فاروق يوسف
(العراق/السويد)

فاروق يوسف 'غيمتان. هل هناك فراغ بينهما؟' سألني. كنت في الطائرة. مقعدي قريب من النافذة. 'لا أملك مسطرة' لم أقل له.
ليس هناك وقت لمزاج فكاهي من هذا النوع. كانت القيامة قريبة. نحن طائران من غير أجنحة. 'استعير جناحك' يضحك ويقول 'نحن آدميان' كانت مفردة (آدمي) تكفي لاختراق الأبواب. أملأ عيني بالكثافة. لن تكون هناك شفافية. 'لقد ولدنا آدميين فكيف صرنا خونة؟' قال جملته بارتخاء ونام. التفتُ إلى الغيمتين. أردت أن أهمس 'عليك أن لا تصدقيها' وشعرت بالحيرة. الغيمتان متآمرتان. شيء من المطر يتسلل من غيمة إلى أخرى. كنا في الطائرة. عليك أن لا تصدق أحدا هو في حقيقته لم يُخلق طائرا. كان جاري ينام بين جملتين. حدثني عن المطارات. قال 'يشعر المرء بالغربة في المطارات لو كان له وطن' لم يقل لي 'لا بيت لي'. جلسنا في المقهى. قال 'سأشرب قهوة ثقيلة. في السفر الطويل يحتاج المرء إلى نوع من اليقظة' 'ولكنك نمت كثيرا' لم اقل له. انصت إلى بلاغته سعيدا. سأبدأ بالعد من اللحظة التي رفع فيها فنجان القهوة إلى فمه. واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة، خمس.. قبل التاء نام الرجل. قال لي انه في المرات الكثيرة التي سافر فيها لم ير جارا مهذبا مثلي. أخبرني أن البعض كان ينام على كتفه. غير أنه يتذكر امرأة فلبينية كانت حاملا، قالت له لو جاء وليدي ذكرا سأسميه بإسمك. الفلبينية كانت خائفة. كنتُ خائفا. ولأني كنت خائفا فقد وافقت على أن يحمل وليدها اسمي. 'هل حفظت الطريق الذي سيعود بنا إلى الطائرة؟' سألني. 'ولكن كيف يمكنك العودة دائما؟' لم أسأله. كان نائما. حين عدنا إلى الطائرة كنا فوق امستردام. قال لي ان السفر الطويل يسبب له نوعا من الاغماء. بعد قرنين من الصمت قال لي 'هل قلت أننا لن نصل؟'.

عبرنا خط الاستواء. كان هناك ملوك ضائعون بين الأحراش. قد لا تصدق. كنت في أفريقيا أعيش مثل ملك. تركت مزارع القهوة لإبنتي. سوف تلتقيها يوما ما. واحدة من ملكات أفريقيا الحقيقيات. سوداء مثل الحقيقة. يحرسها النمل. أقصد البشر الذين استعارهم سليمان من البلاد الخفية التي قدم منها. ليست إبنتي بلقيس، ولكنها ستكون كذلك بالضرورة. قال لي أنت تنام لتحلم. قلت له أنت تحلم لتنام. قال لي صدقني ان فنجان قهوة في مقهى بعين الكرش بدمشق يمكنه أن يكون سببا للسعادة. قلت له أن يوسف عبد لكي سيكون في انتظارنا هناك. 'هل تعرفه؟' سأل بعينين صديقتين. كان عبد لبكي لا يسألني إلى أين ترغب أن تذهب. كانت لديه خططه. باريس مدينة قدميه. 'ما من روح لتُحرق' كنا بوذيين. كانت الخطيئة تمشي بنا. شعور عميق بالوحدة ينتابنا بين حين وآخر. 'هل تسافر لتنسى؟' سألته. أشار إلى المضيفة. اقتربت الشقراء منه. انحنت. همس لها بشيء. قصيرة كانت جملته. كما لو أن المضيفة ارادت أن تضحك، غير أنها حين تذكرت وظيفتها اكتفت بابتسامة خارقة. لم أسأله ما الذي قاله لها. قد يكذب. هذا رجل يسافر كثيرا وقد تكون له علاقة سابقة بتلك المضيفة. كما لو أنه خمن ما أفكر فيه، قال لي'هناك دائما ما يمكن أن نقوله للنساء الجميلات' أعجبتني فكرته. امرأة جميلة تساوي فكرة جميلة. هل العكس صحيح أيضا؟ قال لي 'سأحدثك عن الموسيقى. كنت في فيينا يوم تمكنت مني الالات الوترية. كان هنالك فارق من الوقت. بين وترين يمكنك التفكير والتأمل. كانت هناك امرأة جميلة سحرت بها تجلس إلى جانبي. كانت الموسيقى تسيل على خديها. 'ولكنك تبكين سيدتي' قلت لها فأمسكت بيدي وقالت 'أنت ملهم. شيء منك يقيم في السماء'. هدأت حينها مطمئنا. لقد وقع العصفور في الفخ. غير أن تلك المرأة كانت قد اختفت ما أن انتهت الحفلة. اما أنا فقد وقعت في فخ الموسيقى.
كانت الطائرة تخترق غيمة وكان جاري نائما.

'أنت تحلم بمقاهي دمشق' قال فقلت له 'النوفرة هي أجمل مقهى في العالم' كان ياسر صافي يضرب بأصابعه على المنضدة وهو يقول لي 'هناك ألف سبب للرسم. لكن النساء الجميلات هن السبب المباشر للرسم' قلت له 'السبب المباشر للحياة' تأملني صامتا وقال 'نحن مجتمع أمي' يومها أخذني إلى سوق الحرير الدمشقي. كنا نضحك مثل مغوليين ضلا طريقهما إلى بغداد ووصلا إلى الشام خطأً. 'أين قبر صلاح الدين؟' لم أسأله. كان الجنرال غورو معتوها. لو لم أكتب لكان ياسر يشعر بحريته أكثر. أشعر بالذنب. كان جاري يشعر بالراحة. قال لي 'هل تتكلم الالمانية؟ نحن فوق المانيا الآن؟' كانت لدي فكرتي الصافية عن الوقت. لقد تأخرنا على الموت. بنبل جلب ياسر لوحته وفرشها أمامي وقال 'هي لك'. صمتُ. كان خيال اللوحة يتكلم. حين انقطع التيار الكهربائي صرنا نضحك. قال لي ياسر 'بيني وبينك هذه ليست بلادا. هي أشبه بالصراط المستقيم. من لا يقع هو المحظوظ' لم أخبره أن أصدقائي كانوا دائما من المحظوظين لئلا أوهمه بحظ لم يكن من نصيبه. لا أقصد أن ياسر الصافي لم يكن محظوظا، بل أقصد أنه كان ينظر إلى ذلك الحظ بطريقة متمهلة. 'قف هناك. انتظرني' قال لي 'إن لم ينتظرني الحظ فليس لدي ما أخسره' كان يقصد النساء. كان الرجل محبوبا. لا لأنني كنت أحبه (لا أزال)، بل لأن هناك جيشا من النساء يقف في انتظاره. 'كان الرجل وحيدا إذن؟' كان وحيدا بطريقة آسرة. غير أنه كان يحن إلى دعوة لشرب القهوة مع فتاة لا يعرفها في مقهى مجاورة. 'كان من الممكن أن يكون ثالثنا على هذه الطائرة' التفت فرأيت ياسر صافي جالسا على الاريكة الخضراء. 'هل تفضل البيض مقليا أم مسلوقا؟' سيكون الرسام طباخا. كنت غوغان في ضيافة فنسنت في المنزل الأصفر. يومها كان ياسر سعيدا.

'صديقك الرسام يسافر معنا' قال جاري ضاحكا. أخبرته أن هناك حربا لا يود صديقي أن يرسمها. يمشي ياسر مطمئنا كمن لا يرغب في أن يقع شيء من ورائه. 'هل رأيت ساقيها. أقصد المضيفة' يقول جاري 'في الحقيقة لم أنتبه' أقول معتذرا. 'لقد فاتك الكثير من الجمال يا صديقي إذن' كان الرجل محقا. فكرتُ. كان علي أن أجلس على مصطبة في شارع تروفلي بباريس لأتأمل النسوة العابرات. لقد تركت كتبا كثيرة في مكتبتي ببغداد من غير أن أقرأها. على عجل وقفت على الجسر في لاكسمبورغ وكان كمال سبتي يلقي لي حكاياته كما لو أنه يطعم بطاً. لقد كنت أبكي في محطات القطار وأنا أغادر المدن، لإن شيئا منها لم يبق راسخا في ذاكرتي. كنت صبيا تعبث به الشهوات. ولكن خيال نساء تلك المدن كان يمشي بي أعمى بين المجرات.
'نحن نستعد للهبوط' قال لي كما لو أنه يضع بين يدي خارطة.
حين كانت الطائرة تمشي على الارض قال لي ضاحكا 'أتوقع أنك ستكتب عن رحلتنا. لا تنس ساقي المضيفة الحسناء'. حين كنا نهم بمغادرة الطائرة رأيت تلك المضيفة واقفة في وداعنا. لقد ابتسمت حين اقتربنا منها بطريقة جعلتني أرغب في العودة إلى التحليق في السماء. جاري الذي كان معنيا بتلك الابتسامة أكثر من سواه قال لي بعد أن تخطيناها 'هؤلاء نسوة السماء. اما نحن الارضيون فلنا نسوتنا'.

القدس العربي- 2012-10-30