يلتقي المرء يوسف الرقيق ولا ينساه. مرة واحدة تكفي لتبقى مشيته المهملة، غير المكترثة راسخة في الذهن إلى الأبد. خفة طائره تظل عالقة في الخيال، كلما يختفي كنت أتساءل 'هل كان الرجل موجودا بيننا حقا؟' أجل. جلس هنا مرتبكا. حرك يديه بانفعال ثم تثاءب متعبا. انحنى ليهمس بجمل قصيرة.
وكان في كل لحظة على وشك أن يغادر، كما لو أنه كان ضيفا. في (المحرس) التونسية وهو ابنها، كان كل شيء يشير إليه، بل يتوكأ عليه. قبل عشرين سنة، يوم زرتها لم تكن المحرس سوى بلدة بحرية صغيرة، بحرها لا يصلح للسباحة ولا للتأمل. ما من صيادين ولا متنزهين. بؤس تلك البلدة لا تخطئه العين، غير أن طيبة أهلها تحلق بزائرها على جناحين رُسما بأصباغ مائية. وهي لذلك من البلدات التونسية النادرة التي لا تمر بها قوافل السواح. الطيبة ليست عنصرا سياحيا جاذبا. غير أن الرقيق الذي غادرنا قبل ايام إلى الابد عن عمر يناهز الثانية والسبعين صنع لتلك البلدة اسما يتداوله الفنانون في مختلف انحاء العالم. معجزته هي. مهرجان المحرس كان بدعته التي صدقها الكثيرون، وصار البعض منهم يخطط للذهاب سنويا إلى تونس من أجل المحرس. لا شيء سوى المحرس. من المؤكد أن ذلك البعض كان يذهب إلى هناك من أجل الرقيق نفسه.
رضا العموري، وهو ناشط في مجال الفنون التشكيلية وصاحب غاليري هو الذي عرفني على الرقيق عام 1992، وكان في صحبتي الفنانان العراقيان علي المندلاوي ومحمد حسين عبد الله، اللذان كانا يخططان للإقامة الطويلة في تونس. يومها وجه لنا الرقيق الدعوة للمشاركة في مهرجان المحرس الذي كان قد تأسس عام 1988. لا أتذكر الآن السبب الذي جعلني أوافق على أن ارافق العموري في رحلته إلى المحرس، مرورا بصفاقص، هناك حيث حضرنا حفلة عرس أخيه، ومن بعدها انتقلنا إلى المحرس التي وصلناها ليلا. صباح اليوم التالي وما أن غادرت مكان اقامتي حتى اكتشفت أنني قد وقعت في الفخ. ما من شيء في هذه البلدة يُرى فيسلي. أين تقع البلدة؟ قد تُرسم الخارطة من غير أن تتوقف يد الرسام عند تلك النقطة التي تقع فيها المحرس. يمر بها القطار فلا يقف ولا يزيح ركابه الستائر عن النوافذ منبهرين. بلدة منسية، هي عبارة عن مجموعة متلاصقة من الإزقة، تنتهي إلى البحر، الذي لم يكن مشهده مبهجا. بحثنا انا وقاسم الساعدي ومحمد الجالوس عن مطعم، فلم نعثر إلا على مطعم شعبي صغير، أبدى صاحبه استعداده لقلي البيض لنا. فكرة رائعة. بعد نصف ساعة كانت أمامنا ثلاثة صحون مغطاة بالهريس (خلاصة الفلفل الحار). كان ذلك مدعاة لشعور لا يوصف بالأسى وبالغم. ما الذي فعلناه بأنفسنا؟ كيف ستمر أيامنا وسط كل هذا الخواء؟
ولكن ما أن أطل يوسف الرقيق علينا حتى تغير كل شيء. صار للوقت قوة الدعابة المباشرة التي لا تختفي إلا بعد أن تترك أثرا. لقد أدركنا أننا كنا موجودين هناك من أجل شيء آخر. من أجل أن نرى الرقيق وهو يروض اللاشيء ليستخرج منه أشياء تبهر الناظر إليها وتثلم تمنعه، بل وتدفعه إلى أن يرود بنفسه مجهولا، كان يقف قريبا منه من غير أن يشعر به. المسرحي السابق عرف كيف يجعل رؤى الساحر القديم ممكنة، لا من أجل أن يسلينا ونحن عزاؤه في دنيا صارت تضيق عليه، بل من أجل أن يخفف من ضغط الواقع على ذاته. وحين زرنا دكان والده، كان الرقيق الأب صورة أكثر امتزاجا بالسرد من الرقيق الإبن الذي كان جسده يتماهى ايقاعيا مع الشعر. لم يكن الواقع بالنسبة ليوسف سوى خشبة مسرح وكما لدى شكسبير فان البشر ليسوا سوى ممثلين. كانت المحرس مسرحا وكنا ممثلين. لذلك فلا بأس أن يكون هناك عرض للرقص التعبيري على سطح أحد البيوت ولا بأس من أن القي محاضرتي واقفا على ساحل البحر، فيما يجلس الجمهور على الرمل. المحاولة مفتوحة على خبرة لم تنضج بعد، ولن تنضج إلا بعد الموت. كنا ممثلين في مسرح خيالي.
كان يوسف الرقيق يحلم باقامة مدينة تشبهه عن طريق الفن. مدينة خيالية وحقيقية في الوقت نفسه، محلقة بقدمين تمسان الارض مسا لا يُرى. ثقته بالفن دفعته إلى أن يفسر الكثير من أحلامه الغامضة بلغة الواقع. كانت فكرة المدينة الفاضلة تمشي بقدميه على الدروب الزلقة. ولأنه كان مؤمنا بالفن خلاصا، فقد وهب أبناء بلدته حسا إنسانيا، يقدم الفكرة الخيالية على جسدها المنجز. كانت المحرس حسب من زاروها في السنوات القليلة الماضية لا تزال مقيمة في بداهتها: بلدة لا ترى في السياحة حلا مقبولا لأزماتها الاقتصادية. لذلك بقيت تنام مبكرا. لا تحتضن أزقتها إلا غرباء دفعهم شغفهن بهواء الحرية بعيدا عن الطرق المرسومة على الخرائط السياحية. وكان شبح يوسف الرقيق يرافقهم في ذهابهم وايابهم. من البحر وإليه. حارس البلدة ورسولها. أميرها وخادمها. كان قد حدثني عن فينيقيا والفنار البحري الذي كان يرعى ليل البحارة القادمين من وراء البحار.
اليوم أشعر أن الرقيق كان ذلك الفنار المتبقي من عصر أنمحى. كان يسهر ليرعى أحلام الفنانين القادمين من أماكن لم يصل إليها نوره من قبل. غير أن أعظم ما فعله الرقيق انما يكمن في أنه نجا بمدينته الفاضلة، باعتبارها حيزا واقعيا من الكذب. لم يزيف شيئا في حقيقة بلدته البائسة كما يفعل البعض ممن صاروا يجهدون في تزييف صور مدنهم قبل وخلال وجود الضيوف في تلك المدن. لا تقبل المدن الفاضلة الزيف لذلك كانت المحرس بسبب يوسف الرقيق مخلصة لحقيقتها، بلدة صغيرة مهملة، هيأ لها القدر واحدا من أبنائها ليصون كرامتها. لذلك فإن تلك البلدة التي أصرت على أن لا تكذب لم تحتل مساحة كبيرة في وسائل الاعلام المعاصرة، العربية والعالمية على حد سواء. وهي وسائل تهتم بالصورة، التي غالبا ما تكون زائفة. ولأن المحرس ليس لديها ما تقدمه في هذا المجال فإنها تكاد تكون غير مرئية. مجرد فكرة غامضة، يجتمع عدد من البشر سنويا من أجل اضاءة شموعها في معبد لامرئي.
كان يوسف الرقيق هو حارس تلك الفكرة ورسولها.
الآن وقد اختفى الرقيق، فان تلك الفكرة ستختفي هي الآخرى.
يبقى شيء من يوسف من بعده، لكن ذلك الشيء لا يكفي لارتجال خفة لبلدة وسمها التاريخ بالاهمال منذ الاف السنين. سيقال 'المحرس هناك' وتظل الجملة ناقصة. 'لن يكون يوسف الرقيق هناك، لقد غير الرجل عاداته'. محرسه لن تكون موجودة. فالرجل الذي اخترع مدينته الفاضلة يوجعه أن يذهب وحيدا. لذلك أخذها معه.
القدس العربي
2012-05-21