فاروق يوسف

فاروق يوسفبعد ريو دي جانيرو وتورنتو وميلانو، يستضيف متحف الفن الحديث في العاصمة الاسوجية ستوكهولم، لوس انجلس ضمن سلسلة معارض "الزمان - المكان" التي أطلقها لمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيسه. وهي سلسلة يهدف القائمون عليها إلى تعريف المشاهدين بمدن الهامش الفني التي كان لها دور كبير في الحوادث التاريخية التي شهدها الفن المعاصر منتصف القرن العشرين ومهدت الطرق إلى التحول العظيم الذي نشهد ثماره اليوم: فنون الوسائط المختلفة والمتعددة التي ألغت المسافات بين الأنواع الفنية، بل وألغت الكثير من المفاهيم الثقافية التي ارتبطت بالفن لقرون طويلة. المعارض الثلاثة هي عبارة عن حفريات نقدية في تاريخ الفن، بعيدا من الخضوع لهيمنة المدن المركزية التي تتحكم بمشهد الفن وسوقه مثل باريس وبرلين ومن ثم نيويورك. صحيح أن هناك الكثير من الفنانين ممن عُرضت أعمالهم هم في الحقيقة من الأسماء المكرسة في تاريخ الحداثة الفنية وما بعدها، من حيث اهتمام القاعات الكبرى والمتاحف بتجاربهم، غير أن في المقابل هناك أيضا الكثير من التجارب الفنية يمثل عرضها مفاجأة من شأن استيعابها أن يؤدي إلى قراءة جديدة لتاريخ الفن. الفنانون الذين ظُلموا، أكثر من أن تتمكن محاولة واحدة من احصاء عددهم. أحيانا تقع التجارب الفنية العظيمة ضحية مزاج عصرها كما أن لغة السوق لا تتطابق دائما مع لغة الحقيقة.

1

لوس انجلس (1957 - 1968) هذا هو عنوان المعرض الضخم الذي يضم أعمالا لثلاثة وعشرين فنانا، ولدوا في لوس أنجلس أو قريبا منها أو هاجروا إليها من أماكن بعيدة، غير أن ما يجمعهم أنهم أطلقوا من خلالها وفيها تجاربهم الفنية التي غيّرت جزءاً من الحقيقة الفنية في العالم خلال عقد الستينات من القرن المنصرم. القيّمون على المعرض يعترفون بصعوبة تصنيف فناني مدرسة لوس أنجلس أو تعليبهم ضمن قوائم مشتركة ثابتة ومنضبطة. بل أن الواحد من أولئك الفنانين لا يمكن ضمّه بيسر إلى نوع أو أسلوب فني في عينه. فهؤلاء الفنانون لا يشبهون سواهم من الفنانين، لكونهم وجدوا أن في إمكانهم أن يمدّوا أيديهم بحرية إلى كل الوسائل التي يكونون من خلالها مرئيين. كانوا أميركيين من جهة إخلاصهم إلى وعاء الثقافة الأميركية: لست مرئيا إلا بما تفعل وعليك أن تحسن القول في تقديم ما تراه مكشوفا من أفعالك. فلا تاريخ ولا قيم مسبقة ولا حتى أخلاق مهنية. شيء عظيم من الجرأة أفلت كل شيء من نصابه وجعل الذهاب إلى الحافات هدفا. كان الأوروبيون يمارسون عبثهم على استحياء. أما الأميركيون فإنهم وجدوا في ممارسة ذلك العبث منهج حياة وأسلوب عمل. هكذا يتجلى توق الأميركيين إلى فن يشبههم: بشر يجلبون ويجتذبون من كل مكان كل ما من شأنه أن يجعل حياتهم ممكنة، لكن بطريقة مختلفة عن سواها. لذلك فإن الأزمنة والمدارس والأساليب تمتزج في هذا المعرض، بعضها بالبعض الآخر. وهو امتزاج يكاد أن ينسينا المصدر الأوروبي الذي تنبع منه كل هذه التحولات. "صُنع في أميركا"، الجملة التي يجد المتلقي العادي أن من حقه أن يرددها بأسلوب هذياني. "ماركة تجارية"، مثل ذلك البيت الزجاجي لبيار دي كونينغ (المولود عام 1925) والذي أصبح جزءا أصيلا من حياتنا المعاصرة، حيث صرنا نراه في كل مكان، مثل الكوكاكولا والجينز والفس بريسلي وأندي وارهول. هناك اليوم من لا تعنيه بداية فن البوب في بريطانيا، ما يهمّه فعلا أن البوب أنتهى فنا أميركيا خالصا. صار غواية أميركية تنشد الاعلاء من شأن الحياة اليومية.

2

يدخل المرء إلى المعرض فيحار في تصنيفه. كل شيء ولا شيء في عينه. الفنون الكتابية والبصرية والمتحركة كلها في وقت واحد. دعا الشاعر الفرنسي جان كوكتو عام 1949 أحد المشاركين في المعرض (كينيث أنغر المولود عام 1927) إلى باريس للمشاركة في مهرجان سينمائي، على الرغم من ان أنغر كان مبدعا في فنون أخرى غير السينما. جون بلدساري (ولد عام 1931) يعرض نصوصه بأناقة وبحرفية من يعرض صوره. نصوصه هي صوره. يمكنك أن تقرأ، ويمكنك أن تكتفي بالنظر من غير أن تفهم شيئا. كان والاس بيرمان (ولد عام 1926) في الأربعينات عازفا للجاز ومن ثم انتقل إلى الروك، غير أن شغفه بتصميم الأثاث انتقل به إلى النحت. جودي شيكاغو، وهي مناضلة نسوية، لم تكتف بعروضها الانشائية بل وثّقت عروضها تلك في كتاب نادر هو "حفلة العشاء" الذي ضم سير 39 امرأة اسطورية ممن قهرن التاريخ الذكوري بحضورهن المدوّي. روبرت أرون (1928) كان أول المأخوذين بالضوء، فالرجل انتقل من التجريد إلى استعمال الأضواء في صناعة أعمال فنية افتراضية. تبعه جيمس توريل ودوغ ويلير اللذان يمكنهما الحديث عن كل شيء بيقين إلا عن أعمالهما الفنية، التي هي عبارة عن مقتنيات وهمية. فما أن تطفأ الأضواء حتى تمحى تلك الأعمال، فلا يعود لها وجود يُذكر. هل تصدّقون أن هناك متاحف متخصصة بمثل هذه الأعمال التي تمحى؟ نقرأ زوالنا بطريقة تجعلنا نقاوم ذلك الزوال بما يمكن أن يزول. الفن الأميركي هو عنوان حضارة رائدة في تعلقها بكل ما هو زائل. حضارة تمتزج من خلالها وسائط تعبير، هي في الجزء الأعظم افتراضية، لتعيدنا إلى جوهر الحقيقة الذي هو في حقيقته نوع من الخيانة للواقع. ربما تبدو تلك الخيانة في أكثر صورها عرياً من خلال وجود ديفيد هوكني وسام فرنسيس في هذا المعرض.

4

هوكني البريطاني (المولود عام 1937) عاش أكثر من أربعين عاما في جنوب كاليفورنيا، فيما أمضى الأميركي فرنسيس (1923 - 1994) الجزء الأهم من حياته في باريس، وهو الجزء الذي يحظى برعاية هذا المعرض. نوع من الحذاقة، نوع من التلصص الشعري على التاريخ، هما بالتأكيد تعبير عن خبرة ودراية بسيرة تقع خارج التداول الرسمي. كان هوكني ابن مدرسة البوب البريطانية، فيما كان فرنسيس ابن مدرسة نيويورك، حيث يبدو تأثره بجاكسون بولوك جليا. غير أن أهمية أعمالهما لا تصدر عن الموقعين المذكورين. هوكني لا تذكّر به إلا مسابح كاليفورنيا، فيما محت شاعرية فرنسيس حركية بولوك. ليس في ذلك انصاف ولا عدالة. بالنسبة الى هوكني يمكننا القبول به فنانا مقيما في أميركا، ولكن تتويج سام فرنسيس جرى بطريقة تنمّ عن خبرة في استغفال التاريخ. غير أن هذا الحكم الأخلاقي قد لا يتناسب مع ما تطالب به بصيرة ترغب في أن ترى العالم مختلفا. لقد وضع فرنسيس تجربة بولوك قيد الاستعمال الجمالي بعدما تأملها عميقا وانتهى إلى خلاصاتها المضمخة بالشعر النقي. فإذا كان هوكني من خلال صوره الشفافة يقدم عالما مترفا عاشه بطريقة شخصية في لوس انجلس، فإن فرنسيس يراهن على عالم لم يعد يقوى على احتوائه بصريا، غير أنه يقتنص شيئا من نوره. في الحالين، فإن المعرض يضعنا إزاء محاولة للفراق. كما لو أنه يود أن يقول لنا إن هوكني ما كان في إمكانه أن يكون الفنان الذي نعرفه إلا بفضل اقامته الاميركية، وأن فرنسيس وهب مصادر فنه النيويوركية طابعا إلهامياً اكتسبه من المكان الذي ولد فيه..

5

لجورج هرمز (ولد عام 1935) عمل نحتي عنوانه "أمين المكتبة"، لا يمكن النظر إليه إلا من خلال قيمته الرمزية المستلهمة من الحكاية الدينية. الدلالة واضحة: الصليب الذي تشكّله مجموعة الكتب المغلقة او التي تركت مفتوحة. وكما أرى، فإن ذلك العمل بكل حمولته الرمزية الجاهزة إنما يعيدنا إلى الصراع بين معنى أن نكون موجودين في لحظة النظر وبين أن نذهب إلى قاع المغزى، حيث نتعثر بمفردات وجودنا. في السنوات الأولى من ستينات القرن الماضي كان عمل من هذا النوع بمثابة تحدٍّ أخلاقي صارخ. ولأن الأخلاق يومها كانت جاهزة لتدمير كل ما يمكن أن يمت الى الجمال بصلة، فإن الركون إليها مقياسا كان من شأنه أن يضع الصدمات البصرية في قائمة المحرمات. من هذا المنطلق تكتسب الكثير من الأعمال المشاركة في هذا المعرض أهمية تاريخية تفوق قيمتها أعمالا فنية مجردة. بمعنى أننا لا يمكننا النظر إلى كثير من تلك الأعمال بمعزل عن زمانها والمكان الذي أنتجت فيه والمزاج الثقافي الذي كان سائدا من حولها. هكذا يكون معرض لوس انجلس (1957 - 1968) مناسبة لإعادة قراءة الدرس التاريخي الذي يرافق التحولات الفنية الكبيرة

النهار