلم المبلغ الضئيل الذي أرسلته إليه. قال: المنطقة ساخنة. فتذكرت الشاعر عبد الرحمن طهمازي وهو الذي يسكن هناك. قال: الجسر يخيف، فهناك قناصة في كل مكان، فتذكرت بيروت وطريق الشام وجسر الموت وشربل داغر. قال: سأذهب بعد العيد. كما لو أنه قال: بغداد لي. حينها تذكرت عبد الرحمن الداخل. غير أنه في الختام قال: لن اذهب أبدا. قلت: انتهينا.

القدس العربي
17-1-2007