أوصيت نفسي بالآتي، قبل أن أتقدم إليها خاشعا: "عليك أن لا تجزع. هناك من الأسى ما يحيي ومنه ما يميت". الأسود هناك مستنفرة. رأيت طرفاً من بوّابتها من بعيد. مشيت على أطراف أصابعي، ببطء وحذر، لئلا تستيقظ العرّافات الراقدات باطمئنان في ذلك المعبد البابلي. صار الوقت يستخرج دقائقه من أعصابي ولا تقع خطواتي على الأرض البعيدة. أنا خفيف ولا أُرى، فيما كان الصمت قد حلّ ماحقاً كل شيء من حوله. مئات الزائرين، وما من كلمة ترتفع بجناحيها. لبابل لغتها التي هي مزيج من لغات، عُجنت معاجمها وطُهيت حتى صارت عظامها ماء يسيل لذة للشاربين. بابل هناك إذاً في انتظارنا، مشرّعة أبوابها للزائرين القادمين من مختلف بقاع الأرض. خُيِّل إليَّ أن أحد حرّاسها قد تعرف إليَّ وصار يرمقني بإشفاق. كان الحارس يقود أسداً، كما تفعل السيدات المسنّات بالكلاب خارج المتحف البرليني. حين قدّمت إليَّ موظفة الاستقبال سمّاعة لكي استمع من خلالها إلى شرح سياحي عن المكان، الذي أنا ذاهب إليه، قلت لها مبتسما بحزن: "شكرا. أنا في بيتي". لم تصل جملتي إليها كاملة. كانت أثناء ذلك تقّدم بضاعتها المغرية إلى من يقف خلفي في الطابور. مشيت حالماً، وكنت أود لو سُمح لي بالذهاب زحفاً. هناك الجزء الحي من بابل، الجزء الذي لم يهدمه قورش ولم تلمسه أيادي الغزاة. الجزء الذي لا يزال نظيفاً من روحي. تطلق الخزفيات الزرقاء حمائمها فيمتلئ الفضاء هديلاً، هو أشبه بالصفير الذي ينبعث من أجنحة الملائكة.
هي ذي بوابة عشتار إذاً. سلاماً.
ليست مكاناً
ينظر السائحون إلى الخرائط الضوئية. أين تقع بابل؟ أصابعهم ثقيلة ويابسة. لو صرخت "في قلبي" لاستيقظ الكهنة. كانت الدائرة تتسع لتشمل الامبراطورية كلها، غير أنها سرعان ما تضيق لتومض مثل نبضة قلب، مكتفية بالمدينة المعجزة، حيث مركز العالم القديم. كان نبوخذ نصر قد شيّد جنائنه المعلّقة هنا. تقول أسطورة الحب إنه اجترح معجزته تلك ارضاء لزوجته الغريبة عن المكان. الماء والخضرة وما بعدهما الجنة. ألا يكفي ذلك سبباً للنسيان؟ لا تغطس الاسطورة طموحات الهاجس الامبراطوري كلها، بل تقدّمها مغموسة بماء الحب. لم تكن بابل لتهب النسيان شيئاً منها. وإذا كان المنقبون لم يعثروا على أيّ اثر من تلك الجنائن، فإنهم استطاعوا خلال حوالى عشرين سنة من الجهد الخلاّق أن ينقلوا بوابة عشتار كاملة وجزءاً من شارع الموكب إلى برلين (بدأوا في ذلك عام 1899). أدخل من خلال البوابة. الايحاء يحلّق ويخذل. يحلّق لأنه يضع للفكرة جناحين ناعمين، ويخذل لأنه لا يؤدي إلى بابل. هنا تمتزج الحقيقة بالوهم. ولأني أدرك أن بابل لم تعد منذ الاف السنوات مكاناً، أرضى بصورتها كما تظهر في هذا المكان الذي يضيق بزئير الأسود. الوهم الذي يعينني على تلمس الطريق إليها. لقد سبقتها فكرتها إلى العالم، فصارت الارض لا تدور إلا من خلالها. إن تكن بابلياً، يحق لك أن تحكم الأرض وأن توقف دورانها في أي لحظة إلهام. سَحَرَ إلهامُها الاباطرة فمشوا إليها ليذهبوا من بعدها إلى الموت مطمئنين. ما من أرض بعدها، وكل الطرق سالكة إليها. فيها أنهى الاسكندر المقدوني رسالته، وفي الوقت نفسه انتهى أرقه، ولم تعد تقلقه الكتب السموية التي كتبت فيها. يده كتبت آخر سطر في قصيدتها. أضع يدي على يده وأغمض عيني موعوداً بالسحر.
كائنات خرافية تتسلى
من مزيج من المرمر الأزرق والقرميد الملوّن والرخام الأبيض يتألف نشيدي البصري، هناك حيث تمتزج الكائنات وتتحرر من هويتها الضيقة. لن أفزع لمرأى التنّين. كانت الحلّة (يوم كان اسمها بابل) ملأى بكائنات تشبهه وتذكّر به. كائنات خرافية تتسلى في النظر إلى السهام وهي تخترق الجدران لتصيب عدوّاً قاده الحظ السيئ إلى أسوار هذه المدينة التي لم تكن موجودة إلا في خيال غزاتها. أما محبّوها فقد كانت تلك المدينة لا تفارق في خزائن عاطفتهم. المنقّبون الألمان كانوا غزاة أيضاً، غير أنهم لم يحملوا معهم سوى صورتها. تُركت بابل لنا حين اختفت مدينة ترفل بالأنوثة اسمها الحلّة. مدينة ناعمة تنبعث رائحة البرتقال من بين ثنيات جسدها. عزرا نفسه، وهو الذي بدأ بكتابة التوراة في بابل، لن يصدّق أن شيئاً من بابل سيكون موجوداً في برلين بعد أكثر من 25 قرناً على اختفاء المدينة التي دعا الى تدميرها. ربما سيأسف عزرا في ما بعد لأنه لم يمت فيها، حيث صار قبره مزاراً لاتباع ديانة أخرى (الإسلام)، بعيداً من مسقطه الذي ضاع أثره.
"ولكنه يهودي"، قلت لأحدهم يوماً ما وقد كان يحدّثني عن زيارته لضريحه.
"هو نبي. لم يذكر القرآن أسماء كل الانبياء".
كانت بابل مدرسة للأنبياء أيضاً. خُيِّل إليَّ أن حشداً من التلاميذ قد مرّ بي في طريقه إلى المعبد. تنتظرهم عشتار هناك. إينانا السومريين ستهذّب فضائلهم. يحملني الثور الذي لم يكن مجنحاً يومها على قرنيه. صرت قرباناً. أبحث عمن يلتقط لي صورة تجمعني بنجمتَي الصباح والمساء في الطريق إلى الجنائن المعلّقة. كان عزرا قد غادر بابل قبل أن تطأ أرضها أقدام قورش. كتب كتابه، وبعده قرر مطمئناً أن يكون سائحاً في البلدات القريبة. أبحث عنه بين الوجوه. أقرأ على الجدران باللغة المسمارية وصايا عشتار في الجنس والحب والجمال والحرب. لحواسي من الملمس الناعم ما يطعمها أكثر النباتات نضارة. أخشى أن تكون الأرض في متحف برلين هي الأخرى مستعارة من بابل، فأخفف من وطأة أقدامي. أكاد ألمسها. أنصت إلى قورش وهو يكلّم الإسكندر. كانا ميتين غير أن عشبة بابل لا تزال تلهم حواسهما الكلام.
"تركتها حية"، يقول الاسكندر.
"ودخلتها ميتة"، يجيبه قورش.
يكذبان ويصدّقان. بالنسبة إليهما، كان المكان المرئي هو الحي والميت. أما بابل الحقيقية التي لم يرها أحد من غزاتها، فهي المعنى الذي صنع قوانين جديدة للجاذبية الأرضية، وهو معنى محلّق كان الإنسان مركزه وهدفه وسبب قيامه. حين اتخذت القوات الغازية بعد 2003 من الموقع الأثري في بابل مركزاً لها، كانت تأمل في اقتلاع ذلك المعنى. "ها قد عدنا". أحفاد مَن هم؟ لا أحد يدري. لا أحد في إمكانه أن يقول الحقيقة، وقد غابت بابل خلف حجب لا نهاية لها. سيكون الجواب دائماً: "بابل ليست هنا". حمل الغزاة الجدد في حقائبهم آجراً من بابل ليعرضوه على أرصفة وارسو وامستردام. كانت البشرية يومها على موعد جديد مع بلاهتها، وهي داء مستعصٍ.
الإغريقي العجوز
كانت قوس بوابة عشتار توزع فتنتها بين جهات الأرض. وكانت الأسود لا تزال تزأر في شارع الموكب. يقول الأهالي في الحكايات المتوارثة إن آخر تلك الأسود كان قد شوهد نهاية القرن التاسع عشر. أشفقت على ذلك الأسد الضائع مثلما أشفقت على نفسي وانا أنقل خطواتي بين دروب بابل متخيلةً في المتحف البرليني. كان هناك شيء ناقص يشير إليه فجر الحواس. هو الذي رأى كل شيء. هل رأيت أنا كل شيء؟ كان الصمت ماحقاً. لم تكن بابل التي نخترق دروب متاهتها مدينة للعيش. لا أسواق، لا مطاعم، لا مكتبات، لا بيوت، لا أماكن للهو ولا مخازن. ليست هناك من سلالم تقود إلى الجنائن المعلّقة. سيكون عسيراً عليَّ أن أعثر على أسمي مكتوباً على ذلك اللوح المكتوب بالحروف المسمارية. كان فالنتينوس وهو معلّم يوناني قبرصي درّسني الخزف قبل حوالى ثلاثين سنة قد حدّثني كثيراً عن شغفه بتقنيات خزّافي بابل. صرت أنظر إلى الجدران الخزفية بعيني ذلك الاغريقي العجوز. كان فالنتينوس قد ذهب منذ سنوات إلى جزيرته متقاعداً، غير أن أصابعه لن تكفّ عن تنغيم الآجر الذي تلمسه بموسيقى بابلية. شيء أشبه بالعدوى، يخرج به المرء فلا يلمسه الهواء في الخارج. "سأعود لكي أتأكد من أنني كنت في بابل فعلاً"، قلت لزوجتي. فقالت لي مشفقة على نفسها: "إذاً عليك أن تقف ساعات في الطابور وسأعود وحدي إلى الفندق". كنتُ قدماً ذاهبة وقدماً راجعة. ولم يكن بريد الموتى قد امتلأ. بابل هناك. لا تبعد إلا كيلومترات قليلة عن غرفتي. ولكن هل يتسع المكان لقبر جديد، وكان العراقيون يحبوّن موتاهم ولكنهم لا يقدّسونهم؟
النهار
17-10-201