مقدمه
هذا الكتاب لا يعني كثيراً بالدراسات النظرية - من وجهة نظر نقدية - حول فن التمثيل السينمائي، والتي هي قليلة جداً قياساً إلى تلك الدراسات والبحوث والنظريات التي تتمحور حول فن التمثيل المسرحي، بل يحاول - الكتاب - سبر هذا الفن وكشف مختلف جوانبه واتجاهاته وأساليبه وعلاقاته بالعناصر الفنية الأخرى، وذلك من خلال التركيز على آراء وشهادات السينمائيين أنفسهم من ممثلين ومخرجين وفنيين، لاعتقادنا بأن هؤلاء أقدر من غيرهم على كشف خاصيات وخفايا فنهم، حيث أن هذه الآراء والشهادات نابعة من تجاربهم الخاصة.. المهنية والحياتية.
هذا الأمر استدعي بالضرورة الإطلاع على عدد كبير من المقابلات الصحفية مع الممثلين، والمنشورة في المجلات السينمائية، الأمريكية والإنجليزية تحديداً، إضافة إلى بعض الكتب المتصلة بالتمثيل السينمائي. وكان طموحنا هو الإحاطة بكل، أو على الأقل، بأغلب ما يتصل بالتمثيل.. ففي هذا الكتاب نحاول رصد المفاهيم المتعلقة بالتمثيل وبواعثه وعناصره ومصادره وتقنياته وتأثيراته وتحولاته، إضافة إلى علاقته بالكاميرا والإخراج والسيناريو والمونتاج وبقية العناصر الفنية الأخرى، وكذلك المظاهر المتعددة التي تتصل بالتمثيل.
ونود الإشارة هنا إلى ندرة الدراسات والبحوث بشأن التمثيل السينمائي، فالمصادر - الأجنبية والعربي- قليلة جداً وهي في أغلبها تتعرض للسيرة الذاتية للمثلين مع استعراض سريع لأعمالهم دون التعرض لمفاهيمهم وآرائهم حول طبيعة المهنة وما يتصل بها من علاقات وإشكاليات. وحتى الأحاديث الصحفية نلاحظ بأن أغلبها تهتم بأشياء هامشية تتعلق بالحياة الشخصية أو بالشائعات وغير ذلك، والقليل جداً من هذه الأحاديث تضيء مظاهر جوهرية في التمثيل.
عبر هذا الرصد لمختلف مظاهر وقضايا التمثيل، نسعى إلى تقديم صورة واسعة وواضحة لهذا الفن، من داخله، وليس من خلال تصورات وتقييمات وأحكام مفروضة من الخارج. لهذا فقد آثرنا عرض الصورة بموضوعية تامة دون اتخاذ موقف نقدي، ودون الانحياز إلى موقفٍ ما أو وجهة نظر معينة، سواء اتفقنا أم اختلفنا مع الآراء المطروحة، فلكل وجهة نظر مبرراتها ومنطقها وحتى فلسفتها. وفي التمثيل، بالذات في جانبه التطبيقي، النتيجة النهائية هي المهمة، فما نراه مجسداً على الشاشة من أداء هو ما يثيرنا ويحرك مشاعرنا ويدفعنا إلى التفاعل أياً كان منهجه أو رأيه أو موقفه.
أيضاً سوف يلاحظ القارئ بأن ثمة وجهات نظر عديدة متناقضة ومتضاربة في مختلف الشؤون المتصلة بالتمثيل من مفاهيم وممارسات، وذلك لسبب بسيط: أن هناك أساليب ومناهج وطرائق ورؤى متنوعة ومتعددة حسب تنوع وتعدد التجارب الشخصية لكل ممثل، والتي هي تجارب متباينة ومتعارضة بطبيعة الحال، لأنها تنطلق أساساً من خلفية وموقف ورؤية فردية خاصة على الصعيدين العملي والنظري. بالتالي، نحن هنا لسنا في مجال المفاضلة أو الانحياز لراوي ضد آخر.
مادة هذا الكتاب تتألف من مقتطفات منتقاة من مقابلات وشهادات ومقالات ودراسات في مجال التمثيل السينمائي حيث الممثل، أو السينمائي، يتحدث أو يؤول أو يشرح وجهة نظره الخاصة قفي أحد أوجه أو مظاهر التمثيل.
إن فن التمثيل السينمائي حقل بكر - معرفياً - ولم يتعرض للارتياد والسبر في وسطنا الفني، أو الثقافي، على الرغم من ثرائه وأهميته. نحن جميعاً نشاهد الأفلام، وربما يتابع الكثيرون منا أخبار النجوم أو قراءة المقالات النقدية حول الأفلام، لكن القلة تعي كل القضايا والإشكاليات والمظاهر المتصلة بالتمثيل، ولعل هذا ما دفعني لإصدار هذا الكتاب الذي أعتقد بأن الآراء المطروحة فيه هي مفيدة وتعمق وعي المتعاملين مع مجال التمثيل بوجه خاص، والمهتمين بهذا المجال بوجه عام.
وآمل أن يثير هذا الكتاب شهية الكثيرين لمعرفة المزيد عن التمثيل السينمائي.
ما هو التمثيل؟
في الواقع، يصعب تحديد مفهوم (التمثيل. أو تقديم تعريف واضح ودقيق له، فهو قابل لتعريفات وتأويلات متعددة ومتباينة، وفق منظور كل ممثل ودارس ومنظر.
بعض الممثلين يعترفون بغموض ماهية ومعني التمثيل:
ناستاسيا كينسكي: (لا أفهم ما هو التمثيل إلا حين أمارسه... وأحياناً لا أفهمه حتى عندما أمارسه)
جليندا جاكسون: (التمثيل لا يخدمك بل أنت الذي تخدمه. التمثيل ليس حياة فاتنة أو متعة عظيمة أو شيئاً من هذا القبيل. أنا لا أعتبره لعبةً أو شيئاً تفعله في يوم ماطر، وهو أيضاً ليس استعراضاً للتباهي ولفت الأنظار. قد أعرف ما لا يكونه التمثيل، أو ما ليس له علاقة بالتمثيل، لكنني لست على يقين تام من أنني أعرف ما هو التمثيل. لو سألت أي ممثل أو ممثلة عن ماهية ومعني التمثيل فإن كل ممثل سوف يقدم وجهة نظر مختلفة، والغالبية منهم سوف يقولون: لا نعرف.. إنه لغز متواصل. (1)
جوان وود وارد: (التمثيل أشبه بالجنس.. عليك أن تمارسه، لا أن تتحدث عنه) سيمون سينوريه: (حين يسألونك أن تفسر التمثيل، الكلمات تصبح غير وافية. لا ينبغي أن تفسر هذا اللغز بداخلك)
إيزابيل أوبير: (التمثيل طريقة لتجسيد جفوننا)
كلينت إيستوود: (التمثيل ليس فناً عقلانياً على الإطلاق. إنه حيواني تماماً. إنه ينبع من الجزء الحيواني من الدماغ)
كيرك دوجلاس: (التمثيل خاصية طولية.. شيء يفتقده أغلبنا فيما نتقدم في السن ونشيخ. نحن جميعاً نرتدي طبقة خارجية، مظهراً خادعاً، فيما نكبر. هذا يغطينا، يسترنا، ويعزلنا. لا نكون منفتحين كما الأطفال. نخفي عواطفنا وأحاسيسنا فيما نكبر. لذا فأن التمثيل هو تعلم العودة إلى الطفولة. أن تكون مثل الطفل.. أكثر تفتحاً)
مارشيلو ماسترواني: (أظن أن الممثلين مجرد أطفال يلهون بالإيهام ويقنّعون أنفسهم.. بسبب ذلك تحت تظل بسطاء مثل الأطفال)
جيرار ديبارديو: (التمثيل ليس مهنة، إنه شغف، حيث يبدأ الشغف في الانطفاء، ويزول الحافز، عندئذ لا ينبغي للمثل أن يستمر في التمثيل)
جين مورو: (التمثيل ليس حرفة على الإطلاق.. إنه أسلوب حياة)
بل أن بعض الممثلين يذهبون إلى حد الارتياب في كلمة (تمثيل. نفسها، ويرونها خاطئة، خالية من المعني ولا تعبّر بدقة عن حقيقة ما يفعله الممثل.
يقول الألماني كلاوس كينسكي: (التمثيل عبارة خاطئة. ربما هي موجودة لأنها أصبحت متداولة، ولأن كل شخص يستعملها، لكنني لا أستطيع أن أفهمها أو أن أعترف بها)
ويقول النمساوي كلاوس ماريا براندور: (التمثيل تعبير خاطئ. لا أؤمن بهذا المفهوم. إنك تمارس شيئاً كما لو أنه حقيقي. ويتعين عليك دائماً أن تفتح عينيك وقلبك للعالم من حولك، وأن تجعله حقيقياً.
هنا - حسب اقتراح هؤلاء البعض - يمكن أن تحل عبارة (الكينونة. محل (التمثيل.. إنه لا يمثل الشخصية بل يكونها. لا يؤدي بل يعيش. لا ينتحل أو يحاكي مظاهر وعواطف وانفعالات، إنما يمتزج بالشخصية بحيث تبدو نابعة من أعماق ذاته. هذه الكينونة تبدو بسيطة وصعبة في آن، ذلك لأنها تقتضي من الممثل أن يكون صادقاً في مشاعره، أن لا يزيفها، أن لا يلجأ إلى بنائها. إنها تتطلب ببساطة أن يخلق حالة فيها يتحرر ويكون نفسه، أن يخلق عالماً فيه يصبح الممثل والشخصية شخصاً واحداً.
كلاوس كينسكي يشبّه نفسه بالغابة وهي في حالة تخلّق : (كل ما يوجد، من حيوانات وأشجار وغيوم، تسكن بداخلي لأنني جزء من كل شيء. وكل ما يولد ينبثق من الجزء الأعمق من ذاتي. وإذا أنا استخرجت هذا الدور أو ذاك، فإن ثمة ملايين من الأدوار تظل متروكة هناك. إنني أشعر بهذا جسدياً وحسياً.
حول فن التمثيل السينمائي خرجت بعض النظريات والمناهج والدراسات التي تتناوله من مختلف الجوانب والمستويات. ويمكن من خلال كل هذا استنباط معانٍ ومدلولات عديدة ومتنوعة، وربما متناقضة، ولهذا يتعيّن على المرء تجنب التسليم بمفهوم واحد أو، اتجاه واحد، وتبنّيه وفرضه، بل السعي - عوضاً عن ذلك. إلى تأمل هذا الفن.
بمختلف أبعاده ومعطياته وأساليبه، والإقرار بتعدّده وتنوعه.
التمثيل - في أحد أشكاله، ولا نقول جوهره - تعبير عن الذات . وكل تعبير هو، بصورة أو بأخرى، تنفيس أو تطهير.
لكي تمثل - وفق هذا المنظور - عليك أن تعرف نفسك أولاً، وأن تكون راغباً في كشفها، أي تعريتها، هذه العملية تقتضي تجسيد الذوات الكامنة في الداخل. بعض الممثلين يشعرون بأن في دواخلهم أشياء غامضة وغير مستكشفة، ولا يمكن الكشف عنها أو البوح بها إلا من خلال التمثيل. عبر هذه الوسيلة تتم تعرية الأحاسيس التي لا يستطيع الممثل أن يفصح عنها في حياته الواقعية:
ليندسي كروز: (التمثيل هو فن البوح عن الذات، الكشف عن الذات، لذا فإنك لا تحتاج فقط إلى المهارة لكي تمثل، بل تحتاج أيضاً أن تعرف نفسك لكي تكشف نفسك. هذا يتطلب نضوجاً حقيقياً.
هيلين ميرين: (في بداية اشتغالي بالفن، في المجال التمثيلي، كنت أرغب أن أكون مثل اليك جينيس.. أن أكون قادرة على انتحال ذوات مصقولة، مدهشة، وأن أغيّر مظهري كلياً بإشارة من إصبع أو رفّة هدب. الآن صرت أؤمن بأن التمثيل ينبع من كشف ما يوجد بداخلك وليس بارتداء أقنعة.
جون تارتور: ( التمثيل العظيم له علاقة بكشف الذات. لكن كيف يتم ذلك؟ لا أعرف، ولا أريد أن أعرف.
بول نيومان: (حين تمثل، تكون مكشوفاً.. إنه أشبه بالتعرّي)
جان بيير ليو: (التمثيل يقتضي منك أن تحفر عميقاً داخل ذاتك. أن تكون ممثلاً يعني أن تكون أشبه بعالم آثار.
روبرت كارلايل: (التمثيل، بالنسبة لي، رحلة لاكتشاف الذات.. الذهاب إلى المدفع وسبر الأوضاع، الحالات، الاحتمالات، الناس، والشخصيات التي هي قريبة إلى نفسي أو ربما لا تكون كذلك. عبر الذهاب إلى هناك واختبار أولئك الأفراد المختلفين وحالاتهم، أتمكّن من التكيّف والنمو ككائن بشري. التمثيل، إذن، جزء أساسي لما أكونه.
لكن هذا المفهوم - التعبير عن الذات - يصبح عرضة للارتياب والاستجواب عندما يصطدم بمفهوم متعارض جذرياً يري في التمثيل هروباً من الذات أو من الواقع أو كليهما.
أليك جينيس: (المرء يصبح ممثلاً لكي يهرب من نفسه)
جيرمي آيرونز : (أحياناً أظن أن التمثيل هو هروب من ذلك الشيء، غير المكتوب في شكل سيناريو، والذي يدعي الحياة)
ايزابيل أوبير: (التمثيل بالنسبة لي شكل من أشكال الهروب من الواقع. وقيامي بدور جديد يمنعني من التفكير في هويتي، في من أكون. إنه يلهيني عن التساؤل البغيض الذي لا يرحم، حين أتطلع إلى المرآة وأسأل نفسي: ايزابيل أوبير.. من أنت؟)
ربما يكون هذا الهروب نابعاً من الإحساس بالخواء الداخلي والافتقار إلى النضوج. .
وفق تعبير مارشيلو ماستروياني الذي يقول:
(الممثلون يشعرون بنوع من الخواء داخل ذواتهم، وإلا فكيف نفسر حاجتهم لأن يعيشوا حياة أفراد آخرين؟ أظن أن الممثلين يجدون ذواتهم الخاصة ضعيفة وألوانهم باهتة، لذلك فهم يحاولون إخفاء ذلك بارتداء الأقنعة، بالظهور في هيئة أكثر سحراً وذكاءً وغموضاً..
وكل هذا يدل على الافتقار إلى النضوج..
لكن التمثيل، في شكله الأنقى والأكثر شمولية، هو انتحال لهوية ما. لهيئة وطاقة ذوات أخري. التمثيل هو تعبير عن حاجة عميقة لتغيير المظهر أو الشكل الخارجي.
والممثل في حالة بحث لا نهائي عن (الآخر... عن ذات جديدة يكونها. إنه ممسوس بالذوات الأخرى، بالشخصيات التي ينتحلها وتلك التي يرغب في انتحالها.
إنه يدمج نفسه في حياة متخيلة ومركّبة، وهو لا يعيش إلا في الدور، بدونه يضيع.
قال المخرج الفرنسي. برتران بلير عن جيرار ديبارديو: (إنه لا يعرف من يكون حتى يمثل دوراً.. وقال المخرج والكاتب بول شرادر عن دي نيرو: (إنه لا يوجد إلا حين يكون في جلد شخص آخر.. أو كما قال عنه المخرج جون هانكوك: (دي نيرو، مثل العديد من الممثلين، لا يكشف نفسه إلا حين يرتدي قناعاً..ولعل ما يعزّز هذه الملاحظات، شكوى العديد من الصحفيين من افتقار دي نير، و إلى الفصاحة وعجزه عن التعبير عن أفكاره وآرائه بوضوح في المقابلات والمؤتمرات الصحفية، وهذا يتعارض كلياً مع حضوره القوي على الشاشة وتألقه أمام الكاميرا.
لكن ما هو الباعث الذي يحث الكائن البشري على انتحال هيئة ومظهر كائن بشري آخر؟
من الجلي أنه الهروب والكشف.. إنه يهرب من ذاته ليكتشفها في ذات أخري. في التمثيل يكمن الهروب والكشف في آن. الرغبة في إخفاء الذات وكشفها موجودة دائماً عند الممثل، وهما يحدثان في وقت متزامن.
يقول وارن بيتي: (دائماً أجد صعوبة في إنشاء ذاتي، وأشعر بالضيق والقلق، لكن في التمثيل ثمة دائماً الرغبة في الإخفاء والرغبة في الإفشاء أو الكشف.. وهما يحدثان معاً وفي آن واحد..
هل التمثيل محض احتيال .. كما يزعم مارلون براندو في لحظات يأسه أو ضجره من التمثيل؟
هل هو كذب.. كما يقول لورنس أوليفييه في كتابه اعترافات ممثل : سيرة ذاتية حين يتساءل: (ما التمثيل إن لم يكن كذباً، وما التمثيل الجيد إن لم يكن كذباً مقنعاً.
بالنسبة لبراندو، فإن المخرج فرانسيس كوبولا - في لقاء له مع كابيه دو سينما - يفسر موقفه على النحو التالي: (براندو مزيج خاص قائم بذاته. إنه بالفعل عنصر ممتاز. في البداية يظهر لك لامبالياً إلا أنه بمجرد المباشرة بالعمل يصبح جدياً إلى أبعد حد.
بمعني أنه يستوعب السينما على مزاجه ويعتبرها بالدرجة الأولي استثماراً مربحاً، تدفع له ما يرضيه فيأتي إليك وينفّذ كل ما تطلبه منه.. وهذا راجع إلى إحساسه العميق بعدم أهمية السينما كفن وأن العملية كلها مجرد مزحة لكسب المال فقط. لكنك إذا تحدثت مطولاً إلى براندو فسوف تكتشف لديه أشياء كثيرة تستحق الاهتمام..
والآن، هل الممثل يكذب حقاً حين يمثل؟
في الواقع، كل فرد يمثل في حياته اليومية،. في واقعه المعاش. إنه لا يكون (نفسه.
دائماً، بل ينتحل ذواتاً أخري، أو بالأحرى هويات أخري، حسب علاقته بالمحيط، سواء في حياته العائلية أو في العمل أو مع أصدقائه. إنه يمثل الحزن أو الفرح، يتظاهر بالمرض لسبب ما، يكذب ويحاول إقناع الآخر بأنه صادق.. مع ذلك،. فإن هذا الفرد لا يعتبر نفسه ممثلاً.
يقول أورسون ويلز: (كل شخص في العالم هو ممثل، كل ما نفعله هو ضرب من الأداء. مع ذلك، فإن الممثل -= الذي مهنته أن يمثل، هو شيء آخر.. كائن مختلف..
إذن ما الفرق بين التمثيل والكذب؟
الفرق أننا- كأفراد - لا نمثل حباً في التمثيل بل رغبةً في التملّص من مسؤوليات معينة، من مواقف محرجة، من ورطات ومآزق متنوعة.. بالتالي، نحن لا نحتاج إلى جمهور. بينما الممثل يفعل ذلك للوصول إلى نتائج محددة: كسب المال أو إحراز الشهرة أو نيل الإعجاب أو انتزاع اعتراف الآخرين به أو الرغبة في الاتصال بالآخرين والتعبير عن الذات.. لذلك هو يحتاج إلى جمهور.
لهذا السبب يعترض كلاوس كينسكي وغيره على مفهوم (التمثيل. نظراً لاتصاله، بطريقة ما، بمفاهيم الكذب والتظاهر. فالتمثيل، في أحد مظاهره، هو فعل تظاهر.. تظاهر بعاطفة ما، بانفعال ما، بحركة ما. لكنه يتخطى التظاهر الخارجي، السطحي، الزائف، عن طريق إحساس الممثل العميق بما يفعله ويعبّر عنه لكي يصل إلى أعلي درجات الصدق والإقناع بحيث يشعر جمهوره بأن ما يفعله حقيقي. وهو في هذا يختلف عن الطفل إلى يلجأ إلى التمثيل حين يرغب في التظاهر بشيء. والاختلاف يكمن في درجة الإحساس، فالطفل لا يحس بالشيء وإنما يتخذه كوسيلة، بينما المثل يحس به بعمق. التمثيل هو أن تؤدي بصدق ضمن حالات تخيلية، والممثل يفعل ذلك من أجل إثارة مشاعر جمهوره وتغذية مخيلته.
هناك تعريفات أخري، أو مفاهيم أخري، لماهية التمثيل نوردها لعلها تضيء جوانب أخري من هذا الفن في المجال التعريفي..
جون كازافيتيس: (التمثيل هو امتداد للحياة. حين تكون قادراً على أن تؤدي في الحياة، فسوف تكون قادراً على أن تؤدي على الشاشة..
آل باشينو: (التمثيل عمل شاق، إنه منشط ويزوّدك بالطاقة حيناً، ويسبّب لك الوهن حيناً. إنه عمل طفولي لكيبهج.اً مسؤول. إنه يضيء، يثري، يبهج .. لكنه أيضاً عمل رتيب، شاذ، شيطاني.
مارشيلو ماستروياني: (التمثيل لعبة أمارس مهنة التمثيل كما لو أمارس لعبة رائعة. التمثيل أفضل منصغار. الحب لأن من المسكر حقاً انتحال مظهر ومواقف وسيكولوجية شخص آخر. ذلك ما يفعله الأطفال. إنها أقدم لعبة.. أول لعبة.. اخترعناها ونحن صغار .
هيلين ميرين: (التمثيل يعني أن تضع نفسك ضمن مشاكل الشخصية الإنسانية، وأن تري نفسك على نحو واضح قدر الإمكان. إنه ليس النظر إلى نفسك على نحو أناني بل النظر إلى نفسك ككائن إنساني.
هارفي كايتل: (التمثيل ضرب من الصلاة.. إنه يتجه نحو مادون الوعي، نحو الروح..
كلاوس ماريا براندور: (البعض يقول أن التمثيل ينبع من القلب، من الداخل، لا أعارض ذلك، لكنني أيضاً أعتقد بأنه يتصل بالكثير من التفكير والمعرفة..
جيسيكا لانج: (التمثيل، مثل أي مهنة، هو تراكم للمعرفة والتجربة.
لماذا التمثيل؟
ما هي الحاجة العميق التي يشعرها المرء للتمثيل؟ ما هو الدافع السيكولوجي وراء هذه الحاجة؟
يقول كلاوس كينسكي: (أن تكون ممثلاً هو ضرب من ا لانتحار. كنت دائماً أحاول أن أفهم لماذا أنا ممثل. لكننا جميعاً نصل إلى قدرنا الخاص.. ذلك جارح ومعذّب. دائماً أقول أن روح من يسمي الممثل هي مجنونة ومريضة. إنه يصلب نفسه باستمرار وكلما مضي الوقت اشتد عذابه. وهو في كل خطوة يقتل نفسه المرة تلو الأخرى، لكنه ينسي عندما ينهمك من جديد في تجسيد شخصية ما. وهو يقوم بذلك حتى لو كان د رغبته، حتى لو ظل يعاني ويتألم. إن مهنة التمثيل شاقة ومؤلمة، لكنها حقيقتك أنت. حتماً هناك في العالم أشخاص يعانون ويتألمون أكثر منك، لكن في لحظة معايشتك - كممثل - للشخصيات التي تتأجج في أعماقك فإنك تمارس معاناتك الخاصة وتحقق وجودك.. إنها حقيقتك التي ربما تكرهها أحياناً، وربما تخاف منها أحياناً. إنها الحاجة إلى الدفء والحماية، والى الحب والاتصال..
ويقول جاك نيكلسون (ليست هناك مهنة شاقة ومتطلبة أكثر منن التمثيل، باستثناء القوات المسلحة. وحتى في الجيش نجد مرونة أكثر من مهنة التمثيل. إنهم باستمرار يخبرونك أين يجب أن تكون، وفي أي ساعة يجب أن تصحو من النوم. لا يهمهم إن ماتت أمك، فعليك أن تتواجد في الموقع في تمام الساعة الثالثة. مع ذلك فأنا لا أجيد فعل أي شيء غير التمثيل.. لقد وهبت حياتي لهذه المهنة..
والآن، ما هو الباعث الذي يدفع المرء لأن ينتحل هوية أخري وشخصية أخري، لأن يغيّر شكله الخارجي ويرتدي هيئة كائن متخيّل؟
يقول مارشيلو ماستروياني: (أردت أن أكون محبوباً لدي الجمهور.. إن عروق كل ممثل تنبض بهذه الحاجة. أيضاً هناك الحاجة الاقتصادية.. حين يرفض الفرد أن يكبر، فتحة مكوّْن أو عنصر قوي في شخصية يدفعه لأن يرغب في أن يصير ممثلاً. هذا لا يعني أن هذه الرغبة - في أن يكون ممثلاً. تتضمن بالضرورة عدم الاستعداد لأن يكبر. التمثيل يمنحك الفرصة لأن تلعب بدلاً من أن تعمل. والتمثيل، بالطبع، وسيلة مدهشة لشخص غير واثق من نفسه، غير واثق من أنه مثير للاهتمام بالنسبة للآخرين، لكي يجعل نفسه مثيراً للاهتمام أكثر. إنك تنتحل ذاتية شخص آخر، شخص يثير ويبهج الآخرين، شخص غيار مضجر مثلك أنت. ومثل كل الأطفال، أنت تريد أن تكون في مركز الأشياء.. وعمقياً، أظن أن كل الممثلين لديهم هذه السمة أو الصفة المميزة. عندما تمثل فإنك تخفي ذاتك الحقيقية خلف كل تلك الوجوه الأخرى التي تنتحلها. انك تدع الشخصية تحتلك لمدة ثلاثة شهور تقريباً، ووراء هذه الشخصية تشعر بالأمان، خاصة إذا كانت تمتلك حيوية أكثر، وضوحاً أكثر. وتحت ريش هذه الشخصية التي تؤديها، تختفي ذاتك الكئيبة.
ربما يشعر المرء بشخصيات لا تحصي، متباينة ومتناقضة في السلوك والتفكير والعواطف والمظهر، تتعايش في داخله وتتأجج رغبة في الانبعاث والبروز على السطح وممارسة كينونتها الخاصة. هذه الشخصيات كلها تشكل حقيقة المرء ذاته، بدونها قد لا يشعر أنه قادر على تحقيق وجوده.
يقول هنري فوندا: (إنك تصبح ممثلاً ربما لأن ثمة تعقيدات في ذاتك، والتي هي ليست عادية أو سويّة، وليست أشياء يسهل التعايش معها..
وتقول جنيفر جاسو لي: (لا بد أن هناك شيئاً في ذاتي احتاج إلى استجوابه أو إيجاده أو استخراجه، شيئاً لم أحلله. أدرك أن الكثيرين منا يوجد في داخلهم جانب مظلم تماماً..
ربما يلبّي التمثيل الحاجة إلى الدفء والحماية والامتلاء الكثيرون من الممثلين يشعرون بالفراغ والوحدة بعد انتهائهم من التمثيل، ذلك أن أعماقهم تصبح خاوية أو مستنزفة.
من جهة أخري، لا بد أن المثل يتملكه خوف من العزلة لكي يتوق إلى الأضواء الساطعة ويرغب في أن يكون محور الاهتمام والرعاية، وأن يكون محبوباً. الظلام رفيق العزلة. من هنا تأتي الحاجة الملحة لأن يكون مرئياً، فالحجب ينفي وجوده. إنه شكل من أشكال الدفاع عن النفس. لكن الأضواء تعني أيضاً الشهرة والثراء والنجاح.. وهي مجالات مغوية وذات إشعاع خاص.
إيزابيل أوبير: (أعتقد أن شيئاً ما كان يدفعني نحو التمثيل، شيئاً لا شعوريا وغامضاً.
أظن أمحبوباً، الرئيسية التي تدفع أغلب الأفراد إلى التمثيل هي نفسها لا تتغير: أن تكون محبوباً، أن تكون مرئياً، أن تكون موضع إعجاب.
بن كينجسلي: (أمثل لكي أكون مرئياً ومسموعاً.
توم هانكس: (منذ سنواتي المبكرة وأنا أشعر بالوحدة، وأظن أن هذا هو سبب توجهي إلى التمثيل. أردت أن أكون محبوباً وأن أثير إعجاب الآخرين بي. جوبيشي: (الشخص الذي يريد أن يصير ممثلاً، لا بد أنه يرغب في إثارة الانتباه. نحن جميعاً نبحث عن نوع من الاعتراف بنا.. من الاهتمام الخاص..
ويليم دافو: (كشخص، لست مثيراً للاهتمام كثيراً، كممثل، آمل أن أكون جذاباً وملفتاً للانتباه على نحو آسر..
سووزي كيرتز: (أحاول أن أقنع نفسي بأنني لست مصابة بالشيزوفرينيا. لكن حين لا أمثل، لا أكون حية. حياتي اليومية ليست عميقة. أكون مرئية أكثر، ومثيرة للاهتمام أكثر، حين أمثل..
الحاجة إلى المال أو الشهرة أو النفوذ هي أساسية عند الكثير من الممثلين. التمثيل مصدر رزق، ثراء، رفاهية. وهو أيضاً وسيلة لتحقيق الشهرة، للبقاء في دائرة الضوء وفي بؤرة الاهتمام والإعجاب، هدف هؤلاء، في الغالب، تجاري بحت، وبعيد تماماً عن الفن، لهذا فهم يمارسون مهنة مربحة، والأداء محض سلعة. لكن هناك أيضاً من يمثل في أفلام عادية، وأدوار سطحية، لكي يستثمر أجره في تمويل أفلامه كمخرج أو كمنتج:
أورسون ويلز، جون كازافيتيس (كمثالين بارزين.
كما أشرنا، الممثل في حالة بحث دائم عن الآخر. إنه يسعى إلى ذات جديدة كي يكونها، ليغيّرها بعد ذلك هويته الخاصة تصبح مشوشة، إنه يصبح كل شخص ولا أحد.
انتحال هويات أخري.. ألا يعني في بعض جوانبه أن الممثل لا يحب ذاته الحقيقية، أو على الأقل يشعر بأنه غير راضٍ وغير قانع بحياته الطبيعية.. وما ارتداء الأقنعة إلا وسيلة لإخفاء النقائص ونقاط الضعف؟ أليس التمثيل - في بعض الحالات - نوعاً من العلاج النفسي، وطريقة لتحرير الذات من هموم وهواجس معينة؟
هنري فونأوبير:ن صرت ممثلاً، أكتشفت ان التمثيل ممتع وعلاجي. التمثيل كان قناعاً لشاب خجول مثلي. عندما أمثل أتخلص من ا لخجل وأكون شخصاً آخر..
إيزابيل أوبير : (التمثيل بالنسبة لي نوع من العلاج النفسي، وسيلة لتخليص النفس من قلق معين. الوقالشريف:الكاميرا هو نوع من الإسقاط، التمثيل بحد ذاته إسقاط.
نور الشريف : (التمثيل هو نوع من العلاج النفسي لي، بمعني الهروب إلى الذوات الأخرى.. لأنني بطبيعتي أرغب في اكتشاف النفس البشرية في سلوكها عبر مختلف الشخصيات.
كلاوس ماريا براوندور: (في الحياة اليومية أبدو عادياًَ. أتمني ألا أكون كذلك حين أمثل..
جنيفر جاسون لي: (أنا انسانة هادئة جداً، خجولة، منطوية، لذلك، أن أمثل تلك الشخصيات العنيفة، العدوانية، الانفعالية.. هو، بالنسبة لي، علاج نفسي عظيم..
سوزان ساراندون: (أنا بطبعي خجولة وكسولة إلى حدٍ ما، والتمثيل يرغمني أن أكون يقظة وواعية. إنك تنتحل تلك الذوات والحالات المتعددة، وتدرك إلى أي حد تتوفر أشياء مشتركة مع كل شخصية تمثلها، وكيف أنك - ضمن ظروف معينة - قادر على فعل أشياء لم تكن تحلم أبداً بالقادر على فعلها..
جين هاكمان: (الممثلون أفراد يتسمون بالخجل والتحفظ، ربما هناك مكوّن أو جزء من العدوانية في ذلك الخجل. ولبلوغ ذلك الموضع حيث لا تتعامل مع الآخرين بطريقة عدائية أو انفعالية فإنك تختار لنفسك هذا الوسط.. التمثيل.
جودي ديفيز: (قررت أن أصبح ممثلة لأنتني شعرت بأن ثمة شيئاً لا أستطيع سبره. لم أكن أعرف تماماً ما هو. لذا بدأت التمثيل، وعملية السبر هذه لا تزال مستمرة معي. أيضاً كنت جبانة اجتماعيا بعض الشيء، وما يفعله التمثيل هو أنه يرغمني على اختراق مجالات لا يمكن أن أذهب إليها في الواقع. التمثيل أيضاً يؤكد صحة وشرعية وجودي. إنه يجبرنني باستمرار أن أراقب، أن أفهم وأدرك..
سالى فيلد: (التمثيل هو الموضع الذي أستطيع فيه أن أكون نفسي..
جين مورو: (كنت متعبة من نفسي. ومن خلال التمثيل أردت أن أكون إمرأة أخري.
ميشيل بيكولي: (التمثيل يشكّل لي متعة حقيقية. إنه يحقق توازناً وجدانياً بداخلي..
هارفي كاتيل يرى إلى التمثيل بوصفه رحلة إلى ذلك الجزء المظلم من الروح.. (التمثيل طريقة للنفاذ إلى العواطف والأحاسيس، والوسيلة الوحيدة لكي تكون جسوراً هو أ تجتاز تجربة الخوف... الخوف بالمعني الوجودي، أن تستيقظ في الصباح وتتساءل: ما الذي سأفعله الآن؟ ..
التمثيل، حسب هارفي كاتيل، رحلة إلى الداخل لمعرفة الذات وفهم المشاعر والدوافع والقدرات. إنه يحتاج إلى امتلاك تلك القدرة على ارتياد وسبر وفهم والتعبير عن تلك الوفرة من الأحاسيس التي تحتدم بداخله. وقد اكتشف أنه من خلال التمثيل وحده يستطيع أن يفعل ذلك، أن يعبّر عن ذاته، أن يجسد المشاعر والانفعالات التي لا تجد لها مخرجاً أو منفذاً إلا عبر التمثيل..
(السبب الذي جعلني أصير ممثلاً هو أن أقترب أكثر من فهم ذاتي، بواسطة التمثيل تمكنت من حل الكثير من الألغاز التي عزلتني عن مشاعري. لقد احتجت إلى فترة طويلة للتوصل إلى معرفة نفسي، لفهم من أكون، وهي العملية التي ما زلت أمارسها. كانت لدي شكوك والتي دائماً تأخذ الشكل نفسه: لا أستطيع فعل ذلك. لا أعرف كيف أفعل ذلك.. لم يكن بمقدوري أن أستخرج ما بالداخل، وكان يمكن لذلك أن يقتلني. لهذا السبب صرت ممثلاً، لكي أعبر عما أكونه. نحن جميعاً لدينا حاجة متأصلة لفعل ذلك. أن تكون ممثلاً يعني أن تكون مثل فان جوخ الذي كان يمتلك الشجاعة لمواجهة قلقه الخاص، أي مخاوفه وتعبه ووحدته وجوعه وشكوكه وعذاباته ومعاناته..
ربما يكمن الباعث للتمثيل،إضافة إلى ما ذكرناه، في إرضاء واشباع النزعة النرجسية عند الممثل أو الممثلة: أن يكون في البؤرة، مرئياً ومرغوباً فيه، وأن يثير الإعجاب . الإشباع النرجسي يستلزم نزوعاً استعراضياً. التمثيل لا يتحقق إلا عبر المواجهة مع الجمهور.. على نحو مباشر كما في المسرح، أو غير مباشر كما في السينما.. وإلا لاكتفى الممثل بالتمثيل أمام مجموعة صغيرة من الأقارب والأصدقاء، أو أمام نفسه عبر المرآة. انه بحاجة إلى استجاباتا، ردود فعل، إعجاب، تقدير، تعاطف، حب.
وقد يكون التمثيل الملجأ الوحيد الذي يوفر الحصانة والآن من أي نوازع تدميرية أو عدوانية ضد الذات والآخرين.
أنتوني هوبكنز: (أعتقد لو لم أصبح ممثلاً، لكنت الآن قاتلاًَ أو مصاباً باضطراب عقلي..
جو بانتوليانو: (كان أمامي أن أصبح لصاً أو مروّج مخدرات أو ممثلاً .. اخترت التمثيل..
جين مورو: . لو لم أصبح ممثلة، لصرت مجنونة..
لي مارفن : (الأفلام منحتني فرصة ارتكاب أشياء لو ارتكبتها في الحياة الواقعية لتعرضت إلى العقاب أوالسجن أو الإعدام.. هكذا، في الأفلام، كنت أسرف وأقتل ثم أستلم أجي وأمضي إلى البيت..
بالطبع هناك بواعث أخري للتمثيل..
جون تارتورو: (أمثل لكي أفاجئ نفسي..
فيليب نواريه: (أحب أن أدهش نفسي، أن استخرج ما هو مخبوء ومستتر..
جيرمي آيروز: (طموحي - كممثل - أن أفاجئ وأدهش الآخرين باستمرار..
دانييل أوهاكمان: (التمثيل بالنسبة لي جزء من الحياة. لو لم أؤد كل تلك الأدوار المختلفة لما توصلت إلى فهم نفسي بشكل أفضل. بفضل التمثيل أشعر أنني أكثر غني..
سوزان ساراندون: (التمثيل أرغمني أن أعيش الحياة بطريقة أوضح، بشغف أكثر.. أن أكون حاضرة في حياتي..
في أحوال أخري، يكون الدافع أو الحاجة إلى التمثيل غامضاً أو يصعب تفسيره..
يقول جين هاكمان : (الممثل يميل إلى نسيان الألم الذي يسببه صنع الفيلم..
ذلك أشبه بالحمل والولادة بالنسبة للمرأة.. ثمة شيء ما يجبرها على القيام بذلك واختبار الألم مرة أخري..
إن ما ذكرناه قد لا يفسر، بشكل شامل، حاجة المرء لأن يمثل، فحتماً هناك دوافع وبواعث أخري لا تقل أهمية، ويقتضي الأمر تحليلاً سيكولوجياً عميقاً، واستقصاءاً مركزاً وشمولياً، لتقديم صورة أكثر وضوحاً عن هذه الحياة أو الرغبة.
البدايات والتحولات
نعرف جميعاً أنت السينما بدأت صامتة، وظلت كذلك حوالي ثلاثين عاماً منذ اختراعها في أواخر القرن التاسع عشر. كانت الأفلام عبارة عن صور ثابتة سرعان ما تحركت، لكن الكاميرا كانت ساكنة تماماً، تصور ما يحدث أمامها على بعد مسافة، أو ما يفعله الممثلون لدي اقترابهم أو ابتعادهم عن الكاميرا الثابتة.
الممثل كان يؤدي، أو بالأحرى يشرح، حالته الشعورية في الحدث الميلودرامي غالباً من خلال الأداء الصامت البانتومايم، والإيماءات التي لا تُحصي، والانفعالات المبالغ فيها، والإفراط في تعابير الوجه. كان الممثل يغالى في استخدام الإيماءات، في اللحظات الحميمة ولي الحالات المشحونة بالانفعال، بالطريقة نفسها، دون تمييز ودن اختزال.. وغالباً ما تكون هذه الإيماءات عشوائية، مفرطة، وغير مدروسة.
في غياب الكلام وهيمنة الصمت، كانت الإيماءة هي اللغة السائدة والتي من خلالها يعبّر المؤدّي عن مشاعره وأفكاره، عن حالاته وانفعالاته، ومن خلالها يحاول الاتصال بالجمهور.. تماماً كما كان يحدث في المجتمعات البدائية قبل أن تسود اللغة المنطوقة، حيث كان أفرادها يتصلون ببعضهم من خلال لغة الحركة الجسد والإيماءات والإشارات.
مثل هذا الأداء، الذي كان سائداً في السنوات الأولي من نشوء السينما، كان مستمداً - كما استنتج بعض الباحثين - من التقاليد المسرحية في العصر الفيكتوري. لكن تنبغي الإشارة هنا إلى أن التمثيل السينمائي في علاقته بالمسرح، لم يستمد عناصره من مصدر واحد، بل تأثر بتقنيات وتعاليم عديدة ومختلفة.
مع تحرك الكاميرا واقترابها من الممثل، ومع ابتكار اللقطة القريبة التي حولت كثافة الإيماءة إلى الوجه، ومع تحسّن العدسات والطبقات الحساسة والإضاءة الداخلية، تطورت طرائق الأداء نوعاً ما، وصار الممثل يعتمد على وجهه وجسده في التعبير عن المشاعر أو الانفعالات الحميمة والخصوصية، مختزلاً الإيماءة بعض الشيء بحيث تبدو مدروسة أكثر، كما امتلك حرية أكبر في استخدام حركاته وأوضاعه البدنية.
إن قلة العروض المسرحية المنتظمة، آنذاك، إضافة إلى الأجور العالية التي كانت تدفعها شركات الإنتاج السينمائي قياساً إلى أجور المسرح، قد أدي إلى انتقال عدد من الممثلين المسرحيين إلى الوسط الجديد السينما. بعضهم كان انتقاله مؤقتاً، والبعض كان نهائياً. بعضهم أثري - إلى حد ما - المجال الأدائي في السينما، بينما تعامل البعض الآخر مع الموقع كما لو كان خشبة مسرح، دون أن يعي متطلبات الوسط الجديد وتقنياته المختلفة.
في الواقع، كان عدد من ممثلي المسرح العاملين في السينما، في بداياتها الصامتة، يشعرون بالخزي والخجل اعتقاداً منهم بأن العمل في السينما سوف يسيء إلى سمعتهم، حيث كانوا يعتبرون الأداء السينمائي أقل مرتبة وقيمة من الأداء المسرحي، بالتالي كانت تسعدهم وترضيهم حالة المجهولية التي فرضتها السينما على الممثلين آنذاك، فالجمهور يري وجوههم لكن لا يعرف أسماءهم، إذ لم تكن للممثلين في تلك الفترة أي مكانة أو اعتبار، ولم تكن أسماؤهم تظهر على الشاشة في بداية كل فيلم. الأفلام قصيرة وتُصنع خلال أسبوع تقريباً. والممثل يؤدي دوراً رئيسياً في فيلم، وفي أخر يظهر في دور ثانوي أو كومبارس. ولم يتغيّر وضع الممثل هذا إلا في الأعوام التي تلت الحرب العالمية الأولي مع ولادة نظام النجوم.
التمثيل السينمائي لم يُنظر إليه بوصفه فناً كما هو الحال مع التمثيل المسرحي إلا بعد سنوات طويلة. الأخوان لومير الفرنسيان، في أفلامهما الأولي المصورة في أواخر القرن 19، استخدما أفرادا من العائلة لتأدية بعض الأدوار. وصانعوا الأفلام، الذين جاءوا بعدهما، أظهروا لامبالاة مماثلة تجاه حرفة التمثيل. أما الجمهور فقد شغفوا بالخدع البصرية والألاعيب بهلوانية ومشاهد الأكشن أكثر من اهتمامهم بالأداء.
كان الممثلون في فترة السينما الصامتة يتولون بأنفسهم اختيار أزياء شخصياتهم والإكسسوارات الخاصة بهم ووضع المكياج بأنفسهم. كانوا يصلون إلى الموقع دون سيناريو وبلا تعليمات بشأن ما يمكن أن يفعلوه في المشهد.
في مقالة للمثل المسرحي الإنجليزي شارلز جراهام نشرت في مجلة Sight and Sound خريف 1935 عن التمثيل في الأفلام سنة 1921، تحدث عن تجربته المريرة كممثل في السينما الأمريكية والإنجليزية وقال بأنه شارك في فيلم دون أن يعرف قصته أو حبكته أو طبيعة دوره، أو حتى عنوان الفيلم، وأشار إلى أن الممثل كان أشبه بالدمية..
شارلي شابلن، في مذكراته، أشار إلى تلك الفترة أيضاً قائلاً بأن المخرج - المنتج ماكس سينيت انتحى به جانباً في بداية مسيرته الفنية وقال له: ليس لدينا سيناريو..
نحن نحصل على الفكرة ثم نتابع التعاقب الطبيعي للأحداث حتى تقودنا إلى المطاردة.. والتي هي جوهر الكوميديا..
المخرج جريفيث كان أول من أبدي آراءً إيجابية، في تلك الفترة، حول التمثيل، وعن الخاصيات المميزة للتمثيل السينمائي، إذ رأي بأن التمثيل أمام الكاميرا يطرح تحديات خاصة به. إن جريفيث، بما كان يمتلكه من حس سينمائي متقدم وحس سردي متطور، قياساً إلى مخرجي تلك الفترة، قد تحري وسائل فنية جديدة لاقتراح، أو بالأحرى لخلق، استجابات ذاتية للشخصيات، عبر استخداماته الرائدة لحركة الكاميرا والقطع المتوازي واللقطات القريبة. ولأن الأفلام، حنذاك، كانت عبارة عن حكايات قصيرة، أو أحداث درامية عدّة أو مأخوذة مباشرة من أعمال مسرحية، فقد كان هدف جريفيث تنقية البنية أو النسيج السردي الفج. لقد ساهمت ابتكاراته وتجديداته في توسيع نطاق التحديات أمام ممثلي السينما. في كتابها (الأفلام وجريفيث وأنا. قالت الممثلة ليليان جيش: (لقد تعلمت من جريفيث كيف أوظف جسدي ووجهي على نحو موضوعي لخلق التأثيرات الدرامية.. تماماً كما يوظف الرسام ألوانه على القماش..
مع مرور الوقت، صار التمثيل السينمائي إحترافاً، لكنه لم ينجح بعد في كسب الاحترام والتقدير حتى بعد أن تكرس كمهنة مربحة في العقد الثاني من بداية القرن العشرين.
منذ العام 1910 بدأت السينما الصامتة في خلق نجومها، باستقلال واعٍ ومقصود عن المسرح. عدد من هؤلاء النجوم والنجمات لم تكن لديهم سوي خبرةٍ بسيطةٍ في التمثيل المسرحي، لكن كانوا يمتلكون جاذبية آسرة استطاعت السينما أن تستثمرها، فصار الشكل والمظهر الجسماني يفوق المهارات الأدائية قيمة وأهمية.. وكانت هذه نقطة الانطلاق لنظام النجوم الذي سرعان ما سوف يتكرّس ويهيمن.
في العام 1929 نطقت السينما بعد اختراع معدات جديدة لتسجيل الصوت. وظهر تقينيّ صوت، وإحداث تعديلات أساسية في آلات التصوير. وقد ساهم هذا في التأثير على أنماط الأداء، فالصوت قد مكّن الممثل من الابتعاد عن البانتومايم والإيماءات المفرطة، لكن لم يشذّب الأداء من المبالغة بسبب وقوع السينما تحت تأثير الأداء المسرحي.
يقول الممثل الروسي نيكولاي شيركاسوف في كتابه ملاحظات عن الممثل السوفييتي الصادر في 1957:
(في الأفلام الصامتة، كان الممثل العنصر الأقل أهمية. التقطيع المونتاج الوافر قلّل من شأن دور الممثل. واللقطات القريبة، كقانون، كانت متروكة للنهاية. ومن أجل هذه اللقطات كان الممثل يغيّر ملابسه ومكياجه وحتى تعابير وجهه. حين كان يتعيّن على الممثلة أن تظهر الدموع وهي تسيل على خديها، كانوا يقربون بصلة من عينيها أو يجعلونها تشم النشادر أو يعصرون على وجهها قطرات من الجليسيرين. الموسيقي الحزيبنة كانت أيضاً عاملاً مساعداً في إحداث التأثير. في الأفلام الناطقة، حيث ازدادت أهمية الممثل كثيراً، فان معضلة التصوير الواقعي قد اكتسبت دلالة أكبر. التمثيل السينماءي صار يقتضي من المؤدين أن يكونوا عاطفيين بعمق بحيث يمتلكوا القدرة على ذرف دموع حقيقية.. ليست حقيقية كما في الحياة الواقعية، لكنها ثمرة القدرة على أسر الحالة العاطفية..
لكن، من جهة أخري، أحدث إنتقال السينما إلى مرحلة الصوت إرتباكاً وخلخلة في الوسط التمثيلي.. فقد تم الاستغناء عن عددٍ من ممثلي وممثلات السينما الصامتة بسبب ضعف امكانياتهم وقدراتهم في الإلقاء الصوتي، وافتقارهم إلى التجربة المسرحية، وبالتالي فقد بعض النجوم مكانتهم واعتزلوا التمثيل.
الأفلام الناطقة كانت بحاجة إلى ممثلين يمتلكون أصواتاً قوية ومعبّرة، ومتدربين بشكل جيد على الإلقاء، وتتوفر لديهم إمكانيات أدائية عالية، إلى جانب الخبرة في بناء الشخصيات. باختصار، كانت السينما. في تلك المرحلة، بحاجة إلى ممثلي مسرح محترفين. هكذا فتحت السينما أبوابها ثانية أمام حشد من ممثلي المسرح القادرين بمهاراتهم على مواجهة التحديات التي فرضها الصوت في بداياته. وبالنتيجة، فقد أدى ذلك إلى هيمنة الأداء المسرحي من جديد وعلي نحو طاغٍ.
حتى منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، كان التسجيل الصوتي البدائي يتطلب ممثلين قادرين على استغلال أصواتهم بالطريقة ذاتها التي يوظفونها أمام جمهور حي.. أي الجمهور المسرحي. هذه الضررة جعلت عمل الممثلين في الألفام متطابقاً مع عملهم في المسرح، وبالتالي صار الممثل المسرحي مطلوباً بدرجة أكبر مما كان أيام الأفلام الصامتة التي فرضت معايير بصرية صرفة. وحتى بعد تحسّن تكنولوجيا الصوت، استمرت طرائق الأداء والإلقاء المستمدة من المسرح، في الهيمنة على الأفلام.
الصوت أيضاً ضاعف من أهمية الاستوديوهات كمواقع للإنتاج والتوزيع من جهة، والتسويق والدعاية من جهة أخري. وبالتالي فقد تعزز نظام النجوم أكثر، وتكرست هيمنة الاستوديوهات الكبيرة على مجمل الإنتاج السينمائي.
في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، برز عدد من النجوم الذين حظوا بشعبية كبيرة، والذين اتسم أداؤهم بذاتية مميزة، مؤثرة وفعالة، لكن قلما أظهروا تنوعاً في الأداء من زور إلى آخر، فقد كانوا يؤدون مختلف أدوارهم من خلال ذاتية النجم نفسه وليس من خلال الشخصيات المتباينة التي كانوا يجسدونها. كانوا يزخرفون كل دور بأنماط سلوكية ذاتية، وطرائق تعبير ثابتة، وايماءات خاصة، وسمات مميزة لا تتغير إلا نادراً، بصرف النظر عن طبيعة الدور أو الشخصية، معتمدين على جاذبيتهم وولع الجمهور بهم. لم يهتم نجوم تلك الفترة بسبر الذات والتعبير عن دواخل الشخصية، بل كانت وظيفتهم تنحصر في حفظ الدور، والتركيز على التقنية، والاعتماد على توجيهات المخرج وعلي تجربتهم الشخصية في هذا المجال.
خلال هذه المرحلة، تحسن التمثيل وصار أكثر صقلاً مع تحريك المخرجين للكاميرا، وتطور الميكروفونات، وتحسن أداء الكاميرات والعدسات ومعدات التسجيل الصوتي، والأصوات صارت أكثر انخفاضاً، والأحاديث أكثر واقعية، والحركات الجسمانية والإيماءات وتعابير الوجه صارت أكثر اختزالاً... كانت تلك هي الخطوات الأولى نحو تطور التمثيل السينمائي بشكل فني مستقل.. لكن التطور الحقيقي لم يحدث إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في الخمسينات.
إن كل حركة أو اتجاه سينمائي يطرح تصوره الخاص للتمثيل، ويفرض أسلوباً أو نموذجاً للأداء يتلاءم وينسجم مع هذا الاتجاه في منظوره الفني والفكري للواقع وللفن وللحياة.
حركة الواقعية الإيطالية الجديدة، التي برزت في الأربعينات من القرن الماضي، صورت أفلامها في الشوارع والأحياء الفقيرة والمواقع الطبيعية. وكان سعي مخرجي هذه الأفلام للانفصال أو التحرر من كل قوانين ومبادئ السينما التقليدية، يستدعي - من بين أشياء أخري - إتباع منهج مختلف جذرياً في اختيار المممثلين الذين كانوا يشكلون عنصراً مهماً وأساسياً في توصيل رؤية المخرج وغايات الفيلم. كان المخرجون يبحثون عن الصدق والجدّة والطزاجة والواقعية في الأداء، لذا لجأوا الى ممثلين هواة أو أفراد لم يمارسوا التمثيل على الإطلاق للقيام بتأدية أدوار ثانوية أو رئيسية أحياناً، جنب الى جنب مع ممثلين محترفين لكن لديهم الإمكانية والقابلية للتحرر من أسر الأساليب التقليدية والابتعاد عن الكليشيهيات المألوفة في الأداء. كمذلك فسخ المخرجون مجالاً واسعاً للارتجال في الحركة وفي الحوار.
الموجة الجديدة الفرنسية، التي ظهرت في أواخر الخمسينات والسنوات التي تلتها، استدعت نموذجاً جديداً من الممثلين يميّزها عن الاتجاهات السائدة آنذاك. هذه الحركة - الموجة الجديدة - اتسمت بالحداثة والجدّة في أشكالها ومضامينها، وكانت تقتضي من الممثلين خاصيات معينة تتلاءم وتنسجم مع الحركة: المصداقية، الحيوية، الطزاجة، الخروج عن الأنماط السائدة، نبذ النجومية، القدرة على الارتجال.
وقد ارتبط بالموجة ممثلون وممثلات شباب قدموا أداءً جديداً ومختلفا يتسم بالعفوية والحيوية: جين مورو أنا كارينا، جان بول بلموندو، أنوك وايميه، جان بيير ليو، جان لوي ترينتينان.
تقول جين مورو: (وجدت نفسي بين أناس أفهمهم بطريقة أفضل. أناس أعجبت بهم وكنت أرغب أن أعفهم، هكذا بدأت السينما تعني شيئاً بالنسبة لي، حين شاركت في فيلم ترفو جول وجيم كان ذلك فرصة للإفلات من أسلوب النجوم، حيث الكثير من المكياج والاهتمام المفرط بالشعر والملابس. فجأة كنا نصور في الشوارع مع قليل من المكياج وبملابس عادية. لا أحد هنا يقول لك:ثمة دوائر حول عينيك، أو وجهك يعوزه التناسب.. كنا ننتهي من المكياج في ظرف عشر دقائق. المظهر الطبيعي هو المهم. واللقطة القريبة لا تستغرق فترة زمنية طويلة. لقد كنا في الحياة. الموجة الجديدة امتدت وراء نطاق لا أفلام.. كانت تعبّر عن موقف جديد من الحياة..
أما في أمريكا، فقد شهدت الخمسينات ثورة في أسلوب التمثيل السينمائي مع بزوغ ممثل من نوع مختلف تماماً هو مارلون براندو.. الذي لم يكن يمثل أسلوبا أو منهجاً جديداً فحسب، بل كان يجسّد قيماً جديدة أيضاً.
جيل الخمسينات، وفي أعقاب حرب عالمية مدمرة، كان يحتاج الى ممثل أو نجم جديد ومختلف عن نجوم السينما الرائجة كلارك جيبل، كاري جرانب، جاري كوبر، جون واين، جيمس ستيوارت.. نجم يمثل قلعة وطموحاته ويعبّر عن التغيير، نجم يزدري الكياسة والأناقة البورجوازية ويرفض المؤسسات الاجتماعية القائمة، نجم يجسّد البطل المتمرد ويمثّل الوعي المتغيّر. وبراندو كان يمثّل كل هذا بامتياز. لقد تفجّرت موهبته العميقة وطاقته الأخاذة منذ فيلمه الأول The Men سنة 1950، حيث قدم صورة عن متمرد الخمسينات الجذاب، الحساس،. المستلب، والذي لا يخلو من قسوة وخشونة وفظاظة. كان في أفلامه يجسّد أفراداً يجدون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم والإفصاح عن آرائهم. وكان يضفي عمقاً وتبصراً على دور يؤديه. لقد تحول الى رمز لجيل قلق ومتمرد.
الذين شاهدوا راندو، آنذاك، وجدوا أنفسهم أمام وجه مختلف ومتمرد على كل الأصول والتقاليد في الأداء السينمائي، أمام حضور طاغ ومهيمن لم يعهدوه من قبل. شعروا بأنهم يشهدون بداية شيء لا سابق له.. أداء مشبّع بروح الحداثة. وفي حضوره كان الجمهور يعي، كما لم يحدث أبداً من قبل، نضال الممثل من أجل أن يحقق ذاته كفنان. فهو لم يخر الطريق الأسهل: أن يطفو على السطح ويحرز مؤثراته تقنياً ويكسب رزقه من الترفيه وتسلية الجمهور كما كان يفعل أغلب نجوم السينما السائدة، بل اختار الطريق الأصعب: ارتياد الذات وسبر الأعماق والكشف عن الروح الحقيقية. لذلك كان بالنسبة الى جيله.. الممثل الذي أضاء لهم الطريق. وهو لم يمارس تأثيره الهائل على جيل الخمسينات فحسب، بل امتد تأثيره الى الأجيال اللاحقة من الممثلين الشباب.
في الفترة نفسها، ظهر ممثل لا يقل أهمية وتمّيزاً عن براندو، هو مونتجومري كليفت. الذي مارس دوراً رئيسياً في الثورة. الى جانب قوة حضوره وجاذبيته وإمكانياته الهائلة، كان أداؤه يتسم بحساسية عالية. هذه الحساسية نابعة من فهم عميق للشخصية التي يعايشها عبر البحث والدراسة والتحضير الطويل، مدفوعاً بالرغبة في أسر جوهر الشخصية التي يمثلها. هو، من بين معاصريه، الأقل اعتمادا على الارتجال. كان واحداً من أوائل النجوم المستقلين في هوليوود، ونموذجاً للممثل الذي يساهم في أوجه عديدة من العمل السينمائي: السيناريو، الإنتاج، والتعاون الخلاق مع المخرج عبر علاقة إبداعية.
البعض يعتبر كليفت الذي توفي وهو في الخامسة والأربعين من عمره أعظم ممثل أنجبته الشاشة الأمريكية، والبعض الآخر يعتبره المنافس الحقيقي لمارلون براندو. يقول الممثل رود ستايجر: (كليفت هو الذي غيّر التمثيل الأمريكي وليس براندو. شخصية براندو كانت أعظم، لكن كليفت امتلك نقاءً وبساطة. براندو، بموهبته وقدرته الرائعة، يأتي بعد كلفيت.
جيمس دين، بدوره، كان مساهماً فعالاً في تثوير التمثيل السينمائي. لقد أحرز شهرته العالمية الواسعة، وحقق فرادته، ومارس تأثيره على مختلف الأجيال اللاحقة، عبر ثلاثة أفلام فقط: شرقي عدن، متمرد بلا قضية، العملاق.. وكلها عرضت سنة 1955، وهي السنة التي لقي فيها مصرعه فور اصطدام سيارته بعمود التليفون، وهو في الرابعة والعشرين من عمره.
لقد ساهم جيمس دين مع براندو في التعبير عن جيل الخمسينات، ذلك الجيل الباحث عن هوية جديدة، والراغب في التحرر من قيم الآباء والقادة، وحماية استقلاليته. ومع براندو وكليفت حمل لواء التمرد ضد الأنماط الكلاسيكية في الأداء.
براندو، كليفت، دين.. رموز تشكّل تحدياً لمثل وقيم تلك المرحلة. إنهم يمثلون النموذج الأوّلي للفرد المتمرد، المعزول، اللامنتمي، الذي يرتاب في هويته والذي يمثل نقيض الاتجاه الامتثالي والاستهلاكي. لم يكن عالمهم منظماً وواضحاً، بل كان غامضاً ومشوشاً ومكتنفاً بالالتباس. ثمة عنف وألم داخلي عميق في موقفهم ومواجهتهم لذلك العالم. وقد شعروا، أثناء ذلك، بوحدة عميقة.
وعلي صعيد التمثيل، يشكّل الثلاثة نقيض النموذج الرصين، الواثق من نفسه، الذي ميّز نجوم هوليوود في العقدين السابقين، لقد جاء الثلاثة بحساسية جديدة غير معهودة، ومع هؤلاء ظهرت على الشاشة شخصية جديدة، بتدعة بواقعية، وأوجدت لغة وإيماءات خاصة بروح الحياة الأمريكية في ذلك الوقت.. شخصية لا تخجل من إبراز جانبها الأنثوي وتمزيق قناع الفحولة غلاف النماذج السابقة التي تتباهي بذكوريتها ولا تتردد في كشف نقاط ضعفها وقلقها وهشاشتها.
ما جاء به الثلاثة الى الشاشة كان مختلفاً عن الأساليب السابقة في الأداء، والتي ظهرت حينما كان التمثيل لا يعتبر فناً بل يُنظر إليه كحرفة، وعندما كان الممثل ينال الإعجاب والإطراء بسبب مهارته في الترفيه والإمتاع، وليس بسبب قدرته على سبر أعماق الشخصية. أسلوب هؤلاء كان متحرراً من الإيقاعات المسرحية الضاجة والتقنيات المسرحية التقليدية.
إن التحول في الجوهر الفعلي للتمثيل السينمائي الأمريكي صار جلياً في سنوات الخمسينات، لكنه لم يحقق انتصارا شاملاً. كان ثمة تفاوت وتنوع في أساليب الأداء. وفي موازاة ذلك استمر نجوم تلك المرحلة في المحافظة على صورهم التي تشكلت طوال السنوات السابقة وتكرست بفضل العلاقة الحميمة، القائمة على الحب والإعجاب، بين الممثل وجمهوره من جهة، والممثل والكاميرا من جهة أخري.
المثل صار عنصراً خلاقاً في العمل السينمائي. إنه أحياناً، يختار المادة ويقترح المخرج وينتج الفيلم ويساهم في كتابة أجزاء من السيناريو. إنه يتعاون على نحو وثيق مع المخرج والكاتب. وهو في هذا يعارض النظرة السابقة التي تصر على أن دور الممثل ينحصر في التمثيل أمام الكاميرا فحسب، ويتبين النظرة الجديدة التي تري في الممثل كائناً خلاقاً، مساهماً في إنتاج العمل وليس موظفاً أو دمية.
يقول دوستين هوفمان: (إذا كنت سأقضي عامين ونصف العام من عمري وأنا أكرّس نفسي للعمل في فيلم ما، كما فعلت في كرامر ضد كرامر، عندئذ يتوجب على أن أكون أكثر من مجرد ممثل دمية. احتاج أن أكون طرفاً في العملية الإبداعية كلها من البداية الى النهاية..
ثمة دائماً لتشكيله من أنماط وأساليب التمثيل التي لا يمكن حصرها في منهج ما أو اتجاه ما. الحقل التمثيلي حسب وثري، ولكل ممثل خاصية فردية يحرص على صيانتها فيما هو يتصل بذات أخري وينتحل هوية شخص آخر.
الممثل والسيناريو
من المعروف أن السيناريو يخضع لسلسلة من المعالجات والتغييرات والتعديلات، من قبل المخرج والممثلين والمصور والمونتير، والمنتج أيضاً، حتى يصل الى مشكلة النهائي المعروض على الشاشة.
في ما يخص الممثل، في علاقته بالسيناريو، فما أن يُسند اليه دور ما حتى يطلب قراءة السيناريو، وذلك للتعرف على شخصيته ومضمون العمل وحبكته وقيمته، وليقرر بالتالي قبوله بالمشاركة، أو عدم قبوله، وفقاً لقناعاته الفنية والفكرية ونحن، بالطبع، لا نتكلم عن الممثل الذي تدفعه الحاجة المادية، أو الرغبة في الانتشار، لقبول أي دور فإذا اقتنع الممثل بالعمل وبدوره لكن شعر بأن هناك خللاً ما، أو نقاط ضعف في رسم شخصيته، فإن من حقه أن يطالب الكاتب والمخرج بإجراء تعديلات في بناء شخصيته أو في إعادة صياغة حواراته. ومن حقه أيضاً أن يشارك في إعادة كتابة بعض المشاهد إذا كانت غاية الممثل تعميق شخصيته وإضاءة أبعادها ودلالاتها، فالممثل عنصر خلاق في العملية الإبداعية، وتخيلاته بالتالي هي مشروعة.
يقول روبرت دي نيرو: (السيناريو يتغيّر أثناء التصوير. إنك دائماً تقوم بتعديلات معينة، خاصة عندما تجد نفسك في مأزق. وحتى لو كان السيناريو مكتوباً بشكل جيد، فإنه ليس من الملائم تصويره كما هو. ثمة أشياء تفعلها دون أن تكون واردة في السيناريو، والكاتب الجيد هو الذي يخلق للممثل بنية مناسبة ليعمل من خلالها. في الموقع، يحدث أن تخطر لك فكرة أن تنفّذ مشهداً ما بطريقتك الخاصة. عندما تحركت نحو هارفي كايتل وأطلقت عليه النار في فيلم سائق التاكسي فإنني لم أكن أعلم ما إذا كانت طريقتي مطابقة لما كان مكتوباً في السيناريو. لقد فعلت ما رأيته سليماً ضمن طبيعة الحالة. أستطيع أن أقول بأن عشرين أو خمسين بالمئة من الفيلم هو مختلف عن السيناريو. في أحوال كثيرة، الكاتب لا يعرف عن الشخصية أكثر مما يعرفه الممثل. إذا كان يكتب بطريقة ذاتية جداً فسوف تشعر بأنه يفرض مشاعره الخاصة من خلال الشخصية. إذا كان الشخص لاعب بيسبول فإن الكاتب لا يعرف بالضرورة طبيعة السلوك المهني لهذه الشخصية في وضع معين، المثل هو الذي يتعين عليه أن يدرس هذا السلوك بطريقته الخاصة وأن يشتغل على التفاصيل..
وتقول ليندسي كروز: (السيناريوهات غالباً ما تكون تمهيدية أو ناقصة. السيناريو عبارة عن كينونة حية متغيرة الى حد أن من الصعب أحياناً أن تقرر أي شيء من نسخة السيناريو التي قرأتها في المرة الأولي. ذات مرة استلمت سيناريو. وفي الفترة الفاصلة بين قراءتي له وتعاقدي للعمل فيه، اكتشفت أنه تغيّر كثيراً الى درجة أنني لم أستطع التعرف عليه، لم يعد كم كان حين قرأته في البداية.
لكن تدخلاته الممثل في السيناريو تكون مرفوضة حين يسعى الممثل الى توسيع حضوره على حساب الشخصيات الأخرى والعمل ككل، كأن يطالب بمساحة أكبر من الحضور، وتضخيم حجم دوره وإضافة حوارات لشخصية. هذه المطالب السطحية، غير المبررة فنياً، لا تعمّق العمل - وشخصيته تحديداً - بل، على العكس، تضر وتشوّه، ومثل هذه المطالب أو الاقتراحات لا تصدر إلا عن نجم أو ممثل يعتقد أنه نجم يهتم بتلميع صورته أكثر من اهتمامه بالعمل.
علي النقيض من هذا النموذج، نجد الممثلة ميريل ستريب تطالب باختزال مشاهدها من فيلم ironweed، ويعلق مخرج الفيلم هيكتور بابينكو قائلاً:
(هذا شيء نادر الحدوث. لقد طلبت مني اختزال مشاهدها وتقليل دورها. وكانت مصرّة، رغم معارضتي، على تقليل الزمن السينمائي لحضورها من أجل جعل شخصيتها تبدو أكثر غموضاً. أغلب الممثلين يطالبون بالمزيد من الحضور، بمساحة أكبر لتعزيز أدوارهم، لكن ميريل لا تنتمي الى هذه النوعية.. إنها تهتم بالفيلم أكثر من اهتمامها بدورها..
وهذا ما فعله كلينت ايستوود أثناء عمله في فيلم (حفنة من الدولارات... يقول كلينت:
(كان سيناريو الفيلم شديد الإيضاح. وكان رأي أن تكون شخصيتي مكتنفة بمزيد من الغموض، فأخذت أردد على مسامع المخرج سرجيو ليوني ما معناه أن في أفلام الدرجة الأولي، أنت تدع الجمهور يفكر معك، أما في أفلام الدرجة الثانية، فأنت تشرح له كل شيء. كانت تلك هي طريقتي في توصيل فكرتي الى المخرج. كان هناك، مثلاً، مشهد يقرر فيه البطل أن ينقذ امرأة وطفلها، فتسأله: لماذا تفعل ذلك؟.. في السيناريو الأصلي، يستمر البطل طويلاً في سرد قصته... إنه يتحدث عن أمه، وكل الحبكات الجانبية تخرج اليك وكأنها تقفز من قبعة ساحر. وقد رأيت أن ذلك كله غير جوهري، فأعدت كتابة المشهد.
قبل يوم من تصويره، ليصبح هكذا... تسأل المرأ: لماذا تفعل ذلك؟ .. فيجيب: لأنني صادفت ذات مرّة مثلك، ولم يكن هناك من يمد لها يد العون.
هكذا استطعنا أن نختصر صفحات من الحوار في جملة واحدة/. لقد تركنا الأمر شبه مبهم لتثير تساؤل الجمهور..
الممثل الخلاق يتعامل مع السيناريو على المستوي الإبداعي، معتمداً الحفر والتحليل والبناء. يقول هارفي كايتل:
(عندما تستلم السيناريو تقوم بتحليله، تحضر فيه لتكتشف من أين جاءت الشخصية، ما هي خلفيتها، ما الذي تفعله، ما هي رغباتها، ما هي مخاوفها، كيف تعيش.. إنك تحلل ما كان يدور في ذهن المؤلف، هذا يشبه الواجب المدرسي الذي تفعله في البيت. وتقول جيسيكا لانج:
(عندما يكون السيناريو مكتوباً بشكل جميل ومدهش، فإنه يتعين عليك أن تلتزم به وترتفع الى مستواه. أحياناً تحصل على سيناريو وتجد نفسك مضطراً الى خلق الشخصية من لا شيء. وفي هذه الحالة، يتعيّن عليك أن تكتب حوارك الخاص، وأن تخترع أو تركّب الأشياء لتحقق شخصية متعددة الأبعاد.
هناك ممثلون لا يميلون الى إجراء تعديلات في السيناريو أثناء التصوير، لأن ذلك يخرّب ما هيأ الممثل نفسه له من خلال التحضير للدور.
يقول وليام هيرت: (أكره التنقيحات التي يتعرض (السيناريو. إني أقوم بالتحضير لكل دور يحرص عليه، واحتاج الى وقت لفعل ذلك. إن إدخال كلمة جديدة يمكن أن تغيّر المشهد كله بالنسبة لي. سيناريو فيلم قبلة المرأة العنكبوت تعرّض للتنقيح طوال الوقت، وهذا جعلني أبدو غير محصن، وغير واثق من وضعي، كنت أذهب الى كل مشهد وأنا غير مهيأ ودون تحضير، ذلك كان مروعاً، إذ أك تحاول التحضير لدورك قبل وقت طويل بحيث لا تتفاجأ في المشهد. لم أكن بحاجة الى مفاجآت. التمثيل هو أن تصغي الى الممثل الآخر، واالكثير من المفاجآت تمنعك من الإصغاء..
الممثل، في تعامله مع السيناريو، يسعى أولاً الى التفاعل معه ثم يحاول فهم دوره، وفي هذا تتفاوت طرق التعامل مع النص من ممثل الى آخر.
ميريل ستريب: (إذا لم يخفق قلبي بسرعة فائقة عندما أصل الى الصفحة 15 أو الصفحة 20 من السيناريو، فإنني أضع السيناريو جانباً وأفقد الرغبة في مواصلة قراءته. إني أبحث عن ارتباط خاص، صلة عميقة، تفاعل عاطفي، فأنا لا أقترب من النص على المستوي الفكري فقط.
جين مورو: (علي المرء ألا يبحث مطلقاً في السيناريو عن المعني. حين ينتهي العمل، يأتي المعني من تلقاء نفسه..
إيزابيل أوبير: (عند اختياري للدور، أرغب في البداية أن أمتلك فكرة عامة عن شخصيتي. بعد ذلك أحاول أن أعمقها. غالباً ما كنت ألاحظ بأن فهم المخرجين للشخصيات المكتوبة في سيناريوهاتهم هو أقل من فهم الممثلين أنفسهم للشخصيات.
صوفيا لورين: (حين أقرأ السيناريو للمرة الأولي، لا أفهمه وأشعر بالتوتر والقلق، لذلك أقرأه عدة مرات وأناقش المخرج، وقد نتفق على إجراء بعض التعديلات، ثم أدرسه لفترة طويلة، وبعدئذ أنساه، وحين نبدأ التصوير أراجع كل مشهد وأمثل. إنني أدوّن بعض الملاحظات والإشارات في مشاهد معينة.. ليست ملاحظات تقنية، فأنا أعمل وفق عواطفي..
جين هاكمان: (أنا لا أشتغل كثيراً على السيناريو. ربما يتعيّن على أن أفعل ذلك. إني أقرأه وأتخذ قراري بشأنه منذ القراءة الأولي، ثم أعود اليه بعد أسابيع. وعادةً لا أقرأه إلا حين نكون مستعدين للتصوير أو حين تكون هناك بروفات. بمجرد أن أوافق على السيناريو، فإني أفكر فيه كثيراً وأعيش مع الشخصية، إني أؤمن بغاية المؤلف، بما يريده من مشهد معين، وما أستطيع أن أقدمه الى ذلك المشهد ضمن السياق الذي وهبني إياه..
جان لوي ترينتيان: (لا يجب على الممثل أن يمتلك ذاتية خاصة أو وجوداً شخصياً على الإطلاق. يجب أن يزيل الطبقات ويصل مثل صفحة بيضاء خالية. هذا صعب جداً.. أشبه باستعادة براءة الطفولة. عليك أن تعطي الانطباع بأن السيناريو لم يُكتب أبداً، وأنك تخترعه في لحظة الأداء: نوع مدروس من الارتجال..
إيان ماكيلين: (أعتقد أن كل إجابة على معضلات الممثل يمكن الكشف عنها من خلال النص إنها مسألة قراءة النص بعناية شديدة، وفهم كيفية تركيب اللغة بمساعدة الإيقاع والمجاز والعناصر الأخرى. أعتقد أن براعة الممثل، بعد امتصاص كل المعرفة التقنية، تكمن في جعل تلك المعرفة خفيّة بالنسبة للجمهور..
المخرج أنتونيوني يطرح رأيا متعارضاً مع ما يسعى معظم الممثلين الى فعله أثناء قراءتهم للسيناريو وهو الرغبة في فهم العمل والشخصيات. فالمخرج هنا لا يحبذ هذا المسعى للفهم، وهو في هذا يتواطأ مع أولئك المخرجين الذين سنشير إليهم فيما بعد، والذين لا يميلون الى إطلاع ممثليهم على السيناريو.
يقول انتونيوني: (لا يتعين على الممثل السينمائي أن يفهم بل أن يكون قد يجادل الممثل قائلاً بأنه من أجل أن يكون، يحتاج الى أن يفهم. هذا ليس صحيحاً وإلا فإن الممثل الأكثر ثقافة سيكون الممثل الأفضل. والواقع يثبت العكس في أحوال كثيرة.
الممثل الذي يريد أن يفهم، يحاول الوصول الى قاع كل شيء، حتى الظلال الدقيقة للمعني. وفي محاولته لفعل ذلك، يتجاوز حدوده ويتعدى على أرض ليست أرضه، وفي الواقع، هو يخلق لنفسه عوائق وعقبات. إن ملاحظاته على الشخصية التي يؤديها والتي، وفقاِ للنظرية الشائعة، سوف تفضي به الى رسم خصائص دقيقة للشخصية، لا بد وأنها سوف تسلبه الفعالية وتجرده من الطبيعية. ينبغي على الممثل أن يصل الى الموقع وهو في حالة بكر، وكلما اعتمد أكثر على الحرس، صار أكثر تلقائية.
المخرج ميلوش فورمان يؤكد هذا في قوله: (لا يعنيني إذا فهم الممثل طبيعة ومحتوي ومغزى المشهد، أو ما أريده، طالما هو يؤدي دوره على النحو المطلوب. المهم هو النتيجة ليس مهماً ما يعرفه الممثل أو ما يظنه، بل ما يفعله..
وفي حديث للمخرج الألماني فرنر هيرزوغ عن الممثل برونو وعلاقته بالسينايو، يقول هيرزوغ: (الممثل برونو من النوع الذي ما إن يحصل على السيناريو ويعرف الحوار حتى يشرع في تدريب نفسه، وهو يدير نفسه في مواقف وأوضاع أحياناً تكون سيئة ومزعجة جداً. في فيلم لغز كاسبار هاوسر أعطيته المشهد الذي فيه يتلقى طعنة والحوار الذي يلي ذلك. كان يستيقظ في الصباح ويتمشى عبر البلدة الصغير التي كنا نصور فيها دون أن يخلع ملابس الشخصية، كان يدير نفسه بنوع من الاهتياج ذات صباح جاء الى وقال: فرنر، برونو الآن سوف يريك صرخة الموت... وأخذ يطلق صرخة مدوّية، وكان جاداً في ذلك. قلت له: برونو، أرجوك لا تلمس السيناريو مرة أخري، سوف آخذة منك. يجب أن تثق بي، ولا تبدأ في تأليف المشاهد لنفسك...
وفتقول: للممثلة ليف أولمان عن فيلم انجمار بيرجمان (ساعة الذئب.، تقول :
(لم أفهم الفيلم أثناء تصويره. لكما بعد أن شاهدته وهو مركّب ومكتمل، أظن أنني قد فهمته. أذكر أني سألت بيرجمان عما إذا كان الأشخاص الذين يراهم زوجي حقيقيين أم متخيلين، فقال لي: ما الذي تعتقدينه؟.. أظن كان مفيداً بالنسبة لي ألا أفهم ما كان يحدث، لأن ذلك يناسب الشخصية، الفيلم ليس مرئياً من وجهة نظر الزوج فقط بل من وصف الزوجة له ومن قراءتها ليومياته..
إذا كان هناك مخرجون يتيحون لممثليهم حرية التعامل مع السيناريو من منطلق إبداعي، ووفق تعاون خلاّق يثري الشخصية ويعمق العمل، فإن هناك مخرجين يرفضون المساس بالسيناريو، ولا يسمحون بأي تدخل للمثل في النص أو الحوار، سواء بالحذف أو الإضافة.
يقول جاك ليمون عن المخرج بيلي وايلدر الذي تعاون معه في أفلام عديدة:
(السيناريو، بالنسبة لبيلي وايلدر، أشبه بالإنجيل.. لا تستطيع أن تحذف أي حرف منه، ولا حتى أن تغيّر واو العطف. شخصياً، طوال عملي معه، لم أغيّر كلمة واحدة من النص باستثناء مرة واحدة فقط حين اقترحت أن أكرّر جملة واحدة. عندئذ انتحي مع كاتب السيناريو جانباً، وبعد نصف ساعة عاد وقال لي: لا بأس، يمكنك أن تكرّر الجملة.
وتقول الممثلة الفرنسية بولي أوجير عن بونويل: (ما هو مهم بالنسبة لبونويل هو أن الفيلم يعكس السيناريو، وعلي الممثل أن ينقل بدقة ما كتبه. ليس مسموحاً له القيام بأي تغييرات.
أما المخرج روبرت موليجان فيقول:
(أغلب الممثلين الجيدين يحترمون النص إذا كان السيناريو قوياً. الممثلون ليسوا كتّاباً، وأنا لا أميل الى تشجيعهم بالقول لهم: افعلوا ما تشاءون بالنص.. أو، أنسوا السيناريو.. لماذا ينبغي أن ننسي السيناريو إذا كان المخرج، أو المخارج والكاتب، أو الكاتب وحده، قد عمل بجدّ ومشقة ليبعث الحياة في الصفحات، مع ذلك، فإني أحث الممثلين على إبداء آرائهم، والحديث عن الأشياء التي تزعجهم أو تقلقهم في النص..
من جهة أخري، فإن بعض الكتّاب مثل هارولد بنتر وغيره، يرفضون أي مساس بالسيناريو، أو أي تعديل للحوارات، دون الرجوع إليهم ومناقشتهم.. والممثل يري في هذا الموقف تقييداً لحريته في تعامله مع الدور.
يقول جيرمي آيرونز: (أحد أكثر الأدوار صعوبة كان دوري في فيلم Betayal، ذلك لأن سيناريو هارولد بنتر كان صارماً جداً ودقيقاً في تفاصيله، وينبغي أن يؤدي بعناية شديدة. أدائي في هذا الفيلم كان تحت رحمة الحوار والإخراج.
المخرج، في الغالب، يحرص على عرض السيناريو على الممثل لقراءته ومناقشته، سواء عبر القراءة الخاصة الفردية أو من خلال البروفات. الممثل في هذه الحالة يعرف شخصيته وحواراتها وتناميها ضمن الحبكة والسرد، وعبر تأوليه الخاص للسيناريو.
والمخرج، في بعض الأحوال، وبسبب إدراكه لإمكانيات وقدرات بعض الممثلين، يلجأ الى تخيّل ممثل معين في الدور الذي يكتبه.
يقول الكاتب - المخرج جيم جارموش: (عادة. أكتب لممثلين معينين، ومن خلالهم تتكون لديّ فكرة عن الشخصيات التي أريد منهم التعامل معهم.. هذه الشخصيات هي التي تقترح القصة. إني أكتب الشخصية وفي ذهني ممثل معين..
لكن هناك حالات عديدة، في السينما العالمية، يجهل فيها الممثل مسار شخصيته، أو حواراتها، أو حتى قصة الفيلم ومضمونه وكيف سيبدو بعد إنجازه واكتماله.
يحدث أحياناً الشروع في تصوير الفيلم دون أن يكون السيناريو جاهزاً، أو دون الاستقرار عليه من قبل المنتج والمخرج وكاتب السيناريو لخلافات معينة.
تقول انجريد بيرجمان في كتابها (قصتي) الصادر في 1972:
تصوير فيلم كازابلانكا في البداية
كان كارثة. فثمة جدال دائم بين المنتج وكتّاب السيناريو، وتغييرات في السيناريو من أي نوع يمكن تخيّله. كانوا يقدمون لنا، كل يوم، حوار المشهد المراد تصويره دون أن نفهم شيئاً منه. لا أحد منا كان يعرف الى أين سيتجه الفيلم أو كيف سينتهي، وهذا بالطبع لم يساعد أي ممثل في تصوير خصائص شخصيته. كل صباح كنا نتساءل: من نحن؟ ما الذي نفعله هنا؟ .. والمخرج مايكل كوتير يجيب: لسنا متأكدين تماماً، لكن دعونا نصور هذا المشهد اليوم وسوف نعلمكم غداً.. كان الأمر فظيعاً وغير معقول المخرج لا يعرف ما يفعله لأنه - مثلنا - لا يعرف القصة - والممثلون لا يعرفون ما الذي يحدث. وأنا لا أعرف أي ممثل سيكون الرجل الذي أحبه، لذلك كنت احتار كيف أتصرف..
في حالات معينة، المخرج لا يسمح للمثلين بقراءة السيناريو، وذلك لأسباب مختلفة تتصل بمنظور ورؤية كل مخرج. أندريه تارمكوفسكي يري بأن المعرفة المسبقة للأحداث تحول دون معايشة الممثل اللحظة بفرادتها وخصوصيتها، فنقول تاركوفسكي في كتابه (النحت في الزمن.:
(الممثل العقلاني، التحليلي، يعتبر معرفته بالفيلم، كما سيبدو عليه، أمراً مفروغاً منه. ونتيجة دراسته للسيناريو فإنه يقوم بجهود مضنية لتصوّر الفيلم في شكله النهائي.
وبافتراضه إنه يعرف كيف ينبغي أن يكون عليه الفيلم فإن الممثل يبدأ في تأدية الحصيلة الأخيرة.. أي مفهومه أو تصوره لدوره، وبفعل ذلك هو ينكر المبدأ الفعلي لخلق الصورة السينمائية. حين أحقق فيلماً فإنني أحاول ألا أرهق الممثلين بالمناقشات، ولا أدع الممثل يربط أي جزء يؤديه بالكل ولا حتى بمشاهده السابقة واللاحقة مباشرةً. على سبيل المثال، في أحد مشاهد فيلم المرآة، حيث البطلة تنتظر عودة زوجها، والد طفلها، وهي جالسة على السياج تدخن سيجارة، آثرت أ تجهل مرجريتا تريكوفا التي أدت الدور الحبكة، وأن تجهل ما إذا كان زوجها سيعود إليها أم لا. لقد حافظنا على سريّة القصة حتى لا تتفاعل معها وتستجيب إليها على مستوي لاشعوري من الذهن، بل تعيش تلك اللحظة تماماً كما عاشتها أمي - نموذجها الأصلي - ذات مرة دون أي معرفة مسبقة لما سوف يحدث لها. لا شك أن سلوكها في هذا المشهد سيكون مختلفاً لو أنها عرفت مصير علاقتها بزوجها في المستقبل.. ليس مختلفاً فحسب، بل زائفاً، بسبب معرفتها بالنتيجة. الإحساس بأن العلاقة ستكون محكومة بالفشل لا بد وأنه سوف يلوّن أداء الممثلة في تلك المرحلة المبكرة من القصة. عند نقطةٍ ما - ودون أن ترغب في ذلك، إذا كان ضد رغبات المخرج - قد تعبّر الممثلة عن إحساسها بلا جدوى انتظارها، ونحن سوف نشعر بذلك أيضاً، في حين يتعيّن علينا، كمتفرجين، أن نشعر بخصوصية وفرادة تلك اللحظة، وليس ارتباط اللحظة بسائر حياتها. هنا كنا نريد من الممثلة أن تختبر تلك الدقائق تماماً كما قد تختبرها في حياتها الخاصة، وليس كما هو مكتوب في السيناريو. من المحتمل أنها قد تأمل، ثم تفقد الأمل، ثم تستعيد الأمل. ضمن الهيكل المفترض لانتظار زوجها، كان يتعين على الممثلة أن تعيش لحظة الحياة الغامضة، جاهلةً المدى الذي تنقاد اليه..
المخرج الإيطالي روبرتو روسيلليني عادة يحقق أفلامه بدون الاعتماد على سيناريو مكتوب، بل يعتمد على الأبحاث التي يقوم بها في مضامين وشخصيات ومواقع أفلامه... إنه يقول: (مع الممثلين، ألجأ الى أسلوب المخاطبة، وأعطيهم الحوار يوماً بيوم. على أية حال، ليس لدي سيناريوهات، بوجه عام، وباستثناءات قليلة، أعطي الممثلين السيناريو في الدقيقة الأخيرة لأنني لا أريدهم أن يهيئوا أنفسهم ذهنياً وإلا فإنني عندئذٍ قد اضطر الى هدم ما يفكرون فيه من أجل الحصول على الحس اللائق للمشهد. بهذه الطريقة، هم يحفظون ما يستطيعون من الحوارات ويرتجلون الباقي.
أما المخرج الفرنسي برتران تافرنييه فيطمح للوصول الى شيء مماثل تقريباً لما يهدف إليه تاركوفسكي وربما كيمارستمي... أي اختبار الممثل للذّة الاكتشاف: يقول تافرينيه:
(مثل خروج الناس من كهف ورؤيتهم للضوء، للمرة الأولى، وكأنهم انبثقوا من ظلام طويل، مجهدين أنفسهم لفهم ما يوجد وراء الضوء، هكذا هي الصورة الرئيسية التي أريد من الممثلين أن يفهموها عند اقترابهم من القصة.. إنهم لا يعرفون ماذا سيكتشفون.
ومن المعروف أن المخرج الإيراني عباس كيارستمي لا يطلع ممثليه على السيناريو، المكتوب في 15 صفحة أحياناً، وبشكل لانهائي، والذي يعتبره محطة انطلاق فحسب. وهو يريد من ذلك المحافظة على عنصر المفاجأة وعفوية الأداء. كذلك يفعل زميله جعفر بناهي الذي حقق البالونة البيضاء والذي يقول: (ينبغي على المخرج أن يحافظ على عنصر المفاجأة، وجاذبية كل مشهد، بحيث يصون المظهر الطبيعي، اللحظي والعفوي، للتمثيل. ليس هناك ما يشبه طزاجة اللقطات الأولي لتفادي الجانب النظامي، المتكلف والتكراري، للأشياء..
البريطاني كين لوش من المخرجين الذين لا يميلون الى إعطاء ممثيلهم السيناريو، مبرراً ذلك بقوله: (أظن من المهم يؤدي الممثل دون معرفة مسبقة، دون أن يتوقع ما سوف يحدث. أن يجتار تجربة الفيلم فحسب. ربما من الأفضل إعطاءه السيناريو في أجزاء، فقط ما يحتاج الى معرفته في تلك اللحظة المعينة..
وهذا ما يفعله أيضاً الفرنسي كلود ليلوش الذي يقول:
(أبداً لا أعطي الممثلين السيناريو. إني أجعلهم يقرأون حواراتهم فقط. إذا قرأ الممثل النص وعرف أحداثه ومجرياته سلفاً، فعندئذ سوف يفقد عفويته نهائياً. كل شي يجب أن يحدث كما في الحياة الواقعية.
وثم مخرجون لا يلتزمون حرفياً بالسيناريو المكتوب ولا يعتمدون عليه بشكل كلي، بل ينظرون إليه بوصفه دليلاً أو مخططاً أو نقطة انطلاق.. ومن بين هؤلاء الإيطالي برناردو برتولوتشي الذي يقول: (السيناريوهات المنجزة ضرورية فقط للتأثير في المنتجين. السيناريو يصلح فحسب كدليل الى الحالة النفسية التي آمل أن أحصل عليها من الممثلين الذين أتعامل معهم..
أما وودي الين، كمخرج، فإنه يتبع طريقة مختلفة، إذ يرسل الى كل ممثل وممثلة الصفحات التي تتعلق بدوره والتي تحتوي على حواراته فقط، ولا يتيح للمثلين قراءة السيناريو كاملاً.
المخرج الفرنسي جاك ريفيث حقق عدداً من الأفلام دون الاعتماد على نص مكتوب، متيحا للممثلين هامشاً كبيراً من الحرية في اختيار شخصياتهم وتنميتها وتطويرها. وفي حديثه عن فيلمه (سيلين وجولي تبحران.، الذي حققه بدون سيناريو وبمشاركة الممثلين في خلق المشاهد والحوارات، أو بالأحرى، في خلق الفيلم.. يقول ريفيث:
(لم يكن هناك سيناريو مكتوب، كنا نجلس مع الممثلين ونتناقش فيما يمكن أن نفعله. في المرحلة الأولي، أجرينا محادثات مع الممثلتين جولييت بيرتو ودومينيك لابورييه، وبسرعة بالغة استطاعتا أن تنظما شخصيتيهما. بعد ذلك جاءت فكرة اللقاء بينهما، وكيفية تحقق الاتصال بينهما. المشاهد التي تدور في المنزل كتبها الممثلان بولي أوجير وماري فرانس بيريه. حواراتهما لم تكن نهائية، بل كان ذلك أشبه بالتنافس والذي عليه نحن ارتجلنا فيما بعد. كان لا بد من وجود أشياء عديدة، محددة ودقيقة. ولم يكن اعتمادا كلياً لعي الارتجال..
البريطاني مايك لي أيضاً مخرج يعمل على نحو مكثف مع الممثلين، بدون نص مكتوب، جاعلاً ممثله يطورون شخصياتهم من خلال سبر عميق لكل منها محتمل من حياة الشخصية.
علي الرغم من غياب السيناريو إلا أن الممثل يقبل المشاركة في الفيلم، وتمثيل دوره حسب تعليمات وتوجيهات الخرج، لأنه أساساً يثق بالمخرج ويدرك مدي جديّته وقدراته الإبداعية.
يقول مارشيلو ماستروياني: (أين المترعة إذا كنت تعرف ما يحدث سلفاً؟ أفضّل أن أكون في موقع الشخصية التي تكتشف ما يحدث يوماً بعد يوم. لقد شاركت في أفلام مع مخرجين، مثل فلليني، دون أن أقرأ السيناريو، حين يحقق المخرج الفنان فيلماً فإنه يحقق في الموقع، والسيناريو يكون مهماً فقط إذا لم يسبق لي العمل مع المخرج ولم أشاهد أعماله. السيناريو ليس أساسياً. إدراكي بمدي حساسية المخرج وارتياحي في العمل معه هو، بالنسبة لي، أفضل من قراءة السيناريو، وتقول الممثلة الأمريكية جين سيبرج:
(في باريس، العام 1959، عرّفني فرانسوا تروفو على جان لوك جودار، الذي لم أسمع عنه من قبل. قال لي ترفو أنه واحد من نقاد مجلة كاييه دو سينما دفاتر السينما ويعدّ لاخراج أول فيلم له. سألني جودار إذا كنت أرغب في العمل معه، فوافقت فوراً. بعد أيام جاء لرؤيتي مع تروفو الذي كان قد كتب معالجة موجزة من صفحتين، مستمدة من حادثة واقعية نشرتها الصحف الفرنسية عن شاب أطلق النار على شرطي واختبأ عند صديقته. جوهرياً، كان ذلك هو السيناريو المفترض أن ننشتغل عليه، والمفترض أن بتنامي يوماً بعد يوم فيما نصور. وقد اختار جودار ممثلاً غير معروف يدعي جان بول بلموندو. صورتا الكثير من مشاهد الفيلم في غرفة بأحد الفنادق، ولم يكن معنا غير المصور، وكهربائي كان يطل علينا بين الحين والحين ليهيئ الإضاءة، وفتاة تحاول متابعة ما كان يسمي السيناريو. كان جودار يأتي الى الموقع كل صباح وجيوبه ملآى بقصاصات صفراء دوّن فيها مشاهد كتبها ليلاً. وكان يخشى أن يصير الفيلم قصيراً. أحياناً كانت تمر علينا أيام دون أن تتوفر لدينا مشاهد مكتوبة فنمضي الى المقهى ونتناقش. وحدث ذات يوم أن مرّ في الشانزليزيه، حيث كان من المفترض أن نصور مشهداً هناك، وحين رآنا جالسين في المقهى، انفجر غاضباً وتشابك مع جودار بالأيدي. هذا الفيلم، Breathless، كان عملاً غير عادي، جديداً تماماً في أسلوبه.. وكان بداية الموجه الجديدة في فرنسا، ومن أكثر الأفلام ثورية على الصعيد الفني، وأكثرها تأثيراً على الأجيال اللاحقة..
رغم حاجة الممثل الى سيناريو متكامل، أو واضح المعالم على الأقل، إلا أننا نلاحظ توق المثل لخوض تجربة إبداعية جديدة، كما رأينا مع الأمثلة التي ذكرناها، إضافة الى تجربة الممثل الأمريكي جيمس وودز الذي يقول:
(حين اختارني ديفيد كرننبرغ لبطولة فيلمه Videodrome، قدم لي سيناريو من 65 صفحة، والذي كان مختلفاًِِ تماماً عن الفيلم الذي صورناه. لم يكن هناك مفتاح لفهم مغزى الفيلم. قال لي ديفيد: هل تقدر أن تثق بي، لكي نحقق هذا الفيلم؟ فأنا لا أعرف كيف سينتهي هذا الفيلم.. هذا ما قاله، وقد راق لي ذلك على مستوي غير اعتيادي. إني أحب فكرة تحقيق فيلم دون أن نعرف كيف سيبدو وكيف سينتهي..
الممثل حتماً يشعر بالقلق والتوتر، وربما بالتشوش، عندما يؤدي دوره دون أن يقرأ السيناريو، لكنه قد يجد أعذاراً ومبررات لأسلوب المخرج ومنهجه ورؤيته. يقول بيتر فولك عن تجربته مع المخرج جون كازافيتيس:
(أثناء تصوير فيلم Husbands، كنت غاضباً ومحبطاً لأنني لم أفهم ما الذي يجري. نظرت الى جون وقلت له: سوف أعمل معك كممثل فقط، إنما كمخرج، فهذا مستحيل .. ضحك جون عالياً ولم يقل شيئاً. بعد أن انتهينا من تصوير الفيلم، قرأ لي معالجته فغضبت مرة أخري وقلت له: لماذا لم تخبرني الأشياء من قبل؟.. كان ذلك واضحاً ومحدداً على نحو مدهش. إن جون يحتفظ بك في الظلام لأنه يخشى أن تقوم بتحويل الأشياء، ما أن تكون واضحة ومترابطة، الى كليشيهات. إنه يريد ذاتك فحسب، يريد أن يحصل على جزء من مشاعرك وانفعالاتك، والتي هي مركّبة جداً ومتنوعة الى حد لا يمكن اختزالها الى كلمات ثم إعادة تأويلها من قبل الممثل..
الممثل والحوار
الحوار السينمائي يمتثل لأعرافه وقوانينه الخاصة، ونحن نقبله ونسلّم به وفق شروط السينما وليس شروط الواقع.
في السينما، نحن نشعر دائماً بوجود ذلك الشخص المؤلف الذي كتب الحوار لغرض درامي واضح، والذي يتحكم في الشخصيات وفي ما تقوله، ويوجّه الحوار نحو نتيجة معينة، ويعطي المشهد معني ودلالة وغاية.. بينما الحوار، الذي نجريه في الحياة اليومية مع الآخرين، يفتقد التأليف والإدارة والتوجيه من جهة، ويفتقر، من جهة أخري - الى البؤرة التي يمكن تحديد هويتها بوضوح.
الحوار السينمائي منظم ومحدّد. يتسم بالبساطة والاقتصاد والتركيز. بينما الحوار الواقعي غير منظم وغير محدد، ومشحون بما هو عرضي أو طارئ. كما أنه يتسم بالتكرار والإسهاب، وتعوزه أحياناً الدقة والتركيز.
الحوار السينمائي يتحرك في اتجاه مباشر، وغالباً ما يدور حول ثيمة معينة أو شيء محدد. بينما الحوار الواقعي، اليومي، ممتع ويتسم بالتشتت والتداخل والانزلاق من موضوع الى آخر دون أي ارتباط بما سبقه أو بما يليه. ثمة دائماً انتقالات مفاجئة في الموضوعات دونما ضابط أو موّجه، وقد يباغتك الآخر بموضوع لا تتوقعه.
في السينما، كاتب الحوار ينتفي الألفاظ والجمل لتوصيل معانٍ محدد، وكل خطأ أو تلعثم هو مقصود. بينما الكلمات، في الحوار اليومي، هي عشوائية وغير منتقاة. والأفراد يخطئون ويتلعثمون بسبب الانتقالات المفاجئة أو غيرها.
الحوار السينماءي منسق لغاية تعبيرية أو إيقاعية، والمقاطعات مقررة ومدروسة. بينما الحوار الواقعي يفتقر الى التناسق، والجمل قد تكون ناقصة أو مبتورة أو مجهضة، والأفراد يقاطعون بعضهم بعضاً على نحو غير مدروس مسبقاً.
الشخصيات السينمائية تصغي الى بعضها البعض، وتقول ما تعنيه، فلا شيء عرضي أو متروك للمصادفة. بينما الشخصيات الواقعية تكيف ما تقوله فيما تتكلم ولا تعني دائماً ما تقوله. كل ما يخطر على البال، أو يدور في الذهن، يُقال. والمعني عرضة للتعديل والتحوّل باستمرار.
يقول الممثل كريستوفر والكن:
(حين أدرس الحوارات، فإن الشيء الأول الذي أحاول فعله هو أن أصغي الى نفسي وأنا أقولها بطريقتي الخاصة، حتى لو لم تكن مناسبة، لكي اكتشف الموضوع على الأقل. إن حوارات الأفراد في الحياة هي دائماً مدهشة، وأظن أن التمثيل الجيد يمتلك تلك الخاصية. في المحادثات اليومية نحن لا نعرف حقاً ما الذي سنقوله لاحقاً.. شيء ما قد يحدث. أنا أتكلم وألاحظ الطريقة التي بها تنظر الى فأدرك أنك تفهمي. الناس يفهمون بعضهم في صمت. وأنت تستطيع أن تقوم بانتقالات مفاجئة أثناء المحادثة لأن الآخر يفهم ما تتكلم عنه. إن المحادثات الحقيقية مشحونة بهذه الانعطافات والتحولات غير المنطقية..
علي الرغم من تلك الاختلافات، بين الحوار اليومي والسينمائي، فإن الممثل يسعى الى إلقاء جواره، كما في الحياة اليومية، بتلقائية وعفوية وعلي نحو طبيعي. لكن ينبغي على الممثل أن يعرف كيف يتعامل مع الحوار والإيقاعات ودرجات السرعة، وأن يجيد قراءة ما بين السطور.
يقول المخرج إنجمار بيرجمان: (الحوار مادة حساسة قد تبدي مقاومة، الحوار مكتوب كأنه نوتة موسيقية غير مفهومة لمن لا يعرف قراءتها. تأويل الحوار يحتاج الى مهارة تقنية، يضاف إليها خيال من نوع آخر، وعاطفة، بالإمكان كتابة الحوار، لكن كيف يجب أن يكون ملفوظاً، بأي إيقاع وسرعة، وما الذي يستتر وراء السطور.. هذا هو المهم..
الحوار ليس مجرد كلمات وجمل يستعرض من خلالها الممثل قدراته في الإلقاء وأسلوبه في النطق والكلام. هناك، من بين الممثلين، من يشدّد - في إلقاء الحوار، على الكلمة الرئيسية، ويهتم بتوصيل الجملة، ويلجأ الى لحظات الصمت القصيرة - غير المبررة - بين الكلمات، لكننا لا نشعر بأحاسيس الممثل وهو يتكلم. إن التوكيد على الكلمة أو الجملة المهمة هو ضروري، لكن السؤال: كيف وبأية طريقة يمكن تقديم ذلك التوكيد؟ البعض يفعل ذلك بواسطة الصوت، بتقنية الصوت، رغم أن التوكيد يمكن أن يتم بواسطة الإحساس، وهذا النوع من التوكيد هو الأكثر قيمة ونفعاً. فالإحساس هو الذي يشد انتباه المتفرج وليس طريقة الكلام التي قد تبدو آلية ومصطنعة أحياناً. إذا لم تكن الكلمات، أو الجمل، متصلة بأحاسيس ومشاعر الممثل، فإن المتفرج. سيفقد اتصاله بما يقال.
الحوار وسيلة تعبيرية جوهرية في السينما، وعنصر أساسي في الفيلم. من خلال الحوار يتحقق الاتصال بين الشخصيات على نحو فعال، ويتم التعبير أو الكشف عن حالات الشخصية وأخطارها ومآربها ورغباتها وأحلامها وهواجسها ومخاوفها.. الخ. الحوار أيضاً يفسر الأحداث، يعجّل نمو أو تقدم الحبكة، ويوفر معلومات وثيقة الصلة بالموضوعات المطروحة وبحقائق مهمة يحتاج المتفرج الى معرفتها لفهم مجري الأحداث.
الكلمات تتصل في علاقة وثيقة بحركة الممثل، وإيقاع الفيلم بصورة عامة. مع ذلك، قد يلجأ الممثل أحياناً الى اختزال الحوار أو إلغائه، معتمداً في توصيل الحالة ذاتها على الإيماءة أو تعابير الوجه، إذ يجد في هذه الوسائل إمكانيات تعبيرية أقوي وأكثر تأثيراً من الكلمات، ويجد أن بإمكانه الاستغناء عن عدد من الجمل من خلال التوظيف الفعال للنظرات، على سبيل المثال، أو باستخدام كلمات قليلة. أو بأية وسيلة ممكنة.
في فيلم The Young Lions مشهد يجمع بين شخصية مارلون براندو ومومس فرنسية، حيث يقرر براندو العودة الى الجيش. كان المشهد مكتوباً في ثلاث صفحات من الحوار. بعد إجراء البروفات على المشهد، أبدي براندو عدم ارتياحه وقال: (لا أظن أننا نحتاج الى كل هذا الحوار.. عوضاً عن ذلك، أراد أن يستخدم دمية صغيرة تضاء بحرارة شمعة والتي تدور وتصدر ضجيجاً. وقال براندو: (سوف أتخذ قراري بالعودة الى الجيش وأنا وأنظر الى هذا الشيء دون أن أنطق. هي تعرف ذلك، وأنا أعرف ذلك، والجمهور سوف يعرف ذلك.. هكذا، حين أذهب الى الفراش، سيعرف الجمهور أنها المرة الأخيرة.. لا يتعين عليك أن تقول أي شيء..
أحياناً يلجأ الممثل الى اختصار حواراته للمحافظة على خاصية الغموض في الشخصية. ونجد هذا المثال في ميريل ستريب، حيث يقول المخرج هيكتور بابينكو، الذي عمل معها في فيلم ironweed:
(لقد حذفت ميريل الكثير من حوارات دورها لأنها كانت تريد من شخصيتها أن تكون أكثر غموضاً وأن لا تفسر أفعالها ودوافعها بنفسها.. هكذا، وأنت تتابع هذه الشخصية، تسأل نفسك: من أين جاءت هذه السيدة؟ الى أين هي ذاهبة؟ وأين تقيم؟ إنها أسئلة مفتوحة تحرض على المشاركة، وتمنح فهماً أعمق للشخصية.
حالة أخري مماثلة نجدها عند هارفي كايتل الذي يقول عنه المخرج جون بادهام: (هو على الأرجح الممثل الوحيد الذي عملت معه، والذي كان يطالب بحذف الحوار بدلاً من الإضافة. لقد كان يقوم بفحص السيناريو قائلاً: نحن لا نحتاج الى هذا الحوار، هذا الحوار هنا ليس ضرورياً، هذا ممكن حذفه.. كان هارفي يفهم أن تأثير الشخصية بصري، وأنها تقول الكثير من خلال الحضور وليس الحوار..
الكثير من الممثلين، عندما يستلمون السيناريو، يهتمون قبل كل شيء بمراجعة حواراتهم واحصار الجمل التي تقولها شخصياتهم. وإذا وجدوا بأن جمل ممثل آخر أكثر فإنهم يطالبون بإضافة حوارات لهم.
يقول جيمس ماسون: (التمثيل الحقيقي هو التفكير، وهو السلوك، بعض الممثلين يضلون طريقهم إذا لم يتتوفر لديهم حوارات. إنك تمثل لأنك تتصرف كما تتصرف الشخصية التي تخلقها. وغالباً ما تتوفر للقطة نفس قوة التأثير إذا استبعدنا كلمات الحوار المكتوبة لها. في الواقع نحن اعتدنا أن نقدم للمثلين كلانا كثيراً، وحواراً أكثر من اللازم..
جون فورد من المخرجين الذين يكرهون الحوار. يقول الممثل جيمس ستيوارت: (كنا نصور مشهداً يحتوي على عدد من الأشخاص. وفي منتصف المشهد، أوقف جون فورد التصوير صائحاً: إنكم تتحدثون كثيراً.. هل تقرأون نفس السيناريو الذي لدي؟ النص الذي لديّ لا يحتوي كل هذا الكلام. لماذا تتحدثون كثيراً؟ علماً بأنه هو كاتب السيناريو.. وبدأ يحذف جملاً عديدة، مقلصاً الحوار كثيراً، ثم بدأ التصوير راضياً. لقد كان يهتم بالصورة أكثر من الحوار.. كان يقول: إذا لم تستطع أن تسرد قصتك على الشاشة بصرياً، دون الاعتماد على الكلمة، فإنك لا تستخدم الوسط على نحو لائق.. وأنا أتفق معه، الفيلم وسط بصري.
هيتشكوك أيضاً كان يختزل الحوار، الذي كتبه بنفسه، أثناء التصوير.
الممثل، في حالات كثيرة، يساهم في كتابة الحوار مع المخرج إذا رأي ضرورة إعادة كتابة حواره، أو إضافة ما يعمق شخصيته، أو كمحاولة لتطويع الحوار وفق إمكانياته، وذلك بعد اقتناع المخرج أو الكاتب أو كليهما معاً بضرورة المساهمة.
المخرج الذي يتعامل مع ممثليه على نحو إبداعي، ويؤمن بالارتجال، يسمح بمشاركة الممثل في خلق الحوار، وبارتجال الحوار لحظة التصوير انطلاقاً من محتوي المشهد أو الفكرة العامة للمشهد. وهو لا يطلب من الممثل أن يقرأ ويؤول ويلقي الحوار المكتوب فحسب بل أن يجد كلماته الخاصة.
الفرنسي إريك رومر من المخرجين الذين يفعلون ذلك.. إنه يتيح للممثل حرية صياغة الحوار، أو كتابة حوار شخصيته.. وهذا يتم عبر المناقشة وتبادل الآراء والأفكار.
يقول إريك رومر: (فيلمي ركبة كلير كان في الواقع مزيجاً من كل شيء.. مشاهد كنت قد كتبتها من قبل، ومشاهد حققتها مع الممثلين قبل التصوير بأسابيع أحياناً أو بأيام قليلة، كنا نجتمع معاً ونتحدث حول جهاز التسجيل، ثم أري ما هو طبيعي، وما هو أقل، وأختار ما يناسبنا. كانت هناك مشاهد مرتجلة تماماً، قام فيها جان كلود بريالى بتأليف حواراته الخاصة.. الشيء الذي لم يفعله من قبل طوال حياته الفنية كممثل. بالطبع كنت أخبره عن الموضوع، ومنه ينطلق ويكتب كلماته وجمله.
إذا كان بعض المخرجين يتيحون لممثليهم المجال للارتجال وتغيير حواراتهم، فإن هناك مخرجين يعارضون مثل هذه الممارسة بسبب تأثيراتها الضارة من جهة، واحتراماً للحوار المكتوب من جهة أخري.
يقول المخرج روبرت موليجان: (إذا كان هناك حوار غير مقنع، أو وجد الممثل صعوبةً في التعامل مع كلمات في النص، فيتعيّن علينا أن نكتشف الخلل. ربما يواجه الممثل مشكلةً مع الحوار لأنه لا يفهمه، أو ربما لأن الحوار مكتوب بشكل سيء. في هذه الحالة، غالباً ما أقوم بالاتصال بالكاتب وأخبره عن المشكلة، وأحثه على حضور البروفة معنا ليكتشف بنفسه الخلل ويحل المشكلة، أو يساعد في فعل شيء. ولكن في كل الأحوال، لا أؤمن بإعادة كتابه (الحوارات على نحو اعتباطي..
ويقول المخرج كاريل رايز: (الممثلون، وبالذات في أمريكا، اكتسبوا حرية تغيير الحوار وقتما يشاءون، وأظن أن هذا شيء محفوف بالمخاطر، المبدأ صحيح، لكن له تأثير جانبي ضار، إذ غالباً ما تُجري التعديلات أو التغييرات قبل استدعاء المخيلة لجعل الحوار المكتوب يعمل بشكل سليم. واقع أن الممثل يجد صعوبة في الاقتناع، أو التكيّف بسهولة مع الحوار في البروفة الأولي أو الثانية، لا يعني أن الحوار سيئ. على الممثل أن يهضم ويستوعب الحوار المكتوب قبل اللجوء الى تغييره، بعدئذ يستطيع أن يشعر بحرية في تغييره..
لكل ممثل طريقته الخاصة في التعامل مع الحوار. البعض يأتي الى موقع التصوير حافظاً حواراته، والبعض الآخر لا يري ضرورة لحفظ الحوار كي لا يفقد التلقائية في أدائه. هذا البعض ضد حفظ الحوار عن ظهر قلب ومن غير فهم.
يقول المخرج الألماني فرنر هيرزوغ: (غالباً ما يحفظ الممثلون حواراتهم عن ظهر قلب، ويشعرون عندئذ بالأمان. أنا لا أميل الى هؤلاء الذين يشعرون بهذا النوع من الأمان والطمأنينة الزائفة. إني أري بأن أداءهم يكون حيوياً أكثر عندما ينبع هذا الأداء من الشك والإحساس باللأأمان، وعدم معرفة كل تفصيلة عن ظهر قلب.. عندما يأتي الممثلون عراةً، غير مسلحين بالمعرفة.
ويقول الممثل الفرنسي جان لوي ترينتينان:
(أنا لا أحفظ حواراتي عن ظهر قلب، إني أقرأ السيناريو وأعيد قراءته عشر مرات تقريباً، بالتالي أدرك طبيعة الحوارات دون أن أضطر الى حفظها. وحين نبدأ التصوير، لا أكون على دراية بالذي سوف أفعله أو أقوله. أشعر كما لو أنني أرتجل، حتى لو كنت ألفظ الكلمات ذاتها المكتوبة في السيناريو، وأؤدي الحركات ذاتها المتوقعة في السيناريو. لا يجب على الممثل أن يحاكي. يجب أن يجعل الحوارات، التي يريد منه المخرج أن يلقيها، حوارات خاصة به، تنتسب اليه. يجب أن يخترعها فيما يتكلم. وهذا يسري على الإيماءات، ولحظات الصمت، وكل ما يتصل بحياة الشخصية..
وتقول بيتي ديفيز: (لكل ممثل منهج مختلف في حفظ الحوار. ومع أنني أقضي وقتاً.
طويلاً في دراسة السيناريو قبل الشروع في التصوير، محاولةً استيعاب القصة ككل وتنمية خصائص الشخصية، إلا أنني نادراً ما أحفظ حواراتي، ولا أفعل ذلك إلا في ليلة تصوير كل مشهد. عندئذ تكون الكلمات والجمل طرية في ذهني حين أعمل. لكن إذا كان هناك مشهد صعب يحتوي على الكثير من الحوار، فإنني أشرع في حفظ حواراتي قبل أسابيع من بدء التصوير، حيث من الصعب حفظ مشاهد كهذه في أمسية واحدة بعد الانتهاء من يوم عمل شاق..
وتقول جوان كراوفورد: (الكلمات المكتوبة ليست مهمة جداً. عندما تعلق كلمات أو عبارات معنية في حلقي، فإنني أدعو الى اجتماع مصغّر في الموقع، وأطلب منهم تعديلها لتناسبيني بشكل أفضل. وقد أننتحي جانبا مع المخرج وزميلي الممثل، ومعاً نقرر ما نريد من الكاتب أن يغيره. إن كلمات المؤلف ميتة وأنا التي أحييها..
من المعروف عن مارلون براندو أنه لا يحفظ حواره، رغم أنه يدرس السيناريو ويبدي الكثير من الاقتراحات بشأن النص والحوار والشخصيات. إنه يلجأ الى الارتجال، وفي حالات كثيرة كان يكتب جمل حواراته على أوراق صغيرة يوزعها في أنحاء الموقع: على الكاميرا، الجدران، المقاعد، الإكسسوارات، أجزاء من جسم زميله الممثل أو الممثلة.. وأحياناً يكتبها على باطن يديه أو أكمامه.
إن عدم حفظ الحوار يفضي بالطبع الى تعطيل العمل، وإعادة تصوير المشهد مرات عديدة، مما يؤدي الى إثارة حنق واستياء المخرج والفنيين، والى إرباك الممثل الآخر الذي يشاركه المشهد وإثارة التوتر لديه. وبراندو كان ينكر أن عدم حفظه راجع الى ضعف في الذاكرة أو إخفاق في التركيز، بل كان يبرر ذلك كجزء ضروري من أسلوب أدائه الطبيعي.
يقول مارلون براندو: (الأفراد الحقيقيون، في الحياة، يجهلون ما سوف يقولونه. كلماتهم غالباً ما تأتي كمفاجأة لهم.. وهذا ما يجب أن يكونه الحوار في الفيلم. لا ينبغي للجمهور أن يشعر بأن الحوار مرسوم ومخطط له..
وفي مقابلة له مع مجلة Playboy - يناير 1979، يقول براندو:
(إذا كنت تعرف ما الذي ستقوله، فإن ذلك سيؤثر على عفوية أدائك. لو أنك تراقب وجوه الناس حين يتحدثون، فسوف تكتشف بأنهم يجهلون أي نوع من التعبيرات ينبغي استخدامها، وسوف نلاحظ بأنهم يبحثون عن الكلمات، عن الأفكار، ويحاولون الوصول الى مفهوم ما، شعور ما.، لكن لا يمكنك أن ترتجل مع شكسبير أو تنيسي وليامز، بل عليك أن تحفظ حواراتهما عن ظهر قلب. عند مثل هؤلاء الكتّاب، اللغة (قيمة وأهيمة..
للممثل الألماني كلاوس كينسكي رأي مختلف، في تعامل الممثل مع الحوار، إنطلاقاً من حساسية معينة تجاه اللغة، إذ يقول:
(بإمكان كل فرد أن يجعل نفسه مفهوماً بالنسبة للآخر، أو لعدة أشخاص، أو للعالم كله، إذا استطاع أن يتجاوز سوء الفهم الذي تسبّبه اللغة. أنا لا أرتاب أبداً في ما أشعره، لكنني غالباً ما أرتاب في الكلمات. لم أعد أؤمن بالكلمات. عندما تنظر الى الكلمات التي تستخدم منذ سنوات طويلة، بعين أخري أكثر وضوحاً وشفافية، وتتأمل ملياً ما تحتويه، فإنك لن تبصر شيئاً، ولن تجد أي معني لها. إنها فارغة، تطفو هنا وهناك حتى تصبح عتيقة ومستهلكة، ولا تعني شيئاً. إذا كان لدي الناس مشاعر، فلماذا يتفاهمون بالكلمات بدلاً من المشاعر؟ كلما استبدلوا المشاعر بالكلمات، صار فهمهم لما يجري حولهم قاصراً. هذه الحساسية تجاه اللغة تجعلني دائماً أجري تعديلات على السناريوهات والمسرحيات التي تعرض عليّ... حتى عندما كنت شاباً.
ذات مرّة هاجمتني الصحف الألمانية الغبية لأنني أغيّر الحوارات التي كتبها مؤلفون مشهورون جداً. وأنا أري أن الحوار الذي أنطقه ينبغي أن يكون ملائما لي، وأن يعبّر عما أحسه، أما إذا لم يكن كذلك، فلا بد من تغييره. وأعتقد بأن أي كاتب حقيقي يتفق معي في هذا الشأن. إني أتفق تماماً مع بريخت الذي كان يقول لممثليه: غيروا الحوار الذي كتبته، ليس هذا مهماً طالما أن المعني ذاته يتشكل في دواخلكم ويخرج من أفواهكم. المهم أن يكون نابعاً منكم.
الحوار لا يقوم على الكلمات فقط بل على ردود الفعل الصامتة تجاه هذه الكلمات. الحوار يقتضي ضمناً الإصغاء. الممثل الذي يهتم بحفظ حواره فقط. ويركّز على كيفية الإلقاء، دون أن يولي حوار زميله اهتماماً مماثلاً، سوف يعجز حتماً عن التفاعل بشكل سليم، وقد يفسد إيقاع المشهد. فضلاً عن ذلك، سيبدو أداؤه متكلفاً ويفتقر الى التلقائية.
يقول هنري فوندا: (بعض الممثلين يكفّون عن الإصغاء الى بعضهم البعض. إنهم يؤدون بآلية، لا يتفاعلون بل يلقون حواراتهم المكتوبة فقط. أحياناً أري ممثلاً يتكلم فيما الأخر ينظر إليه دون أن يصغي، وهو على الأرجح يفكر أين سيذهب للعشاء بعد الانتهاء من دوره..
ويقول مايكل كينن: (استمع وتفاعل. إذا كنت تفكر في حوارك فقط، فهذا يعني أنك لا تصغي الى الآخر. حوارك يجب أن يكون أشبه بالمحادثة العفوية، ولا ينبغي أن يبدو تمثيلاً على الإطلاق. إن العفوية تنبع من الإصغاء الفعّال..
الصمت عنصر من عناصر الأداء السينمائي، ولا يقل أهمية عن الصوت، أو الحوار، في التعبير عن الحالة الشعورية واللاشعورية للشخصية في مواقف معينة، وإن كان الصمت - أكثر صعوبة في توصيل المشاعر والمعاني، فالممثل، أو الشخصية، هنا مجرّدة من المعين الأساسي.. نعني اللغة، والتي من خلالها تتمكن الشخصية من تحقيق إتصالها بالآخرين، في حالة الصمت يكون الاتصال على مستوي الشعور، وهذا المستوي يكون أحياناً ملتبساً ومراوغاً لأنه لا يفصح بشكل واضح عن حقيقة المشاعر، وقد يخفي أكثر مما يظهر.
البعض يعتقد أن من السهل تأدية اللحظات الصامتة، وأنها لا تتطلب جهداً ولا تشكل ضغطاً، غير أن الممثل يشعر بوطأة الصمت بشكل ربما لم يتوقعه، وهذا ما تعبّر عنه الممثلة ليف أولمان في حديثها عن فيلم بيرجمان Persona:
(كنت صامتة في أغلب مشاهد الفيلم. في البداية ظننت بأن ذلك سيكون رائعاً.. أن أكون صامتة ولا أقول شيئاً، وبالتالي ستكون شخصيتي غامضة. لكن بعد فترة، بدأت أشعر بالإحباط من كوني لا أنطق. فقد كان على أن أكون فاترة ومنطوية على ذاتي، كان على أن أخفي مشاعري وأقنّعها، وفي الوقت ذاته يتعيّن على أن أظهر كل شيء.. كان ذلك صعباً للغاية.. من جهة أخرى، لحظات تشكّل تحدياً للمثل. في فيلم Casino يؤدي جيمس وودز دوراً ثانوياً، وفي مشهد المقهى نراه جالساً قبالة دي نيرو وشارون ستون. دي نيرو هو الذي يتكلم طوال الوقت، في حين يظل وودز صامتاً تماماً، معتمداً على لغة الجسد...
يقول جيمس وودز: (كان ذلك يشكّل تحدياً كبيراً بالنسبة لي.. فالشخص الذي أمثّله لديه الكثير ليقوله، ذلك لأنه ترثار بطبيعته وتحسب نفسه مهماً. انه يريد أن يتباهى أمام شارون ستون لكنه يتعامل مع شخص دي نيرو خطير جداً. لذا فإنه دائماً على شقا قول شيء ما. التقلصات اللاإرادية في عضلات الوجه، والقسمات، توحي بأنه على وشك قول شيء رائع ومثير للإعجاب، لكنه يقرر التزام الصمت.
المخرج الهندي سايتاجيت راي يشير الى قوة وأهمية لحظات الصمت القصيرة في الأداء، وفي الفيلم عموماً، وكيف أن هذه اللحظات تربك وتوتّر الممثل الذي لا يمتلك خبرة. يقول سايتاجيت راي:
(أغلب الممثلين يخشون من لحظات الصمت القصيرة، التي تتخلل الجمل الحوارية، ذلك لأنهم لا يقدّرون أهميتها، وبالتالي لا يتحملون ثقلها. في فيلمي عالم آبو كنت أقول للممثلة شرميلا تاغور: توقفي عند هذا الموضع ثم استأنفي الحوار حين أخبرك بذلك.. عندئذ تتوقف وتنظر الى نقطة معينة، محددة سلفاً، ثم أقول بها: نعم، والآن استمري.. فتتابع حوارها. بهذه الطريقة كنت أحصل على لحظات الصمت القصيرة التي احتاجها، وإلا فإن الممثلة سوف ترتبك لأنها لا تدرك سطوة الصمت. لحظات الصمت مهمة جداً. شيء ما يحدث، وعندما تأتي الكلمات فسيكون لها شأنها وثقلها.
الممثل والشخصية
ما الذي يحكم اختيار الممثل للدور؟ ما هي الأسس التي يرتكز عليها في الاختيار؟ ما هي العناصر أو المكوّنات التي تكون مصدر جذب وافتتان؟ ما هي الشروط التي لا بد من توفرها في الشخصية كي يتفاعل معها الممثل؟ الى أي مدي يتحقق الانسجام أو التوافق بين الممثل والشخصية؟ وما الذي يرغب الممثل في التعبير عنه من خلال هذه الشخصية أو تلك؟
جودي فوستر:
(ثمة شذرات من السيرة الذاتية في كل دور أؤديه. وعندما أقول بأن في الشخصية شيئاً يتصل بي، فإنني أعني حساسية ما، وجهة نظر ما، الأمور التي أهتم بها، والأشياء التي شكّلتني في حياتي. ثمة جزء مني في كل شخصية تظهر على الشاشة، وذلك في الأغلب لأنني أختار الطريق الذي أعرفه والذي يخاطبني، وهذا الشيء شخصي بالضرورة..
جيسيكا لانج:
إني أختار أدواري على أساس عاطفي، شخصي جداً، ما يعنيني حقاً، كممثلة، هو أن أجازف، أحاول دائماً أن أجرب شيئاً لم أجربه من قبل.. شيئاً يمدّدني، يأخذني الى أقاليم لم أرتادها من قبل.
إيزابيل أوبير:
(أحاول دائماً أن أجد أشياء تتوافق بين ذاتي والدور.
جين هاكمان:
(عندما يُسند الى دور ما فإنني أطرح على نفسي بضع أسئلة: الى أي مدي هذه الشخصية تشبهني؟ والى أي مدي هي لا تشبهني؟ أية خيارات يمكن أن أقوم بها والتي سوف تعزّز غاية الكاتب؟ إني أسأل نفسي.. أين. متي، لماذا.. وهي في الواقع أسئلة بسيطة.
ناستاسيا كينسكي:
(الأدوار التي اختارها هي التي تتحرك في نطاق سبر الذات. لست مضطرة لأن أخلق تلك الشخصيات.. على أن أنفتح واكشف نفسي فحسب، والذي هو فعل موجع لأنه يرغمني على رؤية أشياء في ذاتي لا أريد أن أراها. صرت أغوص أعمق فأعمق داخل ذاتي..
برونو جانز:
(حين أقرأ الدور للمرة الأولي، تكون هناك نوع من الاستجابة، أو ردة الفعل، العاطفية بداخلي، في الغالب، هو نوع من المصاهرة، من تحريك وإثارة شيء لم أعبّر عنه أبداً، أو أدركته فقط أثناء قراءة الدور. لذا فإنه يبدأ من مشاعري الخاصة، ثم أحاول تدريجياً أن أستل هذه المشاعر وأنتزعها من داخلي، أحاول أن أجد لها سطحاً وشكلاً. الشيء الذي يخيفني هو أن تظل مشاعري عالقة، في داخلي، دون أن تصل أبداً الى السطح..
هولي هنتر:
(الأدوار التي تستدعي ذواتاً مختلفة عن تلك التي أرتديها في حياتي اليومية، هي التي تثيرني، هي التي تستفزني وتتحداني..
جاك ليمون:
(الشخصيات المتصدعة، المليئة بالنواقص، هي التي تسحرني.. لأن تصدعاتها هي عادةً من أكثر الأشياء إثارة للاهتمام..
ألان بيتس:
(الممثل الجيد هو الذي يبحث دائماًَ عن أدوار تمدّد وتتحدي قدراته. العديد من أدواري كانت عنيفة وصعبة لأنها تمدّد مخيلة الجمهور ووعيه معاً.. مثل هذه الأدوار هلي التي ترضيني، وهي التي تدوم.
كريستوفر والكن:
(اقرأ السيناريو مراراً حتى أبدأ في معرفة الأشياء التي تتصل بالشخصية.. ومثل هذه الأشياء لا يمكن تحديدها أو الإمساك بها في كل الأوقات. المهم أن تشعر بالراحة والثقة..
سالى فيلد:
(أحياناً، أكثر الأدوار صعوبة لا تبدو كذلك على السطح. الطريقة التي أعمل بها هي أن أجعل الأمور صعبة ومركّبة. وكلما أضيفت تعقيدات على الدور، بدا العمل أفضل. هذا يعني أن كل دور أمثله هو صعب للغاية..
جولييت بينوش:
(هناك أدوار تختارك بدلاً من أن تختارها. أغلب شخصيات تتشابه من حيث المواجهة القدرية مع الموت. ثمة دائماً صدمة ما، ثمة قهر..
فيتوريو جاسمان:
(إني أميل الى مزج الكوميدي مع التراجيد. وأنا أبحث عن الشخصيات الأكثر تعقيداً لأن الأمور صارت الآن أكثر غموضاً.
جيرمي آيرونز:
(أنا. على مستوي الواقع، أعيش حياة عادية جداً، لذلك أنجذب الى تلك الأدوار المتطرفة، الشخصيات الغريبة..
جاك نيكولسون:
(لا أمثل في أي فيلم ما لم يحتوي على ثلاثة مشاهد عظيمة. لا أعتقد أن من الفطنة المشاركة في أي مشروع يفتقر الى تلك المشاهد الثلاثة..
دانييل داي لويس:
(إني أنجذب الى الشخصيات البعيدة تماماً عن تجربتي الخاصة، والتي لا أفهم دوافعها. أنجذب الى شخصية لا تشبهني..
صوفيا لورين:
(لا يمكنك أن تعمل ضد الدور الذي تؤديه، بل معه.. مع ما يعنيه المؤلف ويريد إظهاره أو التعبير عنه..
مارشيلو ماستروياني:
(لقد قررت منذ البداية ألا أقبل أدواراً تتعارض مع قدراتي الجسمانية والسيكولوجية معاً. كنت دائماً واعياً لحقيقة ان مظهري الخارجي على الشاشة، وحده، سوف لن يسمّر المتفرج في مقعده كما يفعل كلارك جيبل بمظهره. لذا قررت أن أجد سبلاً أخري ل شد انتباه المتفرج. فما حققه أولئك الممثلون، بأن يكونوا دائماً البطل ذاته الذي لا يتغيّر، فعلته أنا لكن بطريقة عكسية: أن أتغيّر باستمرار، وهذا يلائم طبيعتي الشخصية، فأنا أحب أن أتغيّر، أن أكون مختلفاً من لحظة الى أخري. التغيير ساعدني على قهر معضلة عدم امتلاكي ذاتية مميزة وقوية. أنا لم أود أبداً دور البطل بالمعني التقليدي، بل تلك الأدوار التي تحمل تعقيدات الحياة وصعوباتها وشراكها. اني أميل الى الشخصيات اللامبالية، الضجرة، التي تتسم بالضعف، وتتحرك ضمن حدود معينة، والتي لا تفوز بشيء. هذا يتوافق أكثر مع شخصيتي الخاصة، كما أن مثل هذه الشخصيات يفهمها الناس ويتماثلون معها. الأفراد الواقعيون هم الأكثر غموضاً والأكثر تعقيداً.
أعماق الممثل كون مأهول بالشخصيات، بالوجوه والأقنعة. وعلي المثل - بعونٍ من العناصر الفنية الأخرى.. كالمخرج والمصور وغيرهما - اكتشاف الوسيلة التي بها يمكن إطلاق سراحها.. إطلاق الطاقة الإبداعية الكامنة.
الدور يحدّد الممثل، والممثل يحكم الدور.
الممثل هو الذي يعطي جسداً وصوتاً وإيقاعاً وحياةً لفكرةٍ ما، لحضورٍ ما، مسطّح على الورق أو محاصر في ذهن المؤلف أو المخرج.
الممثل لا يستطيع أن يعبّر بالكلمات والحركات والإيماءات، بدقة وتناسق، إلا إذا استوعب الشخصية كلياً، ومن جميع النواحي، وفهم دوافعها، وأوجد مبرراً لكل إيماءة وحركة وكلمة.. بمعنى أنها لا تأتي اعتباطاً أو مصادفة أو وفق مزاج معين، بل تنبع أساساً من دراسة شاملة وعميقة للشخصية، وهو يوظفها لتوصيل فكرة أو موقف أو حالة أو سلوك.
لكن كيف يشتغل الممثل على تأويل وتفكيك السيناريو؟ كيف يتعامل مع خصائص الشخصية والعوائق الأساسية التي تواجهها؟ كيف يجعل الدور ينتسب اليه شخصياً؟ هل يستعين بالذاكرة، بالمخيلة، بالعناصر والمصادر المتاحة له؟ هل يتعين عليه أن يخلق تاريخاً للشخصية؟ كيف يبحث في دوافع الشخصية؟
هذه الأسئلة، وغيرها، تدخل في صميم بناء الممثل للشخصية.
الممثل، في بنائه للشخصية، ينطلق أولاً من السيناريو، الذي يعد نقطة الانطلاق...
(بدون السيناريو، لا أحد منا يستطيع أن يعمل.. تقول بيتي ديفيز.
من خلال السيناريو يتعرف الممثل على شخصية وطبيتعها، على تصرفاتها وعلاقاتها، على أفكارها ووجهات نظرها ومواقفها. من النص يستمد المعلومات اللازمة والضرورية، ومنه - عبر ا لقراءة الدقيقة والمتفحصة والمتمعنة - يحصل على الأجوبة التي تهمه في البحث والتأويل.
إن قراءة النص ليست عملية سهلة، بل تتطلب جهداً وبصيرة ثاقبة وثقافة غنية ووعياً عميقاً بمكوّنات النص. والممثل الذي يطلق حكماً سريعاً على النص، أو على دوره في النص، من القراءة الأولي، سوف يتخذ قرارات قد لا تكون في صالحه، كأن يعتذر عن تمثيل الدور معتقداً أنه عادي ولا يضيف الى تجربته ثم يتضح له أن الدور قد اكتسب قيمة وأهمية على يد ممثل آخر أداه بإتقان محقق له النجاح وربما الشهرة.
في كتابه (فن المسرح. يتحدث ستانيسلافسكي عن علاقة الممثل بالنص المسرحي والذي ينطق تماماً على علاقة الممثل بالسيناريو فيقول:
(الذي يحدث، في أغلب الأحوال، أن عقل الممثل يستوعب النص الى درجة معينة فحسب، كما تحيط أحاسيسه به بصورة جزئية، ويستثير إرادته في صورة نبضات ضئيلة غامضة. لهذا يحصل الممثل على فكرة غامضة عن النص أثناء المرحلة الأولي من تعرفه على عمل المؤلف، ولا يمكن أن يكون حكمه عليه سوي حكم سطحي، كما أن إرادته وأحاسيسه تستجيب على نحو متردد لانطباعاته الأولي، وبالتالي لن يحصل إلا على إدراك عام لحياة دوره. الأمر يقتضي عملاً دؤوباً ومركزاً حتى يتمكن الممثل من امتلاك ناصية المعني الداخلي للنص. ويستحيل فهم النص من خلال القراءة الأولي، لأن في هذه القراءة تكون إرادته وأحاسيسه في حالة سلبية لا تتيح له أن يكوّن فكرة واضحة، أو حكماً صائباً، على العمل..
قبل الأداء يأتي التأويل.. بمعنى تحليل الدور. وعبر هذا التحليل يؤسس الممثل علاقة خاصة بالشخصية التي يتعيّن عليه أن يخلقها. إنه يبحث في النص عن أجوبة أو إيحاءات أو إشارات أو إضاءات تستجيب لتساؤلاته العديدة التي يطرحها أثناء تحليله للدور:
لماذا تتصرف الشخصية هكذا؟ ما الذي يجعلها تفكر أو تشعر بهذه الطريقة دون سواها؟ ما هي دوافعها؟ ولو كنت في مكانها، في الوضع أو الحالة التي تعيشها، ما الذي سأفعله؟ كيف سأشعر وأفكر وأتفاعل وأتصرف؟ ولو كانت الشخصية، في حالة ما، تتصرف بطريقة معينة، فما الذي سيحثني ويحرضني - كممثل - على التصرف بتلك الطريقة؟ كيف أجعل السلوك حقيقياً وشخصياً كما لو أنه خاص بي؟
من خلال هذه التساؤلات، وغيرها، يحدّد الممثل - ويشكّل - خلفية للشخصية. لكن السيناريو لا يوفر للممثل كل المعلومات المطلوبة، وكل ما يجب أن يعرفه، إذ يصعب على الكاتب أن يكشف حياة كل شخوصه، كما إن إرشاداته هي عادةً موجزة وغير كافية، ليس فقط لخلق مجموع الصور الخارجية للشخصيات، بل حتى ذكر سلوكها وعاداتها وطبائعها وطريقة مشيتها.. الخ.
هنا يتعيّن على الممثل أن يحدّد كل ظل من ظلال أفكار الشخصية وأحاسيسها ودوافعها وأفعالها، ويعمّق أبعادها. يتعيّن عليه أن يملأ فجوات النص التي تركها الكاتب، وبدون هذه العملية لا يمكن للممثل أن يعكس الحياة الداخلية، أو يتصل بأحاسيس الشخصية.
السيناريو لا يتضمن، بالضرورة كل شيء عن الشخصيات.. سواء ماضيها أو خلفياتها الاجتماعية والثقافية، هنا يأتي دور الممثل لخلق الشخصية ذهنياً، فيتخيل ماضيها وطفولتها وعلاقاتها غير المكتوبة في النص. إنه، بمعني آخر، يملأ الدور ويشحنه، مستعيناً بذاكرته ومخيلته وتجربته الحياتية والثقافية.
يقول هارفي كايتل: (يتعيّن على الممثل أن تكون لديه، في ذهنه، سيرة ذاتية للشخصية حتى لو لم تكن مكتوبة في السيناريو. يتوجب على أن أعرف كيف كان أبوه وأمه يتعايشان، كيف كانت طفولته وحياته العائلية، على أن أعرف ما إذا كان قد التحق بالكلية، وهل أمضي سنة واحدة فقط في الكلية أم تخرّج منها. ينبغي أن أعرض آراءه بشأن أمور مختلفة عديدة. ان الممثل يخلق هذه الأشياء، يخلق ماضي الشخصية. وكل هذا، في الغالب، لا يكون موجوداً في السيناريو. هناك إيحاءات وإشارات فحسب، لكن السيناريو، أساساً، هو أشبه بالهيكل العظمي.
إني أفعل كل ذلك حتى لو لم تكن علاقة الشخصية بالآخرين، الأبوين مثلاً، جزءاً فعالاً أو مهماً في القصة.. هذه هي طريقتي في العمل، وهو شيء لم أخترعه بنفسي..
إنه جزء من الطريقة التي بها يُدرّس التمثيل في نيويورك، وبخاصة في ستوديو الممثلين، وفق منهج ستانيسلافسكي.. أي أن تملأ الدور.
وتقول جانيت لي:
(دائماً أحاول خلق ماضٍ للشخصيات التي أؤديها. المخرج لا يفعل ذلك. إني أزوّد نفسي، كشخصية، بخلفية ما.. الحياة الماضية التي عشتها.. أمي، أبي، طفولتي. عبر الاستعانة بهذه الخلفية، أفهم سبب تصرف الشخصية حين تتفاعل بطريقة معينة. إني أحاول دائماً أن أفكر في الحالة التي تسبق قول شيء ما، أو في القول الذي يسبق القول.. فعندما يتعيّن على أن أقول مرحباً، فأنني أفكر في الشيء الذي يسبق هذا القول لأن هذا يلوّن الطريقة التي تقولها. لهذا السبب أخلق لنفسي صورة ذهنية للشخصية، ربما لا تكون الصورة سليمة، غير أن هذا لا يهم ما دامت مفيدة بالنسبة لي..
في حديثها عن دورها في فيلم (ساعي البريد دائماً يطرق الباب مرتين.، تقول جيسيكا لانج:
(أشعر أن كورا هي الشخصية الأولي، الحقيقية والمتعددة الأبعاد، التي مثلتها بعد عدد من الأفلام. لقد خلقت تاريخاً مادياً، متماسكاً وكاملاً، لشخصية كورا، في مخيلتي عشت كل تفاصيل حياتها، من الطفولة وحتى الزمن الحاضر.. مع إنني، في الواقع، لم أستحضر أبداً تلك التفاصيل، أو ذلك التاريخ، أثناء تأديتي للدور أمام الكاميرا، غير أن ذلك قد وفّر لي أساساً أو قاعدة أنطلق منها.
وتقول جنيفر جاسون لي:
(أحاول أن أنجز الكثير من التشخيص وتسجيل تاريخ الشخصية، قبل تأديتها، بحيث أعرف كل ما يمكنني معرفته عن الشخصية. إني دائماً احتفظ بيوميات خاصة بالشخصية التي أمثلها، مكتوبة كما لو أن الشخصية نفسها تكتب يومياتها الخاصة.
وهذا الشيء لا يكون ظاهراً، إنه يغذّيني فحسب. إن حيازة اليوميات عامل مساعد ومفيد؛ إنه يوفّر على الكثير من الجهد ويمنحني الثقة، الشيء الأصعب في التمثيل هو أن تثق بنفسك وتؤمن بها.
ويقول إيان ريتشاردسون:
(هناك سيناريوهات تستدعي من الممثل اختراع أو تأليف نوع من الخلفية للشخصية، والتي لن تكون مدركة من قبل الجمهور لكنها سوف تساعد الممثل في نفخ حياةٍ ما في الدور.
ويقول رود ستايجر:
(عندما يُسند الى دور ما، فإنني أحاول أن أخترع ماضي الشخصية، أن أخلق الدور وفق معتقداتي الخاصة ومخيلتي ضمن الظروف والحالات المتخيلة التي رسمها كاتب السيناريو.
وفي حديث للمخرج فرانسوا ترفو عن إيزابيل أو جاني التي عملت معه في فيلم (قصة أديل ه..، يقول تروفو:
(الممثلون أحياناً يحتاجون الى النقاش. إيزابيل كانت تطرح على عدداً هائلاً من الأسئلة.. هذه هي طريقتها في العمل. لقد كتبت سيرة حياة كاملة لشخصيتها في الفيلم. كانت تحاول أن تتكهن بما حدث خلال الانتقالات المفاجئة، من حدث الى آخر، في السيناريو. إذا كان هناك مشهد يتعين فيه أن تبدو مريضة فإنها ترغب أن تكون مصابة بحمّي خفيفة في المشهد الذي يسبقه كنوع من التمهيد. أحياناً تكون على صواب وتجعلني أفكر في أمور معينة. كانت تسألني كم يوماً انقضي بين مشهدين، وأنا لم أكن أعرف. إنها جادة ومجتهدة جداً في عملها. وهي تبدو هشّة، غير أنها تمتلك قوة غير عادية..
التمثيل ليس ترجمةً لما هو مكتوب في السيناريو يوفّر للممثل المادة التي ينطلق منها ليؤسس علاقته بالشخصية وليخلق لها حياة كاملة. إنه يخلق في ذهنه، في مخيلته، كل التفاصيل المفقودة، المتصلة بحياة الشخصية: تاريخها، ماضيها، خلفيتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ما تلبسه، ما يمكن أن تفعله في ظروف أو حالات معينة وفق علاقتها بمحيطها أو بعائلتها.
تقول جانيت لي:
(إنك تهب الشخصية كينونة حقيقية بحيث لا تبدأ القصة إلا وأنت عارف من أين جاءت هذه الشخصية، أين كانت، ولماذا تتفاعل وتتصرف بهذه الطريقة..
الممثل يخترع القصص عن الشخصية بحيث تبدو حيّة، وبذلك يدخل ببطء، وعلي نحو منهجي، في عالم الشخصية. وهذا يستدعي بالطبع اتصالا عاطفياً وفكرياً بها.
الممثل، أثناء دراسته للسيناريو، ينميّ صوراً ذهنية، وهذه الصور تجعل أحداث المشهد حيّة في ذاكرة الممثل، وبإمكانه أن يستخدمها لجعل أدائه مقنعاً، مفعماً بالحيوية، ونابضاً بالحياة.
الممثلة جيسيكا تاندي، في حديثها عن كيفية بناء الشخصية، تقول بأنها تقرأ السيناريو، وتعيد قراءته، ثم تبحث عن نقاط الاتصال مع تجربتها الخاصة، بعدئذ تنمّي خلفية للشخصية، أما بالنسبة للأداء، فأنها لا تستدعي عاطفةً ما، والمشاعر أو الأحاسيس التي تلوّن أداءها هي دائماً ثمرة الصور الذهنية التي خلقتها أثناء دراستها للنص.
إذن هناك الشخصية المرسومة على الورق السنياريو، وهناك تأويل الممثل لها، ثم هناك الممثل وصفاته وخاصياته الذاتية، الأداء يتشكّل من التقاء هذه الأشياء معاً. وعلى الممثل أن يقنع المتفرج بما يحمله من عواطف ومشاعر ونقاط قوة ونقاط ضعف.
الانفعال الخارجي من خلال التعبير بالوجه أو الإيماءة لا يكفي، بل يجب أن يجعل المتفرج يصدق ما تشعره وما تحسه الشخصية.. وهذا يتحقق عندما يكون الممثل صادقاً في تأدية الشخصية التي يخلقها.
هناك أكثر من طريقة يتبعها الممثلون في بناء الشخصية، منها - على سبيل المثال - تلك التي تنطلق من الداخل الى الخارج، أي من الذات، من العمق، وصولاً الى المظهر الخارجي.
يقول جاك ليمون: (هذه ا لعملية أشبه برصف القرميد. إنك تبدأ من القاعدة، من الأسفل، ثم تتقدم تدريجياً. ويمكنك أن تبدأ من المنتصف وتشق طريقك نحو الخارج. أنك تعرف وتفكر وتقرأ حتى تحصل على الخاصيات المميّزة لتلك الشخصية، والنتيجة الكلية هي التي تجعلك تفهم لماذا يتصرف ذلك الشخص بهذه الطريقة، ولماذا يقول ما يقوله ويفعل ما يفعله. وحالما تحوز هذا الفهم، ومعرفة الشخصية، تشرع في اتخاذ المظهر الخارجي للشخص.. كيف يتكلم ويتصرف ويتحرك ويلبس. إن مكياجك وملابسك نتاج ما تكونه الشخصية.
الطريقة الأخرى هي تلك التي تنطلق من ا لخارج الى الداخل، أي من المظهر الخارجي، اعتماداً على المكياج والملابس وطريقة الكلام والحركة، وصولاً الى الذات.
يقول مارشيلو ماستروياني: (ليس لدي منهج معين، لا أفهم منهج ستانيسلافسكي،. ولم أقم بأي دراسات بشأن الأسلوب أو المنهج، وهذا لا يعني أنني على صواب لكن أي منهج ينبغي أن تتبع؟ كيف تشرع في ذلك؟ أعتقد أن الشخصية، إن وجدت حقاً، فإنها تمتلك حياة بذاتها، ولن تظل في هيئة يرقه، بل تتفتح وتتجلي من تلقاء نفسها. الشخصية قد تدعي ماريو، لكن هذا لا يعني القول بأن لديها روحاً تحركها، إنها تظل مجرد صورة ظلية، دمية من جهة أخري، إذا كانت الشخصية مدروسة ومفهومة ومكتوبة بشكل جيد، فإن الممثل المتمرْس، في اعتقادي، لا يفعل شيئاً غير الإتكاء على هذه الشخصية، وانتحال هيئتها ومظهرها الخارجي. الشخصية نفسها هي التي تزحف وتنسل داخل صدفة الممثل، داخل هذا الرحم الذي هو مستعد لاستقبالها، إنك تفكر في الشخصية حيتي في اللحظات التي لا تتوقع أن تسيطر هي على تفكيرك.. فأنت تأكل طبقاً من السباجيتي وتجد نفسك تفكر: ما الذي تفعله الشخصية الآن؟ كيف تتحرك؟ هذا أشبه بوقوعك في الحب، حيث تفكر طوال الوقت في المرأة التي تحبها.
لست أنا الذي يستحوذ على الشخصية، بل هي التي تستحوذ علي، وأقوم بانتحال الهيئة التي ربما تمتلكها، والحالات التي ربما تمرّ بها، ثم أجعل نفسي مكشوفاً ومباحاً.
وهناك من يبني الشخصية أثناء العمل، ومثال على ذلك ما يقوله الممثل الأسباني فرناندو راي:
(لا أعرف أبداً كيف أصف الشخصيات التي أمثلها. حين تسأل فناناً تشكيلياً عن لوحاته، فيما هو واقف أمامها ويرسم، فإنه لا يستطيع أن يوضح لك. الشيء نفسه يحدث معي. إن لدي فكرة عامة عن الشخصية، وشيئاً فشيئاً، أثناء التصوير، اكتشف السبل لبنائها..
يشير المخرج جان رينوار الى التعارض بين بناء الشخصية خارجياً، وبنائها داخلياً، فيقول: (في التمثيل، ثمة اختلاف بين الحقيقة الداخلية والحقيقية الخارجية. لنفترض أن مخرجاً أو منتجاً يبحث عن ممثل لتأدية دور بحار. الممثل العادي سوف يعمل باجتهاد بالغ لكي يؤدي دوره بواقعية، ويبدو بحاراً حقيقياً. سوف يرتدي لباس البحار، ويحاكي بدقة مشيته ولغته، وربما يقوم برحلة بحرية لكي تسفع الشمس بشرته، وقد يشتري ملابس بحار حقيقية بحيث لو أنه سار في الشارع لما استطاع الناس أن يفرّقوا بينه وبين البحار الحقيقي.. مع ذلك، فإن هذا الممثل سيبدو على الشاشة كما لو كان من هواة التمثيل. لكن لنفترض أن شارلي شابلن قام بهذا الدور: سوف يتم تصوير المشهد في هذه الحالة داخل الأستوديو، ولن يهتم شابلن بارتداء ملابس البحّار الواقعية وإنما سنراه ببنطلونه الواسع وقبعته المستديرة وحذائه الضخم وعصاه القصيرة، لكن بعد بضع دقائق سوف نسلّم بالفعل أننا أمام بحّار حقيقي، النموذج الأول اعتمد على المظاهر الخارجية، أي الحقيقة الخارجية، بينما سوف يعتمد شابلن على الحقيقة الداخلية..
مارشيلو ماستروياني يشير الى هذا التعارض في البناء بطريقة مختلفة، إذ يقول :
(كنت أرغب في أن أكون مثل الحرباء، أن أغيّر لوني باستمرار، أن أدخل جلوداً جديدة وأنتحل وجوهاً مختلفة. لكن هذا ليس سهلاً في السينما لأن سماتك وخاصياتك البدنية مرئية بوضوح تام بواسطة الكاميرا. والمتفرج يتعرّف عليك ويميزك تحت بشرة الشخصية الجديدة. بإمكانك فقط أن تغيّر لون شعرك أو تضع شارباً أو لحية. في النهاية، الشخصية لا توجد عبر التحول الجسماني، فالتغيير ينبغي أن يحدث داخل ذاتك.
في حديث أنتوني هوبكنز عن شخصية هانيبال ليكنر، التي أداها في فيلم (صمت الحملان.، نجد نموذجاً لكيفية فهم الممثل لشخصيته، والتعامل معها وفهمها، على مستوي سيكولوجي عميق. يقول هوبكنز:
(قرأت الدور قبل أسابيع من إسناد الدور لي، وقبل أن يتبلور المشروع في صيغته النهائية. السيناريو كان مكتوباً بشكل جيد، والدور كان مرسوماً بشكل قوي وحيوي جداً الى حد أنني فهمت، على نحو حدسي، كيف أؤدي الشخصية، كيف تبدو الشخصية، وكيف يكون صوتها. جوناثان ويمي، المخرج، قال لي: أريدك أن تبدو شاحباً تماماً لأن شخصيتك لم يتعرض للشمس زمناً طويلاً.
في الموقع، طلبوا مني ألا أعرّض جسمي لأشعة الشمس. فكرت أن أمشط شعري الى الوراء وأن يكون أملساً. وحين نظرت الى المرآة، قلت لنفسي: نعم، هذا هو الرجل الذي سأكونه.. وعندما شاهدت مؤخرة رأسي في لقطات الاختبار للفيلم، وشاهدت ذلك الشعر الدهني في مؤخرة الرأس، اتضحت لي أكثر شخصية هذا الرجل الذي يعيش قي أقبية، عقله.. هذا المخلوق المتمدّن جداً، لكن الذي يوجد ويعيش فقط تحت سطح الأرض، في المجاري، في الخفاء، في غرفة ذاته المظلمة.
من وجهة نظر تمثيلية، فهمت كيف أؤدي الشخصية. لكنني لم أفهم عقل هذا الشخص، ذهنيته، فهمت فقط ما يكونه. استوعبت جموده، سكونيته، قوته المطلقة وسلطته الكلية. هو في الواقع، الشيطان.. لكنك لا تستطيع أن تمثل الرجل بوصفه نموذجاً للشر المطلق. لو فعلت ذلك، لو أظهرته كرجل مضطرب عقلياً، يتحرك هنا وهناك في شرود، فسوف لن توفق في التعبير عنه بشكل جيد. بإظهار الجوانب الإنسانية فيه، يصير شريراً أكثر، ومخيفاً أكثر.
أظن أن الرجل مفتون بمنجزات العقل البشري. وكما يقال في التعليم، هو لا يستطيع أن يحوّل هذا الإستبصار القوي والنفّاذ الى داخل ذاته، وهذه هي مأساته. أحد المفاتيح التي ساعدتني في تأدية الدور هو ما كتبه توم هاريس في روايته، على لسان كلاريس، حين تعود الى زنزانته بناءً على طلبه، إذ تقول - بما معناه - أن وراء عينيه ليل طويل لا ينتهي. لقد كان وصفاً دقيقاً ومخيفاً لرجل مختل الى حد أن تجاويف عقله يستحيل سبر غورها.. وفي ذلك المكان السحيق هو يقطن. هذا ما فهمته على نحو حدسي.
إنه الشخص المعنوي، المضلل، وهو بارع في الإغواء. وأنت، كممثل، تؤدي هذا الجانب فيه وليس جانب الشر المطلق.. أإنك تدع ذلك لمخيلة الجمهور. من جهة أخري، أعتقد أنه - بطريقة ما - شخص شهواني جداً، مثقل الى حد بعيد بالتناقض والإزدواجية، مثقل بالطاقة الجنسية. وهو يعرف ذلك، إنه يحب أنت يصدم، ويمارس هذه الأشياء البغيضة ليثير الذعر في قلوب الآخرين. وهو أيضاِ يستمتع بالدور الذي يلعبه، يستمع بالتلاعب بعقول الآخرين.. هذا يعني أنه رجل مريض جداً. لقد انزلق نحو الجانب الآخر، نحو الجنون، ولديه القدرة على انتزاع نفسه ممن رعب ما يفعله..
في حالات معينة، وهي في الواقع نادرة، يتعاون المخرج مع الممثل في بناء الشخصية، دون الاعتماد على سيناريو مكتوب، بل عبر الارتجال، سواء في البحوث الخاصة التي يجريها الممثل أو أثناء البروفات.. كما في حالة المخرج البريطاني مايك لي، الذي يستغرق عمله مع الممثلين شهوراً طويلة، وهو يعمل مع كل ممثل على حده، وبسريّة، إذ يدع الممثل يعد قائمة بأسماء أشخاص من الواقع، يعرفهم الممثل شخصياً أو التقاهم في مكان ما، ثم يطلب منه أن يتحدث عن كل شخص: تاريخه، أفكاره صفاته، سلوكه، أسلوبه في الكلام والمشي. والممثل يرتجل مشاهد قصيرة استكتشات، فيما المخرج يدوّن ذلك، حتى يستقر عند شخصية معينة.
المخرج مايك لي يطلب من الممثلين أن يتحدثوا عن شخصياتهم بصيغة الغائب لكي يمنحوا الدور حياة مسقلة، ويحثهم على الإيمان بالشخص الذي يخلقونه. من هذه الفكرة الأساسية ينطلق ليجعل ممثليه يطورون شخصياتهم عبر بحث واسع وشامل، ولكي يساعدهم، في هذه الناحية، فإنه يوظف باحثين متخصصين للتحري والاستقصاء، والقيام باتصالات تتعلق بالأحداث الماضية المرسومة للشخصيات.
في حديث الممثل رون كوك عن منهج مايك لي هذا، يقول:
(إنك تباشر الاشتغال على التاريخ الكامل للشخصية، عائداً الى الأجداد، الى الأسلاف، وتبدأ في اختراع الأحداث. شخصية ستيوارت في فيلم أسرار وأكاذيب مستمدة من شخص أعرفه كان يدرس معي في الكلية. لكن الشخصية السينمائية، التي تشكلت في النهاية، لم تعد لها أي علاقة بذلك الشخص. لقد ذهبت الى المنطقة التي ولد ونشأ فيها. واخترت المنزل الحقيقي الذي سكن فيه، والمدرسة التي درس فيها. مشيت في الطريق ذاته الذي يؤدي الى المدرسة، ورحت أرتاد المقاهي التي كان يرتادها، الباحثون، الذين عملوا معنا، استطاعوا الاتصال ببعض زملائه في المدرسة.. التقينا بهم وتحدثنا معهم: عن هذا الشخص ستيوارت. عند نقطة ما، قررنا أن لأبيه تأثير كبير عليه، واستنتجت أن أباه كان شخصاً مدهشاً الى حد أن إنه لم يستطع أبداً أن يعيش أو يسلك مثله.. وأن هذا الأب كان قد شارك في الحرب. عندئذ، قررت أن أتخلي عن ستيوارت وأؤدي دور الأب..
مع أن تاريخ الشخصية قد يصبح مفصلاً، ومركباً على نحو بالغ، إلا أن الممثلين - العاملين مع مايك لي - لا يكتبون هذا التاريخ بل يحملونه في صورة ذكريات، مشاعر، عواطف.
الممثلة كلير راشبروك ظهرت في الفيلم ذاته، أسرار وأكاذيب، وكمان أول أدوارها السينمائية، والتجربة الأولي مع مايك لي.، لخلق شخصية روكسان، التي تؤديها في الفيلم، اجتازت الإجراءات العامة نفسها التي قام بها زميلها الممثل رون كوك.
ولأن عملية خلق الشخصية وهي دائماً متناغمة مع الحالة الفردية الخاصة، فإن كل ممثل سوف يخفي
هارفي كاتيل: (عليك أن تبحث عن الدور في داخلك.. في ذاتك..
جاك نيكولسون: (كل شخصية أؤديها تحتوي على 57% من ذاتي.. النسبة الباقية هي نتاج بحث لتفسير وتسويغ الشخصية..
روبرت دوفال" (ثمة دائماً عناصر من ذاتك في كل دور. إذا كنت تمضي خلف شخصية معنية، فإنك تأخذ ما يوجد بداخلك وتحوّله. إنك في الواقع لا تصبح شخصاً آخر. إذا أديت دور واعظ، فإنك عندئذ تبحث عما يوجد بداخلك والذي هو روحاني..
روبرت دي نير: (بالطبع أنت دائماً تقدم شيئاً من ذاتك الى الدور لكن، بالنسبة لي، التمثيل يعني تأدية أدوار مختلفة. إنك تحاول أن تقترب قدر الإمكان من واقع الشخصية، تدرس أسلوب حياتها، كيف تمسك بالشوكة عندما تأكل، كيف تتحرك، كيف تتكلم، كيف تتصل بالآخرين. فعل هذا شاق، لأن هذا يعني أن عليك دائماً أن تواصل البحث والمراقبة.
محمود المليجي: (أنا أعيش الدور. كل شخصية لها ثوبها. وأنا ألبس هذا الثوب وأتجرّد من محمود المليجي، أنا لا أحاول تمثيل دور الطبيب - مثلا - لكنني أتساءل.. لو كنت مكان الطبيب فماذا سأفعل؟ أو لو كان المجرم مكاني فماذا سيفعل.. وهكذا..
أنتوني هوبكنز: (عملية التمثيل هي في الواقع بسيطة جداً. وما تعلمته خلال السنوات القليلة الماضية، أن الممثل يحاكي الصورة الباطنية لما يراه في الشخصية.. بتلك الطريقة اقترب من الدور.
ميو ميو : (لديّ إحساس بأني لا أحضّر للدور، رغم أنني أفعل ذلك. إني أفكر في الدور، وهو يأتي الى ببطء حتى يبدأ العمل في التعبير عن الطاقة المتراكمة. إني أوجّه اهتمامي وعنايتي الى الأشياء المادية والتفاصيل الصغيرة التي تساعدني على الإمساك بالدور وفهمه.. بعدئذ يأتي الممثلون الآخررون الذين يضيفون إليك، ويفتحون الطرق أمامك.
فيتوريو غاسمان: (أنا لا أتبع منهجاً معيناً في التمثيل، وليست لدي طريقة فهم معينة من الناحية السيكولوجية. إنها، ببساطة، مسألة حدس..
جولييت بينوش: (شخصيتي بولين في فيلم فارس على السطح هي المرأة بالمطلق.. هي اللغز الغامض بالمطلق. أشعر بأنها تعيش في أعماقي. إني أعيشها، وعلي الشاشة سأكون بولين، وليس امرأة اخرى ترتدي شخصيتها. أعترف بأنني شعرت بخوف كبير عندما بدأنا البروفات الأولية، شعرت فجأة وكأنني أنطلق من درجة الصفر، بدون خبرة، بدون رصيد..
مثلما تتعدّد وتتنوّع أساليب الأداء، كذلك تتعدّد وتتنوّع التقنيات التي يوظفها الممثلون في التأسيس التدريجي لأدوار مقنعة وقابلة للتصديق.
ثمة ممثل ينمّي صورة شاملة للشخصية بكل خلفياتها وأنماط سلوكها، وممثل آخر يحفر في الشخصية عميقاً وهو يعلم بأنه سيكتشف أشياء لم يتوقعها، وممثل آخر يغمر نفسه في الشخصية ويختفي أو يتوارى فيها حتى يصبح من الصعب فصل الشخصية عن الممثل، وهناك من يدع الشخصية تنسل الى داخله تدريجياً.
بعض الممثلين يرفضون تفسير الشخصية أخلاقياً أو نفسياً، بل يتيحون المجال للجمهور كي يستخلص استنتاجاته وأحكامه. إنهم لا يكشفون الشخصية كلياً، إنما عناصر من الشخصية تتجلي وتتضح على نحو تدريجي، تاركين أأجزاء منها غامضة.. فالجمهور - حسب تصورهم - يرغب في رؤية المزيد من الشخصية، وكلما ازدادت غموضاً، أثارت الاهتمام أكثر.
يقول المخرج ميلوش فورمان، في حديثه عن شخصية ماكمورفي التي أداها جاك نيكولسون في فيلم أحدهم طار فوق عش الوقواق:
(من الأفضل عدم إعطاء الشيء شكلاً أو مضموناً عقلانياً، الشخصيات، عندئذ، تصح شفافة ومن السهل، بالنسبة لأي متفرج، أن يتنبأ بما ستفعله الشخصية، وبهذا تفقد غموضاً معيناً. ما هو رائع بالنسبة لشخصية ماكمورفي، صعوبة التنبؤ بما ستكونه أو ستفعله. إنك لا تري من خلال هذه الشخصية ما إذا كان ماكمورفي عاقلاً أم مجنوناً.. إنك لا تعرف.
ويقول المخرج مايك نيكولز: (أثناء تدريسي للتمثيل، كنت أقول لتلاميذي أن من المهم ألا تقرروا شيئاً بشأن شخصياتكم. لا تقدموا الى الجمهور استنتاجاً أو حكماً نهائياً بشأن الشخصية، ذلك لأن الشيء المفتوح هو أكثر تشويقاً وإثارة للاهتمام، وأكثر حياةً، من الشيء المغلق..
الممثل الإيطالي فرانكو نيرو يقول: (كان بونويل يقول لي دائماً، لا تظهر الأشياء الى الجمهور. الأفضل أن تحرّك مخيلتهم..
ويقول جين هاكمان: (كممثل أنت تأمل بأن تجعل الشخصية تبدأ في الحياة وتكون مفهومة دون اللجوء الى الكثير من الشرح والتفسير، والذي يمكن أن يكون مضجراً.
ويقول جون تارتورو: (إني أحاول أن أجعل الشخصية إنسانية فحسب.. والإنسان يعني الشخص الذي يأتي من مكان ما، والذي لديه تاريخ وأشياء قديمة، ليس هذا فحسب، بل أنه لا يعرف ما الذي سيفعله..
في مقالة مهمة للناقد هال هينسون مجلة Sight and Soutnd - صيف 1984 يشير الى أن روبرت دي نيرو هو الأقل اهتماما بالنواحي السيكولوجية. إنه لا يرغب في حل أو كشف الحياة الداخلية للشخصية بقدر ما يهتم بالتعبير عن غموض الذات التي يمثلها. ففي تمثيله لشخصية الملاكم جاك لاموتا، في فيلم (الثور الهائج. (Raging Bull، يخبرنا دي نيرو بأن رجلاً مثل جاك لاموتا من المستحيل معرفة كنهه، دواخله، وبأننا تخطيء إذا توقعنا أن نفهم محركات ودوافع الشخصية. إن دي نيرو يترك مساحات كبيرة من شخصية لاموتا غير مكتشفة ويتعذر فهمها... كأنه يريد أن يقول لنا بأن لا أحد، ولا حتى الشخصية نفسه قادرة على تفسير أفعالها وممارساتها.
ممثل آخر، مثل مونتجومري كليفت، كانت لديه طريقة خاصة في إيواء واحتضان الشخصية داخل ذاته، كما لو أنها سر، أو شيء ينبغي حجبه، أو شيء بالغ الرهافة الى حد أن بصيصاً من الضوء يمكن أن يخدشه. إنك لا تشعر أبداً بأنه يكشف شخصيته بشكل مباشر، أو حتى عمداً، بل عوضاً عن ذلك، يدع عواطفه وانفعالاته تنزلق مصادفةً ومن غير قصد. كليفت يحجم مشاعر شخصيته داخل نفسه، وهذه المشاعر كانت تمنح أداءه مرونةً وعذوبةً. كان يملك القدرة على التعبير عن المجالات الغامضة من الشعور، حيث تتشابك القوة والحساسية.
وممثل آخر، مثل روبرت دوفال، في خلقه للشخصية، يشذّب الوحدات الزائدة، ويحاول الوصول الى الجوهر. إنه يعقلن الشخصية ويطلب منا أن نقبلها بشروطه وتعبيره الخاص، كما لو أن خضوعه لرغبة الجمهور في ما يتعلق بالإيصال العاطفي، سوف ينتهك صفاء أدائه.
التحول خاصية أساسية في التمثيل. إنه انسلاخ عن الذات وتقمص للأخر الشخصية. ثمة ممثل يتقمص الشخصية، بكل سماتها وخصائصها وميزاتها، بحيث يمحو ذاتيته، أي لا يكشف ذاته إنما يختفي ويتوارى داخل الشخصية. وممثل آخر يلتحم بالشخصية، في مستوي سيكولوجي عميق، غير أننا نعي حضوره، ونشعر بأن هذا الحضور يضاعف ويمدّد فهمنا للشخصية.
شارلي شابلن نموذج للممثل الذي يعمل من خلال سمات مفرطة، مرتبطة بشخصية ما. عندما ابتكر شخصية الصعلوك المتشرد في العام 1915، والتي لا تشبهه تماماً، لا في الهيئة ولا السلوك، والتي ظلت معه سنوات طويلة دونما تغيير وإن تعرضت للتطوير، فإن الخالق هنا الممثل قد ذاب تماماِ الى حد التلاشي، وبرز المخلوق الشخصية. ان ذات الممثل تختفي كلياً خلف كينونة متخيلة.
لقد بني شابلن شخصيته من الخارج، بأدوات معروفة ومميزة: شارب صغير، قبعة مستديرة، سترة ضيقة جداً، بنطلون فضفاض، حذاء كبير، عصا رفيعة، ومشية متميزة يتمايل فيها كالبطة.
شابلن أصبح كل شخص ولا أحد، إنه الممثل الذي عاش في شخصيته، وبدونها يضيع. إنه لا يستطيع أن يجد ذاته الداخلية، ففي الداخل لا يوجد ما يأوي إليه أو يلوذ به. وهو مرغم على دمج نفسه في حياة متخيلة ومركّبة. والجمهور بدوره لا يتعرف عليه إلا من خلال شخصيته.. شخصيته - الصعلوك المتشرد - هي الحية، الحاضرة دوماً، أمنا الممثل، كحالة وجود فرداني، فإنه غائب، غير ملحوظ، وغير مدرك.
هناك شخصيات أخري ارتبطت بالممثل أو ارتبط بها على نحو كلي: بيلا لوجوسي مع دراكيولا، جوني ويسمولر مع طرزان على سبيل المثال. لكن مثل هذا الارتباط يشكل عبئاً ثقيلاً على الممثل يصل الى حد المعاناة الحقيقية. فهو من جهة، يحبس نفسه في نمط واحد لا يتغيّر، ويكرر الدور المرة تلو الأخرى في سلسلة من الأفلام. ومن جهة أخري، لا ينسني للمثل التخلص من الشخصية حتى لو أراد ذلك.. وذلك لأسباب اقتصادية بحتة.
عندما أدي الممثل والمخرج الفرنسي جاك تأتي شخصية هولو، أحبها الجمهور كثيراً الى حد المطالبة باستمرار الشخصية، رغم أنها كانت مبتكرة لفيلم واحد فقط، ورغم أن تأتي نفسه أبدي ضجره وتعبه من تأديتها. وعندما تخلص تأتي من هذه الشخصية في العام 1973، تأثرت جماهيريته كثيراً لأنه قتل الشخصية التي أحبوها أكثر من حبهم للممثل.
وهناك نموذج آخر، مختلف، للممثل الذي يتحول كلياً، في الشكل والصوت والحركة، ليصبح الشخصية. فالممثل يختفي تماماً، ويكون غير مرئي، لتبرز الشخصية.. إنه الممثل البريطاني إليك جينيس، الذي شبّه أحد النقاد قسمات وجهه بشاشة خالية تنتظر شخصية ما لتعبرها. إنه لا يؤدي الدور فحسب، بل يبدو كمن يهرب إليه، بعد أن يوصد الباب على ذاتيته بإحكام، ليكون الشخصية فقط.
المتفرج، في الغالب، لا يستطيع أن يميّز وجه إليك جينيس بين عشرات الأدوار المختلفة التي يؤديها. وأنت مهما تحدق وتصغي إليه وهو يؤدي دور فاجن في فيلم (أوليفر تويست. - على سبيل المثال - فإنك لن تعثر أبداً على الممثل إليك جينيس، ذلك لأنه يسلّم نفسه الى الشخصية كلياً والى حد الانغمار.. من خلال المكياج - الذي يغيّر ملامحه تماما - وتقنيات التمثيل في الإلقاء والحركة.
بوجه عام، يمكن تقسيم ممثلي (الشخصية. character الى أولئك الذين يحاولون تأدية تشكيلة من الشخصيات المختلفة، وأولئك الذين بسبب جمود ولا مرونة طرائقهم الخاصة، أو استعدادهم لأن يكونوا نمطيين، يؤدون الشخصية ذاتها على نحو ثابت، غير متغيّر. ومع هؤلاء نحصل على ما نتوقعه منهم عادةً : إننا نسمع الصوت نفسه،ونري النمط نفسه من طريقة التعبير.
في أحوال كثيرة، يصعب تصنيف الممثلين والأدوار. بعض الممثلين الذين يصنفون - عادة -= على أساس أنهم ممثلو (شخصية. كنقيض للممثل أو النجم الذي يكون نفسه دائماً في كل أو أغلب أفلامه هؤلاء لا يفقدون أبداً ذواتهم في الشخصية التي يمثلونها.. كما يفعل أليك جينيس، إن ذواتهم مرئية أو محسوسة بوضوح، و النبرات هي نفسها دائماً، مع ذلك هم يقدمون شخصيات.
جنيفر جاسون لي: (أنا، في الواقع، لست مهتمة بتمثيل ذاتي في الفيلم، إني دائماً استخدم أجزاء من نفسي..
روبرت دوفال: (ثمة دائماً عنصر أو جزء من ذاتك في كل دور تؤديه..
ليف أولمان: (حتى عندما أقول لنفسي أنني أجسّد دوراً ما، فأنا لا أستطيع أبداً أن أخفي تماماً من أكون، وما أكون..
وليام هيرت: (أن تمنح نفسك كلياً لما تفعله، لا يعني أن تكون شخصاً آخر. أنا لا أصبح الشخصية بل أؤديها. وأبداً لا أدخل في جلد شخص آخر. إني لا أصبح ذلك الشخص الذي أمثله. هذا نوع من الشيزوفرينيا.. وأنا ممثل ولست انفصامياً..
ايزابيل أدجاني: (عندما أقف أمام الكاميرا، لا أخلع جلدي، ولكنني أضع حياتي كلها جانباً..
ويقول أستاذ التمثيل لي ستراسبرغ: (ليس من الضروري أن يعيش الممثل حياة ومشاعر كائن آخر، ففي كل واحد منا مجموعة منا مجموعة من الحالات تستيقظ فجأة عندما نحتاجها..
ثمة حالة مركّبة تتمثل في مارلون براندو. أدواره الأولى كانت تبدو قريبة جداً من شخصيته الواقعية، من ذاته الخاصة. كانت كشفاً لصورة الذات من خلال تقنيات معينة: فتور، هدوء، كبح الانفعال الخارجي، نوبات انفعالية مفاجئة، حركات رشيقة ومتناسقة، فترات صمت يسودها التأمل.. الخ.
فيما بعد، نلاحظ بأن براندو قد تخلي عن التركيز على إبراز صورة الذات وتحوّل أكثر نحو خلق الشخصية.. حيث الاعتماد على تغيير المظهر الخارجي، والتوكيد على اللكنة والخاصيات المميزة للشخص الذي يمثله، في الحركة والصوت والسمات.. كما في فيلم (الأب الروحي..
وفي بعض الأفلام كما في (آخر تانعو في باريس. - حقق مزيجاً من خلق الشخصية وتمثيل الذات على نحو يصعب خصم الخاصيتين، وبطريقة تتحدي أي تحليل.. فهو يؤدي الشخصية مع الاحتفاظ، على نحو متماثل ومتوازن، بذاتيته.
ثمة نوع من التمثيل يركز حصراً على السلوك التعبيري، ذلك لأن الدور ينفذ الى العصب الحساس في نفس وعقل الممثل الى حد أنه لا يضطر الى القلق بشأن تشخيص السمات وأنماط السلوك.
الممثل، في هذه الحالة، ينغمر مباشرة في دوره، متوجباً عليه فقط أن يركّز على المتطلبات التعبيرية لحالات الفيلم.
عندما يلج الممثل دوره، فإن الاستجابات الفكرية والعاطفية سوف تنبثق من الحياة الداخلية للشخصية وليس من تقنية الممثل أو من الحيل الأخرى التي قد يلجأ إليها. (لا أريد أن أودي الشخصية، بل أن كونها.. هكذا يقول الممثل الذي يدخل الشخصية ليكون هو الشخصية. إنه يكيّف ذاته ويلج الدور ليقطن في الشخصية، وأثناء ذلك يقوم بتحويل نفسه، ليس جسمانياِ - كمظهر وانتحال حركي وصوتي - فحسب، بل أيضاً ذهنياً وروحياً، بحيث يبدو مختلقاً تماماً.
عند ممثل من نوع روبرت دي نيرو، يبلغ التحول مداه.. خارجياً جسمانياً وداخلياً روحياً، إذ يمتزج بالشخصية حتى يصبح هو الشخصية. وهو يمتلك طريقة فريدة في الإعداد والتحضير والغوص في أعماق الشخصية. والنتائج التي يتوصل إليها غالباً ما تكون مدهشة ومثيرة وصادقة.
إن دي نيرو، كما يقول الناقد جاك كرول (لا يمنحك الإيقاع التشكيلي، الطيّع والشخصي، للأداء البارع فحسب، بل أيضاً يقدم صدمة التحول، صدمة الإنسلاخ، التي يمكن ان تكون مثيرة أو محركة أو مخيفة...
لا يود، على الأرجح، ممثل يختفي ويتوارى داخل الشخصية مثلما يفعل دي نيرو، عندما ينتحل دوراً فإنه يسكنه كلياً الى حد أن الممثل نفسه يصبح خفياً ولا مرئياً. وهو لا يكشف آلية التحكم في خلقه للشخصية، كما أن تقنيته هي خفية وغير منظورة، والفروقات والتمايزات بين الممثل والدور تصبح غير واضحة وغير مدركة.
في حديث للمخرج هيكتور بابينكو عن أداء ميريل ستريب في فيلمه ironweed، يقول:
(ميريل ممثلة فذة. إنها تخلق شخصيتها عبر بحث عميق وشاق تقوم به بمفردها. الحقيقة أنك تعيش يوماً كاملاً مع امرأة تؤدي شخصيةٍ ما ولا تستطيع أبداً أن تميّز بين الممثلة والشخصية. حتى أنك لا تستطيع أن تتصل بها عبر المستوي العقلاني. بل يتعيّن عليك أن تقترب منها عبر مستوي مختلف. كنت ألمسها كثيراً، كأن أمسك ذراعها أو ألمس كتفها وأهمس في إذنها قائلاً لها ما ينبغي عمله، وكانت هي تستجيب شاعرةً بعدم ارتياح لأنها تكون آنذاك في حالة ذهنية حيث كل شيء يبدو كانتهاك..
هذه الخاصية توجد عند ممثلين آخرين، وإن بدرجات متفاوتة، ومن بينهم دانييل داي لويس الذي قال عنه فيليب كوفمان، مخرج فيلم (خفة الكائن التي لا تحتمل.: (لم يسبق لي العمل مع ممثل قادر أن يغمر نفسه كلياً في الدور مثل دانييل. في الأيام التي لم نكن نصور فيها، كان يأتي الى شقتي ويقضي ساعات وهو يدرس السيناريو وشخصيته مرات ومرات. إن كل ممثل يحاول أن يصبح الشخصية التي يمثلها، أن يتقمصها كلياً، لكن دانييل يمتلك قدرة غريبة على تحويل نفسه، الى حد أنني لم أكن قادراً على التمييز بينه وبين الشخصية..
يقول الناقد هال هينسون:
(ليس هناك ممثل استطاع أن يكشف ذاته، على نحو مباشر وقوي، أكثر من مارلون براندو. في دور بول آخر تانغو في باريس ينزع براندو، كما كان يفعل في السابق، الطبقات الأخيرة من الحيل والأدوات بين الممثل ودوره، ليخلق نوعاً من الواقعية التعبيرية التي هي ذاتية بشكل حاد، لكن رغم ذلك هو يتجاوز الذات، أو الخاص، ليكشف عن العام، براندو لا يستخدم الدور ليمحو ذاتيته الخاصة، مثلما يفعل روبرت دي نيرو. إنه حاضر في الدور ربما الى مدي جديد لم يسبقه إليه أحد، عبر أسلوب خاص ومتميز. براندو يندمج مع الشخصية في مستوي سيكولوجي عميق. وقوته لا تنبع فقط من براعته التقنية وقدراته الفنية، بل أيضاً الطريقة التي يضفي بها على الدور صفة ذاتية بحيث تتشابك وتتناغم تروس ذاتيته الخاصة مع تروس الشخصية: حين يدخل براندو في الدور، فإن هذا الدور ينشط تجربته الخاصة، وتشق قنوات نحو أفكار عاطفية تتقد وتلتهب ما إن تلامس السطح.
في فيلم (آخر تانغو.، براندو يحسّد نفسه في شخصية بول. ويبدو أن المخرج برتولوتشي قد تخيّل الشخصية بوصفها امتداداً لبراندو، والفيلم يعزّز معرفتنا به وشعورنا تجاه ما صار يرمز اليه بالنسبة للمتفرج. إن أجزاء من حياة براندو الخاصة والعامة، بالإضافة الى تداعياته وارتباطه بأدوار سينمائية سابقة، نجدها في شخصية بول.
حين يتذكر بول ما صادفه من إذلال أيام الكلية، فإن التذكر هنا يصبح جزءاً من ماضي براندو وبول في الوقت نفسه. إننا نعي حضور يضاعف ويوسّع فهمنا لشخصية بول.
الممثل والشخصية هنا متحدان في نفس الروح.
بيتر مانسو في كتابه (براندو.. سيرة حياة. يتحدث بشيء من التفصيل عن العلاقة بين براندو والمخرج بروتولوتشي أثناء العمل في فيلم (آخر تانغو.:
قبل الشروع في تصوير الفيلم، وقبل أن يقرأ براندو سيناريو الفيلم، طلب براندو من بروتولوتشي أن يتحدث عن الشخصية التي من المفترض أأن يمثلها. بروتولوتشي أمضي نصف الساعة الأولي في وصف الشخصية كما تخيلها ثم توقف على نحو مفاجئ وقال لبراندو: لنتحدث عن أنفسنا.. عن حياتنا وعلاقاتنا العاطفية، عن الجنس.. هذا ما سوف يدور حوله الفيلم.
اللقاء تحوّل الى جلسة تحليل نفسي استمر لمدة أسبوعين، حيث كان برتولوتشي يزور براندو في بيته كل يوم، ويتناقش معه حول حياته الجنسية، وخليفيته العائلية، إضافة الى الأهواء والإستحواذات والهواجس التي اكتشفها كل منهما في الآخر.
لقد استطاع برتولوتشي أن يخترق دفاعات أو حصون براندو المنيعة ليكتشف القوي الخارجة عن السيطرة والتحكم، الأكثر سريّة، والتي لا يعرفها غير أصدقاء براندو المقرّبين. وقد علّق برتولوتشي قائلاً: (ثمة عنصر من العنف الجامح، اللاعقلاني، يوجد بداخله. وإذا استطعت أن تلج عالمه، وتربط ما بين هذا الحدس والعنف، فإنه عندئذ يصبح متّقد الذهن على نحو لا يصدق..
عندما قدم برتولوتشي السيناريو الى براندو لقراءته، أكّد على ضرورة الارتجال في أغلب مشاهد الفيلم. ومن أجل أن يسبر قضايا العزلة واليأس والاستحواذ الجنسي من خلال الشخصية، فقد طلب برتولوتشي من براندو أن يتحدث عن ذكريات طفولته، عن مشاعره تجاه أبيه وأمه، عن تخيلاته الجنسية الأكثر عمقاً. وبراندو، على نحو استثنائي وملفت للنظر، بدأ منفتحاً وغير متحفظ أمامه، متذكراً سنواته المبكرة في بلدته اليبرتيفيل التي ولد فيها، صرامة وتزمت والده، إفراط أمه في تعاطي الكحول.
وبرتولوتشي كان يصغي باهتمام، والعديد من التفاصيل التي ذكرها براندو وجدت طريقها الى الفيلم. وقال برتولوتشي: (لقد أردت منه أن يسني شخصية بول ويتذكر نفسه وما يوجد بداخله. بالنسبة اليه، كان ذلك بمثابة منهج جديد تماماًَ. كان مفتوناً بالمجازفة، وفي الوقت نفسه، كان خائفاً من انتهاك خصوصيته. لقد كان رائعاً وشخصياً، كنت دائماً أقع في غرام الممثلين والممثلات.. خصوصاً براندو..
بعد أسبوعين من الجلسات اليومية، وافق براندو أن يمثل في القيام دون حتى أن يقرأ السيناريو، الذي كان موضوعاً على منضدته دون أن يُمس، منذ اللقاء الأول بينهما.
أثناء تصوير الفيلم، كان برتولوتشي أشبه بالطبيب النفساني الذي يرغب من ممثله أن يرتاد ويسبر ذاته. كان يريد منه أن ينتقي من مخزونه العاطفي، وعلي نحو تلقائي، يعيد خلق اللحظات المخبوءة، الخفية، لكي يوصل المأزق الوجودي للبطل، وألمه النفسي - الجنسي. وبهذه الطريقة، استطاع برتولوتشي أن يستل من مارلون براندو أصدق أداء له منذ فيلم ON THE Waterfront.
إن اهتمام برتولوتشي بالارتجال جعله يتيح لبراندو حرية التجريب والاختبار. ونتيجة انخراطهما المشترك في التحليل النفسي، فقد كان برتولوتشي بحيث براندو على فعل ما لم يفعله أبداً من قبل: مواجهة، والتعبير عن مخزونه العميق من الألم والغضب.
في مشهد المونولوج الذي يلقيه أمام جثة زوجته المنتحرة، رأي برتولوتشي أعماقاً جديدة واستثنائية. المشهد، كما هو مكتوب في السيناريو، كان موجعاً ومحركاً للمشاعر على نحو صادق. لكن براندو أضاف الى المشهد ألمه الخاص. فقد تذكر موت أمه التي حاولت الانتحار ذات مرة. لقد فرح براندو، في هذا المشهد، حبه وحزنه وغضبه وإحساسه بالخيانة. كان هناك تماثل مدهش بين مشاعر الشخصية تجاه زوجته ومشاعر براندو المتضاربة تجاه أمه. وكان هذا يتوافق مع ما يريده المخرج من ممثله، إذ يقول برتولوتشي: (عوضاً عن الدخول في الشخصية، فقد طلبت منه أن يركّب ذاته على الشخصية. لم أطلب منه شيئاً غير أن يكون نفسه..
إن كل تجارب براندو الحياتية انتقلت الى الفيلم. إنه براندو، وليس بول، الذي يتحدث عن نفسه، ومن خلال شخصية بول، كان يعبّر عن علاقته بأمه وأبيه وأبنائه وأصدقائه والنساء اللواتي أحبهن.
شيئاً فشيئاً منح براندو الفيلم كثافة وقوة لم يكن يتنبأ بها أحد، صار منغرساً تماماً في دوره، وأحياناً كان من ال صعب فصله عن شخصيته.
برتولوتشي كان يستحث براندو، بشدة وبقسوة، قبل تصوير المونولوج الذي يبوح فيه بماضيه ثم ينتحب بمرارة. لقد طلب منه أن يمضي مباشرة نحو اللب الفرويدي بذكرياته عن والديه.
في الليلة التي سبقت يوم التصوير، أبدي براندو تخوفه من المشهد، وارتاب في قدرته على التعبير بصدق وبعمق عن مشاعر ذاتية كهذه أمام الكاميرا، وأن مثل هذا البوح يقتضي شجاعة بالغة، وهو لا يعرف كيف ينفذ ذلك.
وعندما قال له برتولوتشي: (فكر في ذلك الكابوس الذي أخبرتني عنه بشأن أطفالك.. حدّق براندو فيه بغضب شديد، حتى أن برتولوتشي شعر بالخوف.. (لوحة ظننت بأنه سوف يقتلني.. لقد طلبت منه أن ينتهك ذاته الحميمة.. وكاد برتولوتشي أن يتراجع لولا أن براندو استدار معطياً ظهره له، مغمغماً: (حسناً، سوف أنقذ ما تريده..
في اليوم التالي، وأمام الكاميرا، ارتجل براندو مونولوجه الطويل، بصوت متقطع ومتلكئ، عن أبيه السكير، العنيف، الداعر، وإذلاله له، عن أمه الشاعرية، والتي كانت تفرط في الشراب الى حد أنهم ألقوا القبض عليها ذات مرة عندما خرجت عارية تماماً.
كن بوجاً صادقاً وصريحاً، لكنه كان أيضاً موجعاً الى درجة أنه، عندما أنهي مونولوجه، نهض ووجّه الى برتولوتش نظرة رهيبة، غريبة، ثم غادر دون أن ينبس، وقد علّق برتولوتشي على تلك اللحظة قائلاً: (لقد تكون لدي إحساس بأنه سوف لن يعود الى الموقع في اليوم التالي.. أظن أنه شعر برعب شديد، وبافتتان أيضاً، من تطفلنا على خصوصيته..
لكن براندو عاد في اليوم التالي، على الرغم من الألم النفسي الحاد الذي سبّبه الارتجال. وبعد الانتهاء من تصوير الفيلم، صرح براندو بأن برتولوتشي أرغمه على التمادي أكثر مما ينبغي، وقال: (سوف لن أعمل أبداً في فيلم كهذا. لأول مرة في حياتي أشعر بانتهاك للجزء الأعمق من ذاتي..
وقد كتبت الناقدة بولين كايل عن أداء براندو في هذا الفيلم، قائلة: (لقد حفر براندو عميقاً في ذاته، والتحم بالدور بطريقة لا يقدر عليها أي ممثل آخر. براندو، من خلال هذا الدور، بلغ بعداً جديداً في التمثيل السينمائي..
أشرنا، في موضع سابق، الى أن ثمة ممثلين لا يكتفون بقبول الدور المرسوم كما هو في النص، بل يحللون الشخصية من مختلف جوانبها، ويحاولون فهم واكتشاف منبعها، ماضيها، خلفيتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لغتها، حياتها العائلية، أسلوب حياتها، نوعية الملابس التي ترتديها، الأشياء التي تقتنيها، الأماكن التي ترتادها، حركاتها الميزة، طريقتها في الكلام، وجهات نظرها في أور عديدة، رغباتها، مخاوفها، دوافعها.
إنهم يقومون، قبل شهور من التصوير، بإجراء بحوث طويلة وشاقة في خلفية وطبيعة وسلوك وعلاقات الشخصية، ودراسة أشكالها الجسمانية وإيماءاتها وأصواتها. ويوجهون عنايتهم الى أصغر وأدق مظاهر الشخصية، ويطرحون الكثير من الأسئلة حول مختلف هذه المظاهر للوصول الى دواخل وأعماق الشخصية.
لكل ممثل طريقته الخاصة في التحضير للدور، وإعداد نفسه لتجسيد الشخصية وفق متطلبات الدور:
مارلون براندو، كجزء من تحضيره لدوره في أول أفلامه The Men 1950، أمضي ثلاثة أسابيع في جناح مستشفي خاص بالمعاقين والمشلولين.، حسب ما يقول مخرج الفيلم فرد زينيمان: لقد عاش مع أولئك المرضي بحيث لم يكتف بمحاكاة حركاتهم فحسب، بل تمكن من فهمهم على نحو عميق جداً حتى صاروا مولعين به. لقد تعلم كيف يتماهى مع مشاكلهم، وهذا ساعده في تقديم أداء ممتاز.
ومن أجل دوره في فيلم ON The Waterfront، تدرب براندو على الملاكمة على يد ملاكم معتزل.
موننتجومري كليفت، من أجل دوره كجندي في فيلم Young Lions إتبع نظام (ريجيم.
قاس، وأنقص وزنه حتى بدا نحيلاً جداً.
آل باشينو، من أجل دوره في Panic in Needle Park، حيث يؤدي شخصية متعاطي ومروّج للمخدرات، إلتقى بعدد من المدمنين ليدرس سلوكهم ومشاعرهم وأفكارهم.
ومن أجل دوره في (الأب الروحي. إلتقى سراً بعدد من رجال المافيا، ومن أجل دوره في (سربيكو. أمضي عدة أيام مع الشخصية الحقيقية التي يمثلها.. الشرطي الذي وشي بزملائه في حملة لمكافحة الفساد في أوساط الشرطة. ومن أجل دوره في فيلم (العدالة فوق الجميع. عمل مع عدد من المحامين في قضايا متنوعة.
ميكي رورني، من أجل دوره كشرطي عنيف يسعى الى تطهير الحي الصيني من رجال العصابات في فيلم The Year of The Dragon، المستمد من تجارب الشرطي ستانلي وايت، فقد رافق رجال الشرطة في دورياتها ومداهماتها. ويقول ميكي: (لقد أمضيت ثلاثة شهور مع ستانلي وايت، رئيس قسم الشرطة في لوس أنجيليس، ومعه شهدت قضية جنائية حقيقية. كان يتصل بي في الثالثة أو الرابعة صباحاً، فأذهب الى موقع الجريمة لأراقب الطريقة التي يتصرف بها. بعد الجريمة السابعة، صرت معتاداً على رؤية تلك الحوادث. الشيء الوحيد الذي لم أستطع احتماله هو عمليات تشريح الجثث حيث الاستخفاف التام بالروح البشرية..
ميريل ستريب تتحول جسمانياً بزيادة أو تخفيف وزنها، وتسعي اي إتقان اللهجة أو اللكنة التي تتحدث بها الشخصية، إضافة الى قراءة كل ما يتعلق بالشخصية إذا كانت واقعية وبمرحلتها.
بن كينجسلي، الذي أدي شخصية غاندي بصدق وإقناع، يقول: (أمضيت تسعة أسابيع في الهند قبل الشروع في التصوير، وقبل وصول العاملين في الفيلم. كان يتعيّن على أن أبدو مثل الهنود، فالمكياج سوف لن يبدو مقنعاً بالنسبة للون البشرة، إضافة الى أن غاندي لم يكن يرتدي غير مئزر. والمعضلة الأخرى كانت الوزن. كان لا بد من إنقاص وزني، لذا اعتمدت نظاماً غذائياً صارماً يعتمد كلياً على الخضروات. وكان يتعيّن على أيضاً أن أخفض حوالي 71 رطلاً من وزني لأجسّد حالة غاندي الجسمانية في الفترات التي يصوم فيها عن الأكل ويكتفي بشرب الماء الممزوج بالليمون. ومن أجل التحضير للدور، قرأت كل ما عثرت عليه من كتب عن حياة غاندي، ولحسن الحظ توفرت لدي الكثير من الكتب عنه، إضافة الى كتاباته الخاصة والجرائد التي نشر فيها مقالاته.
الممثل الإيطالي جيان ماريا فولونتي يقول: (بوجه عام، أنا أطوّر شخصياتي على غرار المحقق الذي يجمع كل الوثائق الممكنة عن القضية التي تثير اهتمامه. إن تحضيري، إذن، يتم على المستوي الصحفي أكثر من الدرامي، واستخدم المادة ذاتها التي يجمعها الكاتب ويوظفها لبناء موضوعه. لقد اتبعت هذا المنهج، على سبيل المثال، في خلق شخصية مفتش الشرطة في فيلم التحقيق مع مواطن فوق الشبهات.. طريقة مشيته، مواقفه، لغته، وحتى الطريقة التي يمشط بها شعره والتي تتوافق مع عادة معينة في إيطاليا، المرحلة التالية هي نوع من التحضير النقدي، التحليلي، للشخصية، لسيكولوجيتها، لتحديد الموقف العام الذي يجب أن اتخذه في الفيلم. بعدئذ تأتي العلاقة الجدلية الطبيعية بين الممثل والمخرج.. نجلس معاً ونتحدث حتى نصل الى رؤية مشتركة للمعضلة التي نريد حلها، ومن المفهوم أن الكلمة الأخيرة هي للمخرج دائماً.
تيموثي هوتون، من أجل دوره في أول أفلامه 1980 ordinary، قام بزيارات عديدة لمختلف المصحات النفسية الخاصة بالشباب.. وكانت تجربة مروّعة- على حد تعبيره - لكنها ساعدته في فهم المشاكل التي تواجهها شخصيته في الفيلم. ومن أجل دوره كطالب في كلية حربية، في فيلم Taps، حلق شعر رأسه وأمضي شهرين في أكاديمية عسكرية، حيث صور الفيلم، متبعاً التعاليم العسكرية في التدريب والسلوك والانضباط اليومي، كما قرأ الكثير من الكتب عن الحياة العسكرية. ومن أجل دوره كمتخصص في الأنثروبولوجيا، في فيلم iceman، فقد شارك في دورة دراسية في الأنثروبولوجيا، وتعلم التكلم بإحدى لغات الإسكيمو. ومن أجل دوره كجاسوس أمريكي يعمل لصالح السوفييت في فيلم The Falcon and The Snowman، قرأ الكثير عن القضية وعن الشخصية الواقعية التي يؤديها، وزار الجاسوس الذي كان تحت حراسة مشددة في السجن الفيدرالي ليطلع على وجهات نظره، كما أمضي شهرين وهو يدرس ويتعلم كيفية تدريب الصقور.
الممثل الألماني برونو جانز أدي في فيلم (سكين في الرأس. شخصية رجل يصاب برصاصة في رأسه فيفقد القدرة على النطق والتذكر، ويبدأ من الصغر في محاولة تعلم اللغة والحركة والتعرف على الأشياء. يقول برونو جانز: (أمضيت أسبوعين في مستشفي بيمونيخ وأنا أرصد 18 مريضاً جميعهم كانوا يعانون من السكتة الدماغية. فكرت بأنه لا يتعيّن على أن أخترع شيئاً، وأن على ببساطة أن ألاحظ وأرصد كيف يتحرك هؤلاء الأشخاص، وما الذي يجري أثناء دروس اللغة، وكيف يتحدث بعضهم الى بعض.
من أجل دورها في فيلم (فرانسيس.، التي أدت فيه شخصية فرانسيس فارمر، الممثلة التي برزت في الثلاثينات من القرن الماضي، قامت جيسيكا لانج بالتحضير للدور قبل ستة أشهر من البدء في تصوير الفيلم، حيث شاهدت كل أفلام فرانسس، وقرأت كل ما كتب عنها أو عن تلك المرحلة ليساعده ذلك في الاقتراب أكثر من حقيقة الشخصية.
يتم روبنز، من أجل دوره كسجين في فيلم The Shawshank Redemption، وجد أنه من الضروري القيام ببحوث عديدة من ضمنها قضاء بعض الوقت، وعلي نحو طوعي، في الحبس الانفرادي.. يقول تيم. (مفتاح تمثيل هو المخيلة الخصبة. والسبب الأساسي الذي جعلني ألجأ الى الحبس الانفرادي هو أن أغذّي تلك المخيلة، وأمنح نفسي مفاتيح لمعرفة هذا الرجل الذي أمثله. أنا لا أزعم بأن تجربتي في الحبس كانت مدمرة نفسياً أو مقلقة بعمق، فقد كنت أعرف دائماً أنني سوف أخرج وقتما أشاء. كنت هناك كراصد.. لأسمع الأصوات وما يقوله الأفراد هناك، ولكي أحصل على الإحساس بالمكان.
جلين كلوز، تقول عن دورها في فيلم Fatal Attraction: (لم أكن أريد أن تكون لدي أفكار متصورة سلفاً بشأن ما سوف تفعله الشخصية في مشاهد معينة. لقد قمت ببحث واسع وعميق مع الأطباء النفسانيين عن سلوك الشخصية وما قد يخطر في ذهنها على مستوي الوعي وما دون الوعي. أظن أن أحد التحديات الكبيرة في الفيلم هو أن هناك العديد من الوسائل الفعالة لتنفيذ المشهد، وكلما جعلت نفسك منفتحاً أكثر، باحثاً أكثر، سيمتلك المخرج ذخيرة أكبر عندما يبدأ العمل في المونتاج..
دانييل داي لويس، من أجل دوره في فيلم (قدمي اليسر(، حيث أدي شخصية الكاتب الايرلندي المعوق كريستي براون، أمضي ثمانية أسابيع في مستشفي للمعاقين، حيث كان يراقب المرضي وهم يحاولون قهر المشاكل المفروضة عليهم من جراء إصابتهم بالشلل المخي. كما تعلّم الكتابة والرسم بقدمه اليسرى.
جاري أولدمان، من أجل دوره في فيلم (دراكيولا.، تدرّب على المبارزة بالسيف وأراد أن يوجد للشخصية لكنة مميزة بالتعاون مع مدرس متخصص في اللغات. ومن أجل دور لي هافي أوزوالد، المتهم باغتيال جون كيندي، في فيلم JFK، أمضي ثلاثة أسابيع مع مدرس لغة روسية.
جنيفر جاسو لي، من أجل دورها في فيلم Single White Female أمضت شهوراً وهي تجري لقاءات مع أطباء ومرضي في المصحات النفسية.
جوني ديب، الذي أدي شخصية جو بيستوني في فيلم (دوني براسكو.، وهي شخصية واقعية، من أجل معايشة هذا الدور - يميل المباحث الفيدرالية الذي إندس وسط المافيا كأحد أفرادها لتفكيك الحلقة الإجرامية والإيقاع بهم - قام جوني ديب بالاتصال برجال المافيا، والانخراط في أوساطهم، لدراسة سلوكهم وأساليب حياتهم. كذلك أمضي وقتاً طويلاً مع بيستوني نفسه.
في السينما العربية نجد قلة من الممثلين والممثلات الذين يلجأون الى التحضير لأدوارهم، مثل فاتن حمامه، أحمد زكي، نور الشريف. ففي حالة فاتن حمامه، نعلم بأنها عاشت يوماً مع بائعات اليانصيب من أجل دورها في فيلم (اليتيمتان.. و،من أجل دور الفتاة الريفية في (دعاء الكروان. إنتقلت الى الفيوم لتعيش في العشش كما البطلة. كذلك عاشت أياماً مع عمال التراحيل من أجل دورها في (الحرام..
تقول فاتن حمامه: (أحب الشخصية التي تجعلني أبحث وأنقّب وأدرس وأعايش، وأبذل جهداً مضاعفاً في الأداء. أما إذا مثلت شخصية سيرة مجتمع أو أم عصرية فهذا ليس صعباً لأني أعايشه أو أعيش فيه بالفعل، ولذا أعتمد فقط على توصيل الإحساس بالشخصية التي أمثلها الى المتفرج..
القائمة تطول، وما ذكرناه مجرد أمثلة لتوضيح الأساليب والطرائق المختلفة والمتنوعة التي يتبعها كل ممثل في التحضير لدوره في سبيل إعطاء مصداقية وموثوقية للشخصيات التي يجسدها على الشاشة.
يقيناً لا يوجد ممثل يهيئ نفسه ويحولها، ويقوم بسلسلة شاقة من البحث والتحضير لأي دور، على نحو دؤوب، وصارم أحياناً، مثلما يفعل روبرت دي نيرو.
قلة من الممثلين لديهم الاستعداد والقابلية، عبر التفاني والتكريس والإعتناء، على تجاوز الذات وبذل الجهود المضنية، مثلما يفعل دي نيرو، في سبيل الاقتراب الجسماني والذهني من أية شخصية يؤديها. فمن أجل تقمص شخصية ما، يضحّي بمظهره الخارجي ويخضع نفسه للتحوّل. إنه يسكن الشخصية كلياً الى الدرجة التي يختفي فيها الممثل ويصبح خفياً ولا مرئياً، تاركاً للشخصية حرية احتلاله وامتلاكه. يصير هو الشخصية التي يؤديها، منتحلاً بذلك كل خواصها وطبائعها وتصرفاتها وحركاتها ولغتها، سواء أكانت واقعية أم متخيلة. إنه يكرّس كل وقته - قبل التصوير - لتحليل الشخصية، ودراسة واستيعاب كل ما يتصل بها: الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، المهنة، الأدوات، اللهجات والنبرات، المواقع، الملابس، المظهر، كل التفاصيل، حتى الصغيرة والتي تبدو غير ذات أهمية، تخضع للمعاينة والدراسة.
يقول دي نيرو: (البحث الذي أقوم به باستمرار هو أكثر مشقة من التمثيل، ويستغرق وقتاً أطول، لكن ذلك يستحق العناء بالتأكيد. لا أعرف ما الذي يتعيّن على أن أفعله لو قبلت دوراً لا يتطلب بحثاً وتحضيراً، بل يحتاج مني فقط أن أخطو نحوه وأكون الشخصية..
إن ما يجريه من بحوث ودراسات في الشخصيات التي يؤديها هي ظاهرة بحد ذاتها في عالم التمثيل السينمائي، ويبرر دي نيرو ذلك بقوله:
(لا شيء أكثر إزعاجاً، بالنسبة لي، من مشاهدة ممثل وهو يؤدي من خلال أناه ego أو يمثل ذاته. بعض نجوم الأمس كانوا رائعين لكنهم كانوا يضفون سمات رومانسية على أدائهم. أنا أريد أن أجعل الأشياء متماسكة وحقيقية، وأن أحطم الوهم الذي تخلقه الأفلام. ليس ثمة ما هو أكثر تهكمية أو غرابة أو تناقضاً من الحياة نفسها. ما أحاول أن أفعله هو أن أجعل الأشياء واضحة وصادقة قدر الإمكان.
لقد كان دي نيرو يهتم بالإعداد والتحضير للدور منذ بداياته. يقول المخرج بريان دي بالما، الذي أخرج أفلام دي نيرو الثلاثة الأولي:
(ذات مرة، ونحن نعمل في فيلم Greetings، جاء الى الموقع لتصوير أحد المشاهد، فلم أستطع التعرّف عليه. كان دوره يقتضي أن يختفي بعد التحاقه بالجيش ثم يعود ثانية. لم يكن ذلك بسبب المكياج والملابس فقط، بل أكثر من ذلك.. لقد سكن داخل الشخصية وأصبح مختلفاً جسمانياً.
ومن أجل دوره الثانوي في 1968 Bllody Mama، الذي يؤدي فيه دور الشاب السادي المتعاطي للمخدرات، انتقل بسيارته القديمة الى أركنساس ليسجل - على أشرطة - أنماط الكلام هناك. كم أنقص حوالي 30 رطلاً من وزنه خلال ثلاثة شهور بحيث بدا نحيفاً جداً.
ومن أجل دوره كلاعب بيسبول على وشك الموت بسبب إصابته بمرض لا شفاء مننه في فيلم 1972 Bang The drum Slowly فقد ذهب الى جورجيا، وقام بتسجيل محادثات السكان المحليين لالتقاط اللكنة والنبرة، وأمضي أسابيع وهو يرصد تقنيات لاعبي البيسيول، كما أتقن مظاهر عديدة من لعبة البيسبول التي تدرب عليها. كذلك أرغم نفسه على مضغ التبغ، وهي العادة التي كان يمقتها لكنه وجد بأنها ضرورية.
وعن هذا الدور، يقول دي نيرو: (أظن أن الطريقة التي تبدو فيها، من حيث الهيئة والمظهر، تتصل كثيراً بطريقتك في الأداء. لهذا السبب أبدأ بالبحث عن مظهر الشخصية. عندما أسند الى هذا الدور، ذهبت الى بلدة صغيرة في جورجيا، حاملاً معي جهاز التسجيل. وهناك وجدت متجراً قديماً منه اشتريت ملابس من النوعية التي قد يرتديها شخص مثل الذي أمثله. ثم بدأت أعاين طريقته في الكلام. أهالي البلدة كانوا في غاية اللطف، ولم يمانعوا من محاكاتي لطريقتهم في الكلام بل ساعدوني في ذلك، وراجعوا معي السيناريو كله. ثم رحت أراقب السمات التي بإمكاني توظيفها. بعد فترة بدأت أتحرك وأشعر مثل الشخصية. وحين عدت، أخذت أتدرب على لعبة البيسبول لمدة شهر تقريباً، كما حرصت على مشاهدة مباريات البيسبول في التلفزيون ومراقبة اللاعبين..
ومن أجل دوره في (الأب الروحي - الجزء الثاني. ذهب الى جنوب إيطاليا وتعلم اللهجه الصقلية. كذلك درس وتأمل أداء مارلون براندو في الجزء الأول، بما أنه يؤدي شخصية ذاتها وهو شاب.
يقول دي نيرو: (قبل تسعة أشهر من تصوير الفيلم، ذهبت الى صقلية لملاحظة الناس ورصد سلوكهم، حركات أجسادهم، تعابير وجوههم، وطريقتهم في الكلام. كنت أسجل المحادثات الاعتيادية، التي تدور حولي، لكي أدرسها ليلاً في غرفتي بالفندق. وأعتقد أن الأمر كان يستحق هذا العناء، فأنت كممثل تسعي الى تكثيف وإضاءة سلوك الشخصية، لكن في الوقت نفسه، ينبغي أن تجلها مثيرة للاهتمام..
ومن أجل دوره في فيلم (سائق التاكسي. حصل على رخصة لقيادة سيارة الأجرة، وأمضي أسبوعين وهو يسوق السيارة في شوارع نيويورك، وقد نجح في إخفاء هويته.
ويقال أن أحداً لم يتعرّف عليه غير ممثل منحه بقشيشاً معتقداً أنه يمر بأوقات عصيبة. ومرةً أعطته إحدى المومسات بقشيشاً لأنه أقل سائقي الأجرة ثرثرةً.
يقول دي نيرو: (يجب أن تواظب على التدريب والممارسة، وهذا متعب جداً، لكنك إذا لم تفعل ذلك فإنك لن تعرف مادتك، ولن تظهر بشكل طبيعي. الناس لا ينظرون الى الممثلين بجدية، وهذا الخطأ يعود - جزئياً - الى الممثلين أنفسهم الذين لا يفعلون غير تمثيل النمط، والاقتراب من النموذج دون التعمق فيه. يجب أن تصبح جسمانياً وذهنياً، ذلك الشخص الذي تصوره.. أن تتحوّل فيه وتسكنه.
ون أجل دوره في فيلم (نيويورك نيويورك. تعلّم العزف على آلة الساكسفون، بطريقة استحواذية، وأجاد العزف بطبيعية مدهشة بحيث صارت الآلة جزءاً منه..
يقول دي نيرو: (لا يمكنني أن أكون في براعة ذلك العازف، الذي أمضي سنوات طويلة من حياته وهو يعزف وينمّي موهبته ويصقله، لكنني أستطيع أن أخلق الإيهام بالعزف.. والذي هو عملي كممثل. إن طريقة التعبير الموسيقية تشبه كثيراً إيقاع وطريقة تعبير الممثل. وحين كنت أودي العزف المنفرد، كنت أشعر بتحكم تام. إنه شيء معقد لكنني تدربت كثيراً.
ومن أجل دوره في فيلم The Deer hunter ستة أسابيع يسجل أنماط الكلام ويدوّن أسلوب حياة عمال مصنع الصلب..
يقول دي نيرو: (لقد تحدثت معهم، شربت وأكلت معهم، ولعبت معهم البلياردو. كنت أحاول أن أكون مثل أي عامل منهم، حتى أنني أردت أن أعمل في المصنع لكنهم لم يدعوني أفعل ذلك. إنك هنا تمارس أسلوب حياة الشخص. وكممثل، يتعيّن عليك أن تصبح ذلك الشخص الذي تمثّله..
ومن أجل دوره في فيلم (ملك الكوميديا. أمضي شهوراً وهو يرتاد النوادي الليلية لمشاهدة ودراسة أساليب الهزليين الذين يرفّهون عن الرواد بإلقاء النكت والدعابات والتعليقات المضحكة. كان يتأمل ويدرس إيقاعاتهم في الإلقاء، وفي الإيماءات.
وممن أجل دوره في فيلم Raging Bull، تدرّب شهوراً على الملاكمة على يد الملاكم السابق جاك لاموتا، الذي يمثل شخصية في الفيلم، وسجّل لقاءات معه ومع عائلته ومنافسيه. وعندما تطلب منه الدور أن يكون سميناً، في الجزء الأخير من الفيلم، ضاعف دي نيرو من وزنه 60 رطلاً.
وفيما يتعلق بدوره في فيلم Midnight Run، يقول دي نيرو: (التقيت بعدد من صائدي المكافآت المعروفين في أمريكا والذين مهمتهم ملاحقة المطلوبين الى العدالة وتسليمهم الى السلطات لقاء مكافأة مالية. لقد خرجت معهم أثناء تأديتهم مهماتهم. كما أمضيت بعض الوقت مع رجال التحري أيضاً. كنا نقضي وقتاً طويلاً في انتظار اللحظات الدراماتيكية والتي هي قليلة وفي فترات متباعدة. إن عمل هؤلاء محفوف بالمخاطر، لكننا أنا والمخرج مارتن بريست - عايشنا خطراً أكبر مع الشرطة حين رافقناهم أثناء مداهمة وكر يستخدم في ترويج المخدرات. كسروا الباب واقتحموا المكان. الذين بالداخل هربوا من النوافذ. ونحن كنا في الخلفية بسترات واقية من الرصاص، وورقة موقعة منا تحلّ الشطرة من تبعة حدوث أي مكروه لنا.
من أجل دوره الثانوي في The Untouchable زاد من وزنه 25 رطلاً، وشاهد الأشرطة الإخبارية التي تصور رجل العصابات آل كابوني وقرأ ما كتب عنه.
يقول دي نيرو: (بإمكانك أن تحصل على الكثير من خلال مطالعتك للصور الفوتوغرافية التي التقطت لآل كابوني. لقد شاهدت كل الأفلام التي صُنعت عنه، وبعد ذلك أديت الشخصية اعتمادا على حدسي، المعروف عن كابوني أنه ان عنيفاً وضخماً، لذا فقد كان على أن أزيد وزني. كان بإمكاني الإيحاء بالضخامة أو السمنة من خلال الملابس، لكنن ماذا عن وجهي؟
وعن دوره في Arrgel Heart، يقول المخرج ألان باركر:
(دي نيرو لم يترك مظهراً من الشخصية دون أن يختبره ويدرسه بدقة، من الشكل الخارجي الأظافر، العينين، الشعر الى تفاصيل الشخصية الأخرى. إن اقترابه من الشخصية كان جسمانياً وفكرياً معاً، لم ألتق في حياتي بممثل يكرّس نفسه للدور مثلما يفعل دي نيرو.. رغم أن دوره كان صغيراً..
ومن أجل التحضير لدور المريض المصاب بمرض نادر يتصل بالجهاز العصبي ويجعله في حالة إغماء تخشبي، في فيلم Awakkenings، إلتقي دي نيرو بعددٍ من أولئك الذين تم إنقاذهم من ذلك المرض. وعندما علم بأن هناك تسعة أشخاص في لندن لا يزالون يعانون من المرض نفسه، فق سافر الى لندن على نفقته الخاصة، وأمضي أياماً معهم وهو يرصدهم في حالات النوم واليقظة والجمود، والانقطاع عن الحركة والفعل والكلام، محاولاً أن يخترق أذواقهم ليسبر مشاعرهم المستعصية على الإمساك والفهم.
يقول دي نيرو: (لا أستطيع أن أزيّف التمثيل. أعرف أن الأفلام تتعامل مع الوهم، والقانون الأول هو أن تتظاهر بالتمثيل، لكنني شخصياً لا أستطيع أن أفعل ذلك. لدي فضول وحب استطلاع. وأرغب في التعامل مع كل مظاهر وأوجه الشخصية..
ليس كل ممثل يلجأ الى التحضير والبحث بالطريقة التي يفعلها دي نيرو وآخرون، فثمة ممثلون يجسدون الشخصيات بطريقة مباشرة وغير معقدة، مع ذلك نحس بالصدق في أدائهم، ويظهرون قدرة عالية على فهم الشخصية وتوصيلها ببراعة وإقناع.
وآخرون يعايشون الأدوار لكن دون القيام بتحريات أو عمليات استقصاء سيكولوجي بشأن الشخصيات، بل يعتمدون على الخبرة والغريزة والحدس.
جيرمي آيرونز: (أنا لا أحضّر للدور، إنما أحاول أن أجنّحه، أن أساعده على التحليق. أحاول أن أعرف الكثير عن الشخصية وعن المرحلة..
لينو فينتتورا: (أنا لا أحضّر للدور على الإطلاق. إني أقرأ السيناريو ملياً، وإذا أعجبتني القصة ووجدت خيطاً من التماثل مع الشخصية، فهذا يكون كافياً. لست بحاجة الى من ذلك التعامل، أو الاتصال السيكولوجي الغامض، لتأدية دور ما. لا أشعر بالحاجة الى ذلك النوع من التحضير. إذا لم أجد تماثلاً مع الشخصية فإن أحداً لن يستطيع إقناعي بتأديتها حتى لو دفع لي مبالغ طائلة.
سيتفانيا ساندريللي: (أميل الى إعادة خلق ما يتخيله الآخرون عني، وأحاول أن أعيش كل دور مع المخرج. هذا ليس تحضيراً سيكولوجياً على طريقة روبرت دي نيرو.
من المضجر بالنسبة لي أن أقول بتحريات، أو عملية استقصاء، بشأن الشخصية التي أمثلها..
أوجو تونيازي: (أحب آن تمضي شخصياتي الى الحد الأقصى. إني لا أقوم بتحضيرات أكاديمية من أجل الدور، بل ألج نفسيه شخصياتي بسهولة.. جسمانياً وغريزياً..
مارشيلو ماستروياني: (الممثل، بطبيعته، مخلوق عجيب. إنه قادر على تغيير ذواته وانتحال شخصياته مختلفة. إذا لم تكن تعرف كيف تفعل ذلك، فمن الأفضل أن تغيّر مهنتك. أظن أنه من المضحك الاعتقاد بأنك، لكي تؤدي دور ملاكم أو سائق تاكسي، يجب أن تقضي شهوراً طويلة حياة السائق أو الملاكم. هل يتعين على الممثل، لكي يؤدي دور رجل مجنون، أن يذهب الى مصح عقلي لدراسة الشخصية المضطربة عقلياً؟ أنا لا أؤمن بهذه الطريقة، لا أميل إليها، أنها تبدو أشبه بالمحاكاة. إذا كانت الشخصية تتسم بالجنون، فسوف يتبدى ذلك للعيان، والشخصية ستكون قادرة على استخدامي.. سأكون الوسيلة التي من خلالها تعبّر الشخصية عن جنونها. ألا توجد بداخلنا جميعاً مسحة طفيفة من الجنون؟.
جان لوي ترينتينان: (لتأدية شخصية المحقق في فيلم z، رحت أفكر في الشخصية، وأحاول أن أكونها عبر التفاصيل الصغيرة والدقيقة في حياتي اليومية. في الصباح، حين أنظف أسناني بالفرشاة، أتساءل كيف ينظف المحقق أسنانه. وعندما أجلس الى المائدة لتناول الغداء، أتساءل كيف يأكل المحقق تفاحة. إني أحاول أن أجد الشخصية في تعدّد التفاصيل المادية والجسمانية. وأنا لا أحضّر للحالات المحددة التي سوف أديها أثناء التصوير. أريد أن أكون منفتحاً تماماً على توجيهات المخرج حين أصل الى الموقع.
إني لا أرغب في امتلاك أي أفكار مسبقة.
ليف أولمان: (عاطفياً، أنا لا أحضّر للدور. إني أفكر فحسب في ما أرغب في عرضه، لأنني أشعر بأن أغلب العواطف التي يتعيّن على إظهارها قد اختبرتها من قبل. بالاعتماد على التجربة الواقعية، أستطيع التعبير عن أي إحساس أو عاطفة..
أما أنتوني هوبكنز، فبالرغم من أنه يحرص على الإحاطة بمختلف جوانب الشخصية من خلال قراءة كل الكتب المتعلقة بالشخصية، إذا كانت واقعية، كما فعل من أجل دوره في فيلم (نيكسون.، حيث أمضي وقتاً طويلاً في مشاهدة الأشرطة الوثائقية عن الرئيس الأمريكي، وقراءة العديد من الكتب عنه، وإجرائه لسلسلة من اللقاءات مع أولئك الذين عرفوا نيكسون عن قرب، إضافة الى استعانته بمدرب صوت لإتقان اللكنة والنبرات، إلا أنه يقول: (عادة لا أقوم بالتحضير للدور بهذه الطريقة، بل أكتفي بقراءة السيناريو، أحفظ الحوارات، ثم أنفذ الدور..
ومع أن المخرج والممثل رومان بولانسكي لا يعارض التحضير، إلا أنه يميل الى البدائل الأخرى التي تساهم في خلق البناء العاطفي من خلال الأفعال المادية.
يقول بولانسكي: (الإعداد والتحضير المكثف والمجهد، الذي يمارسه ممثلو المنهج Method، لا يشكّل عائقاً أمام المثل، بل هو شيء مساعد لأنه يعلّم الممثل كيف يكتشف الأشياء التي يمتلكها الآخرون غريزياً: القدرة على التحول الى كائن آخر، شخصية أخري. القدرة على أن يصبح شخصاً آخر، ويمارس أشياء أخري، متبعاً نمطاً مختلفاً من السلوك غير ذلك السلوك الذي نشأ عليه. لكن هذا التحضير يمكن استبداله بشيء آخر. يقول ستانيسلافسكي بأنك إذا أردت أن تقوم بحركة ما، كأن تضرب الطاولة بقبضة يدك في غضب، فإنه يتعيّن عليك أن تركّز، أن تبني، أو توجد على نحو تدريجي، هذا الغضب في داخلك. عندئذ تأتي تلك اللحظة التي سوف تجعلك، على نحو تلقائي، تكوّر قبضتك وتضرب الطاولة. لكن الروسي الآخر، فاخفتا بخوف، لاحظ بأنك إذا أطبقت قبضتك بإحكام وضربت الطاولة، فإن هذا الفعل سوف ينمّي بداخلك انفعالات مشابهة دون أي بناء. إذن، كلتا الطريقتين تؤديان الغرض بنجاح.. إنه نوع من الاستجابة السايكوسوماتية الناشئة عن التفاعل بين الظواهر الجسدية والظواهر النفسية. حاول فقط أن تكوّر قبضتك، وتضرب بها الطاولة بقوة شديد، وسوف تري بأن شيئاً ما يحدث لك، لانفعالاتك. هذا الفعل المادي، الجسماني، هو الذي يسبّب ذلك، وهو مجرد إحدى الطرق لخلق بناء عاطفي..التحوّل ليس عملية سهلة وسريعة، فالممثل لا يملك أداة سحرية يمكن بواسطتها تغيير الشخصيات متي وكيف يشاء. إن التحوّل، وما يقتضيه بالضرورة من انسلاخ وتقمص واندماج ومعايشة، يثير تساؤلاً حول مدي تأثيره من الناحية السيكولوجية على الممثل نفسه.. هل يمكن أن يقوم بهذه المهمة دون أن يترك ذلك أثراً في سلوكه، ودون أن يحرّك شيئاً في نفسيته؟ هل ثمة حالة من الشيزوفينيا الفصام في تقمص الممثل للدور، في عدم التمييز بين الذات والدور الشخصية؟
من المؤكد أن الممثل يملك القدرة على الانفصال عن الشخصية، لكنه أيضاً يتأثر بها إذا كانت معايشته للدور عميقة واستحواذية، وإذا امتصت ذات الممثل الشخصية التي تؤديها، عندئذ قد يتعرض الممثل لحالة من الازدواجية الواعية بسبب سطوة وهيمنة الشخصية واستبداديتها. إن مظاهر من شخصياتهم تظل عالقة، ولا تختفي أو تتلاشي، حال انتهاء التصوير. ثمة شظايا من الشخصية تبقي عالقة في ذات الممثل، في تصرفاته وكلامه، ولا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة. لا شك، إذن، أن عملية التحول تزهق وتستنزف الكثير من ذات الممثل.
في الفيلم السويسري - الفرنسي (غازلة الدانتيلا. أدت إيزابيل أوبير دور ا لفتاة الخجولة، الساذجة، الهشة، المتوحدة مع ذاتها. وقد أدي انغمارها في الدور، وبلوغها درجة عالية من التعايش والتماهي، الى إحداث تأثير كبير على شخصيتها الحقيقية.
تقول ايزابيل: (لمدة شهر أو شهرين، بعد انتهائي من تصوير الفيلم، كنت غير قادرة على التمييز بين الواقع والخيال. كنت في حالة تذبذب. وهذا الشعور أرعبني. لكن بعد أن شاهدت الفيلم بدأت أتحرر، وصرت أدرك بأنه مجرد فيلم.
الأمر ذاته يحدث، بشكل أو بآخر، مع ممثلين آخرين..
كلاوس كينسكي: (في نهاية كل يوم، عند تصوير عمل ما، أحس بالشيء ذاته.. إنهاك تام. حتى لو صورت مشهداً واحداً فقط في ذلك اليوم، أو لقطة واحدة، أو كان على أن انتظر ساعات طويلة لأسباب تقنية، فإنني أكون منهكاً ومستنزفاً... ذلك لأنني أصبح، طوال فترة تصوير الفيلم. ذلك الشخص الذي يتعين على أن أجسّده. إنني أتحوّل الى تلك الشخصية ذاتها، المستبدة، التي تنبض بالحياة في داخلي، سواء عندما أواجه الكاميرا أو أبتعد عنها. إنك في هذه الحالة، تفقد القدرة على ممارسة الأشياء التي كنت تمارسها بشكل طبيعي في حياتك العادية.. شخص ما عليه أن يأتي ليخبرك بأن موعد تناولك الغداء قد حان، أما الأكل كفعل إرادي وواعٍ فإنه يزول، لأنك عندئذ لا تكون راغباً فيه. وربما تكون قد دوّنت في الصباح قائمةً بالمكالمات الهاتفية المهمة جداً والتي يجب أن تجريها في ذلك اليوم، إن وجدت وقتاً لذلك، لكنك لن تجري تلك المكالمات حتى لو اضطررت للتسكع ساعات في موقع التصوير منتظراً البدء في العمل.. لأنك وقتئذ تكون أشبه بالمشلول، عاجزاً عن فعل أي شيء آخر. لقد وهبت نفسك لذلك الكائن الذي تمثله، والذي احتل عقلك وجسدك...
جلين كلوز: (دوري في فيلم Fatal Attraction جعلني أشعر عملياً بأنني مصابة بالشيزوفرينيا. بعد أن أسند لي الدور، التقيت بعدد من الأطباء النفسانيين من أجل بناء تاريخ نفسي كامل للشخصية.. المرأة العصرية المشوشة. شعرت بأن ذلك سوف يمنح كل ما تفعله أساساً صادقاً. أردت من كل مشاهد أن يشعر بمصداقية أفعالها. لقد غصت عميقاً في الدور، وكان ذلك مضنياً.. جسدياً وعاطفياً على حد سواء. وبعد أن انتهيت من تصوير الفيلم، ظلت الشخصية تلازمني، أو بالأحرى، تسكنني لفترة طويلة.
وعندما تمكنت أخيراً من إخراجها من جسمي شعرت بالاستنزاف والجفاف. وكان على أن أملأ وأجدّد نفسي من الداخل..
رومي شنايدر: (إننا ننهمك في ارتداء الأقنعة، وفي الظهور بأشكال مختلفة، هذا يؤثر بعمق في ذواتنا. ثم نكتشف بعد حين أننا ضحايا اللاواقع، فنسارع الى الإعلان، بشكل أو بآخر، بأننا ننتمي الى الواقع.. أي أننا مرشحون باستمرار لاستيعاب كميات إضافية من الفرح، ومن الحزن أيضاً.
ميكي روني: (أثناء التصوير، الشخصية تأتي معي الى البيت. وعادةً، الشخصية التي أؤديها تمكث معي لفترة قصيرة بعد انتهاء الفيلم، لكن جزءاً منها يظل معي. أحياناً أحتاج الى وقت طويل حتى أتخلص من ثياب الشخصيات..
ميوميد: (بعد الانتهاء من التصوير، وحين أفترق عن فريق العمل الذي عشت معه فعلياً لأسابيع، وأقطع صلتي بالشخصية التي كانت ملتصقة بجلدي، أشعر بإحساس غريب.. أشعر بالفراغ والحيرة والاستنزاف. بعد فتة، وفي قاع ذلك الفراغ الغريب، أجد نفسي سليمة ولم تُمس..
جاك نيكولسون: (لم أمثل أبداً في فيلم سهل التحقيق. كل أعالي كانت صعبة. حين أعمل، أكون مستغرقاً تماماً. إنه يؤثر الى أقصي حد في حياتي الخاصة.
ناستاسيا كينسكي: (إنه لأمر مجهد الى حد كبير أن تكون مستغرقاً في عالم الفيلم. هذا يشبه اكتشافك بأنك مصاب بمرض مميت، ولم يتبق لك في الحياة غير أيام معدودة تعيشها، لذا فإنك تعيش بعمق شديد، ثم تنزلق خارجاً من ذلك العالم كما لو من جلد أفعى، وتجد نفسك بارداً وعارياً.
جيرار ديبارديو: (بالنسبة لنا، جميع الممثلين، المخاطر هي نفسها، ذلك لأننا نجازف بجزء من ذواتنا في كل دور. الممثلون يعبّرون عن تلك الانفعالات التي هي مكثفة وقوية جداً قياساً الى تلك التي نختبرها في الحياة اليومية. ،لهذا السبب، التمثيل شاق جداً. إن له امتيازات كثيرة، لكنه محفوف بالمخاطر.. فالانفعالات ليست زائفة، إنها أشياء اختبرها وعاشها المرء في حياته اليومية. وأنا لست من النوع الذي يقدر أن يخرج من دورة بسهولة ووقتما يشاء، أو يخلع دوره كما لو كان قميصاً. التمثيل توتر دائم.
شون بن : (عندما تعمل في فيلم ما، فإنك تكون في حالة شبيهة بالتنويم المغناطيسي. انتهاء العمل لا يعني بالضرورة ان كل شيء يتبدّد ويتلاشى، إنه ليس معايشتك للدور فحسب، بل أيضاً العمل نفسه.. حين يتعيّن عليك أن تصحو في السادسة صباحاً، وتقضي النهار كله وأنت تعمل لمدة 15 أسبوعا، إضافة الى حالات القلق والتوتر، فلا بد أن ذلك يؤثر عليك الى حد بعيد. ذلك أشبه باحتجازك في السجن، حيث تقبع في الزنزانة فترةً من الزمن، وعندما تخرج، لا يعود كل شيء كما كان قبل دخولك السجن..
روبرت دي نيرو: كل شخصية أؤديها تستنزف قدراً كبيراً من ذاتي. في ما بعد، ينتابني إحساس بالفقد، بأني فقدت شيئاً. وهذا الإحساس لا يزول إلا حين أبدأ في الحفر في الشخصيات التالية..
في حديث أستاذ التمثيل لي ستراسبرغ عن آل باشينو، يقول:
(بعض الممثلين يؤدون الشخصيات، أما آل باشينو فإنه يصبح الشخصية. إنه ينتحل هويتها كلياً الى حد أنه يستمر في عيش الدور فترة طويلة بعد الانتهاء من المسرحية أو الفيلم..
وعن آل باشينو أيضاً يقول نورمان جويسون الذي أخرج له (العدالة فوق الجميع.: (لمدة 81 أسبوعاً تقريباً، كان بلاشينو الشخصية التي يمثلها. حتى في الليل، بعد الانتهاء من تصوير مشاهد اليوم، تظل الشخصية ملتصقة به.
أما باشينو نفسه فيقول:
(لا أفهم كيف لا يمكن للشخصية التي أمثلها أن تؤثر في نفسيتي. أعني أنت تعيش الدور، وتحاول أن تمتص أكبر قدر ممكن من الشخصية، فلا بد إذن أن يتأثر تفكيرك وسلوكك. يتعيّن على الممثلين جعل الأحاسيس والانفعالات حيّة ومتقدة. عليهم أن يجازفوا.
لكن مع ممثلين آخرين، لا يشكّل التحوّل أو تقمّص الشخصيات ضغطاً هائلاً على ذات الممثل، أو يمارس تأثيراً موجعاً على نفسية الممثل ونظام حياته. إنهم لا يدعون الدور يسيطر عليهم كلياً الى حد الاستبداد.
بن كينجسلي : (أن تؤدي بشكل جيد، سواء في السينما أو المسرح، يعني أن تقترب كثيراً من النار لكن دون أن تدعها تحرقك. وعندما ينتهي الحرج، ينبغي أن تتذكر بأنه يتعيّن عليك الخروج، وأن تغادر المسرح أو موقع التصوير، وتعود الى البيت لتعيش حياتك الطبيعية..
جودي فوستر: (عندما أعمل، فإني أكيّف نفسي بحيث أكون الشخصية عندما أتحرك نحو عالمها وأدخل فيه، لكنني أغادر الشخصية، ولا أدعها تلازمني، حين أعود الى البيت..
أنتوني هوبكنز: (إني أظهر في الموقع منتحلاً الشخصية، تاركاً شخصيتي الحقيقية في البيت. ذلك سهل .. ذلك ما ينبغي أن يكونه التمثيل.
الممثل عادةً يؤدي شخصيات تتعارض، كلياً أو جزئياً، مع ذاته وطبيعته وسلوكه وأفكاره.. وحتى معتقداته ومبادئه. في هذه الحالة، يتعين عليه أن يبحث عن تماثلات معينة ببينه وبين الشخصية، وأن يكتشف أجزاء من ذاته تتوافق مع خاصيات معينة في الشخصية.
على الممثل أن يدع الشخصية تتعايش مع ذاته، أن تكون جزءاً منه، من كيانه، لا أن تكون غريبة وشاذة ومستقلة. لا يستطيع الممثل أن يكون صادقاً ومقنعاً في دوره إن شعر بنفور أو كراهية للشخصية التي يؤديها. وحتى لو اتخذ موقفاً محايداً إزاءها فإن خللاً ما سيظهر جلياً للعيان. لا بد أن يحب الشخصية، أياً كانت، وأن يشعر بأنها تمثّل جزءاً منه الظاهري أو الخفي. ربما لا يشعر الممثل بارتياح، أو لنقل يتماثل، مع شخصية شريرة على سبيل المثال - لكن هناك حتماً جوانب مشتركة بين ذاته وهذه الشخصية، ربما ليس في السلوك، لكن في حركة ما، فكرة ما، طموح ما، اتصال حميمي بشيء ما.
إذا أخذنا شخصية مثل ستانلي كولسكي في مسرحية تينسي وليامز (عربة اسمها الرغبة.، سنجد أنها تمثل القوة الوحشية المدمرة لكل ما هو ضعيف وهش وشعري. إنها شخصية قاسية، فظة، عديمة الحساسية. ومارلون براندو نفسه قال عنها: (إنها شخصية أتعارض معها في كل شيء.، إنها تمثّل كل ما أنا ضده أو نقيضه. كوالسكي قاس، فج، ويفتقر تماماً الى الحساسية.
مع ذلك، عندما أدي براندو الشخصية، منحها بعداً آخر، وكشف عن خاصيات كامنة فيها:
الفطنة الغريزية، الدعابة الهجائية الشيطانية، والرثاء للذات. لقد أوحي براندو بحساسية مرهفة، مدفونة في أعماق الشخصية، الى حد أن الشخصية نفسها لا تستطيع أن تتعرّف عليها.
يقول بن جازارا: (حين تؤدي شخصية شريرة، يتعين عليك أن تستمتع بها. حاول أن تجد في الشخصية أشياء تحبها، ومنها تنطلق.
ويقول جيرمي آيرونز: (أنا لا أقوم بإصدار أي أحكام أخلاقية على شخصيتي حين أؤديها. لا يجب أن تفعل ذلك. عليك أن تدخل جلد الشخصية وتغوص عميقاً. عليك أن تقبل الشخصية كما هي، وتجد المبرر الذي يجعلك تحبها. إني أؤمن بأن على الممثل أن يحب الشخصيات التي يؤديها من أجل أن يفهمها، وعلي الجمهور أيضاً أن يحبها لكي يفهمها.
ويقول رود ستايجر: (إني أترك للجمهور تقييم أي شخصية أمثلها. لا أستطيع أن أحاكم الشخصية وأؤديها في الوقت نفسه.. هذا مستحيل. لا أحد يستطيع أن يشق طريقه في الحياة وهو يحاكم نفسه في كل لحظة.. من المؤكد، في هذه الحالة، أنه لن يعيش يوماً واحداً. فيما أغيّ الشخصية، أحاول أن أفسرها وأفهم دوافعها. أفعالها هي التي سوف تُظهر للجمهور جوهرها وحقيقتها... هذه ليست مشكلتي..
وتقول سالي فيلد: (أعتقد أنه ليس من واجب الممثل أن يصدر حكماً على أي شخصية، حتى أنه لا ينبغي أن يتماثل ويتماهى مع شخصيته. لا يجب على الممثل أن يقدمها ملوّنة برأيه الشخصي..
وتقول جلين كلوز: (كممثلة، يتعيّن على أن أحب شخصيات، إذا لم تحت الشخصية التي تمثلها، فأظن أنك سوف تحاكمها، وبالتالي تقصي نفسك عنها وتضع مسافة بينك وبينها. ينبغي أن تكون ذاتياً جداً. المخرج هو الذي ينبغي أن يكون موضوعياً.
ويقول جون مالكوفيتش: (أنا لا أحاكم شخصياتي. إني، فحسب، أنظر الى العالم من وجهة نظرها..
المناهج أو الطرائق التي يتبعها، أويلجأ إليها، الممثل في تعامله مع الشخصية واشتغاله على الدور، من حيث التحليل والتحضير والتعبير، لا تبدو - هذه الطرائق - دائماً ظاهرة ومكشوفة، ويسهل تمييزها أو إدراكها من قبل النقاد والجمهور. ففي أغلب الأحوال، يتحفظ الممثل في الكلام عن طرائقه الخاصة، ويحتفظ بها سراً أو يعجز عن توصيحها، ذلك لأن عناصر من الغريزة والحدس والإلهام والميخلة والذاكرة تتداخل في بناء الممثل للدور، وهي عناصر لا يمكن تفسيرها والكلام عنها.
مثال ذلك ما يتذكره المخرج السويدي ستيج بيوركمان بشأن تأدية الممثلة هارييت أندرسون لأحد المشاهد من فيلمه (الجدار الأبيض.، إذ يقول:
(المشهد كان يدور في مقهى صغير وسط ستوكهولم. لم يكن هناك العديد من الأفراد .. فقط هارييت أندرسون وشريكها الممثل وعدد قليل من الكومبارس وفريق العمل، ههارييت كانت يومذاك محمومة، ودرجة حرارتها مرتفعة، لكنها رفضت أي اقتراح بتأجيل التصوير الى يوم أخر، إنها تنتمي الى ذلك الصنف من الممثلين الذين يتسمون بالدقة في مراعاة المواعيد، والالتزام بالنسبة لهم يمثل قانوناً ثابتاً. المشهد الذي كنا على وشك تصويره لم يكن مركباً أو صعباً من الناحية التقنية.. مجرد شخصين جالسين حول طاولة، هي تتحدث وهو يصفي فحسب. لقطة عامة ثم متوسطة ثم قريبة. مونيكا الشخصية الرئيسية في الفيلم والتي تؤديها هارييت أندرسون هي ربّة منزل مطلّقة، مكبوحة، وعاجزة عن الإفصاح عن آرائها أو مشاعرها. ولأول مرة منذ زمن طويل تلتقي بشخص تجرؤ على التحدث إليه في أمور شخصية جداً. وفيما يتعلق بالحوار، كان المشهد يتطلب عناية فائقة. لقد آثرت أن أعرض اعترافا مونيكا في لقطة قريبة طويلة والكاميرا مركزة على وجهها، وهذا كان يقتضي من هارييت أن تحفظ مقاطع طويلة من الحوار عن ظهر قلب. كانت هارييت أو مونيكا تتكلم بثقة أمام الممثل كما هي أمام الكاميرا. الحديث - المونولوج عبارة عن تذكّر مأساوي. إنها تتحدث عن المرة الأولي التي ذهبت فيها الى ستوكهولم من بلدتها في الشمال، وكيف أنها أثناء انتظارها لتغيير القطار في بلدة ريفية، زارت المقربة هناك حيث قبر حبيبها الذي مات في حادث سيارة، لكن يتملكها إحساس غامض بأن ذلك كان انتحارا.
فجأة حدث شيء غير عادي - أثناء تصوير المشهد - وشعرت بجفاف في حلقي، وبعينيّ تترقرقان بالدموع. فالصفحات الثلاث أو الأربع من نص السيناريو قد تحوّلت عبر فم الممثلة هارييت الى تجربة حيّة وذكري شخصية. النص لم يعد يخصني، فقد استحوذت عليه هذه الممثلة وفي الوقت نفسه حوّلته الى مونيكا شخصيتها.
التفاصيل في المونولوج اتخذت توكيداً وقيمةً غير متوقعة. كل شيء حقيقي وثابت:
الحرارة، البحث اليائس عن القبر، الألم، الأسى. الدموع تسيل على خديّ هارييت، فيما هي تحاول أن تخترق ذكريات مونيكا قبل عشرين سنة تقريباً. لقد حركت مشاعرنا بعمق.
وعندما انتهينا من تصوير المشهد، وتراخي التركيز وزال التوتر، عانقت هارييت، والتفتّ لأقول شيئاً للمشرفة على السيناريو، لكنها كانت قد اختفت، مع أنها لا تفارق موقعها أبداً. بعد دقائق عادت ومعها باقة كبيرة من الورد قدمتها الى هارييت باسم الفنيين تعبيراً عن شكرهم وتقديرهم لهذه التجربة الفريدة، الخارقة، التي أدخلتنا فيها. لكن كيف حدث كل هذا؟ لا أدري. لم أر نسخة هارييت من السيناريو، ولم أعرف كيف هي نظمت إيقاع المونولوج أثناء حفظها له عن ظهر قلب. بالطبع هناك تقنية واعية تدعم وتوطد العملية كلها، لكن وراء نطاق ذلك، أعتقد أن هناك شيئين إضافيين لا بد من توفرهما: الثقة والحب. الثقة بالمادة التي تشتغل عليها الممثلة، والثقة بالذين تعمل معهم. كذلك إدراك الممثلة بأن ما تلقيه من كلام سوف لن يتعرض للتشويه أثناء المونتاج.
الممثل يؤدي مختلف الشخصيات
أحياناً يؤدي شخصية متخيلة، غير واقعية. وأحياناً يؤدي شخصية تاريخية، واقعية، معروفة.
لكن هل هناك اختلاف، بالنسبة للممثل، في التعامل والإعداد والتحضير والأداء، عند تأديته للشخصية المتخيلة التي ابتكرها كاتب السيناريو، وعند تجسيده للشخصية التاريخية المرتبطة بمرحلة معينة؟جيان ماريا فولونتي: (بالطبع هناك اختلاف. في الأفلام الخيالية، يكون العمل ذا نوعية تعبيرية أكثر، بريختية أكثر. أما بالنسبة للفيلم التاريخي، حيث تجسّد شخصية عامة لها اتصال مباشر بالحياة السياسية، فمن المهم فهم دورها الاجتماعي والسياسي. وهذا يستلزم القراءة المكثفة، والإطلاع على الكثير من الوثائق، والعمل يأخذ منحي وخاصية التحرير الصحفي.. .
رود ستايجر: (مع الشخصية المأخوذة من الواقع، يتعين على أن أقرأ الكثير عنها، أو أشاهد الأفلام والأشرطة الإخبارية إن كانت متوفرة. حين أؤدي شخصية تاريخية فإن خمسين في المئة من الجمهور، على الأقل، لديهم فكرة واضحة عن نابليون أو المسيح أو البابا أو آل كابوني.. ومهما فعلت فإن البعض سيقول.. هذا ليس نابليون الذي قرأت عنه. مع الشخصيات الخيالية، القصصية، لا أعاني من هذه المشكلة..
بيني ديفيز: (إذا أسند الى دور شخصية تاريخية أو واقعية، فإنني أقضي ساعات طويلة في قراءة كل شيء عنها، ودراسة حياتها وعاداتها، حتى أشعر بأني أعرفها جيداً بحيث لا يمكنني أن أفعل شيئاً يتعارض مع سمات وخصائص الشخصية. كذلك أجمع صوراً للشخصية الواقعية في كل مراحل حياتها كي أكون قادرة على التماثل معها جسمانياً. واالمكياج يجب أن يخضع للاختبار بدقة للحصول على أقرب تشابه وجهي.
وأزياء المرحلة التاريخية يجب أن تُدرس بعناية لتفادي المفارقات التاريخية والأخطاء في التفاصيل..
قبل أن يؤدي روبرت دي نيرو شخصية الملاكم السابق جاك لاموتا في فيلم (الثور الهائج. ، أمضي شهوراً طويلة مع لاموتا وهو يتفحصه ويدرسه عن كثب، بل وأقام معه فترة في شقته يدرس سلوكه وتعامله مع الآخرين.
عندما يتطلب الدور أن يؤدي الممثل شخصية تاريخية حقيقية، يتعيّن عليه أن يتعرّف على تلك المرحلة من خلال قراءة ما يتعلق بالشخصية والمرحلة من كتب ودراسات ووثائق، ومشاهدة الصور واللوحات والأشرطة الإخبارية،. بحيث تتوفر لديه معلومات عامة، ليس فقط عن سلوك الشخصية والأحداث والوقائع التي مرّت بها، بل أيضاً عن البني الاجتماعية والسياسية والثقافية لتلك المرحلة. إضافة الى دراسة العادات والطباع والملابس، وتحليل الصراعات والعلاقات التي كانت سائدة.
يقول هارفي كايتل: (في الفيلم التاريخي ينبغي أن تعمل بمشقة أكبر لأنك غريب عن البيئة، والمعلومات لا تكون متوفرة دائماً أو متاحة بسهولة، فيما يتعلق بدوري كضابط فرنسي في جيش نابليون، في فيلم The Duellists، قرأت كتباً عديدة عن عصر نابليون، وشاهدت أفلاماً تدور أحداثها في تلك الفترة، كما سافرت الى فرنسا وزرت متحفاً خاصاً هناك محاولاً الحصول على الإحساس بتلك المرحلة. وقد التقيت بشخص خبير في شؤون تلك المرحلة ووفّر لنا الكثير من الملومات عن البنية العسكرية آنذاك..
في تأدية الشخصية التاريخية تكون مسؤولية الممثل كبيرة، إذ يجب أن يكون مقنعاً، ليس في الأداء فقط، لكن في الشكل والمظهر أيضاً .
يقول بن كينجسلي، الذي جسّد شخصية غاندي: (شعرت بفخر واعتزاز حين رشحني المخرج ريتشارد أتنبرو لتأدية دور غاندي، لكنني كنت أعلم بأنها ستكون مهمة رهيبة. الكثيرون يتذكرون غاندي، وقصة حياته لا تزال حيّة وطريّة في ذاكرتهم. وبما أنني أظهر في كل مشهد من الفيلم تقريباً، فقد كنت مدركاً دائماً بأن نجاح الفيلم أو فشله سوف يعتمد على مصداقية أدائي..
إن الممثل يحاول في تجسيده للشخصية أن يحقق التماثل الشكلي، وإن في حدود معينة، كشرط أوّلي للدخول في الشخصية. لكن هناك استثناءات نجد فيها الممثل يختلف تماماً من حيث المظهر مع الشخصية الواقعية.. وهذا يحدث عندما يقترح المخرج رؤية جديدة ومغايرة للشخصية.
يقول دونالد سوذرلاند: (أديت شخصية كازانوفا لأن فلليني طلب مني ذلك. لو أن أحداً غيره إقترح على أن أؤدي الدور لاعتبرته مجنوناًِ، ذلك لأن مواصفات شخصية كازانوفا لا تنطبق على تماماً. مع ذلك، فأنا في هذا الفيلم لم أؤد شخصية كازانوفا المعروفة بل كازانوفا فلليني. وحتى هذا اليوم لست واثقاً تماماً من مفهوم أو تصور فلليني للشخصية، لكنني أعلم أنه استخدمها لتلخيص موقفه من الذكورية الإيطالية. إن فيلمه يعكس النواقص في المجتمع الإيطالي في الماضي والحاضر معاً. إنه يعكس الانحطاط والتفسخ والشوفينية القومية والجنسية معاً.
الشخصية التاريخية ليست دائماً جذابة بالنسبة للممثل. يقول دي نيرو: (أحب مشاهدة الأفلام التاريخية القديمة في التلفزيون، لكن، كممثل، أدواراً كهذه ترعبني لأن من الصعب أن تشعر بالراحة في زمن آخر ومكان آخر..
مع ذلك، فقد أدي دي نيرو في فيلم The Mission دور تاجر عبيد يتحول، تحت وطأة إحساس عميق بالذنب، بعد قتله لأخيه، الى راهب في أحد الأديرة النائية في غابات الأمازون في منتصف القرن الثامن عشر. يقول مخرج الفيلم رولاند جوفي:
(ما تسعى إليه كمخرج هو كيف تستطيع أن تخلق عالماً يمكن لمخيلة الممثل أن تعيش فيه.. لقد وجد دي نيرو نفسه أمام تحدٍّ مثير للاهتمام، وأعتقد أنه تغلّب على ذلك بشكل رائع. كيف خرج من هويته كفرد قادم من نيويورك؟ كيف تخلق دي نيرو الذي ولد في القرن الثامن عشر؟ وهو دائماً سيظل دي نيرو لأن ثمة عناصر من دي نيرو مهمة جداً للفيلم. إنه يؤدي دور رجل وُجد قبل زمنه بقرنين لكن الطريقة التي يتحرك بها، والتي يوجد بها، ليست متصلبة، ليست متخشبة. إنه ليس تمثيلاً، إنه هناك في ذلك العالم. ودي نيرو هو أحد الممثلين القلائل في أمريكا الذين يستطيعون فعل ذلك بنجاح. إنه يفعلها بطرق عديدة. يفعلها جسمانياً بتعلم المبارزة بالسيف. التركيز، الذي تستدعيه المبارزة، يمنحه إمكانية التحرك بشكل مختلف تماماً عن تلك الحركة المشدودة، الصارمة، التي يفرضها السير على أرصفة نيويورك حيث تندفع الى الأمام، محني الظهر قليلاً، وتكون في حالة تنقّل من مكان الى آخر لأن شخصاً ما قد يهاجمك في أي منعطف..
أحياناً يشعر الممثل بأنه لا يناسب الدور من حيث الشكل أو اللكنة، لكنه حين ينخرط في الدور، يكتشف بأن بلغ درجة عالية من التماهي مع الشخصية حتى أصبح قادراً أن يسكنها دون صعوبة.
يقول أنتوني هوبكنز: (عندما عرض على أوليفر ستون دور نيكسون، طننت أنه مجنون.
ممثل من ويلز يؤدي دور رئيس أمريكي؟ أنا لا أشبهه على الإطلاق، ولا أجيد اللكنة، لكن ستون كان مصراً على إختياري. كان من ا لجنون أن أقبل الدور، ومن الجنون أيضاً أن أرفضه، فالسيناريو مكتوب على نحو رائع، ويحتوي على حوارات أكثر من الملك لير.
في تجسيد الشخصية، الممثل عادةً يعتمد على المكياج والمحاكاة، بالإيماءات السايكولوجية ومحاكاة صوت نيكسون، صرت أشبهه مع ذلك، لا أعرف حقاً كيف استطعت أن أكونه. أحياناً أشعر بأني أشبهه جسمانياً، وأحياناً لا أشعر بذلك. أحياناً أكون أكثر توافقاً وانسجاماً مع جانبه العاطفي. عندما تدخل في شخصية ما، فإنك تشعر بأن وجهك يتغيّر. لقد تدربت على ذلك، وبسهولة تامة أغيّر نفسي. العينان من أكثر الأجزاء أهمية حين تجسّد شخصية ما. الشيء المهم، في هذا الفيلم، كان أن أظهر آلام نيكسون. لقد أنجز في حياته أشياء مدهشة، كان لامعاً وطموحاً جداً، لكن كانت لديه أخطاء ونواقص.. كان لديه نزوع الى تدمير ذاته. لقد حاولت أن أحقق تقمصاً عاطفياً لوحدته، لعزلته. أظن أنه كان يشعر باللاإنتماء طوال حياته. لقد أحببت نيكسون كثيراً. يتعيّن عليك أن تحب الشخصية التي تؤديها. حتى عندما أديت دور هتلر، كان يتعيّن على أن أجد فيه شيئاً أحبه. الشيء الذي استطعت اكتشافه في شخصية نيكسون أنه إنسان حساس وغير محصّن. قبل أن تصبح ذاتيته منجرفة وشريرة..
إن تجسيد شخصية تاريخية، واقعية، تشكّل تحدياً، فاتناً أحياناً، للممثل.. خاصة إذا كانت شخصية مركّبة، متناقضة، مثيرة للخلاف والجدل.
يقول جريجوري بيك الذي أدي شخصية القائد العسكري الجنرال ما كارثر، والذي حقق انتصارات باهرة في الحرب العالمية الثانية:
(المعضلة الأساسية في تأدية شخصية تاريخية هي تلك الأفكار المتصورة سلفاً، الى حد التحيّز والتحامل، عند الآخرين. الكثيرون كرهوا ما كارثر، والكثيرون أحبوه الى درجة العبادة تقريباً. ومن الصعب أن ترضي كل فرد حين يكون هناك مثل هذا الخلاف والانقسام الكلي في الرأي بشأنه. الناس يميلون الى رؤية ما يدور على الشاشة من خلال موشور تصوراتهم الخاصة وأحكامهم المسبقة. في البداية لم أحب الرجل كثيراً. لم يكن أبداً محبوباً من ذوي الاتجاه الليبرالي الذين رأوا فيه تهديداً خطيراً للديمقراطية، وأنا كنت واحداً منهم. لكن حين اكتشفت الحقائق والوقائع الموثوقة عنه، من خلال قراءة العشرات من الكتب، والتحدث مع العديد من الأشخاص الذين عرفوه جيداً، ومشاهدة الأشرطة المصورة عن حياته، شعرت بأنني أقترب أكثر من هذا الرجل.
بدأت أجتاز ضباب التحيّز والأحكام المسبقة. ووجدت أن أغلب ما قيل عنه لم يكن مبنياً على شخصيته الحقيقية إنما على خاصياته في البنية أو المزاج، وعلي طريقته في اللبس، وأسلوبه الطنّان المتسم بالفخامة في الكلام.. لكن عندما تتخطّي كل ذلك، تجد أن هذا الجانب ليس هو المهم من شخصيته. لهذا السبب بدأت أميل إليه وأعجب به، بوصفه وطنياً صادقاً خدم بلاده بإخلاص. صحيح أنه لم يكن محبوباً بسبب غطرسته وغروره وتحفظه، لكن شجاعته ووطنيته الصادقة لم تكونا موضع شك على الإطلاق. إن البحث في شخصيته جعلني أكتشف بأن العديد من القصص التي قبلت عنه لم يكن لها أساس من الصحة. إنك في هذه الحالة تستبعد أغلب تلك القصص وتنظر الى أعماله ومنجزاته، وتبدأ في رؤية وفهم الكائن البشري في العمق. على أية حال، إذا سنحت لي فرصة أخري لتأدية شخصية تاريخية عظيمة وغنية، وإذا كانت الشخصية تناسبني في الشكل والطبع والمزاج، فسوف أؤديها بلا تردد. إنه شيء آسر أن تقوم بالإطلاع على كل ما يتوفر لديك من مواد ووثائق حول الشخصية، والتي بها سوف تشحن ذاتك، وأن تعرف الكثير عن الشخصية غير تلك الأشياء المكتوبة في السيناريو.
إن ذلك يمنحك ذخيرة تعتمد عليها لكي تعرف الكثير عن حياة الشخصية..
غير أن هناك من لا يري أي اختلاف، في التعامل والأداء، بين الشخصية الواقعية والمتخيلة، إن منهجه أو أسلوبه لا يتغيّر في التحضير للشخصية وتجسيدها.
جون هيرت: (أديت العديد من الشخصيات الواقعية والتاريخية، لكن التعامل وطريقة الفهم هي ذاتها عندما أودي شخصية خيالية. الى أي مدي تستطيع أن تمضي في البحث والتحضير؟ إذا كنت تؤدي هاملت، وهي شخصية متخيلة، فإنك تقوم ببحثك في حياة الأمير الدنماركي، والشيء نفسه إذا أديت شخصية واقعية. لكل عمل مستواه الخاص..
جيمس كان: (سواء أكانت الشخصية واقعية أم متخيلة، فإنني أتعامل معها بالطريقة ذاتها.. ذلك لأنني لا أستطيع أن أكون شخصاً آخر. يمكنني أن استخدم جزءاً من السمات أو الخصائص التي تميّزها عن غيرها، وهي صفات جسمانية عادةً. لكن دواخل الممثل هي نفسها لا تتغيّر. إذا الشخصية لا تزال على قيد الحياة، فإن بوسع الممثل أن يدرس طريقتها في الكلام، الحركة، الإيماءة.. الخ.
يحدث أن تكون لدي المثل قدرات وطاقات كامنة، غير مكتشفة وغير محرّرة، تنتظر الفرصة للإنبجاس والخروج والانطلاق.. لكن مثل هذه الفرصة لا تكون سانحة ومتاحة إلا إذا توفرت الثقة والاقتناع بإمكانيات الممثل المتعددة والمتنوعة.
في مجال الكوميديا، ربما أكثر من أي مجال أخر، يجد الممثل نفسه عرضة لتصورات وأحكام مسبقة يفرضها الآخرون عليه المنتجون، المخرجون، الجمهور، ومثل هذه الأحكام والتصورات تقيّده وتسيّجه في تخدم معينة، محددة بوضوح وصراحة، ولا تسمح له بعبورها وتجاوزها. فالممثل الذي يبدأ بدور كوميدي وينجح فيه، يتم على الفور تصنيفه كممثل كوميدي، ويجد نفسه محروماً من تمديد وتوسيع إمكانياته بحيث تشمل الأدوار التراجيدية. والممثل الذي يتفوق في دور تراجيدي يظل أسير هذا التخم ولا يُسمح له بكشف قدراته في الأدوار الكوميدية.
ميريل ستريب: (أحب الكوميديا من الممتع أن تثير ضحك الناس، لكنني لم أشارك في فيلم كوميدي. إنهم لا يعرضون على هذه الأدوار معتقدين أنني لا أصلح إلا للتراجيديا.
مع أنتني، على خشبة المسرح، مثلت في العديد من الأعمال الكوميدية.
إنجريد بيرجمان: (كنت دائماً أرغب أن أؤدي أدواراً كوميدية، لكن لا أحد اكتشف هذا الجانب فيّ حتى صرت عجوزاً. إنهم يظنون بأن جميع السويديات تراجيديات... مثل جريتا جاربو..
والتر ماثو: (عندما يزعم المنتجون بأنهم يرونني كممثل كوميدي فقط فإنهم لا يعرفون عمّ يتحدثون، ذلك لأن الشيء الوحيد الذي أتعامل معه بجديّة هو الكوميديا. الكوميديا ليست نقيض الدراما، أنها أحد أنواع الدراما. التراجيديا نوع آخر من الدراما..
جاك ليمون: (أساساً لم تكن لدي رغبة في أن أصبح ممثلاً هزلياً. لقد حدث هذا لأن أفلامي الأولى كانت كوميدية وحققت نجاحاً. أحب أن أودي الأدوار الكوميدية والتراجيدية معاً. أحب هذا المزيج لأن الحياة هي هكذا. بعض الأشياء الأكثر إضحاكاً بالنسبة لنا هي ليست مضحكة على الإطلاق بالنسبة للشخص الذي يكون ضحية ذلك الموقف المضحك..
إيزابيل أوبير: (لا أرغب أن تلتصق بي صورة الشخصية العصابية، الوجودية، أريد أيضاً أن أكون سعيدة وأعبّر عن نفسي بجسدي وليس بذهني فقط..
لكن كيف ينظر الممثل الى كلا المجالين... الكوميدي والتراجيدي؟ كيف يتعامل معهما؟ هل هناك شروط معينة يفرضها كل مجال؟
دانييل داي لويس: (لا أعتقد أن بإمكانك الفصل بينهما.. على الأقل فيما يتصل بالشخصية. بوسع الجمهور أن يميّز ويجد الفروقات، لكن الممثل لا يستطيع ذلك. غالباً، ضمن الدعابة التي تتسم بها الشخصية، أنت تجد الروح التراجيدية.. والعكس صحيح.. الكوميديا والتراجيديا يسيران جنباً الى جنب. المثل الجيد هو الذي لا يحاول أن يحصر التجربة الإنسانية في حالة واحدة من الوجود..
جليندا جاكسون: (أعتقد أن تأدية الكوميديا هي أصعب بكثير من التراجيديا.
المتطلبات التقنية لإثارة الضحك هي دقيقة جداً.
والتر ماثو: (الكوميديا أكثر صعوبة وصرامة من التراجيديا. عندما أنتهي من تصوير فيلم كوميدي أشعر بالاستنزاف والجفاف.
جاك ليمون: (الحقيقة الوحيدة بشأن الكوميديا هي أن عليك أن تؤدي دورك بجديّة تامة، حتى لو كانت المادة هزلية ومجنونة. إذا لم تفعل ذلك فسوف تضيع. يتعيّن عليك أن تخطّط للدور، تتدرب عليه، ثم تنفذه. أحد أكثر الأشياء صعوبة بشأن الكوميديا على الشاشة، الشيء الذي يسحرني حقاً، هو أنك تفتقر الى أحد المقومات الأساسية والحيوية والثمينة التي يحتاجها الممثل.. أعني الجمهور. يجب أن توقت الضحك في ذهنك بحيث لا تواصل الحوار بينما الجمهور لا يزال يضحك في الصالة. إنك لا تستطيع أن تخترق الشاشة بعينيك لتري ردود فعل الجمهور كما يحدث في المسرح. التوقيت إذن مهم وصعب.
ميل بروكس: (الكوميديا جادة.. جادة الى حد بعيد. لا تحاول على الإطلاق أن تكون مضحكاً يجب أن تكون جاداً حيث تؤدي موقفاً كوميدياًَ.. الموقف فقط هو الذي يجب أن يكون مضحكاً..
جين هاكمان: (الكوميديا أجدها منعشة جداً، وصعبة جداً أيضاً. يتعيّن عليك أن تذهب الى الموقع وأنت في حالة مختلفة، وبروح مختلفة، ينبغي أن تكون مبتهجاً، خالياً من الهموم، وتتصل بالدور بطريقة مختلفة..
جانيت لي: (غالباً ما يقولون بأن تأدية الكوميديا أصعب، وأظن أن هذا يعود الى الاعتقاد بأن على الممثل أن يكون مضحكاً حين يؤدي دوراً كوميدياً. أنا عندما أمثل دوراً كوميدياً فإنني أؤديه بجديّة وبطريقة مباشرة تماماً. كل ما أقوله ينبع من الشخصية وليس مني كممثلة.. إذا كان مضحكاً فذلك لأن الموقف مضحك، أو بسبب الأشياء الحمقاء التي أفعلها. لكن أن تقرر بأن تكون مضحكاً، فذلك أسوأ شيء يمكن أن يفعله الممثل. حتى شابلن، الذي هو ممثل كوميدي عظيم، لا يقول لك أبداً.. انظر اليّ، أنا مضحك.
كل شيء ينبع من الشخصية الرائعة التي يؤديها، لهذا أنت تضحك وتكاد تبكي أيضاً
هيلين ميرين: (تأدية الكوميديا هي أقل إمتاعاً، بالنسبة لي، من التراجيديا. لا أفهم فكرة التوقيت في الكوميديا. أعتقد أنني لا أستطيع أن أكون مضحكة إلا حين أكون جادة تماماً، وبالتالي أؤدي كل المشاهد بجديّة وبطريقة هي، سايكولوجياً، متوافقة مع الوضع الذي تكون فيه الشخصية.
ميو ميو : (ما زلت أؤدي أدواراً كوميدية، لكنها الأدوار التي تجعلك تضحك وتبكي في آن.
أفضّل كوميديا الموقف على الكوميديا اللفظية. لا يمكن للمرأة أن تكون هزلية فقط، فالجمهور لن يتقبلها إذا اعتمدت على جسمها في الإضحاك.
في تاريخ المسرح والرواية والسينما، ومند التراجيديا الإغريقية، نجد بأن الشخصيات الشريرة، التي تمارس شتي أشكال العنف والاضطهاد والاستغلال والإغواء، هي الأكثر إثارة لاهتمام المتفرجين والقرار من تلك الشخصيات الخيّرة، الطيبة، التي تعاني ونتألم. الشخصيات الشريرة عادةً تعيش في عزلة، في ظلام، في أماكن مغلقة أو سريّة، ولا تخرج إلا لتفسد النظام الساكن، وتضرب ضربتها ثم تعود، إنها طموحة، قوية الإرادة. في سبيل تحقيق مآربها تلجأ الى مختلف الحيل والمكائد، وتستخدم العنف عندما يخفق خبثها ودهاؤها، وتستنفد سبل الإغواء، إنها تأتي لتفسد، لتدمّر، لتشيع الفوضى والاضطراب. وهي العدو الرئيسي للامتثال والقناعة والسكينة، الدوافع التي تحركها مركّبة وعميقة، وهي ذات أبعاد متعددة ومتعارضة. إنها توجد عبر التناقض والتضاد.
جلين كلوز: (أظن من الممتع تأدية أدوار لا تشكّل تحدياً بالنسبة للممثل..
لي مارفن: (الشرير في الأفلام هو دائماً أكثر إثارة للاهتمام من البطل. قد تكون نهايته السجن أو الشنق، أو يلقي مصرعه برصاصة، لكنه يستمر في العيش داخل ذاكرة الجمهور بعد أن يغادر الصالة..
بيتي ديفيز: (أفضّل تأدية دور المرأة الشريرة بسبب الإمكانيات الدرامية التي تقدمها هذه الشخصية للممثلة..
جاري أولدمان: (كلما كانت الشخصية بغيضة وخسيسة ومروّعة، كانت أفضل. لا تثير اهتمامي الأدوار الطيبة، الرقيقة، النظيفة. أدوار الأوغاد أكثر تشويقاً. المتفرج يشعر بجيشان عاطفي، بموجة من الانفعال، لدي مشاهدته الأوغاد وهم يمارسون شرورهم. شخصية الشرير مركّبة أكثر، وذات فتنة، ولديها حسب اللياقة حتى لو كانت حركتها التالية مقلقة جداً..
لكن ما الذي يجعل مثل هذه الشخصية تمتلك جاذبية آسرة، وتثير اهتماما كبيراً، رغم أنها تخلق حالة من التوتر والترقب والخوف والقلق لحظة حضورها؟
ذلك لأننا، نحن الكائنات البشرية، تتعايش في دواخلنا النوازع الشريرة والخيّرة معاً، قابيل وهابيل يسكنان في النفس البشرية. ومهما حاولنا التظاهر بقدرتنا على تطهير النفس من الشر، هذه المحاولة التي تخفق عند أول امتحان، فإن الحقيقة تظل ساطعة وجارحة، وهي أن بذرة العنيف موجودة في أعماقنا، وأن العدوانية تعيش داخل كل منا، وهي تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة، وعبر مختلف العلاقات الإنسانية.
هذه النوازع والخاصيات لا علاقة لها بالبيئة أو بالعوامل الوراثية أو التربية، والتي هي مجرد عوامل تساعد على تجسيدها وتصعيدها.. إنها بالأحرى، ألغاز بشرية، أشياء كامنة في الطبيعة البشرية.
يقول كيرك دوجلاس: (الشر أكثر سحراً وجاذبية من الخير. إننا دائماً نشعر بافتتان تجاه رجال العصابات والخارجين على القانون والمتمردين ضد المجتمع. إننا نجد متعة في مشاهدتهم، بل وحتى تقمصاً عاطفياً. نحن نرغب في أن نكون مثلهم لأننا نعيش حياتنا في خضوع وامتثال، ونقول لأنفسنا، هذه هي القوانين، وهذا ما هو مفترض منا أن نفعله.. أن ننصاع ونطيع ونلتزم. لهذا نميل الى الشخص الذي يعمل ضد القوانين.
الشخصية الشريرة، المضادة للمجتمع، هي أكثر درامية. ممثلو أدوار الشر يؤسسون مع جمهورهم علاقة قائمة على الحب والكراهية معاً..
في حياتنا اليومية نحن نكبح نوازعنا، المدمرة والفوضوية، بالتحصّن يقيم وأخلاقيات ومفاهيم حضارية وتعاليم دينية، لكنها تنطلق في الأقاليم الأكثر عمقاً من النفس والتي يحكمها اللاوعي: الأحلام الليلية، الكوابيس، أحلام اليقظة.. وأيضاً في السينما والأدب.
الشخصيات الشريرة تجسّد الأسوأ من ذواتنا، الجانب الأكثر إظلاماً من طبيعتنا. إنها تمارس الأفعال التي نسعى الى كبحها، والتي - مع ذلك - تفتننا سراً أو ربما بلا وعي. وإذا كنا نرغب أحياناً في أن تنال الشخصيات الشريرة العقاب القاسي، فذلك بدافع الإحساس بالذنب، والرعب من فكرة امتلاكنا لتلك النوازع. العقاب يريح ضمائرنا ويطمئن نظامنا.. لكن مؤقتاً، فنحن بحاجة الى الشرير الذي ينبعث في اليوم التالي ليعرض أمامنا وجهنا الآخر.
يقول دي نيرو: (الشخصيات الشريرة هي دائماً مشوقة أكثر من الشخصيات الخيّرة.
العدو مثير للاهتمام أكثر من البطل. ولأننا كائنات بشرية، فإن الخير والشر بداخل كل منا. وأولئك الأشرار يمثلون الجانب الأسوأ من ذواتنا.
ويقول أنتوني هوبكنز: (إذا كنت ستؤدي شخصية شريرة، وحشية، فعليك أن تؤديها على نحو جذاب قدر الإمكان. شخصياً، هذه الأدوار تجذبني. أنا لا أميل الى القسوة، لكن ربما من الأفضل أن تقبل بذلك الجانب الأكثر إظلاماً من طبيعتك على أن تكبحها.
الشخصيات الشريرة مركّبة وعميقة، وعزلتها تساعد على جعلها آسرة. كل ممثل يحلم بأن يؤدي دور ياجو أو ريتشارد الثالث..
في تأدية الشخصية الشريرة، ومن أجل إضفاء جاذبية على هذه الشخصية، يسعى الممثل الى إبراز الجوانب الحساسة، وروح الدعابة، وحتى لحظات الضعف في الشخصية. ربما هي لا تثير التعاطف لكن من الضروري أن يفهم الجمهور دوافعها ومبرراتها.
يقول مات دامون عن شخصيته في فيلم (مستر ريبلي الموهوب.:
(لا أعتقد أنه حقير وجدير بالازدراء، إنما الأشياء التي يفعلها هي الجديرة بالازدراء. قد يختلف الناس مع ما يفعله، لكنهم يفهمون أفعاله لأنهم يعلمون من أين هي نابعة.. إنها تنبع من وحدته العميقة التي يشعرها ويحاول جاهداً تجنبها. لا يريد أن يكون وحيداً، وهو تلك القدرة على الحب والتعبير عن حساسية مرهفة..
من الملاحظ أن الأفلام بمختلف نوعياتها الفانتازي، الاستعراضي، التاريخي، الحربي، الويسترن.. الخ تستدعي أحياناً أساليب خاصة في الأداء تتوافق أو تنسجم مع النوع.
في حديث للممثلة جكيندا جاكسون عن فيلم (عشاق الموسيقي.، الى يتناول حياة الموسيقار الروسي تشايكوفسكي، تقول:
(حين عملنا في الفيلم، كان الممثلون يدركون أنه من النوع الباروكي، وبالتالي لم يكن حسناً تقديم لحظات حافلة بالمعني كما الناس العاديين، لأن ذلك يتعارض مع ما يطرحه الفيلم. هذا الفيلم يتسم بالفخامة والضخامة، وشخصياته تعيش في مستوي عالٍ من العواطف. لذا يتعين عليك، كممثل، أن تبدأ من أكثر المستويات ارتفاعا وتري الى أي مدي من الارتفاع يمكنك أن تمضي.
في عدد كبير من أفلام الحركة الأكشن نجد اهتماما بالحدث، بالمعارك، بالمطاردات، أكثر من الأداء.. بدعوى أن الجمهور يأتي ليشاهد الممثلين في مواقف مليئة بالحركة والعنف لا ليري أداءً.
الشخصيات عادةً هي غير مركّبة ولا تتطلب جهداً تمثيلياً عالياً، وهي تؤدي على المستوي السطحي. الممثل في هذه الأفلام يعتمد على القوة العضلية، الوجه الجامد، الملامح الصارمة، الرشاقة في الحركة. أما المشاهد الحوارية التي تقتضي إبراز عواطف وانفعالات ومشاعر هي قليلة وليست مهمة إلا لدفع الحبكة.
وفي عدد كبير من أفلام الرعب والخيال العلمي نلاحظ الاعتماد على المكياج والمؤثرات الخاصة، البصرية، أكثر من الأداء. فالجمهور، من وجهة نظر صانعي هذه الأفلام، يأتي ليشاهد العنف والحركة والبصريات لا الأداء.
تقول ميريل ستريب: (من الممتع أن تشاهد هذه الأفلام، لا أن تشارك فيها. إنها لا تتيح للممثل أن يوظف كل أجزاء نفسيته ومخيلته وقدراته، بل يوظف أجزاء أخري.
عندما بدأت السينما في النطق، وجد المنتجون والموزعون في الأغنية والاستعراض حقلاً خصباً يدر أرباحاً خيالية، فالأغنية كانت - وما تزال. رائجة شعبياً، نظراً لارتباطها بالوجدان وما تطرحه من قيم رومانسية، ولما تحققه من تعويض عاطفي في مواجهة واقع مليء بالخيبات والإحباطات والإخفاقات والضغوطات.
لهذا أخذت السينما تستعين بمطربين وراقصين مشهورين لا يتميزون إلا بموهبة الغناء أو الرقص، وعشق الجماهير لأصواتهم واستعراضاتهم، فقدراتهم التمثيلية محدودة أو معدومة، وحضورهم السينمائي باهت. لكن الجمهور لم يكن يكترث بالأداء التمثيلي إطلاقاً، ولم يكن ينزعج أو يستاء من قطع وتعطيل الأغنية للسرد الدرامي، فالأحداث ذاتها لا تشكّل أهمية كبيرة بالنسبة للمتفرج، ذلك لأنه يرتاد هذه الأفلام لكي يستمع، في المقام الأول، الى الأغاني ويتفرج على الرقصات والاستعراضات.
القدرة الأدائية وقوة الحضور وعمق التجسيد خاصيات غير مهمة وغير مؤثرة في أغلب الأفلام الغنائية والاستعراضية، الصوت، بقوته وجماله ونقاوته، هي الأساس، العنصر الأهم والأكثر فعالية.
في السينما، بإمكان أي مطرب أو رياضي أو بطل في كمال الأجسام أن يضطلع ببطولة الفيلم، ذلك لأن الأدوار المرسومة غالباً ما تكون مسطحة وغير مركّبة، وهي تحاول أن تستثمر مواهبه وقدراته التي حققها في مجاله الطبيعي الآخر الذي اشتهر فيه، وهذه ا لشهرة وحدها كافية لفتح باب السينما أمامه، إذ أن مشاركته في الفيلم تعني الضمان الأكيد لرواج الفيلم تجارياً.
من السهل التمييز بين نوعين أساسيين من الممثلين: الممثل الخلاف والممثل الدمية. الاختلاف بينهما لا يكمن في الطاقة التعبيرية عند كل منهما فحسب، بل أيضاً في درجة الحساسية تجاه الشخصية.. والتمثيل عامةً، كذلك القدرة على الابتكار، والاعتماد على المخيلة وتوظيفها بشكل دائم. والسعي المستمر لتطوير الأدوات والإمكانيات.
الممثل الدمية خادم مطيع للدور، وينفذ الأوامر فحسب، إنه حبيس تخوم رؤية ومخيلة المؤلف أو المخرج، وبالنسبة للعمل ككل، يمكن اعتباره قطعة ديكور يحركها صانع العمل حسب مشيئته أو تصويراته. عندما يتم ترشيحه لدور ما، فإنه يقبله كما هو، ويؤديه كما هو. إنه لا يحلّل ولا يفسر. بالتالي هو لا يساهم في تمديد الشخصية ونموها. إنها تظل ناقصة النمو وخاوية. وهذا يرجع الى عدم امتلاكه القدرة على سبر الشخصية والكشف عن أعماقها، ومحدودية الأدوات التي يستخدمها في بناء الشخصية. انفعالاته ومشاعره غير منسّقة، أعماقه محجبة، عواطفه وأفكاره مطموسة. ذاته لا تمتزج بالشخصية ولا يقوم بتحويل نفسه من الداخل. الدوافع والمحركات لا تعنيه لأنه لا يلج الشخصية عبر مستويات فكرية وسيكولوجية. إنه يمثّل الشخصية ولا يعيشها. لا يكشف الحياة الداخلية للشخصية بل يطفو على السطح.. إنه، إذن، أكثر تركيزاً على المظاهر الخارجية والاستجابات المباشرة. وكلما كان الدور نمطياً وأحادي البعد، ازداد اقترابا منه وقبولاً له.
يقول كلاوس كينسكي: (هناك العديد من الأشخاص الذين يسمون أنفسهم ممثلين، إلا أن التمثيل بالنسبة لهم مجرد وظيفة يرتزقون منها. إنهم يلعبون أدواراً ثم يعودون الى بيوتهم. عندما ترغب في تأسيس اتصال حقيقي بجمهورك، يتعيّن عليك قبل كل شيء أن تكون ما تجسده، لا أن تلعب دوراً وتمضي.
الممثل الخلاّق لا يحجم عن الأدوار الصعبة والمركّبة والعنيفة، حتى وإن اقتضت جهداً وعناية ووقتاً.
الشخصية المركّبة هي تلك المتعددة الأبعاد، المليئة بالتناقضات، التي تتحدي التصنيف والقولبة والنمذجة. ملامحها متغيّرة، دوافعها غير واضحة، مشاعرها متحولة، ولا يمكن التنبؤ بما ستفعله أو ستقوله. إنها لا تعارف، أو لا تستطيع أن تفسّر، مشاعرها ومخاوفها وما يحكم علاقاتها بالآخرين وبالأشياء المحيطة. مشاعرها، بالأحرى، محجّبة.
وغيها بالذات مشكوك فيه. أهدافها ليست دقيقة بل مغلفة بالسديم. أعماقها متعددة الطبقات. إنفعالاتها تتباين حسب المواقف والحالات المختلفة التي تجد نفسها مقحمة فيها. إنها تتحرك لكن دون أن تعرف وجهتها وغايتها، والى أين ستصل، وفي أية محطة سترتاح.
ولأن هذه الشخصية لا تستقر في موقع معين، ولا ترتاح في نمط سهل من السلوك أو حالة ثابتة من التعبير، ولا تخضع لتقييم عاطفي محدّد، فإن المتفرج يقف أمامها عاجزاً عن الفهم أو إبداء حكمٍ ما، ويجد نفسه مرغماً على التخلي عن اليقين والتسليم بما يراه. فهو إزاء شخصية متناقضة، مشوشة، إنفصامية تقريباً. إنها قوية وضعيفة، وديعة وعنيفة، صريحة وكتومة، حساسة وفظة.. إنها تشبه المتفرج في حياته اليومية، ذلك لأنها نتاج واقع مركّب، غير منتظم، غير مستقر، وبالغ الغموض.
الشخصية المركّبة، بعكس النمطية، لا تملك أجوبة. بواعثها ودوافعها مبهمة. تصرفاتها تبدو لنا، وحتى للشخصية ذاتها، غير مبررة أو غير واضحة الدوافع. لا تعرف ماذا ستفعل في اللحظة التالية، ولا تستطيع أن تحل معضلاتها وتعقيداتها.
يقول روبرت دي نيرو: (أحب أن أؤدي الشخصية المركّبة. الكاتب الجيد يرسم الشخصيات الواقعية التي هي ليست طيبة ولا شريرة، بل تلك التي تدخل حالات وأوضاع تجبرها على اتخاذ قرارات معينة، وهذه القرارات قد لا تكون أحياناً الأفضل، غير أن استجاباتها تماثل استجابات وردود أفعال الأشخاص الحقيقيين. الشخصية التي دائماً تتفاعل على نحو إيجابي تصلح للأفلام الفنتازية فقط. أنا أفضّل الشخصيات الواقعية التي يمكن تصديقها.
ويقول كيرك دوجلاس: (عندما أؤدي شخصية رجل ضعيف فإنني أحاول أن اكتشف مكمن القوة منها، وعندما يؤدي شخصية قوية فإني أحاول أن أري مكمن الضعف فيها.
العمل الدرامي يقهر توقعات المتفرج وتنبؤاته بشأن الشخصيات وعلاقاتها. المتفرج عادةً مغرم بإصدار الأحكام، ولأن الأحكام غالباً ما تكون متسرعة وغير دقيقة وخاطئة، فإن على الفنان أن يخرّبها ويخلق حالة من الشك والالتباس، أن يجعل المتفرج يفقد توازنه واطمئنانه، وأن يجعله يعيش الحالات ذاتها التي تعيشها الشخصية.
الشخصية المركّبة ليست إيجابية بالمعني الأيديولوجي. إنها ضد البطل الإيجابي الذي يعرف كل شيء، يحسم كل شيء، والذي هو مزيّف وغير بشري. الشخصية المركبة لا تلبّي حاجة المتفرج الى من يحل مشاكله ويقهر أعداءه ويحقق أحلامه.. بل تجسّد الكامن والمكبوت، الأشياء التي لا يرغب المتفرج في مواجهتها أو الكشف عنها.
أما الشخصية النمطية فهي أحادية البعد، ذات ملامح واضحة وغايات محددة ومشاعر صارمة، ومن السهل التنبؤ بسلوكها وأفعالها وأفكارها. إنها لا تحتوي في داخلها التناقضات والتعارضات الموجودة في أي كائن بشري. إنها تمثّل الخير المطلق أو الشر المطلق. لا تتغييّر، لا تتحوّل .. بالتالي لا تفاجيء. شخصية كهذه غالباً ما تكون مسطحة، بلا عمق، وغير مثيرة للاهتمام.
وجاك ليمون بدوره يمتدح وجه زميله والتر ماثو قائلاً:
(لدي ماثو ما اعتبره أعظم وجه في العالم كممثل. وجهه خريطة لكل انفعال بشري..
المخرج إنجمار بيرجمان يصف مشهداً من فيلمه (برسونا. حيث بيبي أندرسون تتكلم في مونولوج؛ طويل بينما ليف أولمان تصغي صامتة.. يقول بيرجمان: (لو نظرت الى وجه ليف فإنك ستري بأنه يتورّمك وينتفخ طوال الوقت. إنه آسر.. شفتاها تنتفخان، عيناها تصيران أكثر قتامة وغموضاً، وهي كلها تتحول الى نوع من االشراهة. ثمة لقطة جانبية لها، هنا، والتي لا تضاهي، بإمكان المرء أن يري وجهها يتحوّل الى ما يشبه القناع الحسّي، الفاتر، غير الودّي. حين أردنا أن نصور اللقطة، طلبت من ليف أن تحشد كل إحساسها في شفتيها، كان عليها أن تركّز وتكثّف كل حساسيتها وتضعها هناك. بإمكان المرء أن يضع إحساسه في أجزاء مختلفة من الجسد، بامكانه أن يستجمع انفعالاته في الإصبع أو الإبهام أو المؤخرة أو الشفاه..
من بين كل الأسطح، أو المظاهر الخارجية، الوجه هو الأكثر تعبيرية. إنه مرآة تكشف وتفشي الكثير. وبما أن الوجه يعكس أفكاراً ومشاعر، فإنه ليس مجرد سطح بل سطح عاكس، بالتالي فإن الوجوه - في الفيلم - هي بالتأكيد الأكثر قيمةً، معرفياً، من الأسطح الأخرى على الشاشة - الأشياء، المناظر، وغيرها - والتي لا يمكن أن تكون إلا نفسها.
يقول إنجمار بيرجمان: (الكثير من المخرجين ينسون بأن عملنا في السينما يبدأ معل الوجه البشري. بإمكاننا طبعاً الاستغراق كلياً في جماليات المونتاج، وتصوير الأشياء والطبيعة الصامتة في إيقاع رائع، وإضفاء جمال مذهل على تأملاتنا في الطبيعة... لكن الاقتراب من الوجه البشري هو بال شك الخاصية المميزة للفيلم. ويقول كارل دراير:
(كل من يشاهد أفلامي سيعرف أية أهمية أوليها للوجه الإنساني. انها أرض لا يكلّ المرء من اكتشافها..
ويقول فلليني: (الوجوه دائماً ألهمت مخيلتي. لا أملّ من النظر الى الوجوه حتى أجد الوجه المناسب للدور. ومن أجل دور قصير قد أنظر الى ألف وجه حتى أعثر على الأمثل، الوجه هو أول ما يتيسّر لنا فهمه..
لكن الوجه ليس مرآة فحسب، بل هو قناع أيضاً.
الكاميرا باقترابها أكثر من الوجه لا تستطيع بالضرورة أن تقترب أكثر من الحالات الذهنية. الوجه، كذلك، يخفي أو يخدع أو يضلل.. إنه يقنع الكثير. الوجه في الفيلم، كما في الحياة، قد لا يوفر لنا المعرفة الطفيفة أو حتى التلميح الأدنى. والحالات الذاتية التي يعبّر عنها الوجه يمكن أن تكون تعبيرات موضوعية بالنسبة للمتفرج.. كما يقول لورنس شاخر (وملما العمق المقترح للشاشة هو وهمي. كذلك هو عمق الوجه. ليس ثمة داخل يمكن اختراقه لرؤية ما يوجد في الأسفل. الوجه ها يظل سطحاً مستغلقاً، ولا يمكن النفاذ إليه.
هناك ممثل يزخرف وجهه بتعبيرات مميّزة ليقنعنا بأنه - على سبيل المثال - رجل متخلف عقلياً. وممثل أخر يغيّر شكل وجهه بحيث ينقل لنا الإحساس أو الحالة الداخلية، كما فعل جاك نيكولسون عندما تعرّض لجراحة في المخ في نهاية فيلم (أحدهم طار فوق عش الوقواق.. إن وجه الممثل الأول لا يعكس الداخل، لا يعكس الحالة الذهنية، بل هو موجّه نحو الخارج.. إنه مبرمج، متلاعب به، أقرب الى الآلية. بينما وجه الممثل الثاني يتحوّل من الداخل الى الخارج، عاكساً الفكر والشعور كما لو أنه يصغي الى صوت داخلي ما أو يتذكر شيئاً.
يقول الممثل روبرت دونات: (الوجه المعبّر يساعد على توصيل الرسائل الصادرة من قلب وعقل الفنان. أقول يساعد لكنه لا يستطيع أن يروي القصة كاملة. تعبيرات الوجه هي سطحية، خارجية، بالتالي هي ليست دائماً صادقة. الممثل السيئ، الكسول، يعبّر عن المفاجأة، مثلاً، برفع الحواجب واهتزاز الأنف وانفراج الشفتين وجحوظ العينين. الممثل الجيد يمضي الى الجذور الفعلية للعملية ويتخيّل الحالة الذهنية والحالة العاطفية التي تحيط بالشخصية لحظة المفاجأة، وطبيعة المفاجأة، ودرجة الصدمة الذهنية والعاطفية التي يمكن حدوثها..
عند بعض الممثلين قدرة فذّة على التعبير عن انفعال ما بواسطة العينين، حتى أنهم - في أحوال معينة، - يعتمدون في التعبير على العينين.
العين، كما يقال، مرآة الروح.
يقول المصور السينمائي سفن نايكفست: (الوجه عالم بذاته. أظن أنه حقل اختصاص.. كمصور. إذا كنت مهتماً بالكائنات البشرية فلا بد أن تكون مهتماً بالوجوه. أحاول دائماً أن ألتقط الضوء في عيون الممثلين، لأنني أشعر بأن العيون هي مرايا الروح. بعض المخرجين يشعرون بالانزعاج لدي رؤيتهم الانعكاسات في العيون. لكن ثمة دائماً إنعكاسات في العيون، ولو امتلكت ذلك الانعكاس فإن بوسعك أن تري الكائن البشري وهو يفكر. ثمة حضور ما هناك.
بنظرةٍ ما، بالتماه، بوميض.. ينقل الممثلون ما تعجز الكلمات عن التعبير عنه، ويكشفون المشاعر الداخلية للشخصية دون اللجوء الى توضيح لفظي. فالممثل، من خلال عينيه، يُظهر أو يكشف روحه. وعندما تكون اللقطة كبيرة على الوجه فإن كل الأداء يأتي من خلف المقلتين.
بربارا ستانويك: (الأعين أعظم أداة في السينما.. الأداء السينمائي العظيم يكمن في الأمين..
جيرمي آيرونز: (الكاميرا تحب الأعين المفعمة بالحياة، والتي تعرف كيف تروي القصص..
بيتي ديفيز: (شعرت دائماً بالامتنان الشديد لعينيّ.. لم يكن لديّ ما أقدمه للكاميرا غير عينيّ..
في حديث للمخرجة جين كامبيون عن الممثلة هولي هنتر التي عملت معها في فيلم (البيانو.، تقول المخرجة :
(لأن هولي لا تتكلم على الإطلاق في الفيلم، نظراً لكونها خرساء، فقد اعتمدت على نظراتها . لقد أدركت بأن العينين من أهم عناصر الأداء. إن لديها عينين متقدمتين، متوهجتين، وذات تحديقة حادة. عينان بليغتان جداً..
وفي حديث للمخرج تيم بيرتون عن الممثل جوني ديب، يقول:
(إنه ممثل قادر على إدهاشي. أثناء تصوير فيلم Edward Scissor hards كنت واقفاً على بعد قدمين منه، أراقبه وهو يؤدي مشهداً. في اليوم التالي، شاهدت اللقطة نفسها في نسخة التصوير اليومية، وشعرت بالذهول.. فقد استطاع، دون فعل أي شيء، أن يعبّر بعينيه بطريقة استثنائية.. كان كما لو على وشك البكاء. لا أعرف كيف فعل ذلك.. وحده، ودون عون من الكاميرا أو الإضاءة.. كان شيئاً لا يُصدق.
وعن أهمية التحديقة، يقول الممثل الشاب إدوارد نورتون:
(لإيجاد، أو للتعبير عن مستوي الكثافة داخل ذات الممثل، هناك خاصيات معينة تتصل بالصوت، أو الطريقة التي تستخدم بها عينيك أمام الكاميرا، يمكن أن تساعدك.. إضافة الى خاصيات السكون والصمت، أي لحظات الصمت القصيرة والتحديقات، التي قُلل من شأنها كثيراً فيما يتعلق بالتأثير الذي يمكن أن تمارسه. إذا كان هناك ممثل، والذي تشعر لديه بكثافة السكون، أو الذي يفهم بعمق الى أي حد يمكن للتحديقة أن تكون رهيبة، كنقيض للإيحاءات المعمّمة للغضب من خلال الإيماءة أو العبوس، فهو روبرت دي نيرو.
العين، كما يشير ماكلوهان، عضو محايد، وهي تحتاج الى منبّه كي ترتجّ حياديتها المتأصلة.
إذا كنا، في حياتنا الواقعية، لا نستطيع أن ننظر مباشرة في عينيّْ الآخر دون أن نشعر باتصالٍ ما، بتقاعلٍ ما، فإننا أمنام الشاشة السينمائية - بما تتضمنه من منبّهات لا تُحصي بفعل حركة الصور المتعاقبة، وما تثيره هذه الصور من توترات وانفعالات ومشاعر - نكون في حالة اتصال مباشر وعميق على السمت الفكري والعاطفي، الشعوري واللاشعوري، وبالنتيجة، يجذبنا الفيلم بقوة الى عالمه ليؤثر فينا ويخلق لدينا استجابات متعددة ومتباينة.
المتفرج يظل مشدوداً الى الشاشة بواسطة التحديقة الطويلة، الثابتة، اليقظة، المسمّرة. عيناه مفتوحتان على سعتهما، وكل إطرافه تعني فوات اللقطة ومرورها بلا ملاحظة. بالعين يحتوي المتفرج العالم الذي يتحرك أمامه، ويرصد أدق التفاصيل، ويكون شاهداً أو مشاركاً حسب رغبته ومشيئته.
لكن، في المقابل، هناك التحديقة العكسية.. عندما يحدّق الممثل أو الممثلة في الكاميرا، أي في أعيننا، في لحظة معينة من لحظات الفيلم أو في نهايته. هذه التحديقة تربكنا وتنتزعنا من حالة الطمأنينة والأمان التي يوفرها إحساسنا بأننا نتفرج ولا ننخرط، نتلقى ولا نشارك. التحديقة التي نشعر إزاءها أحياناً بالقلق والتوتر والحيرة والخجل، ولا نعود نعرف كيف نستجيب لها لأنها تباغتنا وتخترق المسافة التي نحاول جاهدين المحافظة عليها بيننا وبين الشاشة. إنها االتحديقة السرمدية التي توجهها نحونا الشخصية القاطنة في الشاشة والتي، في لحظة مفاجئة، تنظر إلينا، تتفرس فينا، على نحو مباشر وحاد، وبعينين لا تطرفان. الشخصية تخرج بغتة من عالمها، من زمنها، لتنظر إلينا، لتتصل بنا، لتجرّدنا من وهم الموضوعية أو تحطم موقف اللامبالاة، لتقدّم لنا تحذيراً أو شكوى.
في فيلم M للمخرج فريتز لانج، يوجّه الممثل بيتر لوري، قاتل الأطفال، تحديقته الثابتة والمرعوبة الى الكاميرا، إلينا، فيما يتمتم: (أنا دوماً خائف، ثمة من يتبعني في صمت، مع ذلك فإنني أسمعه.. إنه أنا الى ألاحق نفسي، ولا أستطيع الهرب..
وبهذه التحديقة لا يكشف القاتل الهاوية التي يسقط فيها دون أن يصل الى القعر، بل أيضاً يدعو المتفرج الى التمعّن ملياً في الداخل الذي تتناسل فيه الآثام والمخاوف.
المخرج تاركوفسكي يتجاوز الاستخدام الشائع لتحديقة الممثل الى الكاميرا باعتبارها وسيلة لنقل رسالة عقلية أو فكرية، جاعلاً التحديقة وسيلة لتأسيس الاتصال المباشر بين مشاعر الشخصية الحميمية والإدراك الغريزي للمتفرج، ولتكثيف تماهي المتفرج مع العالم الداخلي للشخصية.
في كتابها (الميثولوجيا المدنسة.، تتحدث الناقدة الإيطالية إيفيت بيروت عن اللقطة الختامية في فيلم (غازلة الدانتيلا. للمخرج السويسري كلود جوريتا، قائلة بأن تحديقة البطلة ايزابيل أوبير في الكاميرا تخلق جواً محركاً وشاعرياً من الغموض السري عن طريق احتجاز الصورة على نحو لا نهائي. أنها تنظر الى الكاميرا، جامدة بلا حراك، راسمة ابتسامة غامضة، هذه النظرة تثير العواطف الأعمق لأنها تنقل الألم والبعد الذي لا يمكن تجسيره بين شخصين. إنها تتحدي اليقين، محوّلة الصفاء الى شك. ما الذي ينظر إلينا حقيقةً؟ أهو الغباء أم الحكمة؟ الجنون أم الإدراك؟ .. في هذه التحديقة نجد هدوء ورزانة روح بسيطة محكوم عليها بالعزلة، لكن في هذه التحديقة المجروحة لا تكمن الحساسية فقط، بل ربما شيء من التهكم أيضاً.
الصوت من العناصر الأساسية والمهمة، التي تمارس تأثيراً كببراً في الأداء وفي إيقاع الشخصية. والممثل يستغل طاقته الصوتية بحيث يكون للحوار الذي يلقيه تأثيراً عميقاً في نفس المتفرج.
يتعين على الممثل أن يعي إمكانياته الصوتية والوسط الذي من خلاله ينقل صوته، وأن يوظف بذكاء وعلي نحو ملائم كل مظهر من مظاهر صوته الأنفاس، اللهاث، الشهقات، الهمسات، الآهات، الأنّات، الصرخات، الضحكات، النجيب..الخ وكل طبقة من طبقات صوته حجم الصوت، درجاته،سرعته، إيقاعه، نبراته.. الخ وذلك للكشف عن مشاعر وأفكار واستجابات الشخصية.
عكس الممثل أن يحدّد كيفية إلقاء كل جملة من الحوار.. هل في نفّس واحد كجملة طويلة واحدة أم بشكل متقطع وذلك باللجوء الى لحظات الصمت القصيرة؟ وما هي الكلمات التي لا بد من توكيدها؟ وهذا بالطبع يستلزم معرفة دلالة ومغزى الكلام أو الجمل، والإحساس بكل كلمة ينطقها، حتى لا يبدو وكأنه يردّد ما حفظه دون فهم، أو يلقي حواره كما لو يلقي معلومة أو محاضرة. في علاقة الممثل بالحوار فإنه يقوم أولاً بتأويل الجمل والكلمات وفق ما تمثله شخصيته، ومن ثم يحاول فهم كيفية التعامل مع الكلمات المكتوبة في السيناريو، وترجمة ذلك الحوار الى شيء هو أكثر من مجرد (حديث..
عند دراسة الممثل للشخصية فإنه ينتحل صوت شخصيته، لكن ليس بمعني تغيير صوته الطبيعي في كل مرة. فمن خلال معرفة وفهم طبيعة وسمات ذهنية وسيكولوجية شخصيته، إضافة الى وضعها الاجتماعي والاقتصادي، وخلفيتها الثقافية والتربوية، وعمرها الزمني، يكون باستطاعة الممثل توليد أو إعادة إنتاج خصائص الصوت المميزة. إن مهارات الممثل الصوتية تبرز عند تعامله مع الممثل الآخر في المشهد، وفهم الطريقة التي بها يوظف الآخر صوته، بحيث يكون قادراً على التفاعل معه على تحو خلاق وفعال. على سبيل المثال، لو استدعي السيناريو حالة ما والتي يتوجب فيها على الشخصية أن تفرض صوتها أي سلطتها على الأخرى، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ هل يكفي رفع درجة الصوت، والتحدث بصوت مرتفع؟ في الواقع، قد يوحي هذا بالنقيض تماماً، فالصراخ والزعيق هو رد فعل متطرف، ويمكن أن يعبّر عن محاولة يائسة لدي الفرد لتأكيد هيمنته وسيطرته، وقد يخفق في تحقيق ذلك، لأن الزعيق لا يعبّر عن السلطة الفعلية. فبإمكان الفرد أن يفرض السطوة بخقض مستوي الصوت على أن تكون نبراته واثقة وحازمة، وباختيار طبقة صوت مختلفة عن الآخر، وبالتحكم - درامياً وإيقاعيا - في استجاباته أو ردوده على ما يقوله الآخر.
مارلون براندو وروبرت دي نيرو، كمثال من الممثلين الذين يسعون الى إعطاء اللغة سلطة إضافية.. تعبيرية وايحائية، وذلك من خلال التكثيف والاختزال والتركيز على المظاهر الصوتية المتنوعة كالغمغمة والهمهمة والتلعثم والتكرار.
براندو، في الأب الروحي، إختار لشخصيته طبقة صوتية مميزة، متأثراً بصوت واحد من رجال المافيا والذي أدلي بشهادته ضد الجريمة المنظمة. فقد استمع هو والمخرج كوبولا، الى الأشرطة المسجلة، وكان براندو مأخوذاً بحرس الصوت الخفيض، والذي يبدو صاحبه كما لو أنه مصاب بعسر التنفس، وكان براندو يري بأن ذوي النفوذ والسلطة لا يحتاجون الى الصراخ لفرض هيمتتهم.
أما دي نيرو فقد درس أداء براندو بما أنه يؤدي الشخصية ذاتها في مرحلة الشباب..
يقول دي نيرو: (لقد حاولت أن أربط أداء براندو بي، أن أقيم اتصالاً بيني وبيته وأن أتخيله أصغر سنّاً أو أن أكون هو في شبابه. لذلك حاولت أن أغيّر إيقاع السرعة في الكلام، في المواقع التي يكون هو فيها أبطأ، وأن أحصل على نبرات الخشونة في صوته.. مجرد مطلع النبرات. كان ذلك ممتعاً ومشوقاً.. أشبه بمعضلة علمية..
ومن المعروف عن دي نيرو، في تحضيره للأدوار، أنه يقوم بتسجيل أصوات الناس، ومنها يلتقط الصوت الذي يشعر بأنه قريب من صوت الشخصية التي ينوي تمثيلها.
الممثلون الإنجليز، الأكثر ارتباطها بالمسرح، والأكثر اعتمادا على الأداء الكلاسيكي لورنس اوليفييه، مايكل ريدجريف، جون جيلجود.. وغيرهم كانوا يحققون التأثير من خلال امكانياتهم الصوتية وقدرتهم على توظيف موسيقي اللغة.
في أيام السينما الصامتة، كما أشرنا من قبل، كان الممثل يستعيض عن الكلام بالإيماءة. كان يعتمد على الإيماءة في توصيل شعور أو فكرة أو معني ما.
عندما ظهرت الأفلام الناطقة استقبلها الجمهور بترحيب حماسي، لكن عدداً من الممثلين والممثلات اضطروا الى الاعتزال نظراً لعيوب لديهم في الصوت أو اللكنة، كما أن عدداً من الشخصيات السينمائية عبّروا عن عدائهم أو معارضتهم أو تشككهم معتقدين أن الصوت يفسد فن التمثيل الصامت، ويقضي على جمال الصمت، ويقلل من قيمة الجانب التشكيلي البحث لفن السينما، ويدمّر التوظيف الحقيقي للفيلم. وبعضهم ظن أنها مجرد موضة سوف تختفي بعد عام أو عامين.
نجمة السينما الصامتة ليليان جيش قالت: (عندما دخل الصوت، خرجت المخيلة..
والمخرج جريفيث قال: (السينما الناطقة انتحار. خمسة في المئة فقط من سكان العالم يتحدثون الإنجليزية. أنا أقدم أعمال للجميع، فلماذا ينبغي أن أقلّص جمهوري؟
الفيلم الصامت قادر أن يخاطب العالم..
وكان شارلي شابلن يري بأن ليس لديه ما يفعله بالكلمة أو الصوت اللذين يشكلان خطراً على نقاء السينما وخصوصيتها، وكان يردد: (الأفلام الناطقة؟ إني أكرهها. لقد جاءت لتفسد أقدم فن في العالم.. فن التمثيل الإيمائي. إنها تلغي جمال الصمت.. مع ملاحظة أن شابلن حقق فيلمين صامتين في فترة ازدهار السينما الناطقة إلا أنه اضطر الى الإذعان أخيراً وحقق أفلاماً ناطقة.
المخرج الألماني مورنو ظل يرفض الفيلم الناطق حتى نهاية حياته، وبعض المخرجين الفرنسيين هاجموا الأفلام الناطقة.
لكن آخرين رأوا في إدخال الصوت فعلاً إختراقياً جعل الوسط السينما أكثر غني فكرياً وعاطفياً، إضافة الى أن الصوت قد وسّع الى حد كير المجال التعبيري، وصار عنصراً هاماً في إمكانيات التعبير السينمائي.
حين فسحت الأفلام الصامتة المجال للأفلام الناطقة، ظهر عنصر فني مهم في الأستوديو: هو مهندس الصوت. إنه الذي يسجل الأصوات والحوارات، ويمزج الأصوات التي تؤلف الخاصية النغمية للصورة، وهو الذي يساعد المثل على توكيد ما هو أفضل في حجم وجودة الصوت. إضافة الى ذلك، فإن مهندس الصوت لا يقدم الى الشاشة الحوار فقط، إنما أكثر الأصوات تعقيداً.. من الهمسات الأكثر خفوتاً الى الفواصل الموسيقية مروراً بالضجيج والأصوات الطبيعية.
الممثل السينمائي لا يتكلم فحسب، بل يخضع صوته للتسجيل، أي أن ما نسمعه ليس صوت الممثل فحسب بل هو أيضاً إعادة إنتاج لصوته على الشريط.. بمعني أن الصوت غير مباشر أو ثابت كما في المسرح إنما هو قابل للتغيير عبر سلسلة من الضرورات العملية والخيارات التقنية التي تتصل بالميكروفونات وأنواعها ومدي قربها أو بعدها عن الممثل وفقاً لحجم اللقطات وزوايا الكاميرا وحركاتها. وهذا يستدعي من الممثل استيعابا لخاصيات الوسط السينمائي والمتطلبات التقنية في تسجيل الصوت.
كما يقتضي تعاوناً فنياً كاملاً بين الممثل ومهندس الصوت الذي يحدّد ما هو صالح وما هو غير صالح بأجهزته المتطورة تكنولوجياً والأكثر حساسية من الأذن البشرية. فالممثل لديه سيطرة محدودة على صوته، ومهندس الصوت يتحكم بالطريقة التي يتم بها التسجيل، ويتلاعب بصوت الممثل بحيث يتداخل مع أصوات خارجية ربما لا يعييها الممثل. كما أن هناك المونتاج الذي يدعم صوت الممثل بعناصر أو مؤثرات صوتية أخري.
إن الممثل يدرك بأن أداءه ليس مستقلاً بل هو خاضع لشروط الوسط الخاصة التي يعمل ضمنها، بالتالي يتعيّن عليه أن يستوعب هذا الوسط وتخومه، وأن يعي كيفية التعامل والتفاعل مع عناصر الصوت المحيطة، فهو لا يتفاعل مع المحيط الأصوات والإكسسوارات مثلاً على المستوي البصري فقط، إنما أيضاً على المستوي السمعي.
لنفترض مشهداً يضمّ شخصين أحدهما يرمي الكرة تجاه الجدار فيما يتحدث.. كيف ينبغي أن يتفاعل الممثل، بصرياً وسمعياً، مع الأصوات التي تصدرها الكرة أثناء ارتطامها بالجدار وعودتها إليه؟ هل يصمت حين يرمي الكرة ثم بتابع كلامه، دون أن يشكل الصوت المحيط أي تأثير، بحيث لا يقاطع ذلك الصوت حواره، أم أنه يستغل ذلك الصوت على نحو خلاّق لإعطاء حواره وكلماته حدّه ورهافة.. بمعني التوكيد على كلمات معينة لحظة رمي وارتطام الكرة بالجدار؟
الممثل الذي لا يعي القوي المحرّكة، المتضمنة في إتحاد أصوات الممثل والآخر والمحيط، سوف لن يكون قادراً على تأدية دوره بشكل جيد... بعكس الممثل الذي يحقق اتصالاً مع كل الأصوات المحيطة به.
أقرأ أيضاً: