إلى

التي نثرت الفتنة – كالبذور –
كي تدلّ القلب إلى مأواه..

" من الذي سوف يمتدحك
مديحاً لم يحدث من قبل"

زرادشت
(القرن الرابع قبل الميلاد)

1

شاخصاً نحو حلم آسر يستل من مياه العينين مراياه، ويرفع الأهداب مثلما يرفع الدليل تخوم الغيب، ليمتشق بعدها الأشكال ويرشق بها جهات النوم..
يهبّ فيّ فجأة ذلك الحنين الشره، الحنين المموّه تحت لهاث النهار، المبلل برذاذ الوجع، حنين أن يصطفيك الحلم من بين الوجوه العابرة على ضفاف أنفاسي، ويزرعك ثمرة من ضوء في سرير الهذيان حيث تفيض النعم والمدائح، ويفيض فيّ ريش الوجد، ولا يبق لليقظة إلا ظلها الشاحب،
يا حلم سيّجْ مدار حبي بشهقات الندى وضرّجْ قلبي بحليب الأنثى.

2

أسمع رنين الليل
إذن هي قادمة..
تلك التي سوف تؤثث الوجود
ببلاغة الوجد.

3

الليل لا يتجمّل إلا عند مجيئك..
آنذاك يتعطّر بأنفاسك،
يغتسل بحواسك،
ثم يوقظني لأشهد المجيء الخارق.

4

ها الفرح يعبر ممرات روحي الساهرة.

5

الآن، والليل في كل مكان،
من أين ينبع الضوء
إن لم يكن من الفم المسكون بالشهقة؟

6

كم أشتهي أن أكون
سجين النفحة الطالعة
من فم اللذة.

7

رفقاً أيها العشب
بالسائرة خفافاً
بين فخاخ الغواية وفخاخ المساء
بلا قنديل ولا نفير
تمتحن يقظة الطريق بطيش العسل الهاطل من أصابعها
وبالفراغ ترفو الفراغ
وتبسط الجهات كالأوشحة
لتضيء المسكن المزروع في الحدقة
حيث أهيئ الخلوة لاندلاع أشد من الهذيان.
رفقاً أيها العشب
بالقدمين المغسولتين بماء الورد
كن رحيماً بخطى من أحب
أيها العشب.

8

السراب الذي ترون
غير السراب الذي أرى
سرابي وجهٌ يضرم البهاء في الشرفات
ويرمي الأقنعة الشائخة نحو مغيب اليأس.
وجه أحتمي به،
وبه أهتدي إلى أعياد الرغبة
رافعاً الهرج والنشيج.

9

الحلم يذرف الانتظار أمام أجفانك
افتحي له..
فهو شفيعي.

10

ها أنا،
تائه في الحلم، أبحث عنكِ..
نامي يا حبيبتي،
كي أراك.

11

الكون نائم
والخيول تجرّ كنوزه وأسلابه.
قبل أن تدخل الخيول حلمك،
تطرق بحوافرها سجادة النوم،
وتطلق صهيل الحب.

12

إذا كنتُ قد جننت بكِ
فلأن من يهواك منذور للجنون.

13

الحب:
انتظار مديد تحت شرفة الأمل.

14

العالم متجهم
علّميه الفكاهة أيتها المرحة.

15

وحدي هنا،
وأنتِ هناك
مع أطفال بحجم الجوز يطفرون من أحداقك
في عبث شيطاني
أ لم يخبرك أحدهم، وهو يشدّ طرف ثوبك
ليرغمك على الإصغاء إليه، فيما يشير:
- أنظري هناك.. كم هو وحيد ذلك الغريب.

16

أنفاسك لا تتبدّد..
إنها ترسو في الجلد.

17

ظبي يعدو في أروقة المطر،
يعلن قدومك الذي انتظرناه طويلاً.
أول ما نرى:
شمساً باردة
فحشداً من الفراشات
فعربة ملكية مرشوشة بالذهب.

18

إليك، يا الجميلة، هذه الهدية:
مدينتنا.

19

حلمت أنك نائمة
والريح تحرك السرير كالمهد
والبحر على مقربة يجثو كحارس ليلي كسول.

20

من يعرفك..
يختبر يقظة النرجس في حديقة الروح.

21

يا المرصودة للتطفل والتأمل،
سأخبرك عن وشاية القناع
وخيانة القمر..
هكذا أنت مرئية دائماً،
والجميع يرشقك بخيوط الغزل.

22

إليك وحدك
تنحاز حواسي.

23

بك، يا ابنة الضوء، أمتزج..
بك وحدك أكتمل.

24

بكِ، تشعّ كينونتي
بدونك، أنطفئ مثل بحيرة هرمة
غادرها القمر غاضباً، بلا وعد بالرجوع.

25

تحت ظلك، هزمتُ الموت.

26

من يشمّ دمي
يشمّ عبير ظلك.

27

عندما ألتفت أرى ظلي ظلك.

28

الشهقة الرحبة، المفتوحة على حلبة التواصل، المبحرة في المدى الأليف (بين فمٍ تتموّج فيه المداهمة ووجهٍ ينصت مأخوذاً بالنفحة المرتدة إلى الداخل) تتحرى دهشة الحب في سرير ينحسر عن عسل وعشب.
شهقة لها يقظة الشجر، لها مجون البحر، لها ما للفجر من نكهة وفجور.
الشهقة التي لا تشبه الشهقة.
ليست زائلة، ليست للتفتّت. تنداح كما تنداح الغابة في بلّور العرافة. تترك آثارها التي سرعان ما تسوّر مرفأ اليقين وترميه بالسديم.
شهقة ليست للإصغاء، بل للمعاشرة.
هي دويّ الروح حين تومض المفاجأة. بالأحرى، هي فضة الجوهر، رسولة النسغ السرّي.
ماذا تفعل أيها النديم بهذا الالتباس لحظة سطوع النفث الفاتن وانزلاقه في قرمز الغموض؟

- لا أعود كما كنت.

يا من يتجدّد بعد كل لقاء، وينتخب اسماً آخر وشكلاً آخر. ماذا ستقول الآن، أيها المتعدّد، في تأويل شهقة تزوّر معانيها ولا تفصح عن ألقابها؟

- لا أعود كما كنت.

أية تخوم تحدّ المباغتة المكتنزة بالحريق؟
الشهقة شهوة الرماد إلى النار، وهيامك الطائش يمضغ لؤلؤة الرؤيا، فلا تلمح في الزورق الشارد غير غروب جسدك نحو مسرح الأسلاب.

29

لم يبق إلا أن أملأ المكامن بالزعفران
وأرقب حفيف قدميك المبللتين بعطر المساء
المقبلتين، بلا حذر، صوب شراكي
غير أني لا أثق بالشراك..
فما من فخ نصبته إلا وصار رفيقاً بك،
شغوفاً بك،
وصار أسير العذوبة.

30

كل هذه السلالم العالية،
الأكثر علوّاً من خاصرة المدى،
ولم أصل إليك بعد؟!

31

قوس يبذر فضاء العشق بنوى المواعيد
قوس يشق هواء الخلوة بعنف الرحيل
قوس يحنو، وقوس يقسو
بينهما يسقي العاشق ثمرة جنونه.

32

لا تطرقوا الباب.
إنها في الخارج: تتنزّه مع حلمها
وعلى راحتها المريّشة،
يتنزّه المطر مع ذاكرة العشب.

33

الغريب، المكتنزة عيناه بالملح،
يهمس للجرح الأخير باعترافه الأخير:
أحببت امرأة بلون البهاء، بطعم البراءة
ومازلت أسير النفخة الغامضة.

34

لخطواتكِ رنين ريف، إغواء ثمرة
اشتعل فم ذلك الذي مسّ الثمرة
اشتعلت أصابعه،
وها هو يدنو مانحاً أهدابه للحريق.

35

يضل طريقه
ذلك الذي تقوده الصدفة
نحو مشارف عينيك.
في عينيك ترك العاشق سر جنونه
في عينيك خبّأ العاشق تاريخ موته.

36

عينان طفلتان
تنسجان من ماء الحكمة
منزلاً لدليل أعمى
ومنزلاً لغريب ضال يذرع رواق المدى
باحثاً عن دليل يرافقه إلى مأوى امرأة
يدّخر لها كل العشق وكل الجنون.
لا الدليل يرى
ولا الغريب يصل..
بينهما يقف الموت مراقباً المشهد في فضول
وعلى شفتيه ظل ابتسامة ميتة.

37

هناك من يطرق نافذة نومك:
عاشق يلذّ له أن يخلع جنونه
ومحموماً يدخل مع الزفير فم النوم
ليتأمل – دائخاً – غزو البهاء.

38

آه، لا تطرقوا شبّاك حلمي
لئلا ينال مني الصحو.

39

أطبقي أجفانك بإحكام
لئلا تنسلّ مخلوقات حلمك
فتقنصها فخاخ اليقظة.

40

هؤلاء الذين مرّوا تحت شرفتك،
كيف لم يعودوا، كيف ضاعوا؟
قيل لنا أنهم عبروا الثلج بلا مظلة ولا ذاكرة.

41

من عينيك تعلمت فصاحة الحب.

42

حضورك يعلن موت اللغة
وميلاد المخيلة.

43

جسدك: إيقاع الطفولة
حرير الدهشة.

44

يسهر فيّ وجهك..
هذا المتعدّد، نديم الخلوة.
يزهر فيّ صوتك..
هذا الذي يختزل الأعياد في همسة،
واهب الحظوة.

45

كالموسيقى يتهادى الصوت
كرنين أطفال
يركضون على ضفة الليل.

46

صوتك:
رعشة عشب تحت نقرات ثلجٍ
يتساقط بخفّة.. وعلى مهل.

47

أسدلي أهداب القمر
كي لا أرى، في العتمة، سواك.

48

منذور للنعيم، موعود بالعطايا
ذلك الذي يقطف دمعةً
تتدلى من أجفان من يهوى.

49

تتقوّس المدينة إجلالاً
حين تعبرين الساحة العامة
مثل غزالة من ضوء
لتنعمي على كل عاشق
حفنةً من الأمل
حفنةً من المعجزة.

50

آن تستحمين، يا أجمل الكائنات،
في أحداق الغريب،
هذا الذي لا يحلم إلا بك،
يهتز مسرح الشرائع
وتحتشد في الخارج نواقيس الفتنة.

51

أيتها الأنوثة!
أيتها الأنوثة المجنّحة!
لأجلك يبسط الكائن حديقـته
وأنت تشاطئين قوس المدى ولا تهبطين
هل البنفسج شركٌ والحديقة متاهة؟!

52

ليس شعراً
ليس نثراً
مدّ من البوح ينمو فيّ ويهبّ
هبوب الوقت في الحنين
هبوب الرماد في الأنين
اللذّة الخالصة في البوح البرئ من الإثم
البرئ من التملّق
لذة المديح في مهب الحمّى
حيث يندلع حضورك كاللهب.

53

صباح الخير
صباح الخير يا لؤلؤة الإقليم
ها ننتظر منذ الفجر حول مائدة الرؤيا، أمام دهشة الظلال المشدودة بإحكام إلى مرابطها، لتزرعي في ضلوعنا الأجنحة وتمرّغي صراخنا الحيواني في ريش الفضاء.
وقتذاك نرفع الأرصفة ابتهاجا
ونبايعك سيدة الفصول.

54

الجميلة التي كانت تعرف أنها هبة الله للعالم..
ذات الصوت المدغدغ للحواس برنينه المسكر،
ذات الحركة المتناغمة مع تموّج الهواء وتمايل السنابل في حقل القمر،
ذات القسمات المشعّة فتنةً ونبالة،
ذات الرائحة النرجسية التي يقـتفي أثرها لهاث أدلاء تائهين يحجبهم الضباب المجنون،
ذات القامة المهيبة المغرورة،
ذات اليدين الرشيقـتين اللتين تحركان النسيم مثل جناحيّ طائر راقص،
ذات القدمين الحافيتين، الخائضتين ريش الأرض في رفق بالغ،
ذات العذوبة التي لا توصف،
ذات البهاء الغامر.. البهاء الذي يكتسح حدقتيّ الرائي ويأسر قلبه،
ذات الأهداب الماطرة رذاذ الأنوثة،
الجميلة التي كانت تعرف أنها منذورة للحب، موعودة بأعياد يومية،
تمشي فخورة في بهو الفجر. ملكة تقود رعاياها غير المرئيين إلى منبع الأجنحة لتهبهم غبطة العصافير وحرية المدى.
الريح العابرة تنثر على شعرها وكتفيها أنداء غيوم غارقة في السبات، والمذنّبات المرحة تتطاير من حولها مثل طائرات ورقية. وإذ تنحي الشجرة العملاقة في خشوع، تمدّ الجميلة يدها لتقطف طفلاً بحجم جوز الهند، تضع الطفل على راحتها وبحنان تمسح على ظهره. يرنو إليها في امتنان ويزرع في طرف إصبعها قبلةً سرعان ما تشفّ عن وردة. ما إن تضع الطفل على العشب حتى يندسّ في التربة عائداً إلى جذوره.
تطوي المرج كسجادة فيبزغ الذهب. ترفع رأسها لتلوّن السماء بلون عينيها. ترسم في الفضاء سنونوات، أقماراً، بشراً يحلّقون في ابتهاج.
تلتفت نحو المدينة المغطاة بالغبار، لكنها لا تراني واقفاً أطلّ من النافذة مطلقاً نداءات لا تُسمع. أدعوها كي تأتي وتأخذني إلى مملكتها.. المملكة التي إن لم ندخلها – قبل فوات الأوان - نشيخ ونذبل.
غير أنها تزيّن عيداً لشعبها. تعصر العنب في أفواه من يتطوع لطحن الحبوب، ثم تهيئ الساحة المحفوفة بالجداول لرقص سوف يستمر حتى اليوم السابع.
تفك أزرار قميصها وتعرّي صدرها الباذخ، وآن تضطجع على العشب يشرئب الثديان المتكوران، المكتنزان بأناشيد لا تحصى للبحر، للحقل، للمراكب، للثلج، للخيول، لملوك تخلوا عن ألقابهم، لعشاق مخذولين، لميادين مزدحمة بكائنات ضاجة، ويستطلعان الغيب فيأتي قوس قزح كي يظلّل الجميلة بعريشة من ضوء بارد.
يتبعها الرعاة بنعاجهم ومصابيحهم المطفأة.
عودوا، لا أحتاجكم.. تقول لهم.
يعودون في انكسار.
تصل إلى الضفة، تجثو، ترنو إلى الماء طويلاً، كأنها تصلي، كأنها ترى ما هو محجوب وخفي. ثم على مهل تنهض، تخوض شغاف الماء، تميل وتوشوش للماء:
"افتح بابك ودعني أمرّ".
قبل أن تختم الخطوة الأخيرة على مهب الخرافة، لتصبح حكايةً ترددها ذاكرة تقاوم النسيان، تدير رأسها وتطبع النظرة الأخيرة على مدينة يحتلها الغبار،
وعندما ابتسمتْ، أدركتُ أنها رأتني.

55

لحظة أسدل الجفنين،
تكونين أسيرة حلم وملكته في آن.

56

جوفي مترع بالصقيع
أنفاسي مشبوهة
لا أحد. لا شيء..
وحدي مع المساء
فجأة
يهبط مطر خفيف
يهبط وشاح
يهبط نجم..
وبين يديّ تحط ذكرى أثيرة:
كنت جالساً على الحجر
وأنت هناك – عند النبع – ترقصين مع ظل شجرة.

57

كل نبض فيّ مسكون بالحنين إليكِ.

58

كلما سافرتُ إليكِ، ضيعتني الخرائط..
فمن يدلني سواكِ؟

59

عندما أختلي بنفسي، أختلي بكِ
من ينظر يرى كائنين توحدّهما المخيلة.

60

ضحك زاخر بالعصيان يجرّد الكائن من قناع الرصانة ويزرع في الوجه بشاشة الثلج.
ضحك ليس كالضحك: هو النعمة الممنوحة للمصطفى، وحده دون سواه، هذا الذي يبذل عمره من أجل لحظة كهذه، لحظة تختاره الزاهية لتنعش إقليمه بقطرات من الحبور، بشيء من الثناء، إذ ذاك يبـيح شاطئه لزفاف المياه، ويرى العالم - للمرة الأولى - سعيداً وجميلاً.
أنا رهين هذا الضحك.. الرهين الذي لا يلتمس صفحاً، ولا ينشد انعتاقاً. الرهين يمشي بخيلاء في محبسه.
محموماً أقطف الضحكة تلو الضحكة.. برنينها، بصداها، بموجاتها، برذاذها..
بها أسرّج أيامي وأسرّح ثمار الغبطة في مرعى أحلامي.
ضحك كالقيد، لكنه الأسر الفاتن.

61

وراء منحدرات الرعب، وتحت قباب المرح الضاج، يختبر الكائن براءة الإثم، ويجسّ سطوع قرينته: المهاجرة دوماً تحت شراع الانشقاق نحو جهات النقض والمخالفة.
مستسلماً وعاشقاً، يتبع نبض الغيبوبة:
من الهوى يرضع،
من الحمّى يتغذّى.

62

حين تغيبين
أكون واقفاً بلا حواس ولا ملامح
مثل فزّاعة مهمَلة
فلا أعود منتمياً
ولا ريح ترأف بي.

63

خارج تخوم مملكتك المذهّبة
لا وجود لي
محض شبح يذرع الضفة الميتة
منسياً ومهجوراً، بلا خبز ولا رفيق
وفي آخر الليل يطلق العويل الأخرس
الذي صداه صدى فراغ وحيد يحتضر.

64

الرسام، الذي قهره النعاس، ترك صورتك على القماش، ليتدحرج على قش النوم.
بعد قليل، تغادرين اللوحة، كما لو استجابة لنداء خفي، وتمضين إلى حيث لا أحد يدري.
(ربما لتنزّهي نبعاً، مسّه الضجر، في حقل حلم مرح)
ولما يصحو الرسام، ولا يجدك في لوحته، يغتمُّ كثيراً، ثم يبدأ في فتح الباب والنوافذ، ويجلس أمام اللوحة الناقصة منتظراً عودتك، فيما تتقطّر من أطرافه الألوان مثل دماء جريح لا يأتي من يسعفه.

65

* اليد تهدهد الخطى الطائشة، وتنتشل الظمأ من شفاه مختومة بالرماد.
* الذراع شراع ينشر قمصان السفر على تخوم الريح، ويرفع مزامير البحر بشارةً لمجيء المدّ.
* الذراع جناحٌ يظلّل وحشة المحب، السائر زائغاً في مدار الملح.. بلا كساء ولا قصيدة.
* الإبط محارة الحلم.
* العنق الجميل، المصقول كالفجر، المشرئب كالرغبة، يمنح نفسه فريسةً لسهام التأمل، لفصاحة الشك.
* الصدر ساحل سماؤه الحرير، وآن تنحسر السماء يتلألأ الرخاء في صدر يمتحن مرح العناق.
* النهد حمحمة الجسد.
* النهد المحموم تحت خيمة الأنين، المأسور تحت غيمة الاحتدام يسكب عسل المساء على سرير الإباحة. آنذاك يشتعل الجنون في دم القنّاص الطائف حول رمانة المملكة.
* الحلمة وشم المجد.
* الحلمة المثقلة بحليب المسرّة، ترضع المخيلة.
*الخاصرة ينضج فيها عرس الحواس، وإذ تتمايل يتمايل العشب والعرش.
* الساق تدفع الطرائد إلى المكمن الأجمل،حيث الموت الأكثر عذوبة من الحياة.
* الساق تدفع الجمهور إلى حليب الأعياد، إلى موائد الخبز، تحت مصابيح المطر.
* القدم تشمّ ضوضاء المدّ، تمدّ الذاكرة إلى أبعد حدّ، وتشفُّ عن حشد مأخوذ بالعصيان.
* الأصابع جسر المتعة، حارسة الأشكال.
* الجسد المغسول بمياه الليل الشقراء، يحاور يقظة الدهشة في ثمرة اللذّة، يراوغ حلبات الاغتصاب، وللمنتخَب وحده تهيئ الطمأنينة..
للجسد أجمل النشيد، وأنقى المديح.

66

عندما ألتقي بكِ، ألتقي بالكون..
ويصبح للعالم شكل قلب.

67

في مهب اللهاث،
بين سرير اللذّة وسرير التيه،
أشعل عسل الحمّى
وأصنع مرآةً للهب ومرآةً للجنون..
عندئذ ترفع امرأة المدّ مرساة الجلبة،
ومعاً نبحر في ملعب الحلم
مثل طفلين يخترعان المسرّة.

68

المصابيح نامت..
تعالي لأستضيء بكِ.

69

صوت طالع من فم المدى
يرفل بلغة أجراس سماوية
ترشد الحواس إلى مأوى الولع.
ترتعش الحواس من النشوة آن يدغدغها هذا الصوت القادم من جوهر المساء، القادم متلألئاً بزبد الغيوم.
صوت كألق اللذة.
تقـتفيه روحي الذاهلة مثلما يقـتفي الطفل الموشوم بالهجر ظل العذوبة.. وعند حافة المصاهرة ينتحل الصوت شكل نشيد تنشده الطبيعة.
صوت حائم تحت سقفي، يمطر عليّ وابلاً من الوجد.. أنا المسكون بالوله، الذي يمتحنه الحب كل نهار، ولا يعرف الجذل إلا بين ساعديك.
هل شرَكٌ سماوي أم وعْدٌ بالعيد الكوني، هذا الصوت الذي يُسْكر، الذي يخدّر، الذي يغرس في القلب بذور الفرح، الذي يأسر الحواس ويلهب المخيلة؟
كم مرة تخيلتُ أني الملك وأن الصوت مملكة.
حين يدخل الصوت غشاء الجسم،
ينهض فيّ هذيان البوح ويفيض المديح.

70

كلما ابتعدتِ، ازددتُ اقتراباً
كلما اقتربتِ، ازددتُ شغفاً بالمستحيل.

71

يا أشهى من فاكهة، يا ألذّ من نوم..
تعالي إلى مأدبتي: خبز وعنادل وحلم
وحب ليس له حد.
تعالي نتقاسم فاكهة الحب
تحت سقف يصون أهواءنا الطائشة
تهبيني نبيذ الأمل
أهبك وردة الشكر.

72

نفسي مترعة بالوله
خذيني إليك وخذي الوله قبل حضور الأجل
فلا قبر يقبل نفساً مترعة بالوله.

73

أوصدي الأهداب،
لا أريد أن أخرج.

74

تريدون الفرح؟
إنه هناك..
ينسج أعياده في حدقـتيّ من أحب.

75

وإذ ترخين الأجفان،
يتخبط العالم في الظلمة..
ويضلّ طريقه.

76

فيما تلتف خصلات شعرك حول رسغيّ
أهتف ممجداً العبودية
عاشقاً الأسر الجميل.

77

والمساء يُلبسك الثوب القرنفلي الشفاف
شامخةً وباسمةً تأتين
بوميض أناملك تعرّين العتمة.
وإذ تطرقين نافذةَ قلبي، بتلك الطرقات النديّة، وتدخلين، أهمس لنفسي بمكر:
الطبيعة الآن سوف تحاصر حجرتي،
وتصيخ في حسد.

78

الجميلة تجلس في شرفتها، سارحة.
سلالم كثيرة معلقة في الهواء يتسلقها عشاق غسلوا جباههم بماء المجازفة.
وكان الحلم قد مسّهم بقوسه في الليلة الماضية.. حلم رأوا فيه أنفسهم فرساناً تمتحن بهم الجميلة قلبها الموصد، الذي لن يُفتح إلا للأكثر بسالة.
هاهم يهطلون من السماء
- العشاق الذين خذلتهم السلالم -
وحين ارتطموا بالأرض، ضحكوا في انتشاء
ثم ماتوا.
الجميلة – آنذاك - لم تر الموت المشع.
كانت تصنع قوساً لحلم سوف يمرّ بعد قليل،
ولا تعلم بأن القوس سيصير شركاً
لعشاق آخرين يهيئون السلالم لموت فاتن.

79

مفتون بك:
إنه الاعتراف الجهوري وسط حشد
لا يعرف أني مفتون بك
ولو أصغى جيداً
لفتك بي

80

في الخلوة الحلوة
الأجمل من كل الخلوات
حيث تتعرّى سرائرنا
ويفشي السرُّ سرَّه
أمجّد إيقاع الجسد
الطالع من فم المساء
مثل زهرة مضيئة
تأسر قلب السماء
وتضرم الغيرة في النجمة البعيدة.

81

في المساءات الحزينة
حين يكون القلب متعباً،
والآهة تأبى أن تغادر الفم،
أرسم بأنفاسي وجهك على فضاء الغرفة..
آنذاك أعرف أني لستُ وحيداً
وأن العبء ليس ثقيلاً إلى هذا الحد
وأن العالم سوف يضحك لي صباحاً.

82

تمهلي، أيتها النبيلة، وأنت تمرّين أمام بيتي،
لتسمعي ضجيج المأساة في روحي.
شاحبة روحي،
مهجور بيتي،
وأنا وحدي أتحدث همساً مع أشباحي
عن هزائمي التي لا تحصى
هلّا تريثت برهة لتستطلعي الوله فيّ
فقد قيلَ لي:
لن تشفى إلا إذا مسّت جراحك
أنامل الأكثر عذوبة من بين حارسات المدى،
اللواتي يذرعن المسافات بين حلم وحلم.

83

خذ مني كل شيء لكن دع لي جنوني
هذا الجنون الذي لم يهبه أحدٌ لي
إنما غرسته فيّ أجمل الكائنات
منذ التقيت بها في أمسية شردت من زمنها
لتسكن اللحظة التي لا تشيخ.

84

حين تغادرين،
يسهر معي الصدى والرنين.

85

أدخلي على مهل
جحيم العاشق.

86

خطوات:
رفيف غيمة تطرق أصداغنا،
أم حفيف نبات يتنزّه قرب عتباتنا؟

87

الفم لؤلؤة العاشق.
الجبين واحة يستريح فيها السهر.
الشَعر تاج الجسد المغمور ببهاء ملكي.
وجهك، الأكثر براءة من طفولة الثلج،
يتجول في رئة الذاكرة.

88

هكذا أراك:
تمشين على حافة الليل، يرافقك شبحان بيد كل منهما مشعل. اللهب لا يضيء الشبحين، لذا لا أتبيّن ملامحهما، لكنه يضيء محيّاك، فأهمس مأخوذاً: يا للنقاء!
الهواء الطفل يلهو بذيل ثوبك الطويل، وموجات الليل اللامرئية تنداح أمام خطواتك العذبة.
- إلى أين ذاهبة يا ابنة المدى؟
(ربما إلى غفوة رجل هجره الأمل، لترتاد نومه وتبدّد يأسه)
وكلما أسرعتُ خلفك، مستطلعاً الجهة والمرمى، تشقق جلدي واكتسيت بجلد آخر أكثر نعومة ونضارة.. ولا يعود لدي ماضٍ ولا ذاكرة.
كل شيء يبدأ منك وينتهي بك
كأنني متُّ لتوي.. وولدتُ لتوي.

89

ما بال الجسر يرقص؟
يسألون في اندهاش ولا يصغون إلى إيقاعات خطاك.
وحده الجسر يصغي،
وحده يحرس زرقة الهبوب وينتشي.
أسمع الأرض تتأوّه لذةً
تحت خطواتك الخالدة.

90

أيتها الفاكهة، أيتها الفاكهة:
الأفواه الغائصة في جحيم المجاعة
شاخصة إليك
ومن الأشداق الحامضة يترذرذ خمر الغزو.

91

الصمت مرآة تستنطق المزامير الخرساء
والتنهدات المحظورة تستقرئ نزيف الكلام.
لا شيء في جرار اللغة.. لا سرد ولا إطناب.
ثمة ريحٌ تجري،
عتمة تهدل،
سفينة تهرول على جرف الأفق.
وبيننا صمتٌ سيدٌ ينصب أعمدته وعتباته وأدراجه ومصابيحه.
وفي الصمت بلاغة، وأية بلاغة!!.

92

من ينظر إليّ،
يراكِ شامخةً وبهيةً في مخدع الحدقة.

93

السقف ضجر،
الجدران كئيبة،
والكتب تشيخ من الانتظار.
وحدها،
- برائحتها الرهيفة-
تحيل الصقيع ربيعاً
والمتاهة جنةً.

94

يا الأكثر بهاءً من الثلج
الأكثر خفةً من الدمع
الأكثر غموضاً من السديم
الأكثر براءة من العري
الأكثر مرحاً من الومض
الأكثر عذوبة من الثمرة
الأكثر شفافية من الطفولة
الأكثر حرية من الشفق
الأكثر حذقاً من الذهب
الأكثر تألقاً من اللهب
الأكثر حناناً من الحضن
الأكثر رهافة من الظل
الأكثر طراوة من الخبز
الأكثر رشاقة من الليل
الأكثر فتنة من اللذة
يا أنتِ..

95

أي موت أعذب
من الغرق في سديم عينيك؟!

96

تدحرجين الحضور بيدٍ
والغياب بيدٍ
بينهما ينثر العاشق فخاخه
ليقنص رُسُل اللحظة.

97

ظلك شجرةٌ،
والعصافير اللامرئية
- الأكثر تهوراً من الغابة -
تخرج من ظلك مثل شعب ممسوس بالأعراس.

98

تشبهين كل شيء
ولا أحد يشبهك.

99

أصمتُ
كي لا أزوّر حوار الحب.

100

وإذ تنحنين مثل أميرة الخرافة
تغرسين عيداً في قلبي
عيداً في قبري
ترتعش فيّ وردة الروح
وتعلن الشهقة ميلادي.

101

كيف أدخل وحصنك مسيّجٌ ببحر لا يغفو، وإن غفا برهة تخيّل غزواً وشيكاً، فيصحو غاضباً ويرميني بنظرة مهلكة.
أطلي، أيتها الملكة، أطلي ومدّي يدك البهية إلى حيث أقف على ضفة المتاهة،
منكسر النفس، مسوّراً بالظمأ.
اغسليني بماء الأمل كي ألبس المجازفة
وأقـتحم المتاهة.

102

ثانيةً أراكِ
ثانيةً أتنفس
لم تعد هناك عتمة
هناك أنتِ
حياة بأكملها تتفتح أمام عينيّ مثل وردة
وعيناي مترعتان بالدهشة.

103

كل الغبطة لي،
لحظة تمسّدين القلب
بريشة الحب.

104

بين ذراعيك الحنونتين
- يا توأم الألق-
ينهمر عمري
ويغمرني اليقين
بأني لم أولد إلا لحظة التقيت بك.

105

تأملي،
يسحرني صوتك
تكلمي،
يسكرني صمتك.

106

ذات فجر
مسَّ الخالق أهدابك بعقيق العرش
فصارت الأهداب قِبلةَ عشاق
يتوضأون بمياه الرغبة
التماساً للحظوة.

107

بذهب أنفاسك
وزبد حواسك
تؤثـثين وجودي.

108

من أناملك
أرتشف عطايا الوله
هدايا المتعة.

109

أنا المأخوذ بك،
أسمّيك موجةً
لا يروضها سدُّ ولا ضفة
أرسمك وشماً على جبين الأفق
وكلما آويتُ وحدتي في سريري
انحسرت الغرفة عن أفق
ينتحل وجه حبيبتي.

110

أمشي
- مهتدياً بألق عينيك -
إلى بحر يهيىء موائده لعشاق
لا يحسنون الهجر ولا السفر.
بحر يتعرّى كالفجر
وعند مرآته الخجولة
أتحرىّ مشورة الإنتظار.

111

هذا الباب ظل متجهماً
منذ أن غادرتْه النفحة النقية
ها هو أخيراً يفـتح نفسه
متشحاً بالبشاشة
فاسحاً تخومه للعبور الملكي
وإذ يتنشق الأريج المسْكر
يفرط في مدح الجلالة.

112

حين يشحبُ وجه العالم،
أعرف أنك غاضبة
وأن جنايةً ترسو في مكان ما.

113

عند انحسار البهجة
أحمل إليك أعبائي
أزياء المأساة المنتشرة في أنحائي
يا قنديل الحكمة
يا قمر المسرّة.

114

الوردة تذبل
إنْ لم تعيريها التفاتة.

115

كثير من الفتن في الخارج، كثير من المحن
وأنتِ في الداخل
تتأرجحين بين وريدي و وريدي
فتتمايل في مسكني الصغير
كثير من النعم.

116

أسهر في عبير الوعد
وإن تأخرتِ
يسهر فيّ لهيب الشجن.

117

العالم جميل،
ليس بذاته،
بل لأنه ينتحل وجهك.

118

غزالة شاردة من تخوم الزمن، ولا حيّز قادر أن يسيّج لهاثها الطليق.
حرّة تطيش مكتنزةً بالشفافية كأنها النفير القزحي
تستوطن شفرة الغيم حيناً، وسديم الغيب حيناً
ورثت أعياد المياه، براعم الضوء.
انتضت قامتها الباذخة وراحت تمرّغ ثدياً في فم طفل يستدرج الأمومة إلى حلم غامض، وثدياً في مجرّة ناسك خجول يكاتب ندماء الريح،
ثم تذرع ميادين الريش
تسأل عن صهيل يعدو مأخوذاً بحنجرته.
تستعير من البحر قناديله وخيمته
من المرفأ أبواقه وجنونه
من الشاطئ ترانيمه ومجونه
وتهبّ – أمام دهشة النوم المهرّج - هبوب حلم لا ينحسر إلا بعد زوال النهب، تاركاً الكائن وحيداً مع عريه، مجرّداً من السرّ، مفضوحاً مثل الخيانة.
أراها فيشبّ الدم، ويومض القلب، ويكتب الوريد أحلى المديح.
أراها تسرف في حياكة الأدوار
وتحزم الرخاء فوق مائدة عامرة بالورد
وتدعو حاشية المدّ لتجرع هدنة الماء واللهب..
إليها يجرّ الملوك ممالكهم هبات أو قرابين، لعلها تشفع، لعلها ترسم في جباههم المواعيد وتعطف،
إليها تحبو الطفولة والينابيع والأناشيد
إليها ترنو من بعيد الفخاخ والشِباك والعيون الشبقة.
تضع يداً في النهار ويداً في المساء،
بهما تمسح وجه الكون،
فيختلط عليه الأمر، ولا يعود يعرف هل يرشق النهار برذاذ السبات أم يرشق المساء برذاذ اليقظة.

غزالة تبيح صدرها الفاحش لطعنة الحب،
وأنا التائه بين فراغ يقود العابر إلى المتاهة،
وعراءٍ تؤرجحه الريح مثل سرير مهجور،
أرفع حنيني إلى حضن يشبه الحصن،
فيرتد الحنين كالصدى.. مكسوراً ومخذولاً،
وإذ ذاك أذرف يأساً طاعناً في اليأس
وأذرف الكتابة مرثيةً مرثية.

غزالة تفتح الفضاء، كالنافذة، فتهطل الشهبُ وتهبط الأحلام وتنحدر الملائك وينحدر المساء وتنتشر الظلال.
وكل باب يسمع طرقاً يفتح في الحال صدره لحلم زائر ينسلّ برشاقة العصفور ليندسّ في رأس النائم الذي يرى نفسه مسحوراً بحضور غزالة تأسر روحه وتشقّ قلبه لتبذر فيه زهرة الجنون.

تنثر على قمصان عشاقها أنداء النسيان
فيتأجج الوله وتشتدّ اللهفة
وخطاهم تذهب إلى الشتات
بلا هداية ولا دليل.
أرى بشرتها المشعة تنحسر عن براءة مطلقة.. تلك البراءة الباطشة التي تفتك بالمحبّ بلا ندم ولا دمع.
وتنحسر عن حنان لا يوصف.. ذلك الحنان الذي يهدهد الموت كي يكون أكثر رأفة بالمحب.
وتنحسر عن عذوبة لامتناهية.. تلك العذوبة التي تهرق الجمرات في عيني المحبّ فيجهش حباً.
وجه يزرع الهذيان كلما مرّ على أطراف أهدابك
يتبرعم في عتمة الفراغ
ليضيء مخيلتك ويرفو أيامك المهدورة.
وجه يعصف باليقين القائم كالحاجب يحرس ميراثه
يجسّ ساخراً هشاشة الأعراف وحجاب الرياء
يمتحن بأس العاشق وقدرته على الاحتمال.

وجهك الذي احتويه بيدين راعشتين، فيغمرني البريق، وألهج بالحب.
أستعين بالخلوة لتبدّد تشنّج الولع
أستعين بالمطر الساقط على شكل دمعتين
وإذ أدنو لأنزّه فمي على ضفاف وجهك البهيّ،
يدنو معي الشوق والأنين والظمأ
تدنو أيامي التي باغتتها المحنة أوان غيابك
تدنو المسافة والشرفة والبوصلة
تدنو الرعشة والخدر والأنفاس المختومة بالنشوة
يدنو الذوبان والمحو.

لحظة تضرمين جهاتي المحمومة بقبلة عذبة، وتغذّي الشفاهُ الشفاهَ عسل الروح، أهيب بالعرس أن يسطع فيسطع، وتعدو في ممراتي الشهقات والدم الهاذي.
وأنا المفتون بكل ما فيك،
أتضرع للّحظة أن تمتد وتتسع لتشمل الحاضر والغد، أن تدير طواحين الوقت وتملي على الشجر تقاويم الحب.
ألا فاشهدي أيتها اللحظة
تاريخي يبدأ هنا، وينتهي هنا.
في حلبة الغياب، قلبي ملئ بالوحشة. أنازل أشباحي، وأخرّ مهزوماً، فاتحاً جرحي على مصراعيه ليجرفني السديم.

يقول لها المساء:
خذي المفتاح إلى عاشق يحاصره الغبار، ويرشق المدينة بحفنة من اليأس.
يقول لها الجسر:
خذي اللهب إلى غريب استوحش من فرط الوحدة فرجموه بالظنون.
تقول لها المسافة:
خذي السلّم إلى مجنون يرتقي الأدراج الوهمية شاخصاً نحو نجمة يحسبها أنتِ.
تقول لها الخطى:
خذي المرح إلى الكائن الذي يهيئ المأدبة ويسهر مع نفسه إلى أن يباغته النشيج.
يقول لها طيفه:
تعالي لنفضّ الفراغ ونسرد حلماً لم نحلمه بعد.
يقول لها موته:
سأكون نديمه الأخير، ووحدي سوف أصغي - لحظة احتضاره - إلى أمنيته الأخيرة، إذ يميل جانباً، متكئاً على مرفقه الواهن، ليئن في أذني:
لا تأخذني قبل أن تأتي الحبيبة وتدغدغ جبيني بأناملها الرهيفة.

أيتها الغزالة،
ضميني.

119

في الشرفة أنتِ،
مع غزالةٍ غافية، ومساءٍ يرنو إليك هائماً،
ومصباح يفشي هامساً أسرار الساحة العامة.
على الرصيف حشدٌ من البحّارة الشاخصين صوبك، مأخوذين بكِ، بالمشهد المذهل، بالعشب الهاطل بلا توقف على الشرفة وحدها
من سماءٍ تغيّر ألوانها في جذل.
من جهة البحر الساهر وحيداً مع نفسه، ينحدر الغريب شابكاً ذراعيه خلف ظهره، ووئيداً يمشي مع ظله الثرثار، وحين يحاذي الشرفة يرفع عينين مغرورقتين بالوحدة، ثم يمضي مع يأسه تاركاً ظله المرتبك
وبقايا جنون لا يكفّ عن ملاحقـته.

120

وطني هناك،
في الحدقة الأكثر حناناً من سرير.

121

كل الثناء
* للجموح الملكي الذي يفضّ تخوم الليل
* لهذا الفيض من الدعابة التي تخترق كالضوء نسيج الروح
* للعذوبة المغوية التي تنصب للريح فخاخها
* للفرادة التي لا تتزاوج إلا مع نفسها، وليس لأحد عليها سلطان
* للغرور الحلو الممجد بهتاف جمهور يرفع الدهشة قرباناً
* للجسد المغسول بالبراءة والمعرفة، بالمرح واللذة، والذي لا عمر له
* للبهاء المجنّح الذي يستحم في فضاء القصيدة، وإليه يتوافد المديح
* لهذا المدّ من الشفافية، من الرقة الفائضة
* للوجه الذي يتخذه المساء قناعاً به يستدرج العشاق إلى كمين الفكاهة
* للدم النبوي الذي يدشّن ملاعب العشق ويرمي كل محب بموجة من النسيان
* للخطوة المزروعة على خاصرة منتزه يقوّس أعشابه في انتشاء.

122

تلك الأيائل اللامرئية،
التي تتبعك أينما تمضين
كحاشية مطيعة ومخلصة
ما سرّها؟
ولماذا حين نهيئ لها الشراك، تراوغنا وتعدو في ذاكرتنا لتبعثر طفولتنا فلا نعود نتذكر كيف نصنع الشراك؟

123

الحواس
حواسك الرهيفة مثل جذور الصباح
جسورٌ تتدلّى منها فوانيس
جسورٌ يمتشقها جسد
يمحو التأويل ويبلبل التأمل
حواسك شرَك.

124

على صدرك المترف
يشمّ الطاعن في التيه
خبز الطفولة.

125

أدنو منك
لأقـترن بالعذوبة.

126

أذكر تلك الأمسية،
كان الشتاء في عربته يلوّح مودعاً أشياءه التي تركها:
برد ومطر ومعطف ومدفأة قديمة ورسائل لم تُقرأ.
وكان بيننا مائدة وارتباك وخجل وأحاديث غير مستقرةٍ
وصداقة طرية حبلى بقصة حب طريّة..
والبحر، وقتذاك، كان بعيداً
يراقب نفسه في مرآة الشاطئ ويغمغم:
يا لغموضي!

الأمسية ذاتها كانت عذراء
تشيح في خفر كلما اخترق السكون ضحك طائش.
وحيدان كنا وسط جمع من الرواد،
وعند قوائم المائدة تنتشر بقايا سديم
على وشك الاختفاء.
كنتِ تتكلمين، وأنا أصغي إلى عينيك، أتدفأ بوهج أصابع تتحرك في رشاقة، أستحم في صوت شبيهٍ بصوت الندى. وكنتُ أهمس لنفسي:
إذا فتحتُ ثغرةً في القلب البهيّ فسوف أفوز بالغبطة الأبدية.

كنا وحدنا، ذلك المساء، والمدينة تبعثر ضوضاءها حولنا، والظلال المحمومة تهجر رفاقها لترقص على حواف الطريق قبل أن تذوب،
والمصابيح تنزح من هذيان إلى هذيان.

كنا وحدنا،
والمساء يتعرّى مطلقاً الضحك الفاحش، ثم يغتصب روحينا ليعقد المصاهرة الأبدية.

مضى المساء، مضى الرواد، مضت المائدة، مضت الجدران،
وبقينا وحدنا وسط حشود لا ترانا نسرع الخطى صوب عشبٍ تغزله الحجرة الكونية ليكون لنا مرفأً وملعباً وحصنَ أسرارٍ وينبوعَ حلمٍ يبتكر لنا
المشهدَ تلو المشهد.

127

ملء فمي حنين وغزل
ثمة زوبعة في جهة من القلب:
الغياب يحرث بسواعد عنيفة
والجرح يتسع كالليل
مقتفياً رائحة خطاك
المنحدرة نحو مشارف السفر.
وأنا وحدي،
ملء فمي رماد وأمل.

128

إنها تهزّ مهد مخيلتي
بحنان بالغ تمسّد جبين المخيلة
لهذا لا يخلو مشهد، لا تخلو صورة، من حضورها المتعدد في مليون شكل، مليون وجه.

129

أنتِ..
المعنى الأنقى للمدهش.

130

العنادلّ تحجُّ إليكِ
بين مناقيرها شموس صغيرة:
                    هدايا عاشق.

131

الليلة
سأزفّ نفسي
إلى الحلم المترع بكِ.

132

الشاعرة تخيط حلماً
ألبسه
فيندلع في الحال
مهرجان الكواكب.

133

هذه المرأة محيط.
إذهب لتحب لا لتملك
وليكن السريّ والغامض رفيقا سفرك.

134

أشتهيك أيتها الثمرة
كما يشتهي الأعمى
ما لا يراه.

135

ها هي أنقاضي يا رسولة الرخاء:
جسدٌ هاذٍ
كتابة محمومة،
ضفة تستضيفني لأنتحب عليها،
وعصيان يخترق كالسهم أحشاء الفراغ.

هاهي أنقاضي معلّقة كالعناقيد
خذيها غنيمةً.. خذيها إلى اللهب
اصهري أمسي
استعيديني نطفةً
واخلقيني.

136

أيتها الجميلة
يا من تستحمين في بحيرة المدى المضاء بقناديل الغيب،
يا المرئية كطيف قزحي من هذه الجهة، أعلى الهضبة،
حيث يقطن الظلام الأعمى،
نتضرع إليك أن تصعدي أدراج المياه
وتسطعي عارية
لنضيء بك ضفاف أسرتّنا.

137

بخفة تطفو الحجرة المسكونة بالمطر
بخفة يطفو العراء المزخرف بالعصافير
بخفة نطفو
دليلنا الغيم، وخارطتنا مرايا المدى
بخفة نرسو في فم الحلم.

138

في المسالك المتعرجة
لجسدك المائي
أضيع.

139

كل مرآة حبلى بكِ.
اقـتاد المرايا كفاتح مزهو بانتصاراته
الجميع يعرف، ما عدا الفاتح،
أنه الأسير، لا أنتِ.

140

يصطخب فيّ رفيف الرغبة
كلما غمستُ أهدابي
في مهبّ أنفاسك،
كلما مسّ الهبوب نومي.

141

في غمرة الهرج النهاري،
الضجيج الوحشي لشوارع مختنقة،
شخص ما، شيء ما، حبس الضياء.
هل هو الخسوف؟
الليل؟
إنه أنت
وقد أغمضتِ عينيك
أوان القيلولة.

142

بين بيتي وبيتك
مسافة هاربة
لهذا يتقارب البيتان حد التآخي.
أما النوافذ المضاءة
فـتتحد في فعل يكاد يكون إباحياً.

143

تضحكين
هل هو رنين غيبٍ يرتقي سلّم المساء،
أم أنه رفيف فراشة
تخلع أزياءها لتعانق وردة الفكاهة؟
ضحك يرفع مطرقة المرح
فيخلع العالم شيخوخته
ويسترد أمسَه الطفلَ.

144

الأحلام خاصةٌ إلى حد أنها تستعصي على البوح، أو تتسمّم صورها ما إن تُكشف للعيان.
وأنا أكتب، أتصدّق بحلم فائض.
سرٌ ما، صغير ومتهور، تسرّب مع الحلم
لكنه لا يكشف بل يموّه،
يعطي كثافة أكبر للغموض.
فمن رأى الحلم،
لم ير غير ظل يدك الحانية
على جبين شبح يتنفس ببطء.

145

وأنا أنبش الذاكرة
مثل سنجاب يبحث عن شيء غامض
لمحتُ:
* شعرك الذي ينسدل برعونة على ضفة المدينة
* رنين صوتك وقت يداهم الشرفات فتصيخ مبهورةً
* ضحكتك المتناغمة مع إيقاع المساء
* بقايا اعترافات مؤجلة أخذت في ما بعد شكل مدائح
* زوايا آهلة بالصمت تتردد فيها كلمة واحدة: أحبك
* حركة انفتاح الباب، والدخول الملائكي، والجلوس الأبهى على عرش ترتكز قوائمه على قلبي.

146

اصبري
لا تذهبي سريعاً
خارج الباب تنتظر
جيوش الوحشة والوجع
كي تعود وتحتل عينّي.

147

المفـتونون بكِ
يحجّون إلى عينيك
مثلما يحجّ الذي لا شفاء له إلى المزار المقدس
وأنتِ
تحكمين إطباق العينين
لتمتحني بأس عشاق
ينهارون يأساً الواحد بعد الآخر.

148

أحياناً، أتخيل أنك صدَفة تحتويني كالحصن.
أحياناً، أتخيل أنك سنونوة تهيم ولعاً بي.
أحياناً، أتخيل أنك ريح تهب في حجرةٍ مسقوفة بي.
أحياناً، أتخيل أنك حليب أشربه جرعة واحدة.
أحياناً، أتخيل أنك تمدّين راحة يدك كسرير
لينام عليها كائن أرهقه التشرد.

149

كان يمكن لعبوري أن يكون سريعاً
لو لم ألتفت في لحظة معينة
وألحظ بشكل خاطف
مسحةً من الألق الطفولي
ينداح على صفحة وجهك.
وقـتذاك، تسمّرت وسط ضجيج صامت
لعالمٍ يعمّ فيه الصخب والحركة
ممعناً النظر فيك
مأخوذاً بالطفولة الخالدة.

150

يا معشوقة ذلك الذي
يجرّ الكون من قرنيه
كالكبش
ويلهو بمصائر الكائنات
كالطفل
يا أحلى ملكة.

151

أنا وعزلتي.. وثالثنا أنتِ
أنا والعالم.. وبيننا أنتِ
جسر من ضوء.
وأنتِ
تمتزجين بكل شيء
يا هوائي.

152

كالحلم العاصف
تفـتحين الباب
فتخترقني شهب الشهوة
وتدخلني ظباء الهذيان
آنذاك أتفـتت وجْداً
وأصير رهين الغيبوبة.


*********************

ترنيمة للحجرة الكونية

إهداء

إلى

التي رافقت المساء، ذات مساء، وانتحلت
صوتـه ورائحتـه، ثـم جـاءت إلــيّ بعــد أن
أسدلت أهداب القمر..
لا تطرقي الباب
ادخلي كالحلم قلب الكائن
وأضرمي فيه الحب
يا ضوء العالم.

الظل السـاكن، الشمس الدليل

يدميني،
هذا الغبار المثقل بالحديد يدميني،
إرفعه، إرفعه كالعبء، بلا ضغينة
لئلا يبعثر دمي، فأتشتت في هاوية
الحمى
جرحاً
جرحاً.
للفجر مذاق كمذاق الرعب. لهواء أغسطس رائحة الغرف الميتة. وفي المدينة المكفّنة بالظمأ، استنشقت الخوف ومرّغت أحداقي، الأكثر اتساعاً من العتمة، في مهبل مذبحة تلد على عجل مذبحة أخرى. ممتقعاً صحت بالنوارس الحكيمة، المتعصبة لجنسها، المستريحة على أطراف جَزْر مالحٍ تراقب الكوارث بلا اكتراث وترنو إلى ضجيج المحنة في حياد مبهم:

كم بأساً نحتاج لنجتاح هذا الهول ونبرأ؟
كم يأساً نحتاج لتخومنا المرحة،
تخومنا السائرة صوب الهاوية،
يقودها كبش أعمى بالغ المرح؟

وإذ أنزح من حلبة تمتحن حنكة الضحايا، إلى حلبة أشد اكتظاظاً بثمار الدم، مائلاً البليّة فوق كاهلي مثل متشرد عريق، يقتفيني ظل الجثة اللحوح ليعيد إليّ ذاكرتي فأتذكر أنه ظلي.
كفى،
أنا خائف.

ليل أغسطس يشعل في أنحائي منابر الحداد وبقايا سلالة باذخة كانت، قبل ساعات، تخيط بالمصابيح سهرة عامرة بقهقهات اللذة، وأخرى يناوشها النوم في استحياء. وها هي، تلك البقايا التي ما عاشرتْ طعنةً من قبل ولا عراك، تجرجر فلول مجالسها في مهبّ الجمرات، رافعة بياض الفضيحة،
ولا نجاة لي.

أيتها الأرض،
يا المترعة بالنعم، البريئة إلى حد إغواء الجريمة ذاتها، المفرطة في العري والإباحة، الواهبة معادنها وأعيادها ومزاميرها لقادة ـ أقل حذقاً من ألقابهم ـ يكتنفهم الشبق ولا يلمحون أحلام الرعية إنما يسرفون في المقايضة من أجل سرير مذهّب ومدائح.
أيتها الأرض البالغة سخاءً، البالغة وحشةً،
ماذا كنت تفعلين أوان هبوط الجريمة في منحدرات روحك، وتلك الجرافات التي حرثت الطريق إلى فخذيك ورمت في المسالك بذور الشر؟ ألمْ ترسل الحباحب الفوسفورية إشارات التحذير؟ ألمْ يخالجك الارتياب عند سطوع الحراب في مقلتيّ طفل غادرته البشاشة بغتة ً فمرّ عدْواً أمامك بذراعٍ ناقصةٍ وقلبٍ نازف؟

أيتها الوفرة،
نسْلكِ الموشوم بالترف والغطرسة، المسهب غفوةً وغفلة ً، زائغاً يتغرّب في أروقة الأمم، بعضهم ينتحل أبّهة الإوز سادراً في غيّه، وبعضهم يتدثّر بفداحة المحنة نابشاً إغماءة الغريب بحثاً عن بيت يشبه بيته.
لا نوجّه توبيخاً لك أيتها الوفرة، لكن الرياح توبّخ السفن إن انزلقت في الضلالة.
وأنتِ،
وحيدة ً ـ أراك ـ توارين شحوبك، المسكون بهباء مأتمي، فيما تقودين حشداً من الحقائب الذاهلة نحو ملاجئ مكشوفة. بوابة البحر كانت مغلقة. السراطين تلهو، مأخوذةً، بأحياء عتيقة فرّ قاطنوها. موجة تطارد باعة متجولين في ممرات المدينة. أشرعة يقرضها الهبوب فتهوي السفن على الأرصفة. شيوخ، بعكازات مسوّسة، يصعدون عتبات البحر ـ مثل قرابين منذورة منذ زمن ـ ليبتلعهم المدّ.. كانت عيونهم مغرورقة بالطمأنينة.
يا للألق!
الأجساد تتألق في موتها.
ثمة طلقة تشعّ في صدغ فتاةٍ تعانق الرمل الأحمر وتتأمل، لحظة احتضارها العذب، صَدَفةً غريبة لا ذاكرة لها.
كم هي مشعة تلك الجثث!
اشراقة الضحية تخلب لبّ قاتلها الذي لا اسم له، فيزداد جنوناً. وحدها الصحراء تفتح طقوسها الدامية. المشهد الناطق بلغة النفي الواحدة.
في الظهيرة الصفراء، الظهيرة الخارقة كالعدم، تطلق الوجوه سراح آلامها. محروقة هذه الوجوه، و للصرخة رماد.
الظمأ سيد.
هكذا، تهرول الأعشاب الميتة من مفازة لا تليق إلا بالموتى، صوب سراب فاتن، أخّاذ بصوره وشظاياه.
يا الله! كل هذه الأضاحي ولم ينته الطقس بعد؟!

وكنتِ تبكين
كفكفي الدمع. ليس عارك وحدك.
أصيخي. لم يبق معك غير:
× نجمة آفلة ترشو ماء البحيرة بوميض نادر كي يحجب عن الكون تجاعيدها.
× نوافذ مطفأة تطلّ على الغياب الحجري باحثة عن فوانيس المساء.
× قطط لا تكف عن الصلاة، ومع كل صلاة يبرق وبرها في محاريب من قش.
× صدى جلبةٍ أليفةٍ تنتسب إلى جمعٍ أليفٍ من رواد الطفولة.
× قبّرة تحلم كثيراً، إيماناً بأن من يحلم له حظوة عند النباتات.
× بضعة أمكنة ما تزال عابقة برائحة بخور وأنفاس عائلات سافرت مع المطر الزائر.
× أخطاء لا تحصى.
× مخطوطات بلون القهوة تنسج حواراً غامضاً لشعبٍ غامض.
× أبناءٍ مشبوهين آثروا نزالاً لا تكافؤ فيه ليتحدثوا في ما بعد عن حماس الحجر ودهشة الورد.

وكنتِ تبكين
ليس عارك وحدك
خذيهم، خذيهم إلى المجابهة البهيّة حيث يتبادل العشاق في غرف الحلم عرسَ العنف.
خذيهم إلى الوالي المقوّس من فرط التواطوء، كقبر طافح بممالك ميتة، لترجمه الشفاهُ بالعصيان.
خذيهم إلى مستعمرات المجون والسمّ
خذيهم إلى الحريق. موائدنا مغسولة بالحريق.
خذيهم أيتها المغزوّة. خذي النعناع والهال والزعفران. خذي المهود والحرير والأقراط. خذي اليمّ والتمّ والجزر الصغيرة. خذي النشيد والأمشاط والقباب. خذي الحب والرعب والسلال. خذي ما تشائين.. لكن،
احذري المماليك.

وقتذاك، كنت أهيم واقفاً على سبائب المأساة أستطلع شؤون الإثم:
طغاة يدحرجون ـ مدى الحياة ـ أوطاناً بحجم النارنج. ومع قنافذهم المضيئة، البارعة في إثارة الفتن، يتنزهون في معسكرات تضج بالمسوخ.
موحلة أحلامهم. ليست عظيمة. أحياناً، يقدر الحشد، في مسيراته الإجبارية، أن يقتفي صور الحلم المغلولة، أثناء شرود الحالم، لأن لها نكهة تبغ شائع. يسهل اصطياد تلك الصور التي لا نسيج لها ولا نداوة، الراشحة من شراشف تشفّ عن صدر عذراء موطوءة. ويعرف الحشد أن للصور جذراً واحداً يمتد إلى زمن غابر، كان فيه الطغاة يموّجون الهتافات المزدوجة، وقت احتساء عصير التوت مع أشباههم، ويحاصرون، بمراسيهم العاجية، أقاليم رخوة تهرّب ينابيعها وتترك قلاعها دونما حصانة. وعندما يكتمل القنص، يرفعون رؤوسهم، ويوجهون نحو الله سهامهم الملحدة.
حموضة الطغاة تربك رؤى العرّافين الذين يموّهون نبوءاتهم لتبدو أقل وضوحاً.
بوجوه مزوّرة، كوجوه محاربين محجّبين بسديم الأسطورة، يصعدون أدراج منارة بعلوّ العرش ماسحين الرخام بأحشاء حاشية وهبت نفسها إكراماً لهم. وقبالة المرآة الموشاة بالعقيق، يطلق أصغرهم ضحكة مجلجلة ترتجّ معها النُصُب البرونزية. ثم يهتف: أنا المطلق، موشكاً على الانخراط في النشيج غبطةً، لكنه يلجم عاطفته العابرة، ويدير رأسه ببطء ليحتفل بإغواء فتيةٍ عراةٍ حطموا للتوّ نظام العائلة، وجاءوا صاغرين، من أسنانهم ـ الملقّحة بالكراهية ـ تنزّ الوشاية.
مشاعر معلّبة. مزاج متقلّب. ليسوا كالبحر العظيم العطايا.. هؤلاء الطغاة الصغار، الذين من مساماتهم المغبرّة يتساقط كحول العنف.

كان ينبغي أن نهيل الخلّ والبهارات على المخاض المعدني، كي لا يأتي الطلق على هيئة طلقة شيطانية ترتكب المعصية الأولى منذ السنة الأولى.
كان ينبغي أن نئد الطلوع الإباحي لآبقٍ أمّي يتفرّس في صفحة الحزب الصقيلة، الحزب الناضح سلاً وتعاويذ، مزهواً بمقبض غدّارته، ويعلن نفسه عاهلاً سرمدياً يستأصل رئة النشء، ويقطر في بشرة الفحولة محلول الأخصاء.

لا حدّ لكآبتنا، لا وصف لأطوارنا.
في دُوار الردّة نرفع اليباب
ونوثق الأدوار بغدائر نسائنا.

أحرى بنا الآن أن نعتكف في مغاورنا الأبعد من مرمى المخبرين، ونولي ثقتنا شطر مراكب غير مرئية، قادمة من محيط لم يُكتشف بعد، سوف تلقي حمولتها من الحليب والرزّ واليود، قرب مرافئ محروسة بالألغام، لتواصل عبورها فيما نرنو إليها بأعين دامعة، مشيرين بأصابعنا التي تنكسر ما إن تلامس الأفق، متمتمين في انكسار: تلك نفحة الخرافة.

انتفض أيها الحشد
زلزل المسرح
غيّر مجرى مجرّات المسوخ
واكفر بالنعمة الباطلة.
ما من سمّ ولا حمم قادرة أن تكبح جموح حشدٍ ينتفض.
أقبلْ حاملاً معول الاقتلاع لأنقاض تنتظر فيك التحوّل
أو عائماً في منعطفات الدم.

محض دُمى تهوي من مقصورات سماوية: أولئك الأتباع الطالعين من غشاء الثكنات، رموز الدسيسة وحرّاس الأفيون، الذين يجرّون بغالاً محمّلة بنفائس منهوبة، يكدّسونها بين يديّ إلههم الصغير، مسبّحين بحمد إله المحو. أولئك الذين سوف يتهشمون كالخزف فوق أرصفة النزال.
أطلق يدك في حطام الحزب دونما التباس. اسحبه من قرنيه حتى مهاوي الشهب الخاملة واسكب عليه صمغ الانقراض. عندئذ سيدركون مدى شجاعة العضل المدهون بالعدل.
كم هو مسوّس هذا الحكم
أما أنت أيها الحشد،
فنسبغ عليك اليُمْن! نسبغ البركة
يا العادل المتوحش

لم أكن حزبياً قط، قلت للمرأة التي أحب.
لا، لست طائفياً أو عنصرياً أو شوفينياً أو فاشياً
أنا كل هذا وأكثر.. أنا بشريّ.

احتوت بكفّيها الطريتين، الرحيمتين، ندوب وجهي وشحوب أيامي والتهاباتي وأخطائي وآثامي، فغمرني النحيب وانبجست العاطفة غيوم وجدٍ ورغبة. وعندما انحنت تبلّل أهدابي برضاب مسْكرٍ، شممتُ عطر الجنة وشهقتُ
آه، يا العذوبة! يا الحنان!
كم رجل أفنى عمره من أجل لحظة كهذه!
أي معنى للنسيم إن لم تزفره غبطة أنثى ترتعش بفعل الملامسة! أي راحة لنا إن لم يأخذنا التيه من عراء موحش إلى أحضان عشب ملهم!
فيض من الجذل
فيض من المطر الطارق بابنا لينزّه حلم الثلج فينا
فيض من كل شيء عذب ورائق
خطر لي، أنا الكائن الناقص، المكفوف منذ الكتابة، المعبأ هموماً وهزائم، أن أقرمز ما هو حسّي وما هو ملتبس، وأرتجل بلاغة الضوء. عندئذ، وبلا وقاية، سوف تنتخب كائنات القرمز ساعة الجماع وتطهّر بعضها من نثار العداوة والتعصب، وسوف أفوّض الصفوة، من مبعوثي الكوكب البعيد، التوطـّن في إبط امرأة أدّخر لها كل الحب وكل الفرح.
أجمّـلك بعسل الغابة وأعيادها، أيتها الشبقة العفيفة.
أرصّعك بالمديح، وابلٍ من المديح، أيتها الأرضية، الأكثر علوّاً من رُسُل القمر الخُرس.
فصاحتي فصاحة حبر مستعار من كتاب الحب.
وإذ أخصّب نشأة الجنس في لجّ عاشقة شاردة بين غريزةٍ تتحفز للمصاهرة وقناعٍ هش يحرّك أوشحة المناورة.

يتراءى لي أن
الكـون
سريرٌ مطرّز بالضوء،
حيث الحلم الوثير يؤاخي ظله المعقوف كالمنجل، الخائض غمار أشكال فاحشة تحتل الحيّز الغائم، بين نافذة تحزم فكاهات الغيب في قهقهة ضاجّة ومدفأة تحرس مآثر الخلوة. بفَمٍ لبني تعرّي هذه الخلوة ألياف كتائب الرقّ الحبلى بأجناس تتوق إلى الهجرة والاحتفال بخصوبة الضيف الغريب في إقطاعية الجذور. آنذاك فقط، تجلب الحائكات البيضاوات، ذوات الحلَمات الكبيرة، الممسوسات بطقوس الزفاف، شراشف المهرجان لمآدب تمتد من هنا وحتى ضواحي النجم الأبعد.
ثمة يدٌ مريّشة تهزّ سرير الغواية. سرير مجنّح. والجسد الأسير يعبر، بلا سائس، غشاء الولادة.

يتراءى لي أن
الكـون
سرير موطوء بشهقة خالدة،
وسقف عائم في حمحمة المَخادع. سقف مداه أنوثة الفضاء وتخومه فحولة المساء. سقف كالبحر بزيّه الأزرق المديد ومساقط أمواجه الغاصّة بأطفال بشوشين يرشدون ذاكرة الحب إلى المنابع الوضّاءة. ومثل البحر، لا يهنأ إلا بحضور العاشقة التي، مراراً، تضلّ طريقها في ردهات الحلم ولا تعود تذكر ما إذا كانت حالمة أم رهينة حلم.

أمعنوا النظر في هذا المشهد الخلّاب:
عند مفترق الحقول، تحت الصفصاف المنحني على النهر موشوشاً، كان نهار مرقـّش، وحصان يجسّ شفرة الماء بحافره، ورجل واهن يمضغ القش بعد أن امتلأ قلبه بالوحدة والكآبة. كان يعرف أنه، في لحظاتٍ، سوف يموت، لذا يُخرج من جيبه دفتراً صغيراً ويكتب قصيدةً، مفعمة بالأمل، لن يقرأها سوى عابر تائه اعتنق اليأس واحدودبت روحه بسبب إفراطه في الضجر. بعد برهة، يمزّق العابرُ الورقة ويمضغها على مهلٍ، ثم يطعن نفسه في حقد مطلق.

يتراءى لي أن
الكـون
سريرٌ،
وسقف لا يصون إلا من دشّن إمارةً للحب وأخرى للصداقة، و امرأة تعرّش كرنفال الوجوه، الوجوه الشائخة، بأغصان تستريح فوقها مشاعل النحل. حينذاك، تميل وتسدل خصلات شعرها المشعّة على العتبات المعتمة، وباحتشام بالغ تمنح نهديها لفمٍ نهمٍ يتضوّر حيرةً. لنهديها طعم الشمّام. وذلك الزغب الذهبي المنتشر بشكل هندسي بديع، عند تقاطع الأعضاء الطرية، كان أكثر نعومة ونداوة من الندى. لا الرائحة وحدها تمجّد انتصاب جذر الهيام، إنما التشنجات السريّة أيضاً، وقشعريرة العروق، واختلاجة اللهاث. لم يكن لفورة التلاحم صدى، لكن الشعل الجاحظة، الأشبه بمحاجر ليل مضيئة، سمعتْ رنينَ العناق.
تتشيّع للبلبلة، هذه المرأة الخجولة، وترشق لقطاء الضغينة بأشياء الزوال.

آخر ما رأيتْ: النبيلة تشمّ أنين الخطيئة

آه،
كلما غادرني هذا الحلم، أهلكني الصحو.
صحوتُ على صرير شعب أبكم يذرع إقليم الوباء بخطى وفيةٍ للتعاليم:
ـ نسمح لك بإرخاء الجفنين.. تبجيلاً أو تعبيراً عن الولاء.
ـ الصمت يعزز الحكم
ـ أسكت.. نُهديك طعنة كالحنان
ـ جميل أنا مثل رضيع يموت
ـ تشبيه معقول، وينبغي أن تكتفي
ـ جرح أحمر في جبين الليل
ـ قلنا كفى.. سوف نرميك كما الثقاب في بئر وصايانا لتتدفأ وتنام.
الأعين مثقوبة بالمسامير. لا نرى، لأننا لا نريد أن نرى. الخوف ينتشر في داخلنا مثل الإشاعة، أو مثل عبير الفضيحة. من يقدر أن يجتث هذا الورم بعد أن أحرقنا الذاكرة وأصابنا الصرَع؟

مشبوهة شبابيكنا المطلة على مجاعة الميادين. مرصودة شرفاتنا. في الساحة الكلسية نجني الإهانة والبذاءة. يعترينا مسّ إن حاذينا رمزاً للسلطة يتجشأ زمرة تبارك العنف. كيف لا، والضاحية تطوي بيوتها وتقتحم جسم الهذيان. كنا مشهورين باللباقة وإتقان لغة العنادل، كنا موهوبين بالضحك وصقل الأعياد. أنظر كيف صار حالنا الآن.
نسابق الطواحين وقد استطالت رقابنا من أثر اللطم، ولا ياقة عندنا لإخفاء الزلّة. لكل نأمة كمامة، ولكل لمحة عصابة، فماذا بقي لنا غير محاكاة المروحة؟ ماذا بقي لأولئك العاطلين الخُرْس، السائرين فجراً، مثل موتى الحروب، صوب حانات ظالمة تسحل ذكرياتهم، وتلفظهم في آخر الليل ليعودوا أشباحاً يطرقون الإسفلت المخبول بخطوات تترنح من تحتها ثرثرات الصمت. وكلما التفتوا ناحيةً، فاجأهم الرعب. الأسوياء منا، الذين اختاروا الرحيل، عبروا الضفة الأخرى. أما نحن، المصابون برهاب الاحتجاز وجنون الارتياب، البارعون في مراوغة خصومنا دون أن نحقق مكاسب تُذكر، فقد تظاهرنا بالصمم واكتفينا بالإشارة في مخاطبة بلادنا الآثمة. بعضنا صادق الرجس وصار يعطي دروساً في الرياء والتملق. لا خاتمة للأكذوبة بيننا.
الحقيقة؟ لا تبحث عنها. ربما تجدها في الزرائب منخورة، أو ربما في الوثائق السرية.
العدل؟ تضحكنا أيها السيد، وتخيفنا في آن.
اذهب عنا. دع لنا
زوبعة الأرامل، هواية الانتحار، كياسة النسيان،
استراحة الأمس، حجاب البغاء، غنج السوط، موهبة
الرثاء، نتانة الحبر، أناقة الطغاة، مزارع الوسن، رغوة
الترانيم، دهاء الإذلال.
دع لنا اعتناق الشك، أيها الأجنبي.

ليكن،
هيّأتُ المأدبة فلم يحضر أحد.
وأنت، يا صديق القلب، لماذا لم تحضر؟
تذكر؟ أوان نضوج العنب، في الصيف الماضي، حين أسرفنا في ملاطفة الضوء القادم من غشاء الثمرة، ومعاً أعددنا لشعب الجهات وليمةً لم ندعو إليها غير المحتقنة أحداقهم بفعل الكتابة؟

وقتذاك، سافرتَ في حلمي ولم تشوّه مناظره. رأيتك جالساً على قرميد البئر، ترنو ساهماً إلى يقظة عناصري وفنائها. وعندما أدرتَ رأسك، قلتَ هامساً: "يفرحني أن أرتاد ممالك الآخرين، الممالك السرية، الأكثر جمالاً ووضوحاً". ثم أردفتَ قائلاً بمرارة: "لكنني شاهدت موتك".
يا الشاهد على موتي تعال معي نقترف الشائن من الأفعال مثل مشعوذيْن يبهرجان بالوقاحة سهرة القطيع.
اصطفيتك من بين الخلق لتلبّد الصباح في عيني الهرمة وتستجوب ذعر مساءاتي المشعثة، وتمضي معي إلى الزقاق البحري حيث حثالة الغرقى يدحرجون بين الأجرف أرتال الغشاوة لتضليل بوصلات النوتيين، والسفن ذات الحيازيم المسنّنة تشقّ الطوْف الجليدي لتنهب مساكن الحيتان المزعنفة.
هناك أريكَ حطام عمري:
ملاذ الطيور المائية واستراحة الطحالب.

ستعلم كم انشطار في ذات الكائن الذي لا يحسن إلا الكتابة، كم جناية ارتكبتُ.. والحياة كانت باكورتها.

يا لضآلتي!
يا لضآلة النضارة فيّ!

في صحبة اليابسة والعرق ننحدر معاً بين البرك الغاصة بمواش متعفنة، والمخازن التي تشهد انقضاض الاطفائيين على آكلي النار. الريف كان مهجوراً. قطاع الطرق يطلقون الرصاص على أحصنتهم ثم يمضون على عجلٍ ليلحقوا بعمال المناجم. الشحارير التي تحجّرت فوق الأغصان تسقط دفعة واحدة.
نصل إلى حواجز التفتيش المهجورة أيضاً إلا من راعٍ شاب يكدّس جثثاً ممزقة داخل شاحنة ثم يسوقها مبتعداً، ملاحقاً شمساً تغرب.
عند السور المتهدم، الذي يظلّل نومك، أجلس لأكلّم تباشير حلمك.
روحي منتعشة قليلاً.
أرصد انزلاق العقبان على عتبات الفضاء لتحط قبالتي وترمقني بنظرات ثاقبة ومهددة. وقبل أن تفاجئني الغفوة، أغمغم: ها صرنا فريسةً للجوارح.
أعطيك العلامة يا رفيق خبزي:
ساعة احتضار القمر في البحيرة
ألطّخ اليد المترفة بالصلصال
أغمد النصل في القلب الأنثوي
بطيئاً.. بطيئاً
تعلو صرخة الأرقاء.
لا تفتح النافذة إن سمعت طرقاً:
إنه العالم يبشّر باحتضاره.

في ليل أغسطس تتدحرج ذاكرة المدينة.
الأمهات يدخلن نوم أبنائهن ويزركشن الملاعب، ثم على أطراف أصابعهن يخرجن لئلا يتصدّع الهجوع فتتبلبل الطفولة قبل اكتمال اللعب. عمال البلدية يكنسون الأحاديث النهارية المتروكة على الأرصفة. الجوّال الوحيد، خادم شهوته، يطفر من مخيلته ويجوب الطرقات المأهولة بهمسات مبهمة، صادرة من المباني المحيطة، وعند الناصية يتوقف رافعاً بصره إلى الأدوار العليا كما لو يرصد بزوغ امرأة.

قنص وشيك للحصن المدلل، الثري بالسكّر والطحين، الذي ينمّش الأبراج بالزنا.
مشبّعاً بالنذير، يطلق النفير الحر إشاراته الغامضة. لكن أبوابنا المطاطية، المنطفئة منذ القيلولة، أطلقت ابتهالات زائلة وأقسمت كذباً أنها لم تسمع وقعاً مريباً.
عدْواً يأتي الحصار. القناص الملوث بكبريت المستنقع، لقيط الرماد، يسيّج رخاوة أحواضنا بالدنس ويرمي شباكه النحاسية ليصطاد شرفاتنا الثملة، شرفاتنا التي كانت تستأثر بإطراء المارة لبشرة بناتنا القمحيات.
في تلك اللحظة، عندما انبثقت نواة البصيرة من جباهنا، أدركنا أننا الطريدة التالية.

هلمّ أيها الدخيل. هات صواعقك القاهرة في خلاء أرواحنا واقصف بلا رأفة مرابطنا المشؤومة. أخاديدنا أضحت سالكة، فلا تصفح عنا ولا ترفق براياتنا البيضاء كمسحوق الحكمة. ستكون لظلك الجهوري حظوة بيننا، نحن المتخمين بالانشقاقات وحليب التفسخ.
لن يحق لنا، بعد الآن، أن نفاوض ديمومة المهابة في تماثيلنا. سوف تشبّ فينا حقبة الصقيع، ودونما عناء تتخندق حيل النعاس في لبّ حديقتنا.
نحن النزوة التي لن تُحتذى.

خفافاً تسري ربيبة رعبنا، رسولة دروبنا القاحلة، عابرة محطات الكارثة، مترعة بحلم غائم.
لا نعرف شيئاً عنها، غير أننا سمعناها تتمتم قبل أن تذهب:
"لا شأن لي بأوثانكم، لكنني حبلى بحلم لا ينبغي أن
يولد إلا في نهار ماطر، وعلى أرض ليست غريبة".
ومضت دون أن تستقبل نداءنا الدامع:
"أخبرينا عنه.. هذا الحلم الذي سوف يؤرق تكهناتنا".

نراها، أحياناً، في رغد المنام تقود ولايةً ضريرة تقطر مطراً. وتارة، تطوي المياه على شفير النهر وتسمّي كل ما هو حيّ وطناً.
هي هناك، تلطّخ وجه المدينة بالحِداد.
لا أحد يكترث بالأطفال الذين يلهون مع حروب صغيرة تتقافز كالعصافير في الأزقة المتعرّجة.

الكهول يرفعون أنظارهم إلى السماء ويتهامسون فيما يرقبون بهدوء كرات معدنية تتمايل مثل طائرات ورقية قبل أن ترتطم بالأسطح والأفنية وتصدر دويّاً رهيباً.
الحوانيت الفارغة من البضائع تحدّق مبهورة في البيوت التي تجرّدت من جدرانها وبدت هرمة للغاية.
الحقول المقفرة تركض نحو بحر اسودّت موجاته وطفَت أسماكه مانحة خياشيمها للغاز الخانق.
عراةً يستحم المزارعون في قشّ يحترق داخل مخزن المؤونة.

هي هناك،
وحيدةً مع وطنٍ يحبو، وحلمٍ لم يولد بعد.
وبيننا،
الرجل القزم، الأكثر يأساً منا، الذي يكتب وصيّته قبل أن يموت
الميتة الأخيرة.

أكتوبر 1990

سـيدة المساء

1

حدّثنا عن الجميلة، أنيسة المساء،
الغريبة التي أشعلت الضجة في حواسنا
وألقمت أرواحنا الهاذية ثمار الجنون.

لن يهدأ أرقنا في زقاق النوم ما لم نحلّ عروة اللغز خيطاً خيطاً، ونرمي تأويلاتنا في هاوية المحو. آنئذ يطيب لنا أن نعود إلى مشاغلنا المتروكة عند تقاطع الحقول، وإلى نسائنا الممتقعات اللائي أثلجت نهودهنّ من فرط الانتظار، ومن أهدابهن تتساقط أملاح الرغبة.
لن يهدأ لنا بال.
سيّجنا أسّرة زوجاتنا بالمشاعل، وألقينا بالمراسي هنا، في ملتقى الساحات المضاءة بحمحمات الروح، لنكن قريبين من جذر المشهد.

أعراس مؤجلة، سهرات مقفرة
قمر يأبى أن يغادر فم البحيرة
ثعالب سوداء تنهش ـ أوان غفوة الفخاخ ـ
تخوم المزارع
وأطفال مسّهم الخبل فراحوا يرشقون الشبابيك
بعواء يمتدح الرعب.

أصابنا كل هذا منذ أن جاءت الغريبة وبعثرت أسرارنا على عتبات الظهيرة. لم يبق لدينا ما نكتمه. صرنا أكثر وضوحاً من طفولة النسيم. كيف يسير الإنسان بلا سر، مشرّع القلب، وكل عابر يتمرآى كما لو في مرآة؟
ها هي فضائحنا مسفوحة على رابية المصابيح.

الساحرة الفاتنة لم تقرأ الطالع، لم تدّع النبوّة، ولم تنبش صدورنا بعينيها الثاقبتين.. بل مرقت أمامنا كالطيف، وفي لحظةٍ اندلقت خبايانا. وما عدنا نزهو بالمعرفة السرية لخفايا بعضنا.

جباهنا ملطخة بعطر الفضيحة
خطواتنا أضحت منذورة للخجل.

وأنت يا رفيق الموت، رأيناك تُقبل من الجهة التي لا يجسر أحد على ارتيادها، والمسكونة برائحة الموت.
عرفنا ذلك من نكهة ياقتك، وأوراق الخشخاش العالقة بخصلاتك.
هناك، حيث يترك الفارس المتوحش ـ كل فجر ـ تثاؤبه المديد ويومئ إلى جواده الشاحب كي يتبعه كلما انكسرت غيمة أمام بيت إنسان اسودّت حنجرته.
لم تلق علينا التحية، لم تمنحنا التفاتة، بل واصلت سيرك واثقاً، متزمتاً، من أناملك المتراخية تتشرشر الغطرسة.
استنفرنا المراصد، وتابعنا مسيرتك بنظراتنا الموحلة. بعضنا راح يحصي خطواتك وبعضنا تكوّر كالقنافذ وأخذ ينط من شرفة إلى أخرى ملاحقاً أنفاسك الجهورية.. حتى رأيناك، أخيراً، تدخل منزل الساحرة من بابٍ انفتح بغتةً ما إن لامس ظلك المصراع.
كانت لحظةً تشعّ حيرةً والتباساً.
قلنا: معرفة قديمة، أو زمالة مهنة، أو ربما للغرباء رائحة تجذب بعضهم إلى بعض.
لكن، يقيناً، كانت للدهشة نفحة مدّ.
ثم فجأة انبجس ومضّ شاسع من أحداقنا.
فكّرنا: لماذا نجابه هذا المجيء بالريبة والعداوة. نقدر أن نستميله إلى صفنا إذا انتحلنا حكمة النمل ودهنّا بشرتنا بوقار الشوك. عندئذ سيكون صديقاً مكللاً بالثقة، وسوف يجلس في حنان ضيافتنا مثل أمير يرتجف تأثراً بالحفاوة، وقد ينتحب قليلاً، ليخلب في ما بعد أجفاننا بمغامراته ونوادره، وعندما نرجوه العون يكشف، دونما تردد، النقاب عن حقيقة الساحرة وغاياتها وألاعيبها.
هكذا.. هكذا..

نحمدك أيها الحضور المذهّب، نحمد هديلك الباذخ. بمقدورنا الآن أن نكنس الغيوم المتكدسة على أكتافنا، ونخلع العناء الذي سمّم مراقدنا العشبية.
نطوي كوابيسنا كالخرائط ونهلل
للنعمة.
دعوا أشباح الحمّى، الأشباح الحامضة، ترتقي المصاطب الكونية عائدة إلى مصبات الكبريت، وافسحوا
للغبطة.

آه، كم كنا فخورين بشقرة إقليمنا، بأنهاره الحليبية المحاذية لبيوتنا المسرفة في الدعاء، بحيواناته الجبلية التي تحتشد في الكهوف بعيداً عن مرمى بنادقنا، بأصدائه ورُسُله النورانيين، بأشجاره التي تغيّر مواقعها ليلاً، برياحه القادمة من الشمال ـ موطن الأحجار النفيسة ـ حاملة الغنائم.
وكنا نصيخ، أوان هطول الشهب، وسواعدنا تسوّر خواصر زوجاتنا، إلى نشأة الخصوبة في أحشاء نساء عواقر كنّ يفترشن قرميد الأسطح، ساطعات العري، وهن يهتفن، بصيحات إباحية، لشقشقات الشهب التي تترجل في ملعب الولادة وتتقرّى الأرحام.

كان ذلك قبل هبوب الساحرة،
الغريبة التي داهمت خلوتنا وسلبت منا الطمأنينة.

أنظر إلينا،
إن كنا نعرج في قاعات الحلم صائمين عن الجذل،
أو نعصب أصداغنا بفرو الحداد
مثل جمهور يخيّم في التيه،
أو نخترع جوقة تغزل الدسائس
تحت مظلات الضباب،
فلأننا لم نعد نملك ما نبوح به.

السراطين تقرض الأمكنة
الليل يمزق قميصه فتنضج الثلوج فينا
صرنا بلا أعياد ولا وجاهة.

2

ذات صباح، تطوّع الأكثر بسالة، ذلك المفتون بشبابه وشجاعته، المغسول بخمر الفحولة، الذي صرع ثورين هائجين بقبضتيه وجاء إلينا يوماً ساحباً سفينة هاربة من حيزومها.
قال الفتى والجمرات تعصف في عينيه:
"أنا من سيعيد إلى البلدة النظام والنضارة"
ثم مضى جسوراً إلى منزل الساحرة حاملاً حربته المطرزة بمآثر بطولية، تاركاً لنا أملاً مشبوهاً بلون الظمأ.

حين عاد بعد ساعات من دمدمات التوقع والترقب، لم نتعرف عليه في بادئ الأمر. حسبناه قناع قنديل طاعن في الزوال، إذ بدا هيكلاً رخواً يتأرجح بين
ضوضاء حنطة كانت آنذاك تحاور الله
و
صفير كلاب شاردة في جسد الضاحية.
ولفرط هشاشته خشينا أن نصيح به فتتهشم أجزاؤه ويضيع وجهه في الطقس الزائل. لذا سألناه همساً، غير أنه ازداد تصدعاً ثم تمتم ذاهلاً
"عند عبور قوس قزح منتجع الأرامل..
في ربيع الرخام..
يحدث انقلاب العالم..
هيئوا المراكب للجوء المدن..
خبئوا..."
لم يكمل الكلام الملئ بالثقوب الأكثر وعورة من طريق المرجان، الكلام الذي بذرته الساحرة في حقل حنجرته،
فقد انطفأت عيناه وارتفع جسمه عن الأرض، متحرراً من جاذبية الضفاف، خفيفاً كالفرح، متمايلاً كقنديل ملاك، إلى أن اختفى في فم الريح.

ماذا تريد منا
سيدة الدويّ والصدى؟

3

انتظرنا خروجك طويلاً،
أيها المبحر في الكتابة بلا رغيف
أيها الطائف حول فوسفور الرهائن بلا ضمير
يا ضيف الدنس
يا الذي يكاتب بخار العصيان بألفاظ شائكة
ويتشيّع لمسوخ تمضغ الشرائع المقدسة
وكنا، وقتذاك، نحزم أشعة المُقل في حدقتيّ هرّ نرسله ليخترق كالإبرة بشرة الليل المنمشة،
لكن اليأس الشائع فينا كان يعضّ، وقتذاك، أطراف نجمة تائهة ترشّ الولولة على بقاع لا مبالية.
لم نكن نرى، خلف الجدران المنيعة، غير أصوات غاصّة بالشتائم لشياطين ضاجين يتدفأون بفراء الخرافة ويرجمون آذاننا بوابل من الإهانة.
بعد زمن أبصرنا زوجين من الزوارق الشمعية يخرجان من المدخنة صاعدين رواق الهواء، تدفعهما أمواج غير مرئية. كنت في أحدهما تقود بمزمارك كوكبة من الجرار الطافية، الطافحة بمخلوقات المخيلة، والتي تنحدر تباعاً نحو حضيض الصيف. وفي الزورق الآخر كانت هي، الساحرة المتبرجة، تشدّ أزرك بينما تلتقط القرى الصغيرة في سلة من المطاط.
رأينا كل شيء يطفو في ملاعب الهواء:
الحجرات، المقاعد، الماعز، المحاريث، الأشــجار،
أكوام القش، الملاعق، الأطفال العراة، الطواحين،
المشاعل، الينابيع، الحالبات مع أبقارهن الخضراء،
الزنابق، الأفران، الأشرعة، الأخشاب، السلال
المليئة بالرمان..
رأينا كل شيء يطفو ما عدانا
فسيقاننا مغروسة في شريان الأرض، وعروقنا قد تغلغلت في الأغوار، وليس بمقدور سلطة أن تزحزحنا شبراً عن مواقعنا.
قلنا: هذا سحر مبين.
ثم أطبقنا الأجفان لئلا يغوينا الرجس.

من حقنا أن نوبّخك
يا حليف البليّة
يا مظلة التواطؤ
فأنت الساهر مع شياطينها بأزيائهم المزوّرة، الجالس في لهب آثامها تؤجّج مجون الأشكال، تعرف الكثير لكنك تغطي وجهك بوشم البراءة وتتظاهر بالنقاء.
ألا تهجس بما نهجس به؟ ألم يخامرك الشك في حقيقة نواياها
تلك الرافلة بالكوارث
مرضعة المحارم
التي تشكّ يقيننا بحمم الضلالة
وتخترع لنا سيلاً من المحن؟
أعذرنا،
فصمتك الأليم يحرّك الفتنة بين أهداب البسطاء منا.
اقترب كي تقرأ في جباهنا الحُمر أمارات الوعيد
ونقرأ في جبهتك العالية مكامن الشر.
اقترب كي نغسل أخطاءك بحليب الصداقة
اقترب كي نريك في مرايا الأقحوان خطايا المتوحدة مع رائحتها
اقترب كي نرسم لك الخطوة الراشحة أصنافاً من الخيانة
اقترب كي تشهد معنا
فجور الحرائق
انتحار المعابد
سواد المواكب
طيش الأطوار
وترى بنفسك إخطبوط الذاكرة يزيح شراشف الماضي كاشفاً عن حاضر مجذوم يرشق إيقاع التأمل بالجدال ويرشّ مرابط النعاس بالبَرد.

أنظر كم هي وقحة تلك الخطى الليلية
الخائضة في خميرة النوم
الغائصة في خريف البنفسج
الخطى التي تتكئ على مقبض المعصية وتذرف المشورة الباطلة الخطى التي تلملم تجاعيد موسمنا الأسمر في كفّ امرأة تكيل لنا العداوة بلا مبرر..
ربما لا يحتدم، تحت سقف غفوتنا، الحلم الجوّال بمناخاته وأشيائه، بألعابه الغوغائية، المتسكعة في حصن النائم، والتي تسْفر عن وجوه مستعارة تندلق ميتةً ما إن يخضّ النائم حوض الصور.
ثغاء الحلم لا يغرينا
ربما لا ننتسب، كما يقال عنا، إلى فصل سريع التحوّل، متقلّب المزاج، كهذا الذي يطرق شبابيك مأساتنا.

لكننا ورثنا بزّة الشرائع وكتاب العادات
نحفظ الوصايا عن ظهر قلب
الكوكب الكهل سوف يتفحم في مسرح الفضاء إن لم نغسله بكحول العقيدة.

4

اقترب، أيها المصطفى، كي تحدثنا عنها.. أنيسة المساء.
وأنت تنفض الغبار النحاسي عن ندماء راحلين في الشيخوخة، يذرعون خفافاً أطراف الشواطئ، مأخوذين بولادات الجزر الأرجوانية على يد قابلة إلهية كانت تشقّ اليابسة بعكاز مسنّن وتعلن، بضحكة مجلجلة، نشوء المعجزة.
جزُر صغيرة طائشة، غير موطوءة، ترفع مراياها لترتطم بها طيور تعشق جنسها، ومن الريش المتطاير، الموشك على الغرق، تصنع الأجنحة
هكذا يضلّ الملاحون
لا يرون غير ظلال جزر محلّقة تتساحق في مخادع العاصفة. ظلال مغوية تلاطف رؤى الربابنة لتستدرج سفائنهم نحو مضايق الغياب.

دع ندماءك يضيئون الرمل المالح ببريق حلمهم المشترك، الحلم البكر القاطن في لغة البحر، ذلك المشاكس الأعظم، الفاتك الأعظم، الذي يقتفي وحوش الليل ويسلب أرواح الجوالين في السراب.
وما من كائن يحاذي الحلبات العامرة بعرّافات داميات.

ها هي الذاكرة المجنّحة تقودهم إلى صباح عتيق، مبلّل بالآثام، كان يشهد نشوب العنف الصاخب في أعينهم الرصاصية، لحظة رمي الطرائد بنثار البلبلة.
كانوا النسل الأشرس بين عشائر لا تعرف الكلام.

نعرف ذلك، نعرف حكايتهم، لكن ما لا نعرفه تهمس به نواقيس خرساء إلى مخلوقات خفيّة تعبر نوافذنا ليلاً تاركة حبات الكرز تحت وسائدنا، فنعلم آنذاك أن سرّاً قد أفشي.

تعال يا من تخاطب شبق العناصر بلغة شبقة.
تسير على شفا سرير يهزّ أنّات كائنات خلعت جلد الاحتشام وعرّت سرائرها. تحرّر الفراشات الكئيبات من أكفانها الملوّنة وتطلقها في فضاء الحكاية لتصير أهداب بحيرة وتارة تنثر ندائف الثلج في مسالك الحلم لتقتفي مواطئ المشهد الغامض.

زائغاً كنت تحلب النهار
وحين تطبق أجفانك تشيخ الدهشة.
فمك مترع بتبغ يحترق
وما من احد أسرى في دهاليز روحك المقفرة.

يكتنفنا الحزن حين تسرّج الأشجار بهدايا المستنقع وتسوقها عبر محافل الغابة كخيول تمضغ ضوء العالم فيما تضرّج المهانة مناخيرها.
الوطاويط العابسة، التي استوطنت صوتك، ترافق وحدتك.
ونراك في حضرة المشعوذة تهبها عطاياك برهاناً على الصداقة.
أم أنه الحب؟
يخيفنا هذا الخاطر، يخيفنا أن تصاهر زهرة الكراهية.
سامٌ هو هذا الحب
من حرير العناق المحرّم تزحف أفعى اللذة وتنبش دمك الغارق في الغفلة
قل أنها نزوة طارئة
هيام مؤقت
فضول محض
ثم،
تعال إلى بهاء مائدتنا لتحظى بالثناء
وقل ما لا نعرفه.

سمّيناها أنيسة المساء لأنها تعتكف نهاراً مع أمشاطها ومباخرها، موصدة الباب بإحكام، فلا نعود نسمع إلا وقع المطر الراكض في الغرف العائمة، وحوار مبهم بينها وبين أطفال متوحشين يأكلون اللحوم النيئة وبقايا أحلام لم تصنْها المفاتيح. وفي المساء تخرج سيدة المهاوي إلى جهات غير معلومة، بعد أن تموّه أريج إبطيها وتتقمص عزلة الطواحين لتربك مناظيرنا الدائخة.
في اليوم التالي تدلّنا أجراس اللبلاب إلى استراحة البارحة،
في كهف يشاطئ أحداقنا دون أن يمس أهدابنا،
أو كوخ مقوّس من فرط العبادة،
أو برج يلذ ّ له أن يهرق الطل على كواحل الحكماء ليسعّر جنونهم.

هناك،
حيث نعثر على ما حبلت به سهرة المصادفات، السهرة الباذخة، من أصداء تكفي لنتصور ما كان يدور هنا بين
أنثى ملفوفة بالطلاسم
و
مساء يجازف بسمعته من أجل خلوة آفلة

بوسعنا أن نقرأ هنا
اندياح لبن العتبات في أمومة الغسق
قشعريرة أجاصة تحت غلالة الوسن
آثار حوافر حائمة حول منتدى الأطياف
زبَد أغنية كانت تزفّ قوارب الموتى إلى ميناء النعاس
وأشياء أخرى تخضّ حموضة الصباح في رئاتنا الواهنة.

5

يأسنا، يا هذا، لا يُحتمل.
نعود، حاسري الألم، تاركين الكآبة تتخثر على أكمامنا، وبطمي أخفافنا نتفقّد خواء اللغة في أنحاء الروح.

تحلّقنا حول الجمر البارد وسط أنقاض الظهيرة، نستنشق بخور الصمت الناسك ونموّج ورطتنا في مستعمرة التأمل، حتى قام واحد منا
ذلك الذي يسوس الأرانب البرية
ويكلّم البغال بطرف سبابته
وبخفة انحنى على حمّى وساوسنا وغمس أصابعه في نواة الدهشة الغائرة في تعرّجات دمنا، ثم قال وهو يحرك مجرى الفضول في أخاديدنا مثلما يحرك النوتيّ بمجدافه الضوئي أعشاش المياه:

كان ذلك في عصر يوم شاهق، حين أويت إلى مجلس سنديانة عملاقة، وتزوجت ظلها الحي مستدرجاً عنادل السبات لتبلل بمناقيرها العذبة بذرة الحلم النابتة فيّ، فيما كانت بغالي الصائمة، ذات الأعناق المبلـّطة بالدهاء، وذيولها المخضرّة من فرط احتكاكها بالحشائش، ترنو مبهورةً إلى الشمس المهرولة غرباً مع وصيفاتها المدججات بالأسلاب، صاعدات الأرصفة السماوية المبلطة بأعراس فلكية، والأفق ـ ذلك الوارث كينونته من صفاء طقسنا وقوة إبصارنا ـ يرفع أوتاده ويطوي المدى ثم يبدأ في محو عتباته القزحية.
كانت الغلال مستريحة بوداعة على كثبان القش، تسلّي وحشتها ثرثرة نزلاء الغيط المجاور، فلم يراودني القلق، بل مضيت حثيثاً مع الحلم المرقـّط، متشابكي الأيدي مثل رفيقين عامرين بالحماسة، يطريان ولائم الأعيان ورخاء المآدب، ومعاً نعبر جسر المومسات النائحات قاصدين نطاق الصحو حيث تفترسنا أشبال الفراغ.
كم كان الوقت شفيفاً، بالغ النقاء، حتى أنني كنت أقدر أن أتنفّس عطر الضفاف المعمّرة، وأنظر بعينيّ المغمضتين إلى النهر النرجسي الذي كان حينذاك يخلع هندامه ويلبس زيْ شلال مزركش بالصقيع ليراوغ عبوس الغجر القادمين من أصقاع مجدبة حاملين تحت معاطفهم الأوبئة المكفّنة.
كم كان الوقت رائقاً وفسيحاً، حتى أنني لم أعبأ بالنقرات الخفيفة التي كانت تنهمر على جذعي، وعندما اشتد النقر، أيقظني حلمي فأفقت ورأيتها أمامي:
عشيقة المساء المجنون،
الغريبة التي اعتنقت الغرابة وأبحرت، كالحلزون
المتطفل، في معاقل أسرارنا.
بعصاها الأبنوسية التي تمتحن موطن الهفوات فينا
وثوبها المنقّط بالتويجات الفضية، البارق في عتمة
المستنقع، الذي يرسو على زغب خميلة دون أن
يمنحها لونه

ظننت أنني ما زلت تحت وصاية الحلم أتنزّه في فوهته، غير أنها ألهبت عروقي بحرارة نظراتها فأدركت أنني ماثل أمام حضور أبهى من الحلم.
عندئذ انفرجت شفتاها، المثمرتان ينابيع ورغائب، عن ابتسامة فاخرة موشومة بالوعد، ثم فرشت يدها الماطرة رذاذ الأنوثة لتتحالف مع يدي المثقلة بحشد من العشب الصاخب.
نهضتُ، أنا قرين العراء الذي بلا صديق، فريسة سعادةٍ لم أختبرها من قبل، وقلبي الذي بدأ يكبر صار مكتظاً بالوله.
وأنا أمشي وراءها لصق تخوم البحيرة، حيث المياه المغطاة باللوتس ومجاميع البجع المنقضة بحماس وجذل على محميات الأسماك، كان يحق لي أن أختال في كنف الطبيعة فخوراً بفتوتي، مخموراً من البشاشة، والفرح يغسل وجهي برضابه مع كل هرولة.
كم تمنيت وقتذاك أن يلمحني أحدكم لتتضرّج صدوركم بالغيرة والحسد، فهذه الزانية الجميلة قد انتخبتني من بينكم لأرضع الجنس من لجّ حلمتيها وأطري فصاحة الشبق في أنينها.

كانت الشهوة تخضّ خطواتي فيما أتمرأى شارداً في إشراقة فخذيها خلف غلالتها الحريرية، واللتين تهيّجان حساسية الكائن الحر الموعود بالالتحام، المرصود للاحتكاك، وتنسجان بحركاتهما السكرانة مباهج لا تحصى للأسير المغلول، الهامس لنفسه مأخوذاً:
"لا أحد غيري سوف يروّض اختلاجة هاتين الردفين اللتين ترجّان صواري الأمكنة مثل حيوانين شرهين يشيعان الجلبة أينما سارا"

على الفسحة المعشوشبة تشابكت أعضاؤنا والتحمت نفحاتنا. احتويت العذوبة بذراعيّ، احتوت الرعونة بذراعيها، وأطلقنا في رعدة العشب الصيحة التي توحّد ما هو بشري وما هو حيواني في الكائن الذي لا يعرف التجانس.
اجتاحتني اللذّة فلم أفطن إلى حجم الألم الذي كانت تسببه أظافرها الضارية وهي تمزّق جلد ظهري، ولم أكترث أيضاً بالفحيح الذي يلهب أذني ويزداد تخثراً وكثافة. كنت سادراً في ارتشاف رحيق ثدييها، والحواس كانت مترعة بالجلبة. لكن شيئاً فشيئاً بدأت أشعر بخشونة البشرة المباحة للقبل والملامسة، وبوخز حاد في أنحاء وجهي. تركت راحتي تجوس برهبة وحذر عبر مسالك بطنها وصدرها مثل أعمى يطأ أرضاً أجنبية. جسدها لم يعد ناعماً وغضاً، بل أن رائحة نتنة صارت تنبعث من حولي وتبذر في أحشائي الغثيان. بحركة سريعة، مفاجئة، رفعت جذعي وأنا أنظر هلعاً إلى الجسد المتمدد تحتي وقد اكتسى بشعر طويل كثيف يشبه وَبر الحيوان. وعندما حركت رأسي لأستطلع وجهها صرخت من الرعب، فقد رأيت وجه ذئب يتفرّس فيّ ومن شدقيه المتوهجين، بين أنياب تستنطق الهلاك، يترذرذ لعاب الافتراس.
أغاثتني الغيبوبة. حين أفقت، ألفيت نفسي في حضن السنديانة التي تمرّد عليها ظلها، وعلى مقربة كانت بغالي الصائمة تمرح في النوم وتشاكس بذيولها الطيّعة زنابير حانة غاصة بالمراهنات.

سكت هذا الذي يكلّم بغاله بطرف سبابته وراح يتمعّن في اللهب المتصاعد من الحطب المحترق، وبغتة تقلـّصت ملامحه وأشار إلى اللهب قائلاً بصوت مختنق: "ها هي مرضعة الحمّى والآفات.. تتكئ على حطام شخص يشبهني، وتنهش قلبه"

6

نبايعك، أيها الكاتب الملول، وصياً على ضيعة الأعياد المهجورة، الأعياد الهاربة أسراباً نحو سحابات عالية مزدحمة بمواكب ملكية وبشر ثلجيين،
ووصياً على مفاتيح المنتزهات التي باتت خاوية وصامتة.

نرصّع لك الحظوة في ضيافة الخبز، ونشعل حواراً هادئاً يزداد صخباً كلما انغمسنا في رفاهية الكلام.
نرحّب بك في هذا الوكر حيث تتآخى الوجوه وتتمادى البقع الشمعية في تشتيت تضاريسها.
نحيي هبوطك بيننا، يا كاتب نصوصٍ ليست للفهم.
لكنك تعرض عنا و لا تحفل بنا،
نحن الأكثر عرياً من العراء
شركاء العزلة، رفقاء البليّة
المنكوبين بحشرجة الارتياب
المسافرين بلا حكمة ولا كياسة في لجّ المصادفات المتواطئة، نشدّ أشكال الكراهية إلى تخوم العصيان، رافعين أوتاد أسلافنا المستبدين، والدم الذي يجنّ تحت الأظافر، دون أن نقهر الشؤم.
كلما فتحنا قفصاً هطلت الفتنة
التسوّس ينمو بطيئاً في ورد عاداتنا
ولا عدل هنا

لكنك لا تحفل بنسائنا الوحيدات،
الأقل حصانة من البراءة، واللائي يفركن سراً حشمة الإبط بطحين الجنس،
طافحات بغبار سرير
بحنان مستعار
ومخاض مقفر
أطلقن، في مجرى الانقراض، بهار الأمومة
أحرقن، في أحواض الليمون، مستودع الأجنّة الجميلة.
بمحاذاة مخازن السكّر، يخيمن ويستطلعن جولة ً بعد جولةٍ مكامن الأطياب الشاردة، تنادم خلوتهن صرخة فراغ ذائب ونواح خلاخيل.

نرقب عن كثب أوبتهن بلا عبير ولا فرح.
نلمح الهباء يطوق أفخاذهن الرنانة،
ورعشة الهجر تطفر من حلمةٍ إلى حلمةٍ
مثل نجمة ظمأى.

النعناع الذي مسّد خواصرهن لن يمسّ بعد الآن أطراف نوافذهن.
للاعتراف لون الوحشة وطعم الخطيئة.

ها هنّ، في الشرفات الجليدية، أمام جمهور متحجر يرنو خاشعاً، يجدلن احتفالات وهمية للشقاء القادم، الشقاء المتورد عنفاً وتوحشاً، المتنكر في لباس دخان.

ومن نحن لكي نتصدق عليهن بشيء من العناية
شيء من الحبور
وكثير من الحنكة.

لا تحفل بمصابيحنا الملجومة التي لم تعد ترمّم أبعاد العتمة ومساقطها. لم تعد تشطر الطريق الرائبة، بحركات حاذقة متناغمة مع إيقاعات مسارنا، إلى شظايا يزهر فيها الضوء. فهذه المصابيح التي كانت تستحم بإتقان في غور ظلمة، منفلتة من أي أسر، التي لا تُروَض، وكانت تحرث مسالك النعاج الراكضة في غروب المراعي بشفرات لمّاعة تبهر الأمطار الليلية، قد فقدت مواهبها منذ أن جاءت الساحرة وفقأت، بدبابيسها الذهبية، مقار الشُعل.
محاجر مملوءة بالزيت، لكنها تدثرت بالقش واعتكفت خجلى في قبو البيت القديم.
لم تستشر المواطئ، ولم تألف قراءة الأرض وصداقة الريح. مصابيحنا الراحلة صوب مغاور العسل، تشحذ بصيرة النحل، سوف تسترجع مكانتها ومجدها، أو تعود منتحرةً دونما مهابة.

ومن نحن لكي نتصدّق عليها بشيء من الحدْس
شيء من الإشارة
وكثير من الألق.

وأيضاً أقدارنا الطليقة، المتحررة من معاصمنا المسوّرة بالفروض والشرائع، التي تعصرها الساحرة الآن كالعنب في خوذة جندي ميت، ثم ترشق وجوهنا بضحكة شيطانية.
من إذن سوف يحكم مصائرنا المشلولة، نحن الذين بلا ركيزة، ويوجّه مساقط مستقبلنا بروافده المتشعبة، ويقودنا إلى الصراط المنذور لنا؟

لا سلطان، بعد الآن، على مجرى أهوائنا.
هكذا نتخبط في فوضى المدارات لا نعرف أي مربط ننتسب إليه. وكل امرئ يؤسس لنفسه أو لأشباهه أحكام المباح والمحرّم والحميد والشائن والمقبول والمخالف، وتتعهر المواعيد، وتنقلب الموازين، وتقترف الفتاوى ما شاءت من أوامر ونواهي، وسوف يعمّ الإلحاد، فمن يعين فقهاءنا؟

في نزيف الرؤيا نرى
أنقاض كوكب متعفن،
شيخوخة مدينة تسير حثيثاً نحو حتفها،
شحوب أدلاء مصابين بالنسيان
وعالماً تحاصره أعاصير خارقة فيفيض رعباً
كل هذا لأن أقدارنا السائلة لم تعد تستوطن دواخلنا وجهاتنا، بعد أن شربتها الساحرة دفعةً واحدة.

ومن نحن لكي نتصدّق عليها بشيء من البيان
شيء من الشجاعة
وكثير من الثقة.

نهارنا المنحدر من مرتفعات الفصول الشائخة، المرتفعات التي تحتل قممها عقبان نائمة قرب أطفال موتى،
كان في ما مضى ينقـّع نشيده الشفقي في محلول السديم، ويخطو نحونا على مهل، مترنماً، يرطّب قرون تيوسنا بالعاطفة، ويتسلل إلى مراقدنا ليلملم في راحتيه الرؤى الليلية المندلقة من أجفاننا، ويهرق على جباهنا الناعسة عصير الضوء الحي.
كان لنا كل هذا الترف، كل هذا الكرم
ها هو الآن تائه مع أجراسه الرصينة، يسرّح ضفائره في رحاب المحنة، ويوشوش لسياج الأرض بعبارات هاذية.

أشتات أمكنة محمومة كنا ننقشها كالنمنمات في ربوع الإقليم أثناء اقتفائنا خطوات الساحرة الماجنة، تلك الخطوات العائمة، النابضة بالنوايا الشريرة، ذات الرائحة الشبيهة برائحة التفاح.

أمكنة مشمّرة عن آبار ناضبة، لا هوية لها، وملوّثة بالهجر.
أحجارها العارية تتسول ريحاً باردة.
ثمة حيوان كاسر يمزّق قلب الشجرة التي لا تثمر ولا تفئ
وإذ تطوي الرمال ساحات العشب، نزداد يقيناً بضياعنا
ولا تعود لدينا أمارة نستدل بها.

أمكنة مأهولة بنيران على وشك أن تُخمد
وقهوة فاترة تتعارك حولها الحشرات النهمة
وبقايا ثرثرة طافية سرعان ما تتهاوى وتتبعثر.

نهرنا المقمّط بأفق فضفاض
الواهب زرقته لأشرعة غاربة
لا يورّث إلا حنيناً نائحاً.

جثة سابحة تلدغ لباب الضفة
موجة جائعة تقرض جرار الضفة
والكلاب تتدافع على حافة الجسر لتختبر لذة الانتحار.

نهر حيث لا وضوء ولا دهشة.

والمساء الوسيم الذي يعرّي مرآته ويحلم ضاحكاً بفتيات بشوشات يملأن راحاتهن بمياه مسمومة تشفي جراح الشفاه المتدلية من الشبق ويتظاهرن بالعطش أمام عشاق مكفهرين تفوح من أعينهم الوقاحة فيتبارون لنهب ثمار الضواحي.

المساء الذي يقطف أنوثة القمر، ويشتهي أن يكون إقطاعياً فاسقاً تهيم به الأرامل الشابات.
واقف على شفا الباطل، ثملاً، حيناً يوحّش طائفة من العرّافين الرُحّـل ليقطـّروا الشقاق في مجالسنا، وحيناً يهدهد أعضاءنا الخائرة ويغمغم آسفاً:
"ليست مشيئتي يا شعبي إنما هي النزوة"

عفيفاً وعذباً كان هذا المساء المزدوج الذي، برغم حنكته ونفوذه، صار لا يعرف أي الممرات يعاشر، وما إذا كانت الرعشة بفعل فرح أو حزن

لكنه سعيد بجنونه.

لا تحفل بكل هذا، يا أنت
يا من ترقب تفشي الشوائب فينا، وتكاثر الضغائن حولنا
يا عدو الواجب
تؤثث الوقت بالصمت الفاحش عند هبوب الصراخ
معتنقاً حياد الذاكرة،
وتغتنم اضطراب حضورنا المبرّح لتتقهقر وتبسط يداً مورقة تجاه المملكة البعيدة، المملكة القزمة الشبيهة بقبر قزم.

بماذا ستتذرع هذه المرة أيها المؤمن بشفافية البحر؟
(وفي البحر سيكون موتك وميلادك)
إلى ماذا تنظر أيها الطائف في يقظة الهذيان بلا حبر؟
(وفي الحبر سيكون موتك وميلادك)

فيك يتورّم الحب الطافح بالدنس،
المبذول إلى تلك التي تؤرجح قلبك مثل قارب مسيّج بالليل يطرق الليل مستعطياً الماء
المغوية التي أغوتنا جميعاً ثم طرحتنا فريسة حقد هائل.

وإذ تدير ظهرك، يتدشّن أمامنا اليأس الأثيم،
وما من كائن يعيرنا صدره اليانع المشطور
ندخله رابطي الجأش، وليس في الخفاء،
لنعبئه هتافاً وضجيجاً.

تمضي كمسافر يحرّر الطرقات من مرابطها، وئيداً، وخيوط المطر تتساقط على كتفك الرازحة تحت غبار الأسفار.

امض، أتسمعنا؟ أوَلسْنا منذورين للخيانات والتعب؟
لم نعد بحاجة إليك يا أسير الكتابة.
أولى أن نمكث هنا، بين نخيل تعدو وراء المدّ وطقوس جوالة تبدع المعصية،
نترقب زحف عابرٍ فاتن، تزوّج المغامرة، وبيديْن ينضج فيهما البأس يمتحن الأحجار المحجّبة،
سوف يغدق علينا دم الصداقة،
ونسكب في أذنيه الحليمتين أنين مأساتنا.

اذهب واترك لنا عبء الساحرة التي
نكرهها إلى أبعد حد
نحبهــا إلـى أبعد حد
نحن الأشباح المنسيين، المطرودين من أحلام البشر.

أكتوبر/ نوفمبر 1991

ترنيمة للحجرة الكونية

في الحيّز الأكثر ضيقاً من وكْر اللحظة، الأشدّ تقشفاً من منحة الفراغ، حيث لا وفرة للريش ولا رفاهية للأشكال
حيث الجدران المعرّاة من شظايا زمن باهر
مرّ في لمحةٍ تاركاً مرحاً زائلاً
ونعمةٍ زائلة،
الجدران المائلة كنعاس مائل
في حمحمةٍ مغذّاة برمل الحداد،
تذرف الحشرجة تلو الأخرى كي لا تفنى دونما جلبة.

للجدران حكاية ينبغي أن تُروى:
في ساعة غابرة جاء قوم أشدّاء، مخضّبة سواعدهم بزعفران حوت، وعلى أكتافهم تتدحرج أملاح سفنٍ مغزوّة، أما جباههم فمغسولة ببخار موانئ كانوا يطأون عتباتها بعد كل نهب.
أهرقوا شهور الغربة في خريطة ضالة بين مدّ يؤرجح أسلابه بلا احتشام فوق موائد المسافرين وجَزْر يترقرق الماء في آباطه ويرجو البحر أن يرفع العقاب. لطّخوا قباب الأفق الحامض بطمث عاصفة وأكباد مضيق ولظلالهم المرهقة بسطوا شراشف الموج، ثم جاءوا موشومين بالقرصنة، مأخوذين بالسطو، تتعقّب هتافاتهم بوصلات السلطة وعيون مخبرين تمشّط ثنايا الدجى بأجفان رنّانة.

أربع مرات طرقوا الباب، أربع مرات نشروا آذانهم على الباب لعل أحداً يزجّ صوته في أقفال السكون. بلا تباطؤ اندفعوا اندفاعة رجلٍ واحد، شاطرين درع الهواء بنفسٍ واحد، وبمناكبهم العريضة حطـّموا الباب.
كان المكان مهجوراً إلا من صمت مجنّح. الزوايا مبقـّعة بعناكب تنسج أقداراً غامضة. الحزم الضوئية العليلة ـ السرب الهارب من أشلاء النهار ـ المتوافدة من كوى بعيدة، تستحم فيها سجادة عائلة نسيت، قبل رحيلها، أن تمحو رائحتها وأصداء همساتها.
جال الأشدّاء برهة، بعدها صار المكان مباحاً لضوضائهم وشموعهم وبخورهم وأوانيهم وقناني الخمر.. وفي أرجائه حلـّوا وثاق التبغ وأوقدوا السهر والمرح.
في صباح دامع، وكانوا نياماً، حاصرت المكان سريّة من العساكر المدجّجين بالصليل الجهنمي، رافعين المنتخب من لغة الأهوال، تتقدّمهم المذبحة الصاعدة كالسيّاف الكوني أدراج المسلخ الكوني، خائضة مضجع الدم ومخدع الذبيحة (ويا لغفلة الذبيحة) بين بنادق بارقة تحت وشاح النعش وفاجعة تسقط ثمارها باسم الله وباسم العرش، شابكة الخوذ في قلادة: هبة الحكّام للمحكومين إن جاهروا بالتعب أو بالغضب.
حين انطلقت الأسلحة تشقّ عنان العراء لتدكّ قناع الحصن خرقةً خرقةً، انطبقت أجفان الصباح خجلاً فلم ير المؤرخون خلاعة المعضلة. أما روّاد المنتزه فقد تعجبوا لمّا فاجأهم المطر بطشيش لم يتوقعوه في يوم كثير اللهب.
هبّ الأشدّاء الذين أنهكهم السهر، خارجين للتوّ من نوم لم يكن ينبئ إلا بعاصمة تقوّس أرحامها لعبور أحصنةٍ مكسوّة ديباجاً وشعيراً: هبات عرس البحر. وأينما تعدو يعدو العشب والمياه والبغال والأقحوان والشموس والكروم والأبعاد والطواحين..
تراكضوا تحت غلالة القصف مرسلين الصيحات المتشنّجة في طقس متورّم، عارفين أنها منازلة معبّدة بالغدر وأنهم لن يحظوا بفناء عادل. وأي مناعة ستشمل بالعناية معقلاً موهوباً للانقراض، مرجوماً بنعوش تتطاير لتحط في صخب قرب كواحل دامية.
ما وجدوا مهرباً أو طوق نجاة، فكل المسارب سُدّت وكل المسالك سُيّجت، ولم تبق ثغرة إلا وأُحكم الحصار حولها.
التصقوا بالجدران ناشبين وجوههم في أحضان الحجر، ممزّقين بأظافرهم الحادّة ثياب الحجر.. كأنه التزاوج الشاذ والفريد بين جسد الإنسان وجسد الجماد، أو أنه الانصهار الذي ما بعده انصهار. وفي وَجَل ترقب العناصر هذا التجانس المدهش والإباحي الذي يخرق المواثيق ويبلبل العادة.
كلما اشتدّ القصف وتفاقم الحصار، ازدادت أجسامهم اتحاداً بالحجر حتى تلاحمت خلاياهم بخلاياه وذرّاتهم بذرّاته في تفاعل كيميائي معجز، وبطيئاً اخترقوا الغشاء ودخلوا أنسجة الجدران التي صارت حبلى ببشر حجريين.

عندما اقتحم العسكرُ المعقل الشهيد لم يشاهدوا جثثاً أو أذرعاً مرفوعة في استسلام، وحسبوا أنهم هاجموا بالخطأ موقعاً بريئاً، لكن حين استند بعضهم إلى الجدران متأففين، شعروا برفيف دم ساخن ونبض عروق آدمية. استداروا هلعين وتحسسوا الأسطح المتورّمة براحاتهم المرتعشة. عندئذٍ انبثقت قهقهات أخذت تعلو شيئاً فشيئاً حتى توحّدت في ضحكة مدوّية تصمّ الآذان.

*

حيث السقف الملبّد بالوحشة منذ رحيل الطيور المجنونة بالغـَمام والموائد، الحاملة بمناقيرها قناديل نزقة لا تضيء إلا خلوة عشاق نزقين،
السقف المحتشد بأسرار يسيّجها رنين الإثم،
يطل على هاوية يزدحم فيها الهذيان، ويوشك ـ لحظة حقد عابرة ـ أن يدمي الهاوية بإضرام الدسيسة في ربوعها.

مسقوفة بي كل أخلاط الأرض: الأليفة والجامحة، المعطّرة والمتعفّنة، العلنية والخفية. أرى كل ما لا ينبغي أن يُرى، و أشكّ نصل فضولي في مسام الخفاء لتنذرف السرائر. لكن لا غبطة لي، إذ لا أجني غير الأسى والندم، فرهافتي تلوم إسرافي في التطفل، حينها أغضّ قليلاً ثم أعود رغماً عني مستأنفاً هوايتي.
تحت انحناءتي الأبدية، كانحناءة رجال بلاط قيل لهم أن الملك سيمرّ ولم يمرّ، كنت أرصد دوران طيور مجنونة بالغـَمام حول مخابئ الحبوب وأطفالاً سود يسنّون شراكهم العتيقة وبنائين يدفعون عربات ملآى بالآجر ونساءً يدرن الطواحين بأيدٍ تمازجت فيها الغضاضة بالخشونة وفتياناً يتسكعون بلا عمل حالمين بالسفر إلى بقاعٍ تتزيّن بناتها من اجل الإيقاع بالعابرين ودجاجات تلتقط الذرة المتناثرة بمناقير شرهة، وإلى هنا أيضاً أقبلت جارات مضفرات بالنميمة جالبات المباخر والقهوة وعتاد الثرثرة.
حياة بأكملها تنشأ هنا
حياة تولد برتابة ودونما لبْس عند كل شروق.

في الخلوة النائية عن رقابة جمهور ممسوس بالفضيلة، الوارثة حرير المساء وترفه وإغواءاته،
المتشيّعة لحواس حبيبين يرتكبان خلسةً خطيئة الحب،
في الخلوة المزهوّة بذاتها،
كنت أصغي إلى عتاب المرأة الحنونة للرجل الحنون الذي لم يفهم قصدها عندما قبّلت خده عرفاناً بالحب فأطبق بكفـّه على ثديها المستور في إيماءة لم ترَ فيها غير الشبق. طأطأ رأسه حياءً فافتر ثغرها عن وشوشة حلوة: ليس قبل أن تمتلك جوهري وأمتلك جوهرك.
كان يجلس على طرف السرير مؤدباً، وكانت تجلس قبالته على كرسي مغطى بالمخمل تحكي عن أب سيّد فخور بألقابه يغيّر سحنته ويرمي ابنته بالفحش والتهتك كلما نضت حجاب الحشمة ونفضت عن أنوثتها الزاهية رياء السمعة. تخرج من معدن التقاليد غير عابئة بما تخبئه العباءات من قذع ومن دنس، وتحشد تقاطيعها الحلوة تحت قوس نجمة تمازح النجمة بأرقّ الكلام.
كم شابٍ فتنته الطلعة المغوية، كم شابٍ هوى واقتفى نعناع هواه.. ولم تكن تبلغ الرابعة عشرة.

تحكي عن كناري حطّ على باطن كفـّها ونقر الحَبّ فاشتهت أن تكون مثله طائراً ينقر تباشير اليقظة الفجْرية ويموّج الندى بطيش جارف. وقفت ببدنها الصغير على حافة السطح تتمرأى في فضاء يتدلى كمخدع مسحور ولم تكن تبلغ السادسة. الأرض بعيدة والسماء ملعب. عندما قفزت تلقـّفتها أيادي الفضاء المريّشة فشعرت بنعومة آسرة واعترتها الغبطة. ما عامت وما حلّقت، إنما هبطت وئيداً وئيداً على كومة قش كبيرة.. وما كرّرت التجربة.

تحكي عن اجتماعات سريّة من أجل الثورة. عن أحزاب تلقـّح المنتسبين بلقاح الاغتياب. عن ثائر معتكف لا يغسل أسنانه. عن يمين حاذق. عن جيل يهذي في غرف الامتثال. عن وطن...
تحكي ولم يكن يصغي.

كان مأخوذاً بها. يتأمل منتشياً انطباق شفتيها وانفراجهما في حركة متواصلة تشعّ ضياءً وبإيقاع يتناغم فيه ألق الأبجدية ونبرة العذوبة.
يتخيّل مرّة أن فرائس بحر تخرج مهرولةً من رواق الفم
ومرّة يلمح فراشات بشوشة تستريح على ضفاف الفم
لذا كان يستدرجها للكلام بأسئلة متلاحقة كي يمجـّد موسيقى الشفاه وفصاحة المخيـّلة.
لم ينشأ الحب بينهما فجأة وبمحض الصدفة. لقاءاتهما الأولى لم تخرج عن حدود اللياقة والرصانة،

إذ كان متزوجاً يرفو ركائز الأسرة بأوصال مرهقة. عمر مغلول. صدر قاحل تمتد أنقاضه حتى تخوم الصرخة الحبيسة. يشرب حليب مصيره حتى آخر جرعة مدّعياً الحكمة. بعد نزهة وجيزة مع قرينته، أيام الجمع، يعود باكياً إلى قفصه.

إذ كانت متزوجة ترنو إلى فراش دامس يفتح شدقيه ليقضم بهاء ما تبقى من حلم. يشدّ القرينُ اللجام ويمدّ كأس الولاء لتتجرّعه حتى آخر قطرة. تتقرّى الراحة بيدٍ عمياء. صدر يعجّ بالانقباض وبين أهدابها يسكن الضياع. بعد نزهة وجيزة مع قرينها، أيام الجمع، تعود باكية ً إلى قفصها.

غير أن الحب الملول سرعان ما أشعل قلبيهما بسهم واحد.
حبيبان يلذّ لهما مطارحة الخلوة برضاب نبيذي مثل مراهقيْن غرّيْن،
حيناً يجسّ منبع الطيوب في نحرها،
حيناً تجسّ نشيد الثناء في رسغه،
تناجيه:
أنت الجدير بي يا رسول الوَلهْ.
لم أعد مزدوجة ولا كئيبة منذ أن رأيتك هائماً تستنطق هبوب العطاء فيّ، وتطرق بخفـّة باب حلمي لتدخله غاصباً وتمتزج بي. منذ أن توحّدتُ بفيضك وأشعلتَ الوقيعة في نفسي، يا نبضي، أنثرني في وليمة النهر سوسنةً أو مدّد أعضاءك في جسدي كالعبير واسهر حتى الصباح. ها شجرة غائصة في رغدي تجوب ضاحيتنا وتورق أعياداً وطقوساً.
باسل حبي وأنفاسي منتشرة
لك في الخاصرة مسكن، لي في مياهك مخاض الأجنحة. دفـّق ماءك في جذري وكن لي النُسْغ يا من يبحر بلا قارب بين جُزُر لهاثي ورخاء أغواري. الوجع في نهديّ يفيض كالطلق، كوّر راحتيك واقطف وجعي. بلّل بالنعمة وجهك وبزمزم السعادة مجراك، وبشّر العالم بولادة عاشقة.
باسلٌ حبي وأشيائي منتشية
أنا المغمورة بالزهو والطمأنينة، أهجس برعشة تتحرك في نداوة عشي..
إن لم يكن صوتك فما هو؟
وإن لم تكن نكهتك فما هي؟
إنه انبثاقك الكليّ فيّ.. وأنا الممتلئة بك أغني:
لذّتي في السفر،
وأي سفر لا يمرّ عبر بوابة العشق باطل.

يناجيها:
آويتُ، مدموغاً بالشوق، إلى سعفة اللذّة المضيئة، تلك التي يتفيأ تحتها جسدك الأخضر مع ظلك الأخضر،
أتنشّق ريحان البصيرة، هديل الحفاوة
أغسل شفتيّ ببلّور النسمة، ريق النقاوة
وأتمتم: جائع إليك، طالع إليك، وإليك ـ أيتها المحروسة بصفير الرغبة ـ أرصّع مجد الحب ووعد الوقت.
أغدق عليك، ملهمتي الأجمل، ورد المديح. رحابي حافلة بالمديح. وإذا اكتفيتِ قلتُ:
لا يهرم من يرتشف دفء محافلك
لا يفنى من يستحمّ في رئة مرافئك
البقاء لي، ولي الرضاب والتموّج والتفتح والنداء المسْـكر.
إن لمحتُ في غدير عينيك حفيف دمعة نشوانة سارعتُ إلى لم ّ شمل الآهة وأذكيتُ المحرّم من العناق والقـُبل. وإن تماديتُ ـ مستعيناً بحيل الإغواء ـ زجرني سنان الوقت
( ـ أبهذه السرعة تذهبين؟
ـ مضطرة أن أذهب)
فيتغضّن جبيني، ويتغضّن كلما انحنيت على المواعيد ولم أسمع هفيف كاحليك على جسر المساء. الأصابع التي انزلقت سهْواً على جلالة ردفيك سوف تستيقظ فيها بذرة القنص، وتنمو الصرخة.
جاهراً أعلن: لا إثم للعاشق إن تلألأ عارياً في كنف المرجان.
واجفاً أسأل: من أي طريق آتي إليك؟ وأي سفينة ستحمل فلول أهوائي؟

جريئةً تتوسّد أبّهة العضل وتلقمه نواة العافية، تسميه أرجوان التأمل.
جريئاً يتنفس فوهة العسل ويلقمها زيتونة الغبطة، يسميها نجمة الرؤيا.
ومعاً يتقاسمان رغيف المجازفة.
صانا سرّهما زمناً، لكن كان لابد من افتضاح السر.. وتلك ذكرى أثيرة وأليمة.

ـ أكمل.. ماذا بعد؟
ـ من ذا الذي يخاطبني دون أن أراه؟
ـ أنا الراوي بلا رواية، جئتك لتعرني الحكاية
ـ إذن هناك من يصغي إليّ، أنا السقف المعتكف مع ذاته، المنسي مع أشياء الغبار..
ـ أكمل..

كانا يشدّان قوس الفراغ على حواف الأعضاء المترامية مثل أشكال هلامية منزوعةٍ عن مفاصلها مفصولة عن منابتها لكن تسيّجها براعم الأنين فوق ملاءات تتلوى كسهول موطوءة بحوافر جيش من الجواميس التي تلتمع على أطراف قرونها زرقةُ الفرادة الشبيهة بزرقةِ الثمالة الساطعة على ملاءات تتلوى وتحتدم مثقلة بشظايا غرباء سكبوا أجسادهم قطرةً قطرةً ثم مضوا نازفين تاركين الملاءات تتلوى وتنبعج انبعاج آبار الروح الغاصّة بأنين يبلّل بلاغة الشهيق ويغسل صراخ العروق الراكضة تحت كمين جلدٍ متخم باللهاث يرفع حباحب النبض كبذور العنب إلى مصبّات الوميض حيث تتلاقى أفواج الشهوة عِرْقاً عِرْقاً في جناح الفوسفور ضامة شقاق الإباحة في جذر واحد ومثلما يلتفّ الغصنُ على الغصنِ يلتفّ الشريكُ الخفي على الشريكِ الخفي مسوّريْن مداخل الغوطة بأجراسٍ يبهرها الإنبجاس المغامر لطعنةٍ تريق الفرح لا الألم فمن انتصاب نفير البكورة ومن اشتعال بظر العذرة تولد المتعة الخالصة بلا شائبة والفائضة بلا حساب والناهضة كالفيروز في زغب العتمة وإذ تحبو موجة اللذّة الصاعدة فصل الدم ينزّ الوتر الفارع في انزلاقه الحرّ بين منتدى الهيجان ومجرى سيْل تتخاطفه أمارات المجون المستوطن إقليماً واقعاً بين ظفرٍ مؤنثٍ ولحمٍ فحلٍ تحدّه شرقاً شفرة الشرايين الذاهبة إلى متاهة سائلٍ فاتحٍ يجوس شروخ العصب الغائر في نفق الطلّ وشمالاً تخطو آهة ذائبة على رنين الفجاءة نحو دوائر الحمّى بلا دليل...
ـ اختصر..
ـ كيف أختزل في لفظةٍ ما يعجز البيان عن وصفه. من أجلك، أيها الملول، أقول هذا بلا إطناب..

كان مساءً ماطراً، والطرقات الحاسرة تستحم لاهية، حين باغتتهما عصبة ممسوسة بالفضيلة، مدهونة صدورها بالشراسة، ومن أحداقها تسيل الضغينة. لم يكن بمقدورهما مجابهة عنف عصيّ على الفهم أو مجابهة سيل جارح من الإذلال والمهانة. استسلما مثل حمامتين تبتهلان إلى القتل أن يكون أقل عنفاً.
في الحال نصب القتلة مشنقتين متجاورتين، واحدة له وواحدة لها، وعندما إلتفت الأنشوطتان حول عنقين غضّين بذر فيهما الإله براءة الخليقة، ارتعدتُ وأطلقتُ ـ أنا الشاهد الأخرس ـ عويلاً مزّق ستائر الليل، فنهض العار في أسمال لا تستر عورته.

ـ انتظر.. النهاية مطعّمة ببهار المبالغة. لا تبدو حقيقية.
ـ بالطبع هي ليست حقيقية. يلذّ لي أن ألفّق النهايات. في كل مرّة أكسو الحكاية بنهاية مختلفة.. مبهرة دائماً. من يجزم أن التاريخ كله ليس حكاية ملفقة؟
أنظر إليّ، أسلّي ديمومة أشيائي بما يبهج ويثير كي لا ننتحر سوياً. وها أنا، وحيد في عليائي، أخترع قصصاً عن ذاك الكائن الجالس على صهورة الهذيان، والذي لا يفشي سرّه لأحد، وإن أفشى فأسراره باطلة.

*

حيث المرآة المكفّنة بالنسيان، الحائرة بين صدى الجهات ومجون الفراغ، التي كانت مثقلة بالوجوه وفواكه الضوء، تعكس الشيء ونقيضه في آن، الآن ـ بعد أن أطبق الأفق تخومه ـ لم تعد محظية الوجوه ولا أنيسة الأعراس. محض حطام تلهو به أشباح محمومة.

تذكّري – يا مرآة التيه - المجيء الأول والأخير، برهة كنتِ محمولةً، كدعابة ميّتة، بين يديّ حمّال يحمل واثقاً مصائر الأبنوس والصنوبر والريش والصمغ وأشياء الأثاث، مانحاً يقين أقدارها دُوار الالتباس والشك. هكذا يحلّ عُرَى الأمكنة ويوثق الجماد بقيد مكانٍ مشاكس لم يألفه بعد. هكذا يراكم في جؤجؤ الفناء أخلاطاً من كل شيء جامد، بهمّة لكن بلا مبالاة. ومذعورةً تنكمش حشود الأثاث وتُدحرج إلى مدخل الحاضر معضلتها. هكذا لا يمهلها وقتاً، هذا الممسك كالغيب مقابض المنفى، ريثما يلتئم رعبها ويبوح لها الأسْر بمشيئته إنما يسوقها بفظاظة ولا يحنو عندما ينحني ويتفحّص وساوسها إنما يسكب على كمّه وأكمام الفِناء براهين التعب والضجر.
مبذّراً ينفق عرقه ولهاثه. بذيئاً يشتم فساد الطقس وشرفات المدينة ونوايا الجهات وشحّ الأجْر وازدحام الطرقات بسيّاح كسولين ومطالب زوجة ترمي في ظهيرته أفواه من أنجبهم في ساعات نحْس.

وحدكِ اصطفاك في حنانه المفاجئ، وشملك برقـّة لا يطيقها. وحدكِ استثناك وأحاطك بالعناية الفائقة. لأجلك انتحل قلقاً أنثوياً وخطوات أنثوية، هذا الذي لا يحتكم إلا إلى عضلاته ولا يبارك إلا خشونته، ولأجلك ارتجل كلاماً مبهماً تتبعثر ألفاظه أو تتكتّم، كأنه يمتدح وزنك، إطارك المزخرف، خفـّة الغبار القليل الذي يعتلي سطحك.
ربما وجدك شاحبةً ترتجفين فأشفق عليك، أو ربما خاف أن يتعثـّر ويهشّم أنحاءك فيعنّفه المالك. وأياً كان السبب فقد وضعك بحذر بالغ على طاولة ثم مضى متكئاً على أنفاسه دافعاً مشاغله نحو حضيض الإرهاق.
بعد قليل شعرتِ بيدين طريتين تحملانك وتهيئان لك وضعاً مريحاً على حائط لا ينسجم لونه مع لون إطارك المذهّب، تسندك مسامير غائرة في جذع الحجر. تنهّدتِ بارتياح عندما استقبلت وجهاً باسماً وجميلاً لامرأة في منتصف العمر، راحت تمسح بمنديل نظيف صفحتك الزجاجية حتى اشتدت نقاءً ونصوعاً.

أشياء جامدة ومتحركة. أجسام تعبر. أجسام تتريث. محادثة عابرة. رؤوس تلتفت على عجل. وقوف طويل لأشخاص يتجمّـلون، يتهندمون، يمشطون شعورهم. تحديقة قصيرة. تحديقة عميقة. غبار، نمش، بقع سديمية، ودائماً هناك خرقة تمسح العالق. اغتباط وعبوس. غناء. مناجاة. جمال. قبح. نضارة. تجاعيد. أصباغ. ألوان. عطور. نهار. ليل.. كنتِ تحتوين كل هذا بأناة وشكيمة، دونما تدخّـل أو تقديم مشورة.
كنتِ الملتقى الموثوق للأفراد والأشباه، للشهود والأشباح، للفكرة ووصيفاتها، للثمرة ورموزها، للأسير والغواية، للمعلن والخفيّ، لليقين والظنون، للذاكرة ووسائد النسيان. فيك يجتمع الرائي ببؤسه وفرحه، بالمنكر وبما لا يُذاع، بالنقيض الغامض أيضا..
تفتحين مصراعيك لاندلاق الصور واندلاعها، غير آبهة. تبتلعين الاقتحامات الهابطة أفواجاً في شِباك الألق. غرقى تصير. وغريقة تطفو توائم الصور في عسل الزجاج.
تكوّرين القرائن وترمينها كالنذور لا لترشدي النزيل الجوّاب وإنما لتموّهي خط سيره. هامسةً:
"أنا وريثة الغياب الحاوي بأقنعته الألف. فيّ يتبرّج الإنسان، وفيّ تتأمل الأشياء جهاتها. غير أني ماء فقَد شكله وفقَد يقينه.. من يدخلني يدخل الصدى"

لا يعود الرائي رائياً، بل قافزاً إلى شفق المجازفة، غائصاً في ضبابٍ يؤرجح شرفات ماضية ـ كمهود مثقلة بالأشباح ـ ويداعب أشبال حاضره المزمجرين، عاقداً صفقة الانبعاث الخاسرة مع نفسه المغلقة.
ما من ذخيرة تنقذ الحيّ. ما من سُـلّم يُسند لرضوض النزلاء. محض هباء طليق.
من مواطئ الرماد واندحار العبق يعرف المملوك للتشوش أنك لا تعودين مأوى ولا محطة عبور. يعرف أنك الأسر المغلّف بالذهب.
أيتها المغويّة
كم وجهاً حفظتِ، أو بالأحرى، اقتنصت؟ عشرات؟ مئات؟
كم وجهاً سجنت؟ (أم أنك كنت سجينة الوجوه؟)
كل وجه غابة، وأي ولوج في الطرق السالكة ولوج في محميّات مزوّرة.
هكذا.. العتبات مياه، السلالم أفاع، والغابة ذاتها تصبح ظلاً لحلم تائه.

حبذا لو تذكرين، بالأخص، ذلك الوجه المهموم، المتعب بكثرة، المنتسب للغريب الذي لم ينظر إليك إلا لماماً (ليس ازدراءً بل لأنه لم ينم قط مع امرأة) والذي يحمل دلوه كل صباح ليروي ظمأ مهره الضامر ويبدّد وحشته، إذ كان يطـرق ـ ليلاً ـ قميص الحظيرة بحافره النحيل من أجل أن يوقظها ويحادثها.
أمضى حياته في خدمة المكان. لم يُعرَف له أصل ولا نسب، لذا كان متعصباً لسيّده وعائلة سيّده. كان يشبك المهن كلها في سُبْحة واحدة، وآن تسيح الهمّة وتتخثر العزيمة يجرّ أثقاله إلى صومعته الفقيرة ويلوذ بفراش تكتنفه أحابيل الأرق.

من ضرع العتمة يحلب تركات الأمس:
ولادة محرّمة بين أضرحة مسوّرة بالدنس، أبوّة موبوءة بالرجس وأمومة تدميها الخطيئة، حضانة ريح جاهلة، طفولة يمزّق شرانقها صراخ لقطاء لا يعرفون الكلام، ضيافة دائمة في كنف عائلة تجمّل العبودية، مطارح لا يُشم منها عطر امرأة.

بلا أنيس كان يذرع صومعته الطافية على حافة العالم، المائلة قليلاً ناحية جُرف يشرف على سماء مهجورة تلملم بقايا مجزرة بشرية وتهيئ الساحة لواقعة أخرى أو ربما لمجزرة أخرى. والجرف يطل ضاحكاً من هذا العبث الطفولي ثم يستدير إلى الصومعة الطافية مراقباً في حياد انهمار الأعمار شهراً شهراً من شقوق قدرها النحيل.

كان يذرع ويجمع أوراق عمره الذابلة، يودعها سلة النسيان. وبين حين وآخر ينصت إلى لغط مبهم صادر من الجهة الأبعد، الأكثر فورانا، للعالم. فتنحدر دمعتان يلتقطهما برفق ومعهما يلتقط مزماره الأغبر الذي ما عاد يفتن ظباء حلمه فأهمل حنجرته.

"من أين لي بأنيس يطرق بابي وعندما أفتح يشرب معي القهوة ثم يدعوني للخروج فنخرج إلى الجهة الأبعد المندلعة ضجيجاً ونغتسل بحباب عرس تحت عريشة السهر"

يقيناً كنتِ ـ آن يسدل الضوء خماره ويطوّق السكون الكالح وحدتك المبرحة ـ تصيخين إلى أنّاته التي تمشي حافية على مدرّج الحرائق، ساعة يضمّد بقشِ الظلام عينيه المغمورتين أملاحاً وروحه المبتلة بالصمت.
لكن أكنتِ تسمعين حلمه الصغير، ذا النكهة الشبيهة بنكهة الإوز، المطوي بعناية تحت فرْو غفوته، والذي ينظر مشرئباً إلى مدينة بعيدة، متوارية خلف حُجُب منيعة، ومرشوشة بيوتها برضاب النساء؟

لا ، لم يكن ناكراً للجميل ولم يضمر كراهية أو شكاية، غير أنه رأى نفسه متأنقاً يهرول على حدبة بلاد ترخي هضابها لصعود المعجزات، مالئاً جيوبه بالحنطة وخلفه تهرول القرى منتشلة بمناقيرها ما يتناثر من الحنطة،
أما الكرة الأرضية آنذاك فقد كانت عاريةً من الشُبُهات، ترتجل المؤانسة وتدلك أثداءها بدعابات قوس قزح.
كان ينبغي أن تعرفي ذلك لحظة مثوله المفاجئ أمامك بدلاً من رميه بالظنون والشك في نواياه.. هذا الذي يحب الجميع.
نظر إليكِ ملياً دون أن تطرف عيناه. كانت نظرةً مديدة، أبدية، وغير قابلة للتأويل. حسبتِ أنها مهدّدة أو منذرة بسوء، لذا تترجّـل الرعدة في قارعة الروح تخضّ الشعاب وتخلخل الشمْـل. بعدئذٍ، وبحركة مباغتة وغير متوقعة، اندفع بكل قوته وجنونه مخترقاً كالقضاء سطحك الأملس الذي لم يصدّه ولم ينكسر، كما لو أنه ساحر يهوي بمطرقة الغرابة على قشرة اليقين ويسرد أطواره العجيبة أمام نخبة ذاهلة، نازحاً إلى الجانب الآخر الكامن وراء نطاق الممكن والمدرَك. شهقتك العالية كانت تفصح عن ثراء الخوف وانتشار الدهشة حول محيط الفعل الخارق.

حتى بعد كل هذه السنوات ما زلتِ تتساءلين إن كان ما يزال محشوراً في حوضك المكتنز بالوجوه، أم أنه انتقل ـ مثقلاً بالسكّر والجولان ـ إلى المدينة التي حلم بها منذ الفطام.

*

حيث السرير المعتكف خارج شهوات الأمس،
رهين نفحة غابرة كانت تضمّخ شركاء العري
بالبهاء وتؤجج الالتحام، يرنو إلى فـَناء مهنته:
حلبة الأنين/ دليل الدعابة، منبوذاً من حلم
مخبول ينزّه صوره في عراء الضلالة بلا
حصانة، ودامعاً يهمس السرير المقفر:
كم كنتُ شفيفاً ومدللاً، أنا الطائف حول لهاث
الهجر، القارع فضائي بفضاء القبر.

من يقدر أن يكلـّم سريراً راسياً في يقظة احتضاراته، جاثياً يقطف أشتات سيرته وسيرة رعاياه في إناء ذهوله، وبأصابع شمعية يعصر مدخراته القليلة من رنين السهرات والمجازفات؟
إليّ بالحبر الفقيه،
سائس الإشارات وطبائع الملوك،
ذلك الذي يرفو الآن خيمةً لأجل عالمٍ يتيم ينتظر
في الفراغ منتعلاً رماد خليقة لم تُخلق بعد،
كي يترجم ذاكرةً مغزوّة بالصور لا بالكلام،
وفضاءً تركض فيه الملذّات لا الأنسام.

السرير وشاح الغفوة وحرير الحلم.. يقول الحبر الفقيه
السرير نار الإغواء وجمرة الجنس.. يقول الحبر الفقيه
السرير مفتاح الفتنة وبوصلة الفضيحة.. يقول الحبر الفقيه
السرير شراع المجهول.. يقول الحبر الفقيه

كان يفتح باب الحلم قليلاً، في غفلة من الحلم، ويسترق النظر إلى مخلوقات صغيرة تتدافع مهتاجةً، في فوضى عارمةٍ، لتقتحم مسرح الحالم وتنخرط بعشوائية في سديم المشهد. وكان أيضاً يزيح الغطاء، آناء العناق، كاشفاً عري الأجساد ليسعّر شهوة المساء وليضحك ملء فمه من امتقاع المساء.
كان الوصي الذي لا يسلـّم طراوة مملكته إلا لمن نال وساطة الحضن العاهل.
كان الوسيط الذي يعقد لجسدِ وجسدٍ حومة الأنين، ولجسدٍ و حلمٍ يقظة الوميض.

إلا أنه أضحى نهباً للوحشة، وحلّ به الشرود، وفضّ عُرَى الخصومة مع أشياء المجال بعد ما استبدّ به العشق. فالجميلة التي هبّت عليه ذات وقت، مع شاب مضمّخ بالفتوة، كانت خارقة البهاء والنضارة، وقد ألهبت بمحيّاها الفاتن أطرافه المأخوذة.

حين تعرّت اهتزّت قوائمه وانخلع كيانه. عرف إذ ذاك أن الأرض تهتز كلما اهتز ثدي أنثى، وأن البحر يميل حيث تميل رائحة المرأة، واشتهى أن يبكي.. كيف لا والجميلة تشعل أجراسها الطرية في مهب القـُبل، وتبسط صدرها الباذخ لفتوحات الرغبة وتناغي شقائق الحقول ـ حقول العرق ـ بزقزقة زنبقة.
لكن احتار كيف للجماد أن يسبي فاكهة البشر، فاكهة العالم، وأن يحتوي كل هذا المهرجان البشري بحدقتيْ سرير.
حديده نافر يلهج بالرغبة. يئزّ وقزّ الحب يشرنقه آهةً بعد آهةٍ. إنه المفوّض الذي لا يفاوض إلا دهاء اللهاث المتناحر. وإذا تجمّر في موقد المشهد تطاير الجسد ذروةً بعد ذروةٍ. لخواره يرسم الشاهد الأعمى ـ الباب المنغلق على نفسه ـ حنجرةً تتدلى منها الصاعقة ثم تهوي رعشةً بعد رعشةٍ. لا شحارير تدخل، لا صيحة ألم تخرج.
خشبه يتظاهر بالإغماء. وإذ يمسّه شرار المصهر تحترق رئته ويهبّ منتفضاً. بأي شيء يتذرّع هذه المرّة؟ بأي شيء يتدرّع.. هذا الذي لا يكذب إلا على نفسه؟ يعلم أن لا نجاة من هذا الالتحام الذي لا يكرّر شكله. يعلم أنه من جديد سيهلك مبتسماً.
شراشفه فاحشة. معبأة بحمم الأبدان. تهيئ البخار لانزلاق العضل على العضل. مدعوكة باللفحة تحت عرق الإبط. تعضّ الأوراك الطريّة ومبهورةً تلتفت إلى تطاحن الصلابة والرخاوة. قبل الاختلاجة الأخيرة سوف تستيقظ الشراشف ـ على سندس المياه ـ غريقةً.
وسادته مستسلمة. لا تروّض، لا تسأم. تنحني بدماثة لتتلقى طعنات مشاعل رحيمة، و ليغطيها البريق.
سريرٌ عاشقٌ، وجميلةٌ تمضي برفقة الأشجار، تنثر الأمطار في مقاطعات الجفاف.
تلك فجيعته التي ما برأ منها،
وتلك ترجمتي التي فيها ما يثير الشك ويستوجب الاشتباه.

*

حيث النافذة الساهرة في جحيم العزلة تقرمز
أرقها الأبدي، طافحة باعترافات أهملها النزلاء
والمارّة أوان نشأة الأعياد المجنّحة (اعترافات
بسيطة، طائشة أحياناً، منذورة للغبار).
وتذكر كيف كانت تتدلى على شفير النهار
كالخرافة لتتنشّق حلمة المغيب.
صادقت الطقس وكلمت المصابيح، وكانت
الحدقة الأثيرة التي يباهي بها الجماد. غير أنها:
نافذة هرمة تتوكأ على سمّ الحاضر وترصد بفم
موحل انحسار الألق، متمتمة:
إلى أين تأخذني القبضة الخارقة؟

كنتِ لنا،
عند حلول الصيف البارد، موسم جنـْي الرخويات في الحقل المائي، بساطَ الأهواء ونقاهة الظلال.
وإلى عتبة صداقتك كنا نسند رموشنا الصديقة لنصغي إلى شفاه الوشاية فيك (نحن الذين لم نكن نصغي صغاراً إلى شفاه جداتنا المغسولة بالحكمة) وفيك نطعن الأختام..
أيتها الجالسة في لبّ الملهاة تمضغين على مهل محصـول مراقدنا الليلية (فضائحنا، شهواتنا، مؤامراتنا، مشاريعنا) وتملين على الصدْفة العجولة ما يمليه الطالع على الفلكي من شؤون الكوارث والفتن أو ما يمليه الحاكم على الشعب من شؤون الشرائع والوضوء.
وكنتِ، محفوفةً بأعشاش مترعة بالبيض المرقش وبعويل نساءٍ ولوداتٍ، تمتحنين نقاء سرائر الصبايا، حاملات السلال العامرة بالرخويات، فيما يذرعن ـ يضرّجهن الحبور لا الحياء ـ أمام إطراء فتياننا المرابطين تحت سنابل المراهقة مبذرين مهارات الغزل في بوح إباحي، وأمام أعمدة تتنفس خميرة نواياك..
يا نافذة لا تتغذّي إلا من لباب المعاشرة.

وإذ نتوسّد نعاس حلفائك الخرْس، مرتشفين بهدوء نبوءات أسلافنا الأرقاء المولعين بالطيران، يشبّ بين جوانحنا وباء الهتك وندعو الوشاية أن تهبط في مجلسنا كي تفشي ما يدور خلف الحيطان.
وإذ تتوسدين رعشة ضمائرنا الشفيفة، التي تشفّ عن أحقاد ليس لها عدّ، تشبّ في وشاحك ممحاة تفتك برغائبنا وتتركنا منتفخين بالعواء والعناد.

لا يوبخنا الحب إن كرهنا
بنا مسّ
من إذن زرع الزوبعة في أحشائنا وهيّج عاداتنا؟

الزمن ترك العكاكيز على عتباتنا ومضى دون حوار.
نهيب بكِ أن تزودينا بالأخبار. ينعشنا امتقاع الأعيان الذين يتظاهرون بالفاقة ويحشون عروش ملوكهم بالتبْن عند نفاد المال من الخزينة. ينعشنا أكثر أريج عذراواتك اللائي ينبشن مقار اللذّة بحثاً عن ميعادٍ للافتضاض وميعاد للالتهاب. وما أزكى رحيق المجابهة! وما أشرسها!

إلى ساحتنا الظنينة وصل، ذات عصر، الرجل الدخيل، بائع الأخفاف. تجمهرنا حول بضاعته بدافع الفضول. مظهره كان مريباً، فقد كان حليق الرأس وحادّ البصر، لا يغضّ حين تمرّ زوجاتنا وبناتنا.
القش العالق بمعطفه يفصح عن حقيقته: متشرّد عريق يخالط الحقول والمخازن. أو ربما مهرّب ماكر. أو ربما سفـّاح فار من سجنه.
والذي أخاف أطفالنا أكثر: أن الأراجيح ـ عند قدومه ـ دارت حول نفسها خمس دورات دون أن يمسّها أحد.
لم نشتر خفّاً ولم نقبله ضيفاً. قايضناه بالعداوة فلم يجفل. قلنا:
سنتدبّر أمره إن زلّ وإن مكر.

هادئاً حلّ بيننا، لكن الساحة انتفضت في اهتياج.
انتخبك فيئاً، وأنتِ الفاسقة فتحت له صدرك على مداه وأغدقت عليه ـ دونما تحفظ ـ رائحة المخدع وآهات الشراشف، وجذلي أرخيت له خيط المصاهرة.
عاتياً كان غضبنا. أسأتِ إلينا كثيراً، نحن الذين كنا ننشد الثقة فلم ننل غير الكيد. تجرّعنا آفة الخيانة. وكان حقدنا على الدخيل هائلاً.
ترصّدنا تحركاته حتى في نومنا. كان يدلف أحلامنا بمصباحه الذي يخيف جراء المحارم ويشتت كالمجداف إيقاع الطرائد الحائمة فوق براثن الأبعاد. بلفافته يخنق رفاق أحلامنا.. أولئك الذين كنـّا نسكر ونتعارك معهم. وتحت شرفات بناتنا العفيفات، كان الدخيل يتنصت إلى ما يتهامسن به من أحاديث وصلوات، منتهكاً وحدتهن.
وكأن هذا لم يكن كافياً ليحرث مسافاتنا الكسيرة بألياف الإهانة، وليغذّي قصبات أيامنا مرارة الجور، فتماديتِ في شقّ ثيابنا بمنجل الخطايا حتى انكمشنا وانكمشت تخمة العار فينا، وفينا رأينا النخوة تتعرّى وتعترينا البلبلة.
تماديتِ ـ كما لا تتمادى الفضيحة ذاتها ـ عندما وهبتِ الأفّاق الدخيل إحدى بناتك المحصنات، تلك التي تبزّ شقيقاتها بهاءً، التي تتسلل مثل السبات إلى خواطر فتياننا ـ العاكفين على تنضيد شهواتهم في منتجع المراهقة ـ توثق مراسيهم بشذى التفتّح و تتمشّط بالمدّخر من اللواعج.
مراراً صادفناهما يستبيحان عادات أوليائنا، ويجنحان إلى الفجور ممعنين في إرباك المدى الحاجب:
مرة ً في الجرْن وكان يكمّم فمها بفمه، ويوزّع الفحيح ـ كالصدقات ـ على جرارٍ هاربةٍ لخادمات هاربات من الرجس،
مرةً على الشاطئ وكانت تغسل قدميه بالزبَد وتلقّن الغرانق اسمه،
مرة ً تحت سرْو وكانا يخبئان الوشوشات في حلق الجذع. لهفى تتشبث بياقته كي ينسى أن الوقت وقتُ المغادرة. ساهماً يحتويها بين ذراعيه ويحتمي بدفء زندها الأعزل.

آنذاك استشرى فينا العنف، فاجتمعنا ننظر في أمر الدخيل الذي لطّخ ساحتنا بالجَـنابة وبالإجماع أدْرجنا موته في ليلة البدْر. جلسنا نتحيّن القطاف ليلةً بعد ليلةٍ.
عندما دنا البدْر، وتلبّدت أرواحنا بخمر المراهنة، وأسدلت النسوة فضّة المرايا كي لا يشهدن الجنابة، وغصّت الأروقة بجالية الدم، واختبأ الأطفال في أحداق النوم.. حاصرناه بالمُدى.
لكن حين نظر إلينا، الواحد بعد الآخر، بنظرات يتقوّس فيها الهلع الرافع أبوابه البيضاء كالتمائم، أبصرنا في عينيه ـ وللمرّة الأولى ـ براءة لا حدود لها، وسؤالاً نائحاً يترقرق: "ماذا فعلت كي أستحق هذا؟".
لم ينبس، إنما كان ذلك موسوماً بوضوح في البؤبؤين الشبيهين بضريحين من دمع، وموسوماً كان انحناء معشر القضاة على الجرح المسنون، انحناء جذوعنا المتورّمة بأوثان القنص. واستحينا.. آه كم استحينا من منظر القتلة المنتخبين لتأجيج سوْرة القصاص.
تمعّنَ في ضراوتنا وهي تتفتّت، وقبضاتنا وهي تتراخى، وعندما ظن أنه سلم، انقضّ عليه بغتةً الواقف خلفه، أكثرنا بطشاً وشراسة، أطبق بكفـّه على جبهته المسالمة وشدّ رأسه إلى الوراء، وبيده الأخرى مرّر المُدية بحركة خاطفة ورشيقة ناحراً عنقه، فتدفق الدم غزيراً ولطـّخ وجوهنا وثيابنا.
لم يطلق سوى شهقة خافتة، كشهقة غزالة تُـنحر في نومها، غير أننا سمعنا ـ في اللحظة ذاتها ـ صرخة مديدة ترجّ طبقات الأرض، فالتفتنا جميعاً صوب النافذة.

*

في الحيز الأكثر هشاشة من كهولة الكمين،
الأكثر شروداً من خطو المراهق،
في الحجرة المنهوبة أناشيدها، المنهوشة
زواياها، التي تحاذي البحر ـ مثل قارّة مفتوحة
للمحن والنهب ـ وتقتات من أعشابه وسراطينه
دون أن تتحرّى خفقة الذخائر في مسيرة
أمواجه،
في الحجرة التي ترشو الريح بحفنة من القات
لقاء أن تعلّمها أسرار الهبوب، لكن الريح تشيح
مدمدمةً،
في الحجرة المبلـّطة بأحقاب العدم..

يجلس الرجل المتجهم، توأم الوحدة، الآفلة أحلامه وأمانيه، بوجهه المتغضّن وروحه الضامرة.
عيناه لا تشعّان بعداء ظاهر بل تمتحنان في احتشام وعورة التأمل وفظاظة الموت: موت الأشياء وموت كائن سكن شكله وانتحل اسمه.
شفتاه المضمومتان على أنقاض جهاته، الشاهدتان على اغتصاب مسرحه، تتذوقان طعم الدم الغريب، دم لبس بشرته وتقمّص جنونه، ذاك الذي تموّج في الحضن الأمومي وفاض نحو مجاعة الشوارع مموّهاً هويته حتى أضاع براءته، الدم الذي يسفك رعبه.
يداه الملولتان، الهامدتان بتثاقل على ذراعيّ الكرسي، تطويان ذنوباً لا تُحصى، وتتقريان كآبة جُزُر تعدو زائغة في أوردته. وعندما يرفع سبّابته يعني أن الباطل سيدٌ، وأنه بلا حظوة في هذه القلعة العالقة بين رذيلة ورذيلة.

لا يهجو ذنوبه، الكائن الناقص، يعتصم بأخطائه ولا يلتمس عفواً. يبجّـل الشر القاطن في لحمه، يجمّـل الفحش، يرى في المخالفة بهجةً.. لكن حين يتنزّه ليلاً مع كلبه الأعرج، الذي سوف يقتفى بعد أيام غناء بحارة سكارى ولن يعود، كان يمسح بحنان على أنقاض المدينة المحرومة من الخبز ثم يجهش كطريدة لا تبصر من يهبّ لنجدتها غير الفخاخ.

لا يحجب مخاوفه، الكائن الخائف، بل يمتدحها. يوآخي النقائض ويعرف أنه ربيب المسخ الكوني ووريث الرعب العائلي. يدخل معطف الخوف منتشياً بارتعاشاته، متورداً من فرط الحمّـى، ينعطف نحو ضاحية آهلة بفرائس غير منيعة وأطفال سُمْر يتراكضون نازفين أمام فتن ماجنة. وقبل أن ينتحب، يرفع الضاحية المحرومة من الشفاعة والملآى بقتلى يتراكضون في منزل الرماد، ويلهج: يا إلهي، أبسط لهؤلاء اللائذين بك شرفات الرحمة كي تطمئن قلوبهم.
هبني، أيها القادر، مأتماً للورد وآخر للعشق، ادفع عني بلاء الرؤية يا ربي واحشد لليأس جمراته. يأسي يافع، أنا قرين الجَزْر، الداخل كالغريب متاهة نفسي، وكالمسافر الغامض أقود خطاي الكفيفة ناثراً بذور الالتباس في مجهول ما يأتي مسترشداً بوميض المصادفات. يكيد لي التعب كلما أرخيت مخيلتي، فأشعل نبضي لأتدفأ وأتيقن أني حيّ وسط طوائف تسعّر الرهان حول رأسي ووسط فرقٍ تتجاذب أطرافي لتغتصب بقاياي، وأمضي دليلي خارطة مسكونة بالسديم تبدّد إشاراتها في بؤبؤ السديم. أصيح يا دروب أضيئيني، فلا يتردد في محيط دمي غير ضحكة مجلجلة تدوّم الغياب النديم. مطأطئاً أركل المصادفات النائمة في خلاء روحي. نفسي بلاد ترشقني بالشقاء وتبذلني فديةً للعبء. كفى يا نفس كفى! كم بلبلة أحتاج كي يخوض فيّ النصل الأميري ويمحوني مائي؟ أشتّت شوائبي ولا لجوء لي. وهذي بلاد ترميني كالمجذوم في مستنقع القبيلة.

لا، لستُ موغلاً في الحزن إلى هذا الحد، فثمة لحظات أمجّـد فيها الفكاهة، كأن أتخيّـل نفسي ملكاً يلعب مع شعبه الشطرنج ولا يغضب حين يُهزم، بينما الملكة الرؤوفة تغزل السترات لجنودٍ سوف يموتون في حرب مقبلة. أو أتخيّـل أني عاشق يقود القمر بخيط، مثل بالونة، لينير شرفة عاشقة تضرّج خديها بالليمون وتعبر رئة السهر لتجسّ فحولة جبيني.
وإذا كنت أجلس هكذا.. متجهماً ومترعاً بالصمت، بين سرير يكيل لي العداء الأخرس، ومرآة تهيل عليّ صقيع مدائنها، فلأنني أخاطب حضوراً غامضاً بلغة خجولة ترفّ كالهدب كلما مسّها نثار من عسل الحضور.

أحقاً يخاطب حضوراً غامضاً، هذا الكائن المتجهم، رهين قلبٍ مستوحش وحبيس وقت غاصٍ بالزنازن، هذا الذي يتســـاءل متأملاً: "أمن نطفة جئنا أم من بويضة وحش غابر ترك في أحشائنا، قبل انقراضه، بذرة عنفه؟"
يحق للناظر إلى المشهد أن يرتاب حين يتمعّن في مدارات حدقتيه المكتظتين بالقسوة، وكيف ترسلان حزماً من الهواجس ما إن يسمع رفيفاً.

أي قرن هذا الذي شقّ صدره ونثر فلفل الغياب في مساربه! أم أنها إشارة الهباء؟
لا ريب أنه ظامئ وإلا فلماذا يرطـّب شفتيه بلعابه المر.
جرحه الغضّ يبوح بكذا حادثة، ووحده العارف لكنه يدحرج الأكاذيب، مثل كرات من ثلج، في مرمى التأويل كي يؤجج الالتباس.
"جادلتُ جوقة التعصب فرماني أحدهم بسهم"
"استنجدتْ بي الأسيرة. خلصتها، ولم أنتبه للنزف إلا بعد حين"
"لم يكن نزالاً متكافئاً. كبّـلني الحرّاس وعذبوني كي أعترف"
"كنت مدعواً للعشاء عندما فاجأني اللص بطعنةٍ. لم يسلب شيئاً"
"إنها الحرب"
"تمنيت أن يكون مميتاً. الحياة لا تطاق"

لزفيره أريج جذع مغسول بالطل. صداقته للأشجار قديمة، ففي طفولته كان يهيم بنكهة ثمارها، وعندما يتاح له السهر في ليل الأعراس كان يخترق جوفها وينام هناك في طمأنينة. رغم ذلك لم يتعلم لغتها لئلا يشوّه عذريتها، غير أنه استعار بعضاً من شذاها. خصومته للكلاب لا حدّ لها. كان يمقت، على نحو خاص، لهاثها واللعاب المترذرذ من فكّيها، ولكي يتطهّر من الكراهية بادر إلى تربية كلب سرعان ما خذله بعد أن سحره غناء بحارة سكارى.
وها هو الكائن وحيد مع رائحته وطفولته وصداقاته وخصوماته وهزائمه واحتدامات عروقه، يسترقّ مترقباً ـ كما يدّعي ـ حضور كائن آخر لا يعرفه، أو ربما يعرفه ويتوقع مجيئه، والذي سوف يرشّ كيانه بماء الورد، ويهدهد جرحه الباكي، ويدشّن أيامه البائرة بالغبطة، وسوف يحدّثه حديثاً عامراً بالحب.

آنذاك، من أسفل الباب الموصد، تنسلّ بتوءدة غيوم بيضاء صغيرة تصعد عتبات المجال ـ مثل قرويات يانعات يحملن الجرار وبأردافهن الطرية يحركن شهوة الهواء ـ لتتجمهر تحت السقف وتتمازج مكوّنة سحابة كبيرة حبلى بالسيول والدوي. بعد قليل ستشن الغارة الطائشة وتطلق وعودها في أرجاء المخبأ لتغمر محميّة النوم بمدّ من الشغب.
ينهض الكائن في ضجر مغمغماً: "هذا ما كان ينقصني. ضيفة عابثة تقتحم مخدعي وتستعمر فضائي لتستعرض ألعابها المبتذلة"
يلتقط مظلته ويعود ليجلس في مكانه محتمياً بها " هيا, بولي. بلّلي ملجأي بسائلك الحامض يا مرضعة البرك الآسنة. عجّـلي"
لكن السحابة الحائمة في المجال الكئيب، المكتنزة بمخلوقات مائية ضاجة لا تكاد تُرى لفرط ضآلتها، السحابة المحاطة بالفراشات، ترابط مثل حارس جسور يبجّـل الواجب، أو مثل أمومة رحبة تشدّ رئات نسلها إلى مرابط الطفولة، وتطل على الكائن في إشفاق.

كيف أمطر على قلبٍ عاشر الجفاف زمناً حتى كره المطر. قلبه الشائخ الأشبه بخوذة شائخة، الأكثر هزالاً من أرض بور، لم يحتضن ماءً، ولم تشق موجةٌ مجرى فيه للحليب أو الصداقة. منحدراته المشحونة بالعراك والجدل لم تختبر عبوراً خارقاً للحب، لهذا تخلع شبابيكه خضرة الضحك وترفع عالياً وصاية الغبار.
وما أبحر في مهبّ النشيد الأنقى، النشيد الطالع من حنجرة أنثى. وما أبحر في مهرجان الرؤيا حيث العالم مغمور بفيض من الثلج، فيض من الجنس، فيض من الفرح.. آه لو يكتسح الحب أغواره، لاستحالت مجالسه النحاسية أرياف رغْدٍ ورغبة.

ها أرسو كالملاءة على شفا حلم لا يحلمه الكائن اليقظ في عرائه. أحثّ الحلم أن يجتاح الطوق ويفتح ثغرةً في القلب. لكن المتراس منيع واليأس مستفحل.
قادرة أن أكون عشاً أو وشاحاً، ومن أحشائي أهرق وابلاً من المياه الغاضبة، غير أني لا أملك سطوة على الحلم. سأتركه مندلعاً وحده، دون شريك، حتى يخبو أو ينجو في سطوع كائن آخر.

ما باله يسامر أشباهه اللامرئيين تحت مظلة تعجّ بالثقوب، وآن يسأم يحصي ـ متظاهراً بالبأس ـ قطيع هزائمه الشاردة على راحتيه، ويتحرّى رابط الجأش غنائم عمره: مواعيد مؤجلة ووعود كاذبة وهباء؟
كيف يكون مسرفاً في المباهاة، هذا الذي يتعاقب عليه الإثم والندم، والذي يخاصر ظله في الجولات النهارية محفوفيْن بالذعر؟

يكاد الرثاء أن يفتّـق جذع السحابة، فتكفّ عن الرثاء وعن القول، ومثل ملكة حكيمة فاجأها نبأ سيء، تطرق ساهمةً ثم تخطو برزانة لتخلو بنفسها.
يضع الكائن مظلته جانباً وقد ازداد تجهماً، ذلك لأن السحابة كانت تختلق الأكاذيب وتخترع الافتراءات طوال الوقت. ليس صحيحاً أنه يكره المطر وينابذ الحب ويرفع الهباء شعاراً.. "باطلة مزاعمك أيتها الزانية، يا الراشحة وحلاً ومهازل، يا خليلة السماد.."
مكفهراً يواصل شتائمه فلا يشمّ نهديْ أنثى كانت واقفة وراء النافذة، محلولة الشعر، متحررة من ثيابها والندى القزحي يضرم عريها الناهض كالبرعم في النرجس الإباحي، والعري البهيّ يضيء مكامن الغبش ولا من يرى إلا الذي يغتسل برذاذ العري النوراني المحفوف بشهقة العشب.

مخلوقة مائية غادرت للتو إمارة الماء وجاءت مبللة بلبن الحلزون، مكللة بالعذوبة. وكالولادة جاءت حرةً وخارقة.
ملياً، وبلا احتراس، تنظر من خلال الزجاج المنمنم بالضباب، فاتحةً بوابة الفضول الساهر.. وبإيماءةٍ، تخرس ثرثرة قوارب تشاكس الشط.

هي:
أراكَ، يا من لا تحب إلا ذاتك ولا تبغض إلا ذاتك، ربّاناً هجره الموج وهجرته السفينة، تطأ اليابسة مزنراً بطحالب الوحشة تحفّ بك أجنـّة ميتة وطيور بحر غريقة، ومن أصابعك تتساقط الأسماك. لا أحد يعلم لماذا انفضّ من حولك الأصحاب. وحدك تعلم. وحدك عاصرتَ عصيان البحارة ضدك وآزرتَ العصيان. ووحدك ناوأت الهزم وانهزمت.
لا. لم تكن ربّاناً، إنما كنت أقرأ حلمك.
كان يحلو لي أن ألاطف شعرك المجدول بأظافر الظهيرة، وأمسّد جبينك المليء بالخواطر والمرصود للمحن.
وكنتُ، حين أتمرأى في سفح عينيك وأرى حلمك مثقلاً بعطايا الحب، أصدّق أنك المصطفى الذي انتخبته لي الأشرعة حبيباً وعشيقاً.
وكان يحلو لي أن أرفو خيمتنا بالعناق وأغمس أنفاسي في أنفاسك وأهتف: هات وتدك في جرحي واجرحني، يا شاعراً يموّج لغته في لهب المرايا ويذهّب الغموض، لتستوطن معي ثمالة العالم.

هـو:
أراكِ على صهوة المملكة تشدّين عنان النهر بيدٍ، وبيدٍ تمشّطين سبائب ضفـّة تدحرج هبوب الدهشة في حمحمة الكون.
ها إني، بلا وطن، أمدّ أعضائي مرحباً بحضورك الملائكي الشبيه بحضور بحرٍ بين ساقيْ سجين كان يذرع زنزانته سنةً بعد سنة.
في وردة فخذيك ألمح رخائي يخضرّ منتفضاً وسط الزغب وينزلق شرهاً نحو حصنك الحليف.
في ربيع إبطيك أتواطأ مع البشرة الرخوة وأقضم نهماً، كفاتح مأخوذ بالفتح، تضاريسك الغضة إقليماً إقليماً.
إذن هلمّي وداهمي شرفة متاهتي بالدعابة واطعني بضراوةِ اللذّة أطرافَ أهواري لنتّحد كلينا في حمّى الحب.
بكِ أَسرّج المجابهة وأعبر فراء البحيرة ملطخاً جلالة المستعمرات بأحشاءٍ حيّةٍ لقادةٍ أحياءٍ وأسعّر التمرّد.
بدونك أنا مشطور، مسوّس بالانشقاقات، وما لي سيادة.
دثريني أيتها العذبة، دثريني بالعذوبة لأكون حرّاً وجميلاً.

هي:
أراكَ مستنداً إلى خندق أيامك تهندس مأساتك ومأساة الأرصفة. وأسمع شكلك يتمزّق في حدقة فهْد يخرج رشيقاً من حلمك وأنيابه تفيض إلحاداً.
أحاذر أن أدخل لئلا ترميني بالعدوى فأصير كائناً مثلك يتزوج شحوب المرافئ ولا يتزوج طيوب المراكب، المراكب التي تُرضع أشرعتها ذاكرة السفر وطقوسه.
ومثلك أصير وجهاً يتقاسمه العبء والحصار.

هـو:
الذي خُيّـل إليه أنه يشمّ نهديْ أنثى انبجست من مهدها المائي وزرعت أهدابها على تخوم النافذة، يدير رأسه شاخصاً إلى التخوم فلا يبصر غير نثار ظل وبقايا مسْك تائهة لا تعود تعرف إلى من تنتسب.
ينهض ويدنو من النافذة. ينشر وميض عينيه على جميع الجهات. لا نأمة، لا رائحة.
مشهد مأهول بالغياب.

* ثمة حلم يعرّي امرأة نائمة
* ثمة فم تهبّ منه عصافير صائمة
* ثمة ممسوس يطارد بعصاه الغليظة حيوانات لا تُرى
* ثمة أصابع تشتعل ما إن تلامس شفرة البحر
* ثمة عالَم يختلج كلما اختلجت حلمتا عاشقة
* ثمة ثوّار حول الطاولة يحصوْن الثورات الخائبة والثورات الخائنة
* ثمة جريمة ستُرتكب هذه الليلة
* ثمة بيت يشفّ عن مبغى، وبيت يشفّ عن منفى
* ثمة حوار قصير بين رجل وصبي. الحوار ينكسر، الصبي يمضي
مصفـّراً، الرجل يدخل متمهّلاً كوخه. بعد قليل، يحترق الكوخ.
* ثمة بيضة تدخر رهطاً من المحاربين ينقرون القشرة بحرابهم
ليستعيدوا نوى الحرب.
* ثمة إسطبل يأبى أن ينفتح. البغال تختنق في امتنان
* ثمة عاهل يتبرأ من رعيته ويقترض شعباً آخر لا لغة له ولا غاية
* ثمة عمّال عاطلون يتراشقون بالشمندر قرب مشْتِل الإقطاعي
* ثمة احتفال
* ثمة كل هذا الصخب، كل هذا التوحش، من أجل لا شيء.

ينطفئ المشهد الأرضي مع ابتعاد الكائن المتطفل، العائد إلى مجلسه والذي يتقهقر بغتةً عندما يجفله زحف قزمٍ أنيقٍ من تحت السرير وانتصابه وسط المكان ناظراً إليه في شراسة بالغة، يواكب حضوره الغريب عنفٌ فحلٌ ونذيرٌ جنائزي.
وهو الذي لم يتوقع مداهمة من هذا النوع، يخفق في كبح ذعره. ارتجافات أنحائه تفضح رهبته وحيرته أمام ظهور مفاجئ، مكتنف بالوعيد دون مبرر. إنه يتخبّط في شِباك الآخر مثلما يتخبّط الشعاع الأعمى في شرَك الليل، وكلما اتسع نطاق الصمت ازداد اقتراباً من فوهة الاغتيال.
جاهداً يلتقط أشتاته ويتلجلج..

الكائن: من أنت؟
القزم : أنا من يعقد قران الحيّ بالمغيب. أشيّع الحيّ إلى جذره،
ملتقى الأضداد، النهايات كلها تحمل وجهاً واحداً. بيديّ
الرحيمتين أسوق المصائر الخاشعة إلى منابع النسيان
عابراً بها زقاق الغيب والميادين المكتظة بالأرواح المعمّرة.
أنا، إن شئتَ، الدليل الأخير إلى المملكة الأخيرة، الذي
يضيء الأثر ويطمس الأثر، و لا شفاعة لي.
الكائن: ماذا تريد مني؟
القزم : تاريخك كله. لكن قبل أن أتأبط أشياءك، أرغب أن أحنو
عليك.
الكائن: وجهك يفصح عن كراهية لا حد لها.
القزم : الوجه قناع، لا يبوح بالكامن ولا يفشي المستتر.
الكائن: وكيف أنظر إليك؟
القزم : بألف عين.. فأنا الواحد والمتعدّد. أنا شبيه كل شيء وكل
أحد. أنا، في هذه الساعة، شبيهك.
الكائن: لا نشبه بعضاً..
القزم : ذلك لأنك لا تراني. الأمس يطوّقك كالقيد، وما تراه ليس
سوى انعكاس لتجربةٍ مررت بها، أو لوجهٍ عرفته منذ زمن.
حنينك إلى الطفولة حنين إلى حبل المشيمة، لهذا تذهب
إلى السفر كالذاهب إلى طُعْم، مليئاً بالشك والرهبة،
وترجم بالنفور كل مغامرة.
الكائن: لا، فقد استضفت ذات فجر ثمرة رأيت فيها نفسي أدشّن
عالماً على هيئة منتزه حافل بالنوافير والملاعب، وكان
قلبي بهواً لجماهير تشمّر عن عضلاتها وتستنطق
بالمعاول الأنقاض، وعلى سريري تزاحم ضيوف من كل
جنس وفصيلة رافعين المسرّة شعاراً. وما كان بيننا سجال
وما اندلع اشتباك. لكنني صحوت ذات فجر فإذا بالثمرة
تنحسر عن انشقاق لم نتنبأ به، وسريري ينشق عن لجّ
يعجّ بأرباب الضلالة، فنأيت مخذولاً، محروماً من النعمة،
واعتصمت بغارٍ رأيت فيه نفسي أدشّن عالماً على
هيئتي.
القزم : ألهذا تحمل مفتاح العدم؟
الكائن: بل أحمل أنين الأسئلة.
القزم : من بعيدٍ رأيتك تهيء لنفسك انتحاراً ذميماً، فجئتُ أسدل
السبات عليك و أخلصك من عذاب محتمل.
الكائن: أنت مخطئ. لا أنوي إيذاء نفسي لمجرد أني يائس.
يأسي عابر.
القزم : إذن ، فقد جئتُ مبكراً، معذرة.

وكما ينسلّ الوقت من ثغر الغفوة، ينسلّ القزم من كعب الحيّز، ممتشقاً سحنته الغامضة، ومختفياً في مسرى فصل لم يُعرف
ولم يُروض، تاركاً للكائن لغزه البريء من المكر.
والكائن يشهر حواساً معفـّرة بالهذيان. يختزل الغرابة في نأمة لا تغادر حدود الحلق بل تترنـّح محتدمةً على حافة الروح: "يا إلهي، كنت أجادل الموت مثل صديقين اعتادا على المكاشفة بلا ضغينة. كنت أحاور حتفي ولم أدر"

اغتنم، أيها الشاخص إلى الرمق الأخير للكون، هدنة المأساة الرخو. غادرْ خفافاً شرنقة الرماد المتضوّرة يأساً والمخيّمة تحت بشرة البليّة. الموت العفيف الذي حجّ وديعاً إلى جزيرتك الرخوة ومضى معتذراً لن يحجّ وديعاً في الجولة القادمة.
أيامك الباقيات، المنمنمة بكبريت الحمّى، تتمايل على شفير الغد مهيضة الروح. ذاك نذير غني بالجراد.. قارض التخوم وآكل الأقدار.
أولى أن تطوي حُصُر اللهاث الموحلة عند مفارق الألم وتغذّ الخطو إلى مفارق توبّخ الأثر. أولى أن تبعثر إشاراتك المشبوهة في حضيض الليل.. فلا معين ولا مبشّر، ولن تعصمك الصرخة الحنونة.
بالأحرى، لا أحد سينوب عنك أو يؤازرك إن نازلتَ نزال الأعمى. لن تكون لك الغلبة، وأنت العليم. نبال منقوعة في السم تحْدق بك من كل حدب.

واهناً يخطو الكائن صوب الخزانة ليلمّ ملابسه وأشياءه ومقتنياته، ناوياً الرحيل عن مكانٍ لم يعد ملاذاً آمناً بل صار لحْداً يطرح الخديعة والتوحّش.
مدحوراً يدنو، وما إن يفتح المصراع قليلاً حتى يندفع رُسُل الكوابيس، المختبئين في الداخل. بأزيائهم المخيفة وأجسامهم الجرثومية المجنـّحة، مرتطمين بوجهه ومطلقين العويل والصيحات الضاجّة. رُسُل كانوا يصبغون النوم بطلاء أسود ويزرعون المسوخ في دهاليز النيام، وها هم يمزّقون أنحاء الحيّز بولولة مرعبة، ويمزّقون أنحاء الكائن بأجنحة ذات نصال، ومن أفواههم تفوح نتانة المسالخ.
يتراجع الكائن مذهولاً وخائفاً، يحمي وجهه بذراع، وبالأخرى ـ العزلاء ـ يبارز جيشاً مجنـّداً لإضرام الجنون ولا ينهزم.
يدرك أنه سيهوي خائراً ـ كما تهوي الفريسة تحت حصار المخالب ـ إن مكث في المكان.
يعدو منكساً رأسه نحو الباب. لكنه يصطدم بالحائط. يرفع رأسه ولا يجد الباب في موضعه. يدير نظراته وفي فزع بالغ يكتشف أنه واقف وسط سجن بلا منافذ، ويزداد رعبه حين يبدأ

السرير في الانتفاض بعنف نافخاً قصبة الكارثة
المرآة تحطم حصونها وترميه بالشظايا
السقف يزمجر ويمطر زيتاً على هيئة أجنـّة مبقورة
الجدران تتشقق وترجمه بوابل من الحصى

يجثو الكائن في فم الهواء
في دم العراء
وإلى سماء شاحبة، تقضم الأسلحةُ أطرافَها على مهل، يرسل العواء المديد، الذي لا ينتهي.

ثمة حجرة تعبر ضفـّة الكوكب
ثمة كائن يغسل العالم بحَباب بحر وحلم امرأة
ومزهواً يرنو إلى حشودٍ مقبلة.

يناير – فبراير 1993