إهداء
إلى التي جاءت إليّ كالومض,
وأسدلت أهدابي على حلم..
ولما رفعتُ إليها كتاب الحب
ظنوا أنها من طين
الحلم مجبولة.
عندما أعود, فسوف أكون مرتدياً ثياب رجل آخر, حاملاً اسم رجل آخر. مجيئي سيكون مفاجئاً وغير متوقع. ولو نظرتِ إليّ غير مصدّقة, وقلتِ: "أنت لست هو" فسوف أُظهر لك العلامة, وسوف تصدقيني.
هوميروس - الأوديسه
في البدء
كان المطر الأزرق الذي يطرق برفق أهداب امرأة تطلق الصرخة تلو الصرخة نحو فراغ شاسع يشدّ الجهات المذعورة إلى مرابطها مثل سائس محنّك, فراغ أبكم يوجّه, بين الحين والحين, نظرةً مديدةً صوب المرأة الحبلى (التي ستكون أمي) والمستلقية على ظهرها تحاور الغيب بلغة الطلق وبلاغة الأنين, على سطح مسقوف بسماء سوداء مبقعة بالنجوم.. السماء التي لا تراودها غير غيمة وحيدة تتأرجح كالثمرة.
كان السطح, وقتذاك, يشهد - في انتباه وفضول - اندلاع المخاض في ليل يرتج كلما باغت شروده صراخ مكتظ بالوجع والعرق واللهاث. وكان السطح يحملق حائراً في نسوة يحطن بالحبلى ويذرفن الهمهمات الرتيبة.
كن جالسات بلا حراك, بثياب مبتلة, وبوجوه شاحبة يضيئها فانوس شاحب, وبنظرات ثاقبة تخترق غشاء البطن المنتفخ لتستطلع حال الكائن الخائف المتشبث بعتمة الحيّز الأليف, الغائص في مياه الأمومة, والذي يزداد خوفه كلما انزلق رويداً ودنا من ضوء يفتح شدقيه كالهاوية.
كانت الغيمة, وقتذاك, تنشق فيندلق المطر الأزرق هاطلاً على مشهد الولادة الذي لم يكتمل بعد, حاملاً معه نشيد الطقس وبذخ العناصر وأختام الغيب. مطر ليس كالمطر, لا يتهتك في مجون ولا يهب نفسه بمجانية لشرفات لا مبالية ولطرقات ملولة ونهارات تنثر مفاتيحها في الهباء, بل يصطفي من بين كل هذا, من بين كل البيوت المحاذية, هذا البيت وحده (والذي سيكون بيتي) ليسهر فيه ويهديه بعضاً من ألقه وبعضاً من أرقه, وإذ ينحدر بمياهه الزرقاء, مفتوناً بالعري الأبيض المسيّج بالليل, تدير الحبلى وجهها شاخصة نحو السماء, وبشفتيها ترسم إبتسامة واهنة, غامضة, كأن وعداً خفياً قد تحقق وميثاقاً مبرماً قد نُفذ.
في الفناء كان الرجل (الذي سيكون أبي) مستنداً بظهره إلى الجدار, يداري توتره بإشعال سيجارة أخرى. يأخذ نفساً عميقاً ثم يرفع رأسه رانياً إلى المدى المزدحم برُسُل الغيب اللامرئيين. يخفض بصره, يمسّد جبينه بأصابع مرتعشة, ويحدّق أمامه في حيّز تمزقه صور المخيلة الحادة, المختلطة, سريعة الزوال. بعد وقتٍ, ينفض رأسه فيعود الحيّز إلى شكله الشفيف, الأخرس. يرمي الرجل سيجارته المشتعلة ثم يغادر موقعه شابكاً يديه خلف ظهره, ويذرع الفناء خائضاً في يقظة التأويل, صائخاً إلى همسات المطر الباسط اعترافاته المبهمة على كتفيه, وإلى نداءات طلق قادمة من السطح, عابرةً الحقل المائي الممتد من آخر الليل إلى أول النهار.
ثمة طائر, فاجأه انقلاب الطقس وأربكه انحياز المطر, فصار يدور هائجاً في حيّز ضيق من فضاء فقد سلطانه, ويواصل دورانه الهذياني مدوّماً الريح والريش والفراغ, ليندفع بسرعة فائقة في اتجاه إحدى النسوة, المتحلقات حول الحبلى, طاعناً بمنقاره الرهيف صدرها, مخترقاً قلبها. عندئذ شهقت المرأة في ذعر يشفّ عن لذّة محرمة. التفتت النسوة إليها متسائلات, فأدارت بصرها بينهن للحظات خاطفة ثم غضّت وقد خجلت أن تقول: تخيلتُ طائراً يشق لحمي ويخترق قلبي.
رجعن إلى حياكة الهمهمات الرتيبة, الطقسية.. نساء المطر والليل والمخاض. رجعن إلى الجدال الأخرس مع نجوم صغيرة تنثر غبارها على أثدائهن وتختفي فجأة. رجعن إلى صداقة مطر ينزّه دعاباته على عري الحبلى..
والحبلى بي كانت تصقل مرآة الولادة وتقطف قدري من رحم الصدفة, وكنت أرضع حليب الغواية من ثدي المجهول, الحامل مصيري بيدين من صلصال.
مفتتح
لا, لم أولد هكذا. لم يولد حميد هكذا.
كنت أحلم بولادة كهذه. كان حميد يحلم بولادة كهذه.
وحميد هذا هو الصغير الذي كنته في الزمن الراكض نحو مشارف الصبا, خارجاً من مهب الطفولة, ومعه تتراكض منازل تشتعل حجراتها شهوةً إلى المصادفات.
وحميد هو الآخر الذي لم أكنه أبداً, والذي يشيّد من حطام الذاكرة عالماً لم تطأه قدماي.. أو ربما وطأت بعض جذوره.
وإذ أكتب ما تمليه عليّ الذاكرة وما لا تمليه, فإني أصون الذاكرة وأخونها في آن.
أنسج - من شظايا الزمن العدّاء - أقدار من أعرف ومن لا أعرف. أروي خطى مخلوقات تسرّبت في الشفق, وأسرّح رنين مخلوقات انحدرت نحو الغسق. أنصب المرايا المموهة لاصطياد أطياف ضالة, وأرشق الأماكن الضاجة بكمائن رهيفة قلّما تخطئ.
أسرد البازغ من أيام راوغت فخاخ النسيان, ولا تحتكم إلا إلى مفاتيح تتقرّى أقفال الأمس.
أسرد صدى الفكاهة, وهبوب العنف في ضحى حلبات تتقاذفها الحكاية.
أسرد الجسد الكامن خلف بكارة الأشكال مرةً, الرافع قناع الفحش مرةً, ممتحناً ظمأ الفضيحة.
أسرد هديل ممالك صغيرة تقتفي فتات حلم يموّه أقاليمه حقلاً حقلاً, ويرتقي سرير السديم.
أسرد أنقاض خرائط خلّفتها حروب وديعة.
أسرد ضوضاء أعمارٍ تهرق لبنها في دلاء الفصول.
أسرد مرايا حيّ الفاضل في العام 1963
أسرد السرد الذي يتبع مسار الحلزون العائد نحو الشظايا ملتمساً شفاعة الجذور.
1
طرقات مرشوشة ببقايا نهار تسرّب من شق الزمن, وأصداء ضجيج يومي لم يؤرخه أحد فانتسب إلى العدم. والطرقات تتشح بهدوء العتمة الأنيسة وتتمدد بين أشداق الغفوة لصق خريف كسول ما يزال في أواخر أيامه.
أزقة ضيقة, أفعوانية, تنبش المخاوف في سواد الأمكنة وتدحرج الكوابيس نحو دهاليز السبات.
بيوت من طين تجاور بيوتاً من سعف: أورام مدينة تتكئ على حاضر شاحب.
مصابيح معلقة على أعالي الجدران تستعمر مواقع منهوبة من الظلمة, فتضيء من يعبر تخومها.
كلبان هزيلان يبعثران أكوام القمامة, ويرشقان الخرائب بنباح أشبه بنشيج قناص هجرته الطرائد.
ناطور يخرق أحشاء الليل بمشعل كهربائي وبسعال مفتعل, وهو يرتعد كلما مسّه الخوف, ويرتجل جسارة وهمية اعتاد أن يرتجلها أوان التوجس.
صمت زاهد يغضّ عن خبايا حي الفاضل.
باب.
الباب يفضي إلى حوش تحتل قسماً منه ثلاث دجاجات وديك فخور بحجمه وقوّته, يرصد خطوات الليل بعينين جامدتين.
ثمة دراجة هوائية قديمة تتكئ على الحائط.
ثمة صناديق خشبية وأدوات نجارة بسيطة: منشار ومطرقة ومسامير.
ثمة حجرة صغيرة ينام فيها حميد وشقيقاه طاهر (11 سنة) وعبد القادر (8 سنوات) وشقيقته (شريفه) التي لم تكمل بعد عامها الخامس. حجرة نوم بلا أسرّة. وحميد يرمي ثلاثة عشر عاماً طرياً, هي كل عمره, في بئر حلم عذب يحلّ وثاق الأشباح المرحين وينثرهم في مياه الصور: حيث كل صورة تتبرّج مزهوةً بعذريتها وحميد ينحني ضاماً كفيه ليلتقط كميناً يأسر به ثمار حلم عذب يوزّع الهبات بسخاء.
2
صفير. صفير آخر حاد ونزق.
أربعة أفواه طرية تطلق صفيراً متعدد الطبقات والنغمات. وأحياناً تحتشد معاً دون سابق اتفاق لتتحّد في نداء ضاج يخترق رخاوة الصباح ووحشة الجدران وبهو النوم حتى يبلغ موضع حميد الماكث بين صور سديمية يجادلها بطيشه وتجادله بتحولاتها. عندئذ يغادر حلمه بفظاظة وينهض على عجل. وقبل أن ينفض ظلال النوم عن كتفيه, يتحرك - مترنحاً قليلاً - بين الأجسام الصغيرة الغافية فيدوس على رسغ شقيقه طاهر الذي يطلق صيحة مكتومة مشوبة بالألم الخفيف والاحتجاج لكن دون أن يصحو.
وحميد يخرج من الحجرة دون أن يكترث. في الحوش ينحني أمام الحنفية ويرش وجهه بالماء طارداً غبار النعاس. إنه لا يبدّل ملابسه التي رقد بها, بل يتجه مسرعاً ناحية المطبخ وهو ينشف وجهه بكمّ قميصه.
هناك, في مملكتها الفقيرة, تعتكف الأم (زينب) مع أوانيها وملاعقها وسكاكينها وتوابلها وبهاراتها وسمنها وخبزها وقهوتها وموقدها وكبريتها وصابونها.. أشياء تحكمها بعناية وحنكة.
هناك تعتكف زينب مع عينين تحرثان المواقع الأليفة خشية أن تطالها المحن, ومع أصابع تتقرّى رفوف النهار لتلتقط ما يتناثر من النهار الشحيح, ومع ثوب زاهد دعكته الفصول حتى أضحى شاحباً,
ومع أدعية ترتجلها لتصون بها من تحب.
وحميد يقتحم كل هذا برعونة الصبا, بنزق العابر الذي لا يعبأ بهدير خطاه, باحثاً بنظراته وبرشاقة جسمه عن طعام.
زينب تشهد هذا الاقتحام في حياد ثم في فضول:
- إلى أين أنت ذاهب?
حميد لا يجيب ولا يلتفت نحوها, كأنه لم يسمع, كأن السؤال صدى لسؤال ميت قيل بالأمس وقبل الأمس. يأخذ رغيفاً وبعض التمر.
هي ترمقه وتوبخه:
- أيام الدراسة لا تستيقظ إلا بعد صياح وزجر, أما في العطلة فتصحو وحدك مع طلوع الفجر. ألن تخبرني إلى أين أنت ذاهب?
- أنا مستعجل يا أمي.. سأخبرك فيما بعد..
تلمح »المقلاع« البارز من الجيب الخلفي لبنطلونه..
- ألن تكفّ عن حمل هذا الشيء? إذا رآك أبوك فسوف يذبحك..
لم تكمل التوبيخ والتهديد لأن حميداً لم يعد هناك, لم يعد يشاغب المكان بحضوره الضاج, فقد غادر تاركاً رائحته وعناده ولا مبالاته وسنواته الغضّة لتضمها كلها بحنان عينيها ورهافة قلبها وأمومة أنفاسها.
ولتردد هامسة: عد سالماً يا ولدي..
3
خارج البيت, ينتظر الرفاق الذين تتراوح أعمارهم بين 15-13 سنة: كريم الأعرج, زكريا, مفتاح, عزوز ابن الخبّاز الذي يتأتئ في الكلام.. ينتظرون بملابسهم المدعوكة, غير المتناسقة, وأحذيتهم المطاطية البالية, وأجسامهم الصغيرة المهرولة بين لهو وعنف, بين ضحك وخوف, بين طفولة وبلوغ, بين حلبة وأخرى.
يخرج حميد فتخرج العصافير الضاحكة من نوافذ الصباح.
ينطلقون معاً في صمت وبخطى عجولة نحو جهة تبسط تخومها لهرج وشيك, ونحو موعد يملي على الوقت شريعته. وأثناء سيرهم يتقاسمون الرغيف والتمر.
آنذاك, لم أكن أعلم, لم يكن أحد منا يعلم, إلى أين ستمضي بنا الخطى. كانت المصائر رهائن غيب ساخر يسوّر أعمارنا بالكمين تلو الكمين, ويقهقه كالرعد. الآن, إذ أسردهم واحداً واحداً, أرنو إلى الشتات الذي أخذتنا إليه خرائط الفقد وأتساءل في ارتياب:
هل كنا براعم حيّة تتدرّع بالظهيرة ويقتادها الصيفُ إلى صيفٍ أشد وميضاً وأكثر جنوحاً للهذيان, أم كنا محض أطياف تتدلى من بؤبوء الذاكرة على ضفاف ماضٍ أضحى هو والحلم توأمين?
وها إني - في سفر الالتباس - أقتفي وجوهاً موّهت ملامحها وانحدرت نحو السراب, أو ربما تقتفيني الوجوه إلى خلوة الحبر حيث أسهر متكئاً على حمّى الكتابة, منصتاً إلى ما يرويه الحبر من ترف المصادفات ودبيب الحنين.. وأذرف حلماً.
رفاق الخبز والطريق. أقران الجلبة والشك. يتأبطون الزوبعة ويبعثرون العصيان كالقش في ضلوع حيّ - يدعى الفاضل - يكسر غرورهم بالتجاهل وعدم الإعتراف, فيمعنون في الشغب, ورجّ المحيط بما يصدم ويربك.
من الجهة المعاكسة, في طريق ضيق غير مبلّط, يُقبل عتّال دافعاً عربته غير المحمّلة بعد بالبضائع, ذات العجلتين اللتين تطحنان الحصى ونتوءات الأرض بجلجلة تآلفت معها الطرقات.
عندما يحاذونه يقفز كريم الأعرج ويجلس على العربة مصفقاً ومغنياً بعقيرة ناشزة, بينما يواصل رفاقه السير غير مكترثين. العتّال, دون أن يوقف العربة, يزجره طالباً منه النزول لكنه لا يذعن. عندئذ يوقف العتّال عربته ويهدّد بجلده بالحبل المتدلي من ذراعيّ العربة. كريم ينزل, ليس انصياعا للتهديد وخوفاً من العقاب بل ليلحق برفاقه الذين ابتعدوا..
وعندما يعرج كريم فإن الأرض تعرج معه, كذلك العتبات والشبابيك. وعندما يهرول كريم تهرول معه الريح والفصول والمجازفات. منذ أن زلّت قدمه ووقع من السطح, قبل عامين, وهو يحمل عاهته مثلما يحمل الفقر فضيحته.
إفترقنا. تأبط إرث الثورة وراح يرجم الضواحي بالعصيان فصار نهباً لزنازن تتقاذفه في فجور.
وكان إذا جلس على حافة المساء الموحش, يحلم بعالم عادل يصنعه على هواه.
لم أره إلا لماماً. وذات مرة أفشى ببعض أسراره: إنتسبَ إلى حزب لم يستوعب بعد غاياته, وأحبّ امرأة لم تفصح بعد عن مشاعرها.
في اللقاء الأخير لم ينبس إلا بكلمات قليلة فاترة, ثم حدّق في خلاء روحه بعينين ذابلتين. لقد رأيت أمامي كائناً مخذولاً مسّه الوهن واعتنق اليأس. حاولت استدراجه إلى كمين الكلام, غير أنه تشبث بسياج الصمت. بعدها نهض ومضى بلا تمتمة ولا وداع.
والآن, حين أسترق السمع, ليلاً, إلى خطى عرجاء تطرق إسفلت الطريق, أتخيّل كريماً - بجسده الفتيّ وقهقهته الحلوة - يطرق شرفة نومي ليراني ويسألني عن أحوالي وأسأله عن أحواله, ومعاً نتوسّد صباح الطفولة.
أبو أحمد يعالج قفل دكانه الصغير بمفتاح صدئ, يحاذيه حميد وفي لمحةٍ يختطف غترته, ويفرّ الرفاق ضاحكين تلاحقهم لعنات أبي أحمد وشتائمه البذيئة فيما يتحرك, ممتقعاً من شدة الغضب, نحو غترته المرمية على الأرض.
زقاق.
على بعد مسافة يرون إبراهيم واقفاً, مستنداً إلى الجدار, شابكاً ذراعيه على صدره, شاخصاً نحو نافذة عالية يكمن وراءها ظل فتاة تطل في خفر ورهبة. وإبراهيم, الفخور بشبابه ووسامته, يرسل إليها نظرات الوله, ويمنّي النفس بلقاء يثلج جمرات التوق.
يتأتئ عزوز: أنظروا إلى إبراهيم.. يغازل.
يقتربون منه, يقتربون من العضل النازف هياماً, يقتربون من الجسر الهوائي المشيّد بنظرات خجولة وأخرى جسورة, يقتربون من طوق الإشارات التي لا يفهم مغزاها غير عشاق وجلين, يقتربون من مسرى الغواية بين الظاهر والخفي. يقترب المكر والخبث والكيد العابث.
زكريا: إبراهيم.. ماذا تفعل هنا?
إبراهيم: لا شأن لك بي.. إذهب..
مفتاح: تغازل?
حميد: المسكين لم ينم طوال الليل..
مفتاح: ظل ساهراً هنا حتى هذا الوقت.. أنظروا كيف صارت عيناه.. مثل عينيّ البومة.
زكريا: حرام.. كل هذا من أجل نظرة!!
إبراهيم: ابتعدوا من هنا وإلا..
حميد: يهدّد!!
كريم: سوف أناديها لترحم حاله..
إبراهيم: لا..
عزوز: نعم.. أيقظها يا كريم.. وسوف نعقد قرانهما هنا..
(إبراهيم يحاول الإمساك بعزوز من قميصه, لكنه يفلت منه)
مفتاح: (يصيح منادياً) أبو ناصر.. إبراهيم هنا يغازل إبنتك منيرة..
يدبّ الذعر في قلب إبراهيم, يمتقع وجهه, ترتعش أطرافه, وللحظات يتحرك هنا وهناك على نحو أخرق كأنه لا يعرف ما يتعيّن عليه فعله, ثم يحسم الأمر ويختفي, تختفي الفتاة, تنطفئ النافذة, ويضجّ الرفاق ضاحكين وصائحين.. ضحك فاحش وصياح فاضح..
وعندما يتأتئ عزوز تتعثر الحكاية ويتخبط المعنى في رواق الكلام, ومعه يتأتى الوقت واللعب وتنوّر أبيه.
إفترقنا. سلك درب التجارة بتحريض, أو بتهديد, من أبيه. تلقفته الديار البعيدة والقواميس الأجنبية. تقاسمته المعاهد والمدن الباردة. وأخيراً أحكم السديم قبضته على معصمه وشدّه إلى مرابطه, وبفروه الشفيف سيّج شرفاته.. فما عاد الحنين يهرول إلى الحنين, وما عاد عزوز يلتفت إلى الوراء في شجن, بل مضى لاهثاً خلف أدلاّء, تعجّ بهم الضواحي, يجسّون الخرائط بعصي غليظة ويخوضون في مدٍّ من الثلج حتى أقصى الغياب. شتاء تدحرج وراء شتاء وما بان خدين الأمس.
الآن, كلما شممت رغيفاً رأيت عزوز يذرع بهو الذاكرة مختالاً في مشيته, فصيحاً في صمته, فأشعل قميصاً لعله يأتي إليّ جالباً وصيفات حلمه والقهوة التي يحبها, ومعاً نرفع الحجاب عن قارب يبحر بنا إلى أرياف الطفولة.
بين الرفاق السائرين في طريق آخر, تندلع الأمنيات وتُرتجل الأدوار:
- أشتهى أن أسافر. آه لو أصير رباناً.
- وأنا أشتهي أن اكبر سريعاً كي أفتح دكاناً لتأجير الدراجات.
- باب مستقبلي مفتوح أمامي.. سأصير ثرياً وأعينّك يا زكريا سائقاً خاصاً لي..
- الجمعة أحلى يوم, لكنه ينقضي سريعاً.
- لماذا خلقوا لنا المدارس?
- المدرسة والبيت سجنان.. حريتي هنا.. في الطرقات.
- وأين ستنام يا مفتاح? ومن أين تحصل على طعامك? لا تقل أنك ستعتمد علينا.
- لا أحد يموت من الجوع.. ستكون الأرض فراشي والسماء لحافي.. من يحتاج إلى أهل?
يواصل الرفاق سيرهم دون أن يستوقفهم زعيق امرأة تتشاجر مع جارتها المتوارية داخل البيت المقابل والتي لا يُسمع لها صوت. إنها تحذرها من رمي القمامة عند باب بيتها, وتطلب منها ألا تتباهى كثيراً لمجرد أن إبنها حصل على وظيفة كاتب في الميناء, فإبنها البكر أيضاً موعود بوظيفة محصل ضرائب في البلدية.
مثل هذا الحدث اليومي والعادي لا يستوقف الرفاق الذين يلتقطون الحصى ويملأون جيوبهم بها, ثم يحرثون الفضاء بعيون تشبّ فيها الفخاخ النافرة كالعويل, وتبزغ فيها العداوة العارية من الضغينة. عيون كالنصال تشطر الجهات جزافاً بحثاً عن حمام ممسوس بالإرتياب ويرى في المدى مُدى تمجّد السفك والفتك.
كريم يشدّ مقلاعه ويوجهه إلى سطحٍ ما. حمامة تطير هاربة. مفتاح يسدد. حمامة تقع مكسورة الجناح لكن في فناء بيت مجاور. الحمائم التي كانت تستريح في كسل على الأسطح والميازيب والأسلاك تغادر أماكنها مذعورة وتنزح تاركة المكامن لرعونة قناصين يتربصون في الأسفل راصدين الهديل والرفيف. والسماء ترخي عتباتها كالعناقيد ليرتقيها صبية يتموّج البطش على جباههم وأحداقهم تغصّ بالريش الميت والمناقير الدامية.
من الناحية الأخرى يُقبل بركات.. رجل نحيل, ضئيل الجسم, يمشي بخطى سريعة وعصبية. حيناً يكلم نفسه في انفعال وتوتر كما لو يجادل أشخاصاً حقيقيين أمامه. وحيناً يلوّح بيديه ضارباً الهواء, شاتماً - في كل خطوة - المدينة والطرقات والجو والغبار والكلاب والدجاج والتعب, وكل ما يخطر على باله, وبين الفينة والأخرى, يتوقف للحظة شاخصاً إلى أعلى في صمت, رافعاً قبضته يهدد بها كائناً أو شيئاً غير مرئي ثم يستأنف خطواته العجولة وشتائمه الصاخبة. عندما يحاذي بركاتُ الرفاق يزداد توتراً وانفعالاً لكنه لا يتوقف ولا يكفّ عن توجيه وابلٍ من اللعنات والسباب إلى الأولاد والمدينة والكلاب. وحين يبتعد بمسافة, يصوّب مفتاح مقلاعه, فتصيب الحصاة مؤخرته. يتوقف بركات فجأة دون أن يطلق آهة وجع.. كأن الحصاة لم تمسّه, ثم يستدير صائحاً..
بركات: »سفلة, أنذال.. ملعونة هذه المدينة وأهلها أنذال..«
ثم يواصل سيره وشتائمه.
الرفاق يطلقون خلفه صيحات الإستخفاف والتحدي..
زكريا: »مكانك محجوز في دار المجانين يا بركات.. عد إلى هناك..«
وعندما يعدو زكريا تعدو معه السنابل والشرفات, وعندما يهفو إلى السفر تهفو معه الحقائب والمجاذيف والعاصفة.
افترقنا. مضى بلا مرساة إلى رحاب البحر ناثراً على ساعده ملح البسالة وممرغاً جبينه في وميض المجازفة. أخذته السلالم المائية إلى الجهات البعيدة, أو ربما إلى الشتات. لم تكن البوصلة دليله بل العاصفة.
تحالف مع الموج ضد طمأنينة التخوم, وأسرف حتى استدرجته المياه إلى المياه وضيّعه السفر.
والآن, كل بحر يومئ إليّ أن أتريث وأرنو طويلاً إلى الموانئ النائية فلربما يعود زكريا ضاحكاً على صهوة مدّ ويمسّ صدغي بزبد الغربة, ومعاً نمحو ما ورثناه ونتقاسم نعاساً يحزم لنا زغب الطفولة.
إلى شاطئ البحر يصل الرفاق, في الموعد الذي تحدّد سلفاً قبل يوم. يصلون ومن زنودهم اللينة يقطر زبد التحدي وحفيف بأس يحاكي بأس الرجال. هناك - على شاطئ يشهد بلا مبالاة إنزياح الخطى كلما امتد المدّ - ينتظرهم خمسة أولاد يماثلونهم في السن والطيش, وينتسبون إلى حيّ مجاور. يتواجه الفريقان مثل جيشين صغيرين يتأهبان للنزال. تمرّ دقائق مشحونة بالتوجس, حافلة بالعداوة, وكل فريق يمتحن بالنظر موضع القوة والضعف عند الخصم. إنه رهان على الهيمنة وإذلال الآخر.
وما إن يشبّ العراك بالأيدي, فجأة, حتى يتثاءب البحر ويرخي أطرافه ثم يغفو ثانية.
ثمة ريح خفية تلملم دعابات الموج, ثمة قوارب تترنّح دائخة على المياه,
ثمة صيادون يصنعون الأقفاص الكبيرة لاستدراج الأسماك,
ثمة أسماك لاهية تلتقط الطعم دونما احتراس,
ثمة نوارس معفّرة بالضجر تحط على الصخور الناتئة الملآى بالقواقع وترقب الطحالب وهي تحتل المسرح المائي,
ثمة شمس تبلّل الأفق بأشعتها الذهبية.
كان العنف, وقتذاك, دوراً تنتحله هوية هشة, قناعاً نؤرخ به بطولة غير ملجومة, ظلاً تحتكم إليه ذواتنا الضالة لعله يشفع, دليلاً يبحث لنا عن موضع قدم في عالم مغرم بالقوة لننال شرف الاعتراف. كنا نحاكي الكبار في حسم الخلافات بالعراك. وعنفنا ليّن وطري مثل أعمارنا الطرية لكنه كان يختم راحاتنا عنوةً ويؤثث أيامنا بتوابله. إنه الإرث الذي يطوّقنا كالعبء.
وعندما نتطرّف نتراهن على مدى صمود أحداقنا أمام الشمس, فنرفع أبصارنا ونحدّق لثوانٍ في الضوء الحارق حتى تدمع أعيننا وتجرحها الغشاوة. ومفتاح كان أكثرنا جسارةً ورعونة..
وعندما يسهر مفتاح مع جنونه الكامن يسهر معه السعف واللهب والجداجد. لم يكن مغرماً بجنونه غير أنه كان يؤويه في شريان الحجر كما لو يؤوي سراً صديقاً في خوذة الأزل.
إفترقنا. تخاطفته المحن وسلاسل العصيان. قالوا: مسّه الخبل. وبعضهم قال: مسّه الجان. فيما هو يذرع دهاليز الصمت متقمصاً وحشة العدم. زرته مرات لكنه لم يكن يراني ولا يسمع صوتي. لا أحد في الداخل يسمع طرقاتي.. كأنه غادر جسده والتجأ إلى أرياف رؤاه العذبة.
والآن, أهيب به أن يطلع من مجرى الجنون طلوع الناسك من مخدع العبادة, فيبزغ كاللبلاب وألوّح له باسماً, ويلوّح لي باسماً, ومعاً نوقظ جمر الطفولة.
4
أصابع متشنجة تعبث بحبات السبحة. إرتطام الحبة بالأخرى لها وقع رتيب, ثقيل, منوّم. إنها أصابع حمدان العامر, تاجر الأخشاب, الجالس على البساط مسنداً ظهره. بعد دقائق من الصمت الشاحب, يتكلم حمدان ببطء دون أن يرفع بصره عن البساط, كأنه ينتقي كلماته إتقاءً لسوء الفهم أو خطأ التأويل.
- يا عقيل, أنت رجل طيب.. والجميع يقدرّك ويحترمك.. وأنت تعلم مدى احترامي لك.. لكنك تحرجني.
إنه يخاطب والد حميد, العامل في الميناء, والجالس متربعاً على مبعدة منه دون أن يسند ظهره. إعتداده بنفسه يمنعه من إظهار أية بادرة خضوع أو تملق. قسمات وجهه الصارمة لا تفشي عن رجاء, مع ذلك يتفجر فيه ذلك الإحساس بحدوث شرخ داخلي, إنكسار فاجع, فتعتريه كراهية للموقف, للظرف الذي قاده إلى هذا الموقف. لن يستجدي, لكنه يتمنى أن يتفهم الآخر وضعه وأن لا يهين كرامته.
يتابع حمدان العامر كلامه, موجهاً نظرته الثاقبة - في هذه المرة - إلى وجه عقيل..
- ليس من عادتك أن تتأخر.. لكن ها قد مضت ثلاثة أشهر ولم تدفع إيجار البيت..
- شرحت لك ظروفي.
- أنا أقدّر وضعك.. على المرء أن يؤازر أخيه وقت الشدّة, ويعلم الله كم تكدّرت عندما سمعت عن مرض أخيك.. ونسأل الله أن يشفيه..
- أمهلني بعض الوقت..
- إلى متى?
- سأحاول ألا أتأخر..
- شهر واحد.. ليس أكثر..
عقيل يطرق برأسه. يعرف أنه لن يستطيع أن يوفر المبلغ المطلوب, يعرف أنه بعد قليل سيغادر مغلولاً بالحاجة, مثقلاً بالذل. يعرف أن العرق ينزّ الآن من مسامه. يعرف أنه سيكون نهباً للقهر والغضب. وعندما يرفع رأسه ناظراً إلى حبات المسبحة وهي ترتطم ببعضها في توتر واستفزاز, يعرف أن الزيارة قد انتهت. ينهض رافعاً قامته الطويلة برشاقة فريسة تحس بدنو الخطر.
- أستأذن..
- في أمان الله.
يحدث هذا على عجل ودون أن ينظر أحدهما في عينيّ الآخر, كأن كلاً منهما يحاول محو وجود الآخر. بتجنب النظر إلى الآخر فإنه يعدمه, يسلبه الحضور والكينونة, أو على الأقل, ينفيه خارج نطاق وعيه وحواسه. حين تنظر إلى الشيء فإنك تمتلكه أو تأسره - ولو مؤقتاً - ويصبح جزءاً من عالمك الخاص, ولن يتحرر منك أو تتحرر منه إلا إذا غاب عن بصرك بإغماضة أو بحركة, عندئذ يصير عدماً. لكن هناك الأثر والظل والرائحة. أشياء لا تزول مع زوال الكائن, بل تتريث وتمكث قليلاً عالقةً على أنفاس المكان مثل قطرات طلّ منسية قبل أن تتناثر في الهباء.
هكذا يحدّق حمدان العامر في مشيئة الحاضر, ماكثاً في رحاب مأزقه, يعاقر ذكرى صداقة زائلة فيها كان ينشر على مدارج السهرة, مع قرينه عقيل, وشاح الصحبة ويهرقان فوق عتبات آخر الليل كحول الفكاهة وبقايا الثرثرة.
صديقان كانا لا يفترقان إلا لماماً. يقرعان المنازل بحزمة أعشاب, كأنهما في البدء, كأنهما في رحم الوقت معتكفان, كأن الأيام لا تمضي ولا تشيخ. لكن حدث أن مات الأب فورث حمدان المال وحب المال وغطرسة الطبقة.. الطبقة التي تطوّق أرضها بيقين التعصب وتسهر على تجانس السلالة والمكانة حارسةً آبار الرفاهية بضراوة ضبع. ولما شدّت الطبقة حمدان من كتفه, إنسلّ من غمد الصداقة كالسديم. تقوّض جسر الود ولم يعد الإثنان يعريّان أثداء الليل ويضرمان تحتها مصابيح السهر.
وها حمدان يعتصم بالوقت الرائب جاهشاً بالحسرة غير أنه يعلم بأن أي إعلان عن ضعف أو ندم هو خيانة للطبقة, لهذا يسرف في القسوة مطلقاً قلبه في عراء النسيان لعله يزداد تحجراً أو توحشاً.
وها عقيل يخرج بقامته المخذولة مندفعاً فيكاد أن يصطدم بخلود, تلك المقبلة نحو الباب حاملةً صينية عليها كوبان من الشاي. تسأله مندهشة:
- إلى أين أنت ذاهب.. ألا تريد الشاي?
- لا.. أنا مستعجل.
يغادر عقيل, وخلود تتابعه بنظرات جاهلة ثم تحوّل بصرها إلى الشاي وتنظر في تقزز..
- خيراً فعلت.. هذا ليس شاياً بل مثل العلقم.. لديهم الكثير من المال والقليل من السكّر.. بخلاء.
ترفع الكوب إلى فمها, ترتشف, لكنها تلفظ ما رشفته ممتعضة من طعم المرارة العالقة بلسانها, ثم تطلق فجأة ضحكة مدويّة ولا أحد غيرها يعرف علام تضحك خلود.. على الشاي أم أهل الدار أم العالم أم على نفسها.
طفلة في جسدٍ يشفّ عن خمسة عشر ربيعاً. إستطال الجسد عاماً بعد عام ليكسو روحاً طفلةً تأبى أن تكبر. جسد ليس كالدرع يحمي بل كالشراع تستدرجه الريح إلى مهب الظنون. طفولة مشبوهة أم أنوثة مقمطة? لم يتوقفوا عند السؤال كثيراً. كنسوا البلبلة ثم مضوا تاركين خلوداً رهينة غدٍ ضاحك يرصد خطواتها الحائرة في شراك العمر.
قدم تخضّ الطفولة كاللبن, تجري لاهية في ضواحي النهار والمساء تسدله على غفوة الملاعب.
قدم تخوض مجاهيل أنوثةٍ تجترح لها قرابين التحوّل وتقترح لها مواعيد الدم. كم يرعبها التحوّل, كم يرعبها الدم المنزلق من الشقّ الغامض.
ويحدث أن تخلع أنوثتها كالقميص وتعلقها على مشجب الأدوار.
بالغة السذاجة, محدودة الذكاء, تستعين بالغريزة في مراوغة الحيل والمقالب التي ينصبها الآخرون في دروبها, مع ذلك فغالباً ما تخذلها براءتها فتقع, مثل الفريسة الجاهلة, في أشداق الإحتيال والخبث, لتصبح مادةً للفكاهة والتندر. تعتنق البشاشة وتحزم المرح في ضحكة وسع المجهول. وأينما تحلّ خلود يحلّ الهزل, ولا أحد يقرأ سريرتها.
مشعثة الشعر, بالية الثياب, تمشي حافيةً, تعدو حافيةً, تذرع جغرافيا الظهيرة بخفيّن من المطاط. لكن حين تستفرد بها المرآة, في الغرفة الضيقة شبه المعتمة, يمسّ الضوء البخيل ذلك الجمال المتشظي تحت قناع يواري التقاطيع الحلوة لوجه طلاه الهجرُ بألوان الهجرِ والرماد. وينحسر الثوب عن ثدي معتكف يعضّ أواصر الحشمة ويستبدّ به الولع إلى الترف الإباحي. وما تدري خلود: هل تجسّ أجفان الشهوة فتهيّج نحلة الحواس, أم تلجم نواة الفتنة حتى تتهشم كالنيزك? وما تدري خلود على أي حلم ترسو.
لا أهل ولا أقارب. كانت خلود صغيرة عندما ذهبت أمها إلى الموت, فذاقت ما يذوقه اليتيم من وحدة وحرمان.
في كنف عائلة حمدان العامر تربت ونشأت, تحفّ بها الإهانة والإبتزاز, فقد حلّت محل أمها الخادمة, وكأي خادمة لا بد أن تتهجّى الطاعة والإمتثال. مثل الطاحونة تدور خلود دقيقةً دقيقةً حول خشخاش النهار, وعند المغيب تتوكأ مرهقةً على ركبة المساء وترنو إلى القمر شاكيةً.
وحده القمر كان يبهر عينيها بوداعته وألقه. كانت ترنو إليه طويلاً مفتونةً بعريه, وكان هو يطلّ عليها بلا احتشام ولا ضغينة. وإليه وحده كانت ترخي الأهداب وتفرش النهدين وتفرد الذراعين كأنها تضمّه وتضرّجه بالحنين. والقمر يميل ويحنو حنوّ الكاهن على أنيسته ويشعل خاصرتها بزنابق من ضوء ثم ينتشلها ليضمّد جرح القلب بفروه البهيّ.
وفي الخلوة السريّة, حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع, يتصاعد التهدّج نحو رحاب أفق لا مرئي.
5
مبثوثون في إرجاء بيت متهدم, جدرانه آيلة للسقوط, ومهجور منذ زمن: كلبة ناعسة تحلم, جراء تتراكض لترتطم ببعضها, ظلال محزومة هنا وهناك, علب فارغة يكسوها الصدأ, أحجار مرهونة للعدم, والكثير من الغبار الحاسر الذي يموّه الأشكال. وكان هناك أيضاً: حميد ورفاقه.. باستثناء عزوز.
في هذا المكان الذي يمتشق أنقاضه الفانية - مثلما تمتشق المحنة مراثيها - سافحاً حطامه على أدراج الإنقراض,
الذي يحرث أحشاءه زمنٌ ممسوس بالنهب,
الذي من سقوفه تندلق عناكب الوحشة وأشباح العدم,
في هذا المكان المدهون بلون البن, المثقل بأسرار الغبار, يجتمع رفاق أنهكهم ترويض صباح مراوغ لا يروَّض فأرخوا أعنّة الهرج وجاءوا لاهثين من حومة العراك الفتيّ, مضرّجين بالكدمات وأوهام البطولة ووهن الجذوع, ليخلدوا إلى الراحة في شرايين حصن لا يقدر أن يصون نفسه, مزاحمين الحجر وماضي الحجر.
حميد جالس على درج سلّم متآكل يدخن سيجارة وينفث الدخان من فمه وأنفه, ثم يمد السيجارة نحو زكريا الواقف على مقربة والذي يتناولها ويدخن, غير أنه يخفق في محاكاة حميد فتحترق رئته ويمزّق السعال الحاد صدره. يضحك الآخرون من ورطته. ويدنو منه مفتاح مزهواً, قائلاً في غرور: »ما زلت صغيراً يا زكريا.. هات لأريك«.. ومفتاح ينقش الهواء بالدخان المتموّج, مستعرضاً براعته أمام زكريا الذي يدير رأسه في ارتباك, وأمام حميد الذي ينظر إليه في إعجاب, أما كريم الذي لا يبدي إكتراثاً فيتساءل دون حماسة: »ماذا قررتم الآن.. أنذهب اليوم إلى السينما أم لا?«.. يتفقون على الذهاب لكن كريماً يرمي المعضلة أمامهم حين يقول: »النقود التي معنا لا تكفي«.
دقائق ويقتحم المكان عدد من الشبان, أحدهم يحمل ورق اللعب. شبان من حي الفاضل والأحياء المجاورة الصديقة. ورثوا العادات ذاتها. المجازفات ذاتها, فتنة المناوشات ذاتها. أتوا إلى هنا للمقامرة وامتحان مهاراتهم في اللعب. لديهم بعض الحيل في الغش, لدى الواحد منهم طموح شرير في إفراغ جيوب خصومه في اللعب من النقود القليلة, لديهم ما يتباهون به أمام نهار كسول وغير آبه: زنوداً يتوسدها اللهب, تحالفات غير معلنة مع أمكنة يحتشد فيها العصيان, إستعدادات طوعية للإطاحة بكل سلطة.. تماماً مثل آبائهم عندما كانوا شباباً.
ومفتاح يتأفف ويغمغم في استياء:
- جاءوا.. سوف يفسدون خلوتنا.
الشبان, كالعادة, يطلبون منهم مغادرة المكان دون إبطاء. وكالعادة يبدي الرفاق معارضتهم.. هذه المعارضة التي تتخثر وتندحر إزاء إصرار الأكبر سناً والأكثر فتوةً على فرض سطوته وهيبته.
يحتج حميد: ولماذا نغادر? المكان واسع, إلعبوا في ذلك الركن.
فيزمجر أحدهم: لم نأت إلى هنا لنتجادل معكم.. أخرجوا حالاً.
ويقول آخر بصوت مخمور بطئ: أنا أتشاءم منكم.. أخسر عندما أراكم.. اخرجوا من هنا وإلا قذفنا بكم الواحد بعد الآخر.
وكالعادة يرضخ الرفاق ويغادرون مواقعهم على مضض, وفي صدورهم يحتدم الغضب لا الضغينة, فالدخلاء - رغم كل شيء - ليسوا أعداءً. هكذا ينتفض كريم من القهر والإذلال قبل أن يجتازوا المدخل المغبّر ويفارقوا المكان.
- ليس من حقكم طردنا.. هذا المكان لنا.
فيعلق أحدهم ساخراً:
- هل ورثته عن أبيك أيها الأعرج?
يضحك بعضهم هازئين, ويهمس مفتاح في غيظ:
- أشتهي أن أشي بهم..
ينزح الرفاق مصحوبين بالفاحشٍ والبذئ من الكلام, وفي دواخلهم تومض رغبة عارمة في أن يكبروا سريعاً ليلقنوا هؤلاء وغيرهم درساً قاسياً.
كبرنا ولم تكبر بواعث تلك الرغبة. إندثرت في الحال, فقد كانت عابرة, طارئة, سريعة الزوال. إنشغلنا بأشياء أخرى ربما لا تبدو مهمة الآن لكن في حينها كانت تمثل هبات قدر نتقاسمها في شغف تارةً وفي ضجر تارةً, وما كنا ندري أنها تحيك مصائرنا خيطاً خيطاً.
وأنا صغير كنت أتساءل: لماذا يمنعنا الكبار من التفرج عليهم وهم يقامرون أو يتعاطون الخمر.. هل يخشون علينا من العدوى, من التلوث, من تشوّه البراءة? وإذا كان الفعل مشيناً أو حراماً, فلماذا يقترفونه علانية? أين حدود الوعي واللاوعي في المنع والإبعاد? أم أن وجودنا في تلك اللحظة فضح لما هو غير مباح, أو إختراق لعالم خاص وسريّ لا ينبغي الكشف عنه?
أذكر مرةً أني كنت واقفاً - في مكان غير الخرابة - أحملق في الكبار وهم يلعبون القمار, مفترشين الأرض ومتحلقين في دائرة يتداولون فيها النقود الورقية والمعدنية. نهض أحدهم واتجه نحوي ثم وهبني روبية (وهي عملة نقدية قديمة) وبلطف طلب مني أن أبتعد. كان المنحة بمثابة الرشوة, وقد فرحت بها كثيراً. في اليوم التالي, وقفت في المكان ذاته, منتظراً الرشوة ذاتها, ولما اقترب مني الرجل ذاته, مددت يدي لأتناول الروبية غير أني تلقيت صفعة على مؤخرة رأسي وتحذيراً بعقاب أشد إن اقتربت من ذلك الموقع مرة أخرى.
لم تكن مفهومة لنا تلك الإزدواجية التي يتبناها الكبار في تعاملهم معنا: السهر على براءتنا من جهة, وتأجيج العدوانية فينا من جهة أخرى. العنف كان مبجلاً, القوة كانت موضع فخر, ومن لا يتعارك يُدان بالضعف والجبن وينال الإزدراء. كنا أشبه بسنابل تتقاذفها الأهواء والأمزجة. إذا أفرطنا في الشقاوة وهيجنا الفوضى, إنهال علينا الكبار بالزجر والتوبيخ. وإذا اعتصمنا بالسكينة, حثنا الكبار على مقارعة الهدأة بالدويّ. كنا نتمرغ على حافة الإلتباس والنقائض تعدو خلفنا كالخيول.
في الخرابة يشرع الشبان في توزيع أوراق اللعب والمراهنة, فيما ينسحب الرفاق بتثاقل, وفي لحظة خروجهم يدخل سنان, مخموراً كعادته, يحمل زجاجة الخمر بيد, وآلته الساكسفون باليد الأخرى. إنه يحاذيهم ويتجاوزهم دون أن يعرهم إلتفاتة. وهم أيضاً لا يكترثون به, بل يمضون مبتعدين.
لا أحد كان يكترث بسنان وبأعوامه التي تجاوزت الثلاثين بقليل. جاء من هامش حي آخر ليقطن هامش هذا الحي. جاء وحيداً, غامضاً, مجهول الماضي والهوية, تواكبه أناشيد السكرة وشجن الآلة الموسيقية. ينقر أضلاع الحيّ الغريب بخطى متورمة, ويجرجر مرساة أعوامه الشابة كما لو يحرث سماد الوحشة بقيود لا مرئية.
إستقبلوه في بادئ الأمر بالريبة والحذر فقد كان كتوماً, متحفظاً, قليل الكلام وقليل الإبتسام. تحرشوا به محاولين اكتناه نواياه, لكنه واجه التحرش والإستفزاز بشرود غريب ودون أن ينبس.. كأنه لا يعبأ, كأنه لا يحس. كأن الأمر لايعنيه. طفق ينظر إليهم في حياد المتأمل, وعندما رأوا في عينيه وميض البراءة إنفضوا دون أن يتخلوا عن إرتيابهم. لكن عندما كسر بقضيبٍ ظهر كلب مسعور, كاد أن ينهش ساق صبية من الحي, إحترموا بأسه وشهامته, وتركوه يتجول بحرية في أرجاء الحيّ مثل شبح ضال يسرّج مراكب الليل بالقناديل, ثم يختفي ويظهر وما من أحد قادر على ترجمة أطواره.
شاء أن يصون وحدته وغموضه فلم يصادق أحداً, واستجابةً لمشيئته لم ينشد أحد صداقته. وآن ينزوي في ملاذٍ ما, يأخذ جرعة من الخمر ثم ينفخ في آلته مستنهضاً رهافة الحواس البعيدة.
عندما يصيخ البعض إلى عويل آلته, أوان عزلة الليل, تذرف المقل قطرات من الدمع, ولا يعرفون إن كان ذلك من فرط الشجن أم الإمتنان.
6
حميد وزكريا وكريم ومفتاح - وقد استعادوا بعضاً من حيويتهم - يسيرون في الطريق الذي يفضي إلى فرن والد عزوز.
صبايا يلعبن نط الحبل في جهة,
ولد يقود دراجة هوائية وآخر يجري خلفه محاولاً اللحاق به,
طفل عاري المؤخرة يجري باكياً,
شيخ ضرير يقود شيخاً ضريراً وبعكازيهما يجسّان كمائن الأرض لئلا تغدر بهما الحفر.
يصل الرفاق إلى الفرن. عزوز في الداخل يساعد والده في بيع الخبز.
حميد يناديه. يلمحهم عزوز فيخرج إليهم.
عزوز: ماذا?
حميد: قررنا أن نذهب ظهر اليوم إلى السينما.. هل تأتي معنا?
عزوز: أكيد.
يهم عزوز بالعودة إلى الفرن. يستوقفه حميد..
حميد: إنتظر..
يتوقف عزوز ملتفتاً إليه في تساؤل..
حميد: نحن مفلسون تقريباً..
عزوز: لا.. في المرة الأخيرة كاد أبي أن يذبحني عندما اكتشف أني اختلس من المحل..
حميد: تصرف..
عزوز: لا استطيع.. هدّد بأن يعلقني في مروحة السقف..
ويعود عزوز مسرعاً إلى الفرن خشية أن يغويه رفاقه, عارفاً أنه سوف يضعف إن هو أطال بقاءه بينهم.
يتخبط الرفاق في الحيرة برهةً ثم يعودون خائبين, وبعد بضع خطوات يلمح حميد شخصاً قادماً فيشير إليهم بالتوقف.
إنها خلود مقبلة من الجهة الأخرى بخطواتها الخرقاء, قاصدةً الفرن, وهي تردد بصوت عالٍ وناشزٍ أغنية شعبية محرّفة كلماتها بطريقة مضحكة.
يقترب منها حميد وقد لبس قناع التملق والخبث, فيما يقف الآخرون جانباً مراقبين ما يحدث بشيء من التوتر...
حميد: ها خلود الحلوة, إلى أين أنت ذاهبة?
تتوقف خلود وهي ترمقه في إرتياب..
خلود: لماذا تسأل?
حميد: مؤكد أنك ذاهبة لشراء خبز..
خلود: (مستغربةً) وكيف عرفت?
حميد: أما نحن, فذاهبون اليوم إلى السينما.
خلود: حقاً?! خذوني معكم..
يتظاهر حميد بالتفكير والتردد ثم..
حميد: لا.. صعب..
فكرة الذهاب إلى السينما تستحوذ على خلود التي تنسى أن هناك عروضاً خاصة للنساء ولا يسمح لها بالدخول مع الأولاد..
خلود: ليس صعباً.. حميد الله يخليك, دعني آتي معكم..
حميد: (مبدياً استسلامه لرغبتها) طيب.. سنأخذك معنا.. أين نقودك?
خلود: عندي روبية, سأشتري بها خبزاً..
حميد: عليك أن تختاري.. بين السينما والخبز.. لو كنت مكانك لفضلّت السينما.
خلود: لكن عمي حمدان سوف يذبحني..
حميد: قولي لهم أنك أضعت النقود أو.. أو أن شخصاً سرقها..
خلود: (تفكر ثم تهز رأسها نفياً) لا.. لن يصدقوني.. سيعرفون.
حميد: (متضايقاً) أنت حرة.. سنذهب بدونك..
يتظاهر حميد بعدم الاهتمام, يهم بالإنصراف عنها. خلود تفكر قليلاً, ثم تناديه.
خلود: حميد..
حميد يستدير ناحيتها وقد تيقّن من فوزه. خلود تبدو مترددة, تنظر في حيرة إلى القطعة المعدنية المستقرة على راحتها ثم إلى حميد ثم إلى القطعة مرة أخرى, إلى أن تحسم الأمر أخيراً فتمد راحتها نحو حميد وهي تشعر بشيء من الخوف..
خلود: خذ.. لكن لا تخدعني..
حميد يلتقط القطعة بسرعة قبل أن تغير رأيها.
حميد: عيب يا خلود.. هل خدعتك من قبل?
خلود: كثيراً.
الرفاق كانوا يتابعون ملهاة الإحتيال في ارتياب ففضول فابتهاج.
وحميد يدير رأسه فيقع بصره على شخص مقبل صوبهم. إنه الآن يتفرس في انبهار بالغ وعيناه المفتوحتان على سعتيهما منجذبتان كلياً إلى الشكل البشري الطالع كالسراب من سديم الخرافة, القادم كالغواية من مهبّ خفي.. ويتمتم حميد هامساً في إعجاب غامر: سلطان..
وسلطان رجل في الثلاثين, نحيل الجسم, أسود البشرة. في العراك, يخشاه الجميع لعنفه وشراسته. نحافته تخدع الخصم الغريب عن الحيّ فيثق بانتصاره ويطمئن إلى تفوّقه غير أن كل هذا ينهار فجأة مع أول لكمة أو ضربة بالرأس يتلقاها من سلطان فينبجس الدم ويتدفق مع الضربات التالية المتلاحقة.
أما في أحواله العادية, فإنه ودود ومتواضع, مرح وكثير المزاح. والبعض يحتار في تفسير إزدواجية هذا الرجل, في فهم طبيعة التعايش بين العنف والوداعة في ذات لا ترى في سلوكها أي التباس أو غرابة.. ذات تملي على شِباك الجهات هيبة المجازفة فيما تنثر دعاباتها كالريش, ولا تأبه للجدل.
لكن حميداً يرى في سلطان الأسطورة الحية المتحركة, البطل الذي ينتصر دائماً, النموذج الذي يرغب في الاحتذاء به ويحلم أن يكونه عندما يكبر. افتتانه إفتتان بالبطولة والبسالة والعنف. يوماً سوف يشدّ أذيال الطرقات بقبضتيه ويدفعها نحو موقد الطاعة.. هكذا يفكر حميد.
7
فناء بيت حمدان العامر - المسقوف بظهيرة تقضم أطرافها من الضجر - يشهد انقضاض حمدان على خلود التي تحاول حماية وجهها بذراع هشة لا تقدر أن تحمي أو تدافع. مرتجفة وفي عينيها ما يشبه الرمل أو الملح, طافحة بالتأوه والنشيج, عاجزة عن الإفلات من اليد القابضة كالقيد على رسغها, القابضة كالكيد على محنتها. وهو يلهب كيانها الهزيل بالضرب والإهانة, بالشائن من الكلام.
يا للبراءة التي تلهم جلادها صنوفاً من البطش! البراءة التي تتكئ على يأسها وتنتحب. من جوفها, من أحشائها, يدوّي صوت لا يُسمع, يتوسل إلى هذا الأقوى أن يكفّ عن إيذائها وإذلالها.
ولا يكفّ حمدان إلا حين تتدخل زوجته, الممتلئة الجسم, وهي تردد في رجاء: يكفي يا حمدان يكفي.. ذبحت المسكينة.
ثم تحشر نفسها بينهما لتفصل بينهما, لتبعد الغضب والضغينة عنها, وخلود تتمترس خلفها مرتعدة من الخوف, والوجع يدبّ في أنحائها.
يصرخ حمدان مرتعشاً من فرط الإنفعال: أبعديها عني وإلا سلخت جلدها.
تأخذها المرأة من يدها فتسير إلى جوارها خائفة ومتهدجة وتكاد أن تلتصق بها التماسا للحماية ثم لا شعورياً ترفع خلود رأسها للحظةٍ مختلسة النظر إلى السماء لعلها تلمح رفيقها القمر يطل عليها بوجهه الباسم الأليف مهدهداً أهدابها المثقلة بالملح لكنها لا تلمح غير ظهيرة محدودبة تخلع قميصها فتتساقط عناقيد العرق.
تهمس لها المرأة موبخةً: تستحقين ما ينالك.. لو لم يضربك لفعلت أنا ذلك.. لماذا تدعين الأولاد يحتالون عليك?!
وعندما تحتويها غرفتها الفقيرة الأشبه بصدفة موحشة, وتدرك أنها وحدها, تجلس على طرف السرير متحسسة مواضع الوجع الغائرة في جسمها. تتلفت ثم فجأة تطلق ضحكة غامضة يصعب تفسير معناها أو تأويل دوافعها.. كأنها تدفن أوجاعها في الضحك, أو كأنها تترجم الوجع بلغة لا يعرفها أحد غيرها.. أو ربما هي الصرخة المموهة التي ترفع قناع المرح كلما أحاطت بها الفخاخ, أو لعلها بالضحك توقظ الدعابة لتثأر لها من مهازل الحاضر, غير أن أي تخمين أو افتراض يشكمه الإرتياب.. أمام ضحكها المتواصل الذي لا يتوقف.
8
الظهيرة ذاتها, التي كانت تقضم أطرافها في ضجر, تقمط الآن بيت حميد بقماط منسوج من أنفاس الشمس اللاهبة.. ولا من يدٍ سماوية تهز هذا المهد.
داخل الحجرة تجلس العائلة على البساط حول أطباق الرز والسمك والخضار. يخترق حميد الصمت الرابض في المكان, ملتفتاً إلى شقيقه عبدالقادر الجالس إلى يساره, موبخاً بصوت عال, واللقمة معلقة في الفراغ قرب الفم.
- ألم أحذرك من أخذ أشيائي?
لا يجيبه عبدالقادر إنما ينهره الأب:
- لا تصرخ.. تناول طعامك وأنت ساكت..
- أبي.. إنه دائماً يأخذ أشيائي ويضيّعها..
ثم يلتفت إلى شقيقه ويصفعه على مؤخرة رأسه..
الأب يصفع حميد على مؤخرة رأسه, لكن ليس بشدة, وينهره بشيء من الإنفعال:
- لا تضربه.. إنصحه بلسانك لا بيدك.
حميد يواصل الأكل, غير متأثر بالعقاب, كأنه تعود على ذلك, كأنه حدث عادي ويومي لا يستحق أن يؤخذ بجدية أو بحساسية.
زينب جالسة وحدها على بعد مسافة. لقد اعتادت أن تأكل وحدها بعد أن ينتهي زوجها وابناؤها من تناول الطعام. هكذا تربّت, هكذا علّمها الأهل ألا تشارك زوجها الطعام. ولا أحد من الأبناء يعرف السبب, لا أحد منهم تساءل إن كان هناك تفسير ما لهذا السلوك, فقد تقبلوا الأمر على أساس أنها عادة أو عرف أو تقليد متبع في كل بيت ومنذ الأزل. تأويلهم الوحيد, النابع من الحدس أو الغريزة, أنها تريد منهم أن يشبعوا قبل أن تأخذ حصتها, وهم يعلمون أنها تدير شؤون العائلة برحى الصبر وبإنكار للذات.
زينب الآن تنظر أمامها صامتة, محدّقة في رنين الفقد الذي يداهم روحها ويجتاح خلاياها. ثمة حزن شفيف يطرق أجفانها ثم يسري خفيفاً في مقلتيها ويترقرق. حزن مقترن بغياب يسرف في الغياب فيستفحل الحنين والشجن: حمزة, إبنها البكر والوحيد من زواج سابق والذي تيتّم صغيراً. الأكبر من حميد بخمس سنوات. ذو الطبع الحاد, والمتدرّع بشبابه وبأسه وعناده.
ذاك الذي - مع أشباهه - شتّت في الطرقات دويّ معاركه التي لا تُحصى, جاهراً بالعنف والمجازفة, ناثراً هنا وهناك طيشه ونزقه,
ذاك الذي رشق بيت الملا سعود, معلم القرآن, بالحجارة وروث الحمير لمجرد أنه ضرب حميداً بالعصى فأبكاه,
ذاك الذي يقرع مهود السكينة بحربة الفوضى, ويخضّ الشبابيك النائمة بعويل اليقظة, ولا يروضه أحد..
تشاجر قبل أسابيع مع زوجها عقيل - الذي وبخّه بقسوة بعد تزايد الشكاوى الموجهة ضده من ضحايا عنفه وشقاوته - فخرج من البيت مضرجاً بالغضب وقرر ألا يعود.
يرهق زينب هذا الغياب المستبد, يرهقها ويضرم فيها الحزن والشرود, والنفس تستدرج ظل حمزة ورائحته وخطاه إلى حضن يعجّ بالهبات المؤجلة, لكن الخطى تنأى بلا رأفة, والظل يركض خلف صاحبه, ووحدها الرائحة تلبث كالعلامة في عراء الحنين.
الآن, بعد كل هذه السنوات, حين أنظر إلى حمزة وأتأمل وداعته ورصانته, فإني أبحث في داخله عن ذلك الفتى الشارد مع صخبه وعنفه وأيامه الغضّة في أروقة انزاحت عن خارطة العمر لتستقر على ضفة ماضٍ بعيد يتأرجح بين الذاكرة والنسيان, ماضٍ لن يطفو ثانيةً في حلبة الحاضر.
أنظر وأتساءل عن تقمصات الكائن وتحولاته, عن إيوائه للأدوار وانتحاله للأدوار, عن الرحلة المجهولة في غابة المرايا حيث كل إقليم يسنّ شرائعه وعاداته, عن القدر الذي يترك آثاره أمامنا دون أن نراها, والصدفة التي تلهو بنا لكي نلهو بها, عن نحن والآخرين والعالم.. فلا أزداد إلا جهلاً والتباساً.
9
الظهيرة ذاتها, التي كانت تقضم أطرافها في ضجر, تحمحم الآن خارج بيت من السعف وسط حيّ نائم مع ضميره.
بيت طاعن في الزهد يتوسد محنته غير مكترثٍ بحيٍّ لا يكترث به, ويعرف أنه منذور للحريق.
بيت تدخله من باب ينفتح كالأنين على الأنين, وتقودك خطاك المترددة إلى حوش يصيخ, في حياد, إلى رذاذ كراهية - لا تعرف كيف تموّه نفسها - تنزّ من جلود ثلاثة أشخاص يتقاسمون الغداء: رز وعدس.
الحكاية ذاتها عن:
أبٍ عاطلٍ عن العمل, متبلّد الحس والعاطفة. فظ وأناني. يتمرّغ في الكسل فاقداً إيمانه بكل شيء. لن يرحمك من في الأرض ولن يرحمك من في السماء - هكذا كان يقول - والفقراء يموتون سريعاً وقبل الأوان, ولن يدخلوا الجنة أبداً.. فمن أجل ماذا نفني أعمارنا القصيرة? الخمرة ولعه الوحيد. إدمانه على الكحول يجعله يفرط في إهانة أسرته الصغيرة وممارسة القسوة اللامبررة ضدها. وكلما ترنح سكراً, ترنّح العالم أمامه ليتداعى على مهل.
أم لا تملك ما تزهو به. بشرة داكنة وقسمات غير ملفته. حياة موسومة بالشظف. في الخارج, في بيوت الآخرين حيث تخدم, تثرثر كثيراً وتسخر كثيراً, ويعلو ضحكها متباهياً بطيشه وخفته. أما في بيتها فتلتجئ إلى الصمت وتعتكف مع الهال والزعفران. كأنها تقسم كيانها إلى نصفين: نصف ينطلق على سجيته بلا حرج ولا كوابح, ونصف يجنح إلى التقشف في كل شيء حتى في الإبتسام. وإذ يرجمها زوجها بالهموم, تؤرخ بالشكوى الرخوة أيامها المتورمة.
بينهما يرتجل مفتاح العصيان على أبوّة تتخثّر على هامش الأبوّة منزوعة العاطفة, مثقوبة الحواس, تترجم إخفاقاتها إلى ضغينة موجهة ضد الجميع, وضد الذات قبل الجميع.. وعلى أمومة مدحورة تتقهقر إلى صدفتها كلما مسّتها شظية ولا تعود تصغي إلا لحوار النفس.
ومفتاح لا يتجانس إلا مع أقران يخوضون شتات الروح بخطى رنّانة تتحيّن الغفلة لتعتنق الرعونة.
غير أنه الآن يصغي إلى ما تفرزه اللحظة المتوترة من إهانة مرتقبة:
الأب: (في هدوء ينذر بالويل) اليوم أنا مفلس..
الأم: أنت مفلس كل يوم..
الأب: إفهمي يا غبية..
الأم: ما عندي..
الأب: وهل تخدمين في البيوت مجاناً?
الأم: عندي القليل.. بالكاد يكفي لشراء ثوب للولد..
الأب: مفتاح ليس محتاجاً.. لديه الكثير من الثياب..
مفتاح: لا يا أبي.. أريد ثوباً..
الأب: أسكت أنت.. لا تتدخل.
(بعد لحظات صمت)
الأب: ما بال الرز ليّن هكذا.. حتى الطبخ لا تجيدينه.. ماذا تجيدين إذن?
مفتاح: ليس ليّناً.. إنه مثل كل يوم..
الأب: قلت لك أسكت.. ألا تسمع?
الأم: تعوّذ من إبليس ودعنا نأكل لقمتنا..
(الأب يملأ قبضته بالرز ويرميه في وجه الأم)
الأب: لأني تسامحت معك صرت ترفعين صوتك أمامي.. يجب أن تلزمي حدودك.
(في هدوء واستسلام تمسح الأم ما تناثر من الرز على وجهها وثوبها, خافضة رأسها, عارفةً أن كلمة واحدة منها سوف ترفع درجة الغليان.
مفتاح ينظر إلى أبيه في غضب عارم
مرةً أخرى يملأ الأب قبضته بالرز ويرميه في اتجاه الأم)
الأب: تسمين هذا رزاً.. إنه شيء مقزز..
(مفتاح يهم بالإنقضاض على أبيه)
مفتاح: كفّ عن إهانة أمي..
(لكن الأب يعاجله بصفعة قوية تطرحه جانباً على الأرض.
الأم تنخرط فجأة في البكاء.
الأب ينهض منفعلاً ويتحرك مبتعداً.
مفتاح, وقطرات من الدم تتجمع في زاوية فمه, يمسح الدم بظاهر كفّه, وهو يوجّه صوب أبيه نظرة مشحونة بالكراهية).
10
الظهيرة ذاتها, التي تقضم أطرافها وتقمّط بيت حميد وتحمحم خارج بيت مفتاح, تكتسح الآن سطح بيت طيني, وكريم الأعرج جالس في قفص كبير صار بيتاً للحمام. بين يديه حمامة يتأملها في ولع ثم يدني منقارها من فمه ويلقمها لعابه. يبتسم لها:
- أعرف أنك تودين الخروج والتحليق في الفضاء, لكن هذا مستحيل. يجب أن تتعودي على المكان أولاً, تألفيه جيداً, حتى إذا خرجت تعودين طوعاً.. لأنه بيتك.
يأتي صوت أبيه زاعقاً, حانقاً:
- كريم..
وكريم يسمع النداء لكنه لا يكترث كثيراً, إذ يدير رأسه للحظة ناحية مصدر الصوت ثم يعود ويواصل مخاطبته للحمامة..
- هل تفهمين ما أقول? هنا تحصلين على كل ما تحتاجينه: ماء, شعير, مسكن, أنيس. هناك, في الخارج, لن تجدي شيئاً.. سوف يلاحقك الجميع بمقاليعهم وفخاخهم.. وإذا رآك مفتاح فسوف يقتلع عينك بالحجارة.. مفتاح صديقي وأعرفه جيداً.. لا يرحم طائراً.
مرةً أخرى يأتيه صوت أبيه.. غاضباً ومتوتراً.
- أنت يا أحمق.. ألا تسمع?
كريم يدير رأسه نحو مصدر الصوت, ويزفر في ضجر..
- نعم, ماذا تريد?
- إنزل وتغدى, وإلا صعدت إليك ورميتك خارج البيت.
كريم يضع الحمامة جانباً, ينهض ويغادر القفص بلا حماس.
11
الظهيرة ذاتها تطوّق صالة السينما المكتظة بجمهور غير متجانس جاء ليحلم. العرض لم يبدأ بعد, لذلك يندلع الهرج وتعمّ الضوضاء ويتراشق البعض بالأوراق أو بالشتائم البذيئة التي لا يُقصد بها التجريح بل الممازحة, والبعض ينشغل بأحاديثِ جانبية لا تقل صخباً عن البذاءات المبعثرة هنا وهناك.
إحتفال, أو ما يشبه العيد, يتحالف فيه الجميع, أو الغالبية, مع الفوضى المغوية. إختلاط مترف لشتى الأمزجة والطبائع والأذواق. ولا أحد يحتج أو يتذمر, كأنه طقس موروث لا ينبغي المساس به. حتى أن أحداً لا يحتج عندما يقعي شخص ما في مكانه ويرش بوله على الأرض منبهاً الجالسين أمامه فيرفعون أرجلهم عن الأرض, دونما تذمر, لئلا تعترض أقدامهم مجرى البول.
وما إن تُطفأ الأنوار, وتجتاح الظلمة أحشاء الصالة, وتنبجس من المستطيل الفضي الشعاعات الأولى, حتى تنزاح فلول الفوضى فجأة ويخيّم صمت كصمت فضاء مهجور فلا يعكّر السكون كلام ولا همس, ويصير كل من في الصالة أشبه بناسك معتزل.. لبعض الوقت. هذا التحوّل الطقسي المفاجئ هو سفر جماعي في الزمان والمكان معاً.. هجرة لا تكتمل إلا بمصادرة الوعي وتحييد الإرادة.
وجوه حميد وكريم وزكريا ومفتاح وعزوز مشدودة إلى الشاشة في انبهار. الأعين شاخصة إلى مرآة الأشباح والظلال, مأخوذةً بما ترى. الأفواه فاغرة كنوافذ صغيرة تطل على نبع الصور. ومع تتابع الصور السريعة, المتلاحقة في هذيان بصري, تتقلص عضلات الوجه وترتخي, تنفرج الشفاه وتنطبق, تتغضّن الجباه وتنبسط, تترقرق المقل وتجف, تختلج القلوب وتهدأ.
وحميد ينسى أنه حميد, إذ ينسلخ من جلده منتحلاً هيئة أخرى وهويةً أخرى, ويذهب وينأى ويغيب ويتماهى مع ذلك الكائن السماوي, القاطن فضاء الحكاية أو الأسطورة, الذي يشدّ قوسه ويشكّ بسهامه صدور الأعداء, وفي لمحةٍ يصل المغامرة بالمغامرة. ذلك البطل في العراك وفي الحب ينتحل الآن وجه حميد.
كنت ألج, بلذّةٍ لا تضاهى, عالماً سحرياً تتبدّل فيه الأماكن كل لحظة, يتعاقب فيه الليل والنهار بومضة خارقة فيصبح الزمن أكثر إختزالاً وكثافة. لا رتابة ولا ضجر. وحدي هناك مع بشر أعرف نواياهم ولا يعرفونني, يرتادون الغرف المعتمة والمضيئة. أترصد لصق باب مخدع تبكي فيه الأميرة قهراً, أو أدخل كوخ امرأة عجوز تضمّد جراح بطل لا يُقهر, وخطفاً أنتقل من وادٍ إلى نهر, أو أطوف الغابة داخل عربة ملكية يحرسها جنود مدججون.
عالم آخر, آسر, أكثر بذخاً وتشويقاً.. ينتزعني من الرحم المظلم ليلقم حدقتيّ رخاء الصور, ومن حلمة المشهد أرضع حليب الحلم.
12
للمساء في حجرة خلود لون البنفسج.
للمساء نكهة عصافير مبللة بالثلج.
مساء منمنم ينحني مثل أب عطوف ليتواطأ مع الأشياء التي لم يمسّها الضوء, وليطوّق بحنانه عزلة خلود الجالسة قرب سريرها تمشط شعر دميتها الصغيرة, ذات اليد الواحدة, وهي تهمهم مرددةً مقطعاً مبهماً من أغنية مبهمة.
والمساء يصغي ولا يفقه مثلما يفقه لغة المطر والريح, لكن لا يعبأ كثيراً فحسبه أن يشاطر الوحيدة وحدتها ويحجب عنها دسائس النهار.
فجأة تكف خلود عن الهمهمة وتحدّق أمامها في الفراغ المرقّط كما لو باغتها - دون أن تجفل - حضورٌ ما. ليس مرئياً هذا الحضور. ليس له ظل. إذن ما الذي تراه الآن هذه الفتاة الناشرة مصيرها على شفرة المصادفات? ما الذي يجوس بداخل هذي المستجيرة بالمساء من هجس وانشقاق ورؤى لكي يستدرجها المجهول إلى رحابه? إلى ماذا تنظر - رهينة الطفولة - عبر الفراغ الذائب.. أ إلى حاضر ملغوم يشدها من ضفائرها صوب جرْف موبوء بالضغينة, أم إلى ماضٍ مدججٍ بصورٍ عجولةٍ لا تكاد تظهر حتى تختفي في تعاقب خاطف?
صور تخذل ذاكرتها المرهقة فلا تلمح منها غير وجه باهت ينتسب إلى أمومة مهدورة في برزخ الغيب. وجه ضبابي, عائم في قرمز الوقت, مراوغ ويستعصي على الإمساك.
كم وجهٍ إرتاد نومها منذ أن كانت صغيرة! كم وجهٍ إجتاح أحلام اليقظة وبلبل حواسها! وكم مرّةٍ بكت لأنها لم تقدر أن تتعرّف على وجه أمها.
لا تعرف خلود إلا اليسير عن ماضيها, أو ربما لا شيء. مراراً سألت والأجوبة كانت شحيحة. بالأحرى, كانت مضللة لأنها إزدادت تشوشاً والتباساً. كيف يمكنها أن تفهم هذه التي تمسّد هبات الأنوثة دون أن تفارق قميص الطفولة. تعبت وضجرت وما عادت تسأل. لكن في لحظات معينة, كهذه اللحظة المربكة, تسكن خلود فجأة موجهة بصرها إلى ناحية ما, وتظل محدّقة في الفراغ ثوانٍ أو دقائق. ما الذي تراه الآن? ما الذي يتراءى لها أو يخطر لها? لم ظلٌ من الحزن يطفو على محيّاها, فيشيح المساء مضرجاً بآهة كادت أن تنفلت بلا رادع?
13
المساء الوديع ذاته, الناثر - في احتشام - أشكال العتمة في جهةٍ وأشكال الضوء في جهةٍ, هادئاً يدخل الغرفة الصغيرة, الأنيقة رغم تواضعها, وعلى مهل يدنو من ذات الضفائر المبتلّة برشَاش الحب, الكامنة قرب النافذة تطلّ سراً خشية أن يراها أحد, وملامحها السمراء الطفولية تشفّ عن سبعة عشر عامٍ.
عفاف إسمها, وحيث تطل عفاف يطل المساء ويبصر جانباً من الطريق, تحت مصباح البلدية, وقد تحوّل إلى حومة للقمار واللاعبون يوزعون الورق ومعها يوزعون الربح والخسارة بلا عدل, فالحظ وحده سيّد الحومة.
ليس الفضول من يحضّ عفاف على اختلاس النظر, ولا الضجر. إنه ذلك الإنجذاب الغامض الذي يتردد في البوح بل وحتى في الإفصاح عن نفسه. إنه ذلك الخيط الضوئي - اللامرئي - الذي يشدّ البؤبؤ إلى بؤرة الإفتتان.. لكنه إفتتان محتشم وخجول, فالبؤرة التي يحتلها حمزة لا تبدو أنها مدركة لما يجري خارج مجالها الضاج: عينان مترعتان بالخَفر وبالحذر لكن منذورتان إلى ذلك الغافل وحده - حمزة - الجاهل في تلك اللحظة بحضور حب أخرس يطل عليه, ومعه يطل مساء حنون.
لكن, كالعادة, كان لا بد لتلك البرهة أن تحتدم بالتوتر والإنفعال, فيعلو صياح حمزة بغتة, شاتماً ببذاءة خصماً له, وسرعان ما تتحول المشادة الكلامية إلى عراك عنيف بالأيدي.
على عجل توصد عفاف النافذة كي لا تسمع ولا ترى, توصد قلبها لئلا ينجرح قلبها. مرةً أخرى يخذلها برعونته وحماقاته, فتتحرك خائبة نحو سريرها وفي عينيها سيل من العتاب. أما المساء فيغضّ ويتغاضى عن هفوات المحبين.. وهكذا يفعل منذ عهود.
14
ليلٌ ملولٌ يحك زغبه الأرقط وهو يتلفت شاخصاً إلى بيوت أشبه بأصداف فضية رابضة بين نوم وسهر.
ثمة حجرة شاحبة أهمل قاطنوها شحذ جوانبها وصقل سقفها فتبدو كالمتروكة فريسة أزمنة تتناوبها نهباً نهباً..
حجرة يتسامر فيها الضوء والعتمة حتى الضجر.
وعقيل يلوذ برائحة القهوة التي لم تعد تهبّ من قعر الفنجان لتنفذ عبر كل مسام في جلده فتثير للحظةٍ خالدةٍ نشوةً لا تضاهى يستحضر من خلالها زمناً رخياً كان قد مضى بلا رجعةٍ, وها يقرع الحَلَبات المدرّعة بالشكوى فلا يجيبه غير دويّ أبكم.
وزينب المثقلة بهموم نهار مضى وئيداً وتركها تلتقط بأصابع غضّة ما يتساقط في شِباك اليوم من نِعَمٍ ومن محن, وهي الآن تنظر بطرْفٍ إلى زوجها الجالس أمام زوبعة لا مرئية ضاماً شؤون الحاضر بين كفيّه لكنها تندلق كالمياه.
تسكب زينب قليلاً من القهوة في فنجانها وتسأل:
- هل مررت على أخيك?
يهزّ عقيل رأسه بالإيجاب
- كيف هو?
- كما هو.. لم يتحسّن بعد. يقول الطبيب أنه يحتاج إلى وقت.
- الله يشفيه..
يرتشف عقيل قهوته, ويظل صامتاً لدقيقة ثم كما لو إنتبه فجأة:
- أين حميد?
15
وحميد كان, وقتذاك, يجتاح مخادع الليل عدْواً مع رفاقٍ منشقين عن وصايا الأهل, مأخوذين بالهرج والضجيج, يطرقون شرايين الهدأة بمطارق المجازفة ولا يحتكمون إلا إلى عصف مسرف في العصيان. يشعلون مرايا الليل ويهرولون حول المنازل كثعالب صغيرة أو كظلال تتواثب في سعار كأن بها مسّ.
وتحت ضوء مصباح عليل لا ينير إلا الحيّز الذي يسع أشكالهم المتراصة, يتقاذفون الحكايات والنوادر - عن شؤون الحيّ وشجعانه ومجانينه - ويتبادلون الضحكات المجلجلة دونما رادع. أو يركضون رافعين أعمارهم شفاعةً, وفي ركضهم يضرمون اللهاث ويرهبون الأزقة الساهرة بهتاف وحشي.. كأنهم اندلاع لفتنة كانت غافية فأيقظها هدير الطعنة.
من يراهم, في تلك الساعة, يلجون كوى الليل مثل غبار فاحش, يقول لنفسه:
ما هؤلاء إلا براعم تتوكأ على أوتاد الغواية وترتجل المكائد.
وها هم ينسجون من خيوط الفكاهة مكيدة لحارس ليلي كان - قبل ساعةٍ - يسهر على طمأنينة الطريق قابضاً بإحكام على أعنّة الجهات مثل سائس محنّك فلا يمرّ بين يديه سرٌّ إلا وأفشاه. أما الآن فقد ترك اليقظة واصطفى الغفوة فيما هو جالس على كرسيه فاغر الفم, مغمض العينين, ويشخر. يحلم? بلا سرير ولا وسادة? من يشخر لا يحلم. لكن من يدري? ربما يعتكف الآن مع حلم فيما يرتقيان سلالم النوم. ربما يرى نفسه في حقلٍ ما يحمل سلة ملآى بالرمّان.
ويدنو مفتاح من الحارس على مهل وبحذر شديد, وعندما يوشك فمه أن يمسّ أذن الحارس, يطلق فجأة صيحة حادة تخترق قشرة النوم وتقوض أي حلم كامن, والحارس يصحو مفزوعاً ليجد أمامه قناعاً مخيفاً لا يشك للحظةٍ أنه قناع بل يحسبه وجه وحش ينوي إيذاءه, فيطلق بدوره صيحة فزع ولا تمهله المباغتة ليميّز بين الحقيقة والوهم إذ يخرّ مغشياً عليه. فينفجر الأولاد في ضحك صاخب, ويخلع زكريا قناعه المخيف وهو مستغرق في الضحك.. ضحك ماجن لا يعبأ بأي وشاية.
16
الباب, غير المقفل, ينفتح ببطء وتوجس.. كما لو ينفتح على خلاء آهل بالفخاخ.
ويطل حميد المبتل بأنداء الليل ماسحاً بنظراته الخرقاء حدود البصر المغطاة بعتمة منمشة, يستطلع محاولاً التأكد من خلوّ الحوش. يدرك أنه تأخر كثيراً وأن العقاب - إذا ضُبط متلبساً - لن يكون يسيراً.
تستدرجه الجداجد فيدخل متسللاً, مراهناً على سلطة النوم, محاذراً أن يرتطم بشيء أو يصدر صوتاً. يتحرك وكأنه يمتحن بأسه. يغمس خطواته في أرض ملغومة مستجيراً بالعتمة. أنفاسه ترتطم بما حوله. فجأة يسمع الصوت الذي لم يرغب أبداً في سماعه تلك اللحظة.. صوت أبيه الحازم, القاطع, الذي لا مهرب منه.. يناديه: حميد.
فيتوقف متجمداً في استسلام. لا يشعر بالذعر بل بشيء من الرهبة, شيء من الخضوع لاستبدادية اللحظة.
من جديد يصله الصوت الآمر: تعال.
أبوه واقف جانباً ينظر إليه في حدّة متفحصاً حجمه, شكله, هيكله, لباسه, روحه.. مستجوباً غباره وقناعه.
فيدنو منه حميد, ومنه أيضاً يدنو الإلتباس والمهادنة والغصن الغضّ. وما إن يقف قبالته حتى يعاجله - قبل السؤال وقبل العتاب - بلطمة لم تخطئ الخد. يميل الغصن الغضّ فيميل المكان قليلاً. اللطمة توجعه لكنها لا تبكيه, فقد اعتاد عليها وعلى مثيلاتها. وبلا سؤال وبلا عتاب, يأمره الأب: إذهب ونم.
يغادر حميد على عجل مهرولاً صوب الحجرة, صوب الغياب, صوب النوم.
- نم يا حميد..
- بالله دعوني أحلم لكم هذا الحلم..
17
(حلم رآه حميد تلك الليلة)
لم تكن الأيائل, الموشّاة جباهها بالحناء, تعرف أين تذهب في حلم النائم في طمأنينة تحت ظل الصفصاف, على أعشاب طريّة كانت تحاور همساً أصداء المياه البعيدة..
الأيائل الموشّاة جباهها بالحناء, المدهونة أعناقها بشعائر الينابيع, مذعورةً تطرق شبابيك الجهات بأظلافٍ مذعورةٍ.
وفي المدى المسيّج بالمكائد, المدى الذي يشبه حلبة العدم, تعدو الأيائل فتعدو معها الرياح والظلال والغبار والمرايا وأشباح الظهيرة..
تعدو وتجادل الغيب بعويل الإرتياب.
وحده الأيّل ذو القرون المثقلة بالسديم, المضرّج باليأس, يخرج عن مدار الرعب معتزلاً ملهاة الأزل, ويرخي لهاثه بين هاويةٍ وهاوية..
وإذ يميل برأسه جانباً ليستطلع الأفق المتكئ على فراغ شاحب, يخترق عنقه الرهيف سهمان مبللان بالضغينة..
آنذاك, تشعّ عيناه في امتنان بالغ, كأن يداً رحيمةً تلاطف عنقه الرهيف, ثم يخرّ ببطء كبطء الأزل.. كمن يذهب إلى النوم.
18
في الليلة ذاتها, دخل زكريا بيته المعتم محتمياً بذاكرته الطرية التي تدلّ البيت موضعاً موضعاً فترشد قدميه عبر الظلمة الفائضة والأشياء المبعثرة, وهو لا يزال يحمل بيده قناعه المخيف الذي حصل عليه يوماً بين أكوام من القمامة ومنذئذٍ راح يضرّج بالفزع وجوه من يعرفهم ومن لا يعرفهم لمرأى هذا القناع المخيف والعدائي, أما زكريا نفسه فيهدر ضاحكاً في سخرية ضارية من ملامح الرعب التي ترتسم تلقائياً على الوجوه ومن صيحات الذعر التي تبدو له هزلية.. وضاحكاً يفلت من الملاحقات ومطالبات الثأر.
وها هو الآن, هادئاً في بيته الهادئ, يخلع درع المحارب ويدخل - كالنصل - غشاء العتمة فيبصر شظايا ضوء مهدورة خارج حجرة أمه: لا تزال ساهرة مع آلة الخياطة العتيقة, ومع مقصها وإبرها وأزرارها وخيوطها الملونة وأقمشتها المتنوعة. يتحرك زكريا نحو الحجرة بشيء من التثاقل بشيء من الضجر, وفي طريقه يرمي القناع جانباً ليحط برشاقة وبدقة في علبة كرتون كبيرة مكتظة بالأشياء.
يدخل الحجرة فيرى أمه جالسة, منحنية على آلة الخياطة, عاكفة على خياطة ثوب لإحدى الجارات. هكذا تحصل على قوت يومها, هكذا تعيل نفسها وولدها الوحيد, هكذا تفرش أيامها كالملاءة وتصل اليوم باليوم بخيوط متقشفة لكن محكمة.
ودون أن تتوقف عن الخياطة توجّه نحوه نظرة حادّة, قاسية إلى حدٍ ما, ومشحونة باللوم لأنه جاء متأخراً, ثم تدير بصرها إلى آلتها. زكريا كان قد جلس بعيداً عنها قليلاً, مسنداً ظهره إلى الجدار, من غير أن ينظر إليها أو يكلمها.
الإثنان صامتان, يعذّبان الحيّز بحفيف حوار داخلي لا يُسمع, مثل غريبين محرومين من اللغة المشتركة.. وكل منهما يعتصم بخواطره الخاصة. بعد دقائق يخلخل زكريا التوازن المفترض بالسؤال الذي لم يعد بريئاً, أو بالأحرى, لم يعد محايداً, بل صار مشوباً بالإتهام وربما الإدانة.
بنبرة فاترة, منخفضة, يسأل زكريا: متى سيعود أبي?
بحدّة وانفعال تلتفت إليه أمه, وبنبرة متوترة تجيب بسؤال مضاد:
- ألن تكفّ عن طرح هذا السؤال كل ليل?
بهدوء يرد وهو لا يزال ينظر أمامه:
- ليس قبل أن أعرف كل شيء.
- ماذا تريد أن تعرف أكثر?
- كل شيء.. شكله, طباعه, عاداته, والأهم من كل هذا.. لماذا لم يعد بعد?
- لا أدري.. وكيف لي أن أعلم? قلت لك ألف مرة, دخل البحر وأنت صغير ولا أعرف ما الذي حدث له.. ربما غرق, ربما هاجر, ربما.. ألا تفهم?
- لماذا يغضبك سؤالي عنه?
- لأنك لا تريد أن تصدقني..
ثانية يحلّ الصمت باسطاً حجابه فلا يُسمع في الأنحاء غير أنفاس مرهقة ولهاث متناثر وأصداء أفكار واهنة وصور مختلطة تتجمهر لكن لا يترجمها الصمت.
بعد قليل:
- قم يا زكريا, إذهب ونم..
- سأرى الحلم ذاته.. سأكون واقفاً على الشاطئ وأرى رجلاً لا أعرفه يخرج من المياه.. وفي كل مرة أرى وجهاً مختلفاً لا ينتمي إلى من أعرفهم لكن ينتسب إلى عالم بعيد أو ربما إلى زمن غابر.
19
أذان الفجر.. أوان التأرجح بين النوم واليقظة, بين ليل (يسحب كائناته المولعة بالعبث وأشباحه الممسوسين بالدعابة وجياده السوداء التي كانت تجفل كلما رأت لصاً أو مخموراً, منسحباً معها إلى ضفاف الأبد) وفجر يتمطى ثم يرتقي رويداً عتبات النوم المشعّة بلون الذهب حيث يحتشد أدلاّء النهار.
من هنا, من هذا العلوّ, يمكن رؤية بيوت الحيّ المتواشجة على نحو حميم والتي من باحاتها تنبعث رائحة أطياف كانت تشاطر السكّان السهر والنوم.
من هنا, من هذا العلوّ, تُرى الأحلام الأرجوانية وهي تغادر عبر النوافذ أو الأسطح إلى هضاب الذاكرة أو قبو النسيان.
الشيخ الضرير, الذاهب إلى المسجد, ينقر أثداء الطريق بطرف عكازه.. لا يتقرّى الكمائن فحسب بل يوقظ الجذور لتتقصىّ ما تدّخره الأرض للورثة من أبنائها وأحفادها.
كريم, الخارج لتوه من البيت قاصداً الفرن لشراء الخبز, إنتزعه أبوه عنوةً من نعاس عذب لم يكن يعرج فيه, وها هو يرغب في البطش بكل ما يصادفه فيركل العلب الفارغة والقطط الكسولة.
صياح خلود - وهي تغني أو تضحك أو تعلّق أو تنادي أو تخاطب أحداً - يسبق حضورها دائماً. وما إن تتوقف برهة حتى يضجُ الموقع ويتبلبل, ولا يستعيد النظام والسكون حتى تستأنف خلود خطواتها العجولة كأن قدراً يسوقها بسوط خفي أو كأن ألوفاً من المهمات تنتظرها حتى تتحقق. إنها لا تهدأ ولا ترسو في موضع إلا إذا دعت الضرورة. وعندما يلاحظون صمتها وهدوءها - المؤقت - يسألونها في قلق: ما بك يا خلود, هل أنت عليلة?
إمرأة تتحرك تحت عباءة سوداء تحجب أي سطوع للجسد.
فأر صغير يعدو سريعاُ وفي غفلة من القط الذي يلحس مخالبه ثم يتمطى.
يدان تعجنان الطحين. العجين يُطوى ويمدَّد ثم يوضع في التنّور. جمع يتوافد ويحتشد مُنتظراً, منتشياً برائحة الخبز الساخن.
من هنا, من هذا العلوّ, يمكن أن يُرى كل شيء.
20
وإذ يمرّ حميد, الحامل حقيبته المدرسية, بمحاذاة حجرة والديه, الحجرة المغسولة - وقتذاك - بحباب صباح خريفي, يستوقفه حوار أبيه وأمه الذي يبلغ مسامعه عبر الباب المفتوح والذي يحفّز فضوله, فيلتصق بالجدار متوارياً وينصت.
زينب: متى سوف تسمح لحمزة بالعودة إلى البيت?
عقيل: لم يجبره أحد.. هو الذي اختار..
زينب: مضى على هذا الخصام زمن, وحمزة - كما تعرفه - عنيد وأهوج.. لماذا لا تذهب إليه وتصالحه?
(بشيء من التوتر وهو يشبك أزرار قميصه الذي ارتداه لتوه)
عقيل: لا.. هو المخطئ, وهو الذي عليه أن يأتي ويعتذر..
زينب: (في عتاب) لا تكن عنيداً مثله..
عقيل: نسيتِ? رفع يده ليضربني.. ألا تدركين معنى هذا?
زينب: غلطة لن تتكرر..
عقيل: إنتهينا يا زينب.. لا أريد أن أسمع شيئاً عن هذا..
(منزعجاً من موقف أبيه, يبتعد حميد ليخرج من البيت)
(حائرةً تحرّك زينب يديها بإيماءة يأس, وتهمّ بالإبتعاد, لكن يستوقفها عقيل)
عقيل: (نبرة رصينة, غير حادة) ألا يزال في بيت خاله?
زينب: نعم.. أراه بين الحين والحين..
(يخرج من جيبه نقوداً, يدنو من زينب ويمد يده)
عقيل: خذي هذا إليه..
زينب: أيضاً لا تريده أن يعرف بأن هذا منك?
عقيل يهز رأسه نفياً..
زينب تتناول النقود وهي حزينة. ربما تجد في ما يبعثه إلى إبنها حمزة دليلاً على حب أبوي عميق لا يمكن أن يشلّه خصام, غير أنها تتمنى أن يتخلى كل منهما عن عناده وكبريائه, وأن تعود الأمور كما كانت .
21
كم كنت أمقت المدرسة بكل ما فيها من مدرسين وكتب وكراريس ودروس وفصول واستراحات بين الدروس وواجبات ونظام وانضباط. كان بغضي شديداً لعصي المدرسين الخيزرانية وسيورهم ومساطرهم وأنفاسهم حين تدنو أفواههم من وجهك وتلفحك بالإهانة والشتيمة والبذاءة والتحقير والتسفيه.
لم أحس قط بالراحة والإطمئنان وأنا جالس في الصف متوتراً دائماً, شاعراً بالإختناق. مكان أشبه بالزنزانة رغم وجودك وسط أقران ربما ينتابهم الشعور ذاته.. بدرجة أكثر أو أقل. ثمة دائماً رقيب, حاضر أو خفي, يحصي خفقات القلب وينقض من حيث لا تدري.
وآن يدنو مدرّس التاريخ بخطواته الأفعوانية, مثل قنّاص ماكر لا يرى في المدى غير نبضات فريسته, يدنو الشرك, تدنو البراثن, ومن الخلف تحط الكف الثقيلة على الكتف الواهن وتباشر الضغط وتحكم الشد فيما اليد الأخرى تؤرجح العصا الخيزرانية فتصدر صفيراً خافتاً ومتقطعاً أشبه بالفحيح الذي يثير الرعشة.
- عبدالحميد..
يهدر مدرّس التاريخ بصوته الجهوري فيغمض حميد عينيه مترقباً البلاء الوشيك..
- قم واخبرنا.. من بنى برج بابل?
ممهوراً بالتشوش ينهض حميد, وبلا تركيز يجيب:
- البناؤون..
يضحك التلاميذ.. سخريةً من البعض, وتعاطفاً من البعض الآخر.
ويبتسم نبيل.. حياؤه يدفعه إلى كبح ضحكته, إلى أن يطرق برأسه متمنياً لو استطاع أن يلقّن حميداً الإجابة الصحيحة كي يجنبه العقوبة المحتملة, المرصودة له. نظرات نبيل الخجولة صوب حميد لا تحجب إعجابه به. ورغم أنه يسكن في المنطقة ذاتها - حيّ الفاضل - إلا أنه لم يحاول, أو لم يستطع, الإقتراب منه والتعرف عليه عن كثب والإختلاط به, إذ أن الخط الفاصل بينهما يصعب إجتيازه أو على الأقل, يحتاج إلى مبادرة شجاعة لاختراقه.
نبيل, إبن العائلة الغنية, ليس مسموحاً له مخالطة »أبناء الأبالسة« - كما تسميهم أمه - لذلك فإن خروجه من البيت الكبير كان مشروطاً ومقترناً بعدد من المحاذير.
والآن يغضّ عندما تلتقي نظرته بنظرة حميد الذي يدير بصره وهو يبتسم في ارتباك, عارفاً أنه ارتكب الخطأ ومزهواً - في الوقت ذاته - من فعل الإضحاك الذي مارسه للتو.
ومدرس التاريخ أيضاً يبتسم.. لكنها إبتسامة شريرة, غير رحيمة.
22
في المرفأ الشاخص إلى كتائب الحديد والغبار, تسوّره حمحمات الوحشة بعد أن إستوطن الحنين, المرفأ المشرئب مفتقداً بهاء الأمس عندما كان محض شاطئ:
* بحر ثمل يبعثر زرقته, ونزقاً يحشد أمواجه النافرة مثل جياد غير مسروجة ثم يلكزها فتندفع جمعاً جمعاً لترتطم بستائر المدى الناصعة.
* سرب من البلشون يحوم مستعرضاً أجنحته الرشيقة.. طيور مرحة تحاصر الأشرعة وبغتةً توجّه الأجنحة في انقضاض حاد وهادر - كالنصال - لتزجّ مناقيرها في ما يتناثر من جزر صغيرة رخوة ثم تطلق - كالجوقة - ما يشبه رنين الزبد.
* ضحى عابث, حيناً يصبغ بشرة الأفق بلون الغواية فتومض فيه شقرة منارات وهمية سرعان ما تختفي, وحيناً يفيض كالزبد لتخوض فيه الشاحنات.
* بواخر طافية على الزغب المائي تشدها المراسي الثقيلة إلى أحواضها فتمكث ناعسة, أو هكذا تبدو, وبواخر أخرى شاردة, منفلتة من مرابطها, تحرث المياه بحيازيمها المعدنية فتشطر ثمار البحر وتشيع الفوضى والإضطراب بين القواقع والأصداف.
* عقيل يدهن الصارية الراسية بعرق مهدور منذ أول النهار, يحفّ به الحديد والحبال والصناديق وعمال موكل هو بالإشراف على سير عملهم.. يقاسمهم التبغ والضحك, وعادلاً يحل نزاعاتهم البسيطة. بعين مرهقة - تترقرق فيها الريح - يشهد نزوح سفائن وإياب سفائن, وبعضل مغبرّ - يختلج فيه البأس - يحزم النهار ساعةً ساعةً.
* عمّال عزّل إلا من أمل في انقلاب الحال وتحقق الوعد بحياة أفضل. هبّوا من الفجر وراحوا يهرقون - من بين ما يهرقون - الأوجاع والظنون. يجادلون بسواعد داجنة شروط عمل مجحفة, وحين يرتاحون قليلاً, ينظرون إلى الوميض البعيد فيشتب¯ه عليه¯م الأم¯ر.. أ بلاد ترجّ ثديها المترع بالحليب أم خِباء تتناسل فيه الفاقة جيلاً بعد جيل?
23
هل كان مدرس التاريخ يظن حقاً أنه سوف ينجو من ثأر موتور?
هل تخيّل يوماً أن يرى ما رآه - مصعوقاً - وقت خروجه من المدرسة, بعد انتهاء الدوام, وتوجهه صوب سيارته الصغيرة البيضاء, الجاثمة وحدها في الساحة الخارجية?
وقتذاك, كان حميد ورفاقه ينثرون القهقهات الرنّانة في أرجاء طريق محايد يشهد يومياً عودتهم من المدرسة حتى ملّ حضورهم الدائم ومشاغباتهم الدائمة. كانوا يرسمون في أذهانهم صوراً مضحكة لمدرس التاريخ وهو يقترب من سيارته ويكتشف - مصعوقاً - أن عجلات سيارته كلها مطعونة بشفرات حادة مزّقت الأطر المطاطية على نحو عجول وعشوائي.. كانوا يتخيلون ردود فعله, المتنوعة والأقرب إلى الهزل, فتزداد ضحكاتهم صخباً, أما الأكثر غبطةً والأكثر شماتةً فهو حميد الذي لا تزال آثار العقاب باديةً على راحة يده المحمّرة والمنتفخة نتيجة الضرب المتواصل, المفرط في القسوة, بالعصا الخيزرانية.
لم يشك مدرس التاريخ - بعد أن غادر تخوم الصدمة الأولى - في أن هذا عقاب مضاد, وأنها فعلة لا يمكن أن يرتكبها إلا حاقد مسكون بروح الانتقام.. لكن من يكون الفاعل?
ومن غيره, مفتاح الماهر في القنص, الذي لم يكن بحاجة إلى تحريض زائد من حميد, والذي خطرت له الفكرة في ومضةٍ فتربص بالسيارة مثل قنّاص صبور, وعندما خلا المكان إندفع برشاقة فهدٍ, إلتفت يمنةً ويسرةً, ثم في لمحةٍ غرز نصل السكين في العجلات.
الرفاق الآن يسيرون في طريق آخر. يقتربون من بيت في وسط فنائه تنتصب سِدْرةٌ أثمرت الكثير من النبق الحلو. بوثبات سريعة وسهلة يتخطّون السور الحجري الواطئ - كعادتهم كلما مروّا من هنا - ويصلون إلى الشجرة. يتسلق زكريا الجذع ثم يشرع في هز الأغصان فتتساقط أعداد من النبق التي يلتقطها الرفاق على عجل, ويهربون قبل أن ينتبه قاطنو البيت.
24
ساحة تجاهر بالفوضى والضجيج, فيها يجترح النهار طقوسه الهذيانية ويتمرغ في شرايينها اللهاث, ولا سلطان للحكمة عليها.. ولا للوقت بمحاريثه التي لا تصدأ.
الأعياد جاءت يوماً إلى هنا مع حقائبها المنتفخة, الحبلى بالطائرات الورقية والحلوى, ثم غادرت. كذلك جاءت المآتم مع دليلها الموت.. وثمة وعود بالعودة.
للساحة أسرارها التي تفشيها - بعد أن ترتقي سلالم البوح - علانيةً وبلا ضمير. ومن بين كل الأسرار تصون سر تلك العاشقة, خلود, التي خضّبت ضفائرها برذاذ الحلم ومضت إلى سرير القمر جائعة وسعيدةً.
الآن, في هذا الوقت الواقع بين ظهيرة آفلة وأصيل يتزيّن, يعلو الزعيق, يعلو الرهان, يعلو الحماس من بين حلقة مغلقة من الأجسام الصلبة والفتية والصغيرة.. المتراصة إلى حد اختلاط الأنفاس والتصاق الجلد بالجلد. أجسام متقوسة ومتصلبة وجاثمة بأعضاء متشنجة وعروق نافرة لرجال وشبان وأولاد مأخوذين - بلا استثناء - بما ينسجه المشهد الدائر أمامهم من عنف وما ينثره في الحلبة من ريش ودم.
حلقة واسعة بعض الشيء من الأجساد التي تفوح منها روائح يصعب إحتمالها في وقت آخر لكنها الآن تبدو غير محسوسة أو غير ملفتة. وفي الوسط - فيما يشبه الحومة - ديكان مدججان بكراهية لا يفهمها الحشد المتجمهر حولهما ولا تؤججها صيحات التشجيع والتحريض المبهمة. كراهية متجذرة في الغريزة الحيوانية المستعصية على الفهم والمحكومة, ربما, بالصراع من أجل البقاء.
يضرمان العراك المتكافئ بأجنحة لا تطير لكن مدهونة بالشكيمة, وبأعراف شبقة تنضح منها الضراوة, وبمناقير تندفع لتشك الفراغ تارة وتطعن الريش تارة وتتضرج بالدم. والديكان في انقضاضهما وارتطامهما ببعض ثم تراجعهما ودورانهما يترجمان - لجمهور مغموسة أحداقه في شظايا الفتك - بلاغة العنف.
وبينما يشنان الهجمة تلو الهجمة, جاعليْن التراب والحصى تتطاير تحت أرجل لا تستقر على الأرض إلا برهة, ويسرفان في العراك العارم, يشق حمزة طريقه مخترقاً الحلقة باحثاً عن أخيه حميد الذي يرقب في حماس ما يجري, منفعلاً مع مسار التناحر صائحاً مع جوقة المحرضين:
حمزة يناديه: حميد.
فلا يسمعه.
يكرر حمزة النداء بصوت أعلى: حميد.
يسمعه هذه المرة لأنه يلتفت صوبه ويلقي نظرة عجلى عليه ثم يدير رأسه سريعاً ناحية الديكين متظاهراً بأنه لم يسمع النداء ولم ير أخاه.
غاضباً وبخطى واسعة يتجه حمزة نحوه, يطبق بكفه على ذراعه ويسحبه بعيداً عن الحلقة.
- ناديتك, لماذا لم تجبني?
- ما سمعتك..
- تكذب..
- ماذا تريد?
يتلفت حمزة محاذراً أن يراه أحد ثم يخرج من جيب قميصه ورقة مطوية بعناية ويقول همساً:
- خذ هذه الرسالة, واذهب بها حالاً إلى عفاف..
- أريد أن أتفرج.
- قلت حالاً.. الآن.
حميد يتناول الرسالة على مضض وبلا اهتمام, بل بخيبة شديدة.. وبفتور يقول:
- سمعت أبي يقول, إذا ذهبت إليه واعتذرت فسوف يسمح لك بالعودة إلى البيت.
- لن أعتذر ولن أعود.. أخبره أن حمزة قد كبر ولم يعد طفلاً يعاقب لأتفه الأسباب.. هيا, تحرك.
بتثاقل يتحرك حميد ساخطاً في الخفاء من أخيه الذي حرمه من متعة التفرج. بعد بضع خطوات يستوقفه صوت حمزة:
- حميد..
حميد يستدير, يدنو منه حمزة, ناصحاً في هدوء وبصوت هامس:
- اسمع.. انتظر حتى تخرج من بيتها, وعندما تنفرد بها أعطها الرسالة.. مفهوم? هذا سر, لا تفضحنا..
حميد يهز رأسه في ضيق ويعلّق معاتباً:
- أعرف, ليست المرة الأولى..
- هيا إذن, إذهب..
حمزة يتحرك مبتعداً تصاحبه نظرات حميد الساخرة, والذي يكلم نفسه متهكماً:
- ماذا سيفعل بي لو كان يعرف القراءة والكتابة?!
في هذه اللحظة, تبدر من حميد إلتفاتة جانبية فيرى - مأخوذاً - سلطان مع صاحبٍ له يسيران وهما يتحدثان بصوت غير مسموع..
كم هو آسر هذا الرجل.. بهدوئه وعنفه, بحضوره وغيابه, بقامته وحركاته. وعينا حميد منجذبتان إليه وحده, سلطان, هذا الذي يحتل فضاء الحدقة, ماحياً أي حضور آخر, طامساً كل صوت, والذي يتمنى أن يصير مثله يوماً ما.
25
في طريق ضيق لم يعد مأهولاً بالثرثرات والضوضاء, ولم يعد يسلكه - في هذا الوقت الذي توشك فيه الشمس أن تغرب - غير نفر قليل من العابرين على عجل..
في الطريق الذي يتلوى مثل أفعى أليفة, يسير حميد بتباطوء وراء عفاف التي تمشي دون استعجال.. وكأن الخطى تستدرج الخطى.
بين حميد الذي يحمل رسالة لا يعرف مضمونها, وعفاف التي تحمل كتاباً لا يعرف عنوانه, مسافة مؤثثة بنظراتٍ محتشمة تتقرّى الحيّز في كل سانحة كما للمرة الأولى, ومناجاةٍ واهنة تتعثر كلما باغتها حضور بدا مهدّداً لوهلةٍ, وأنفاسٍ عاكفةٍ بأناة على تنسيق زفيرها وشهيقها. مسافة ترتجل فيها الخطى إيقاعاتها المتناغمة, والنفس تجترح خواطرها, وفيها يطفو كل ما هو متقشف.
يعرف أنها ذاهبة إلى بيت صديقتها. ومثل عددٍ لا يستهان به من الفتيات - آنذاك - لم تكن عفاف تستر جسمها بعباءة سوداء.. كأن حريتها في الإختيار أثيرة إلى حد أنها ترغب في التصريح بها علناً وليس في الخفاء, كما لو أنها تمتحن عادات لم تكن وقتذاك باطشة رغم مظاهر التزمت.
هي نحيلة بعض الشيء لكن جسمها مكتنز بالرقة والنعومة, ولا فحش فيه. جسم حيّ ومتساوق.. وله أريج حلو.
وحميد يبالغ في الحذر - إنسجاماً مع تعليمات حمزة - حتى يتحيّن فرصة خلو الطريق, فيعدو صوب عفاف, وعندما يحاذيها يناديها لتتوقف فتتوقف وتلتفت نحوه, ومعها تلتفت البشاشة والعذوبة. حلو محياها, آسر شذاها, وتبتسم له في رزانة فيبتسم لها بشيء من الإرتباك ويناولها الرسالة.. يلتهب صدغها وترتعش أهدابها خفراً وهي تأخذ الرسالة بأصابع ترتجف قليلاً.
يبتعد حميد. تنظر عفاف إلى الرسالة في حنو وعلى شفتيها ظل إبتسامة يكبر. تضعها في طيات الكتاب وتواصل سيرها.
حميد يعود جرياً, ومعه يجري الطريق الأفعواني, وتجري الخواطر والأسئلة: هل هذا ما يسمى الحب أو الغرام أو العشق? وهل يعرف حمزة كيف يعشق? وكيف لكائنة رقيقة, وديعة, حالمة أن تهوى كائناً جلفاً وفظاً ومشاغباً مثل حمزة? أم أنها لا تهواه بل ربما تشفق عليه.. أو ربما تصده وتتجنبه لكنه لا يكف عن ملاحقتها ومضايقتها.. لكن لماذا تأخذ رسائله دونما احتجاج, دونما تذمر? حتى أنها لا تظهر إنزعاجها بل, على العكس, تبدو سعيدة. ما الذي يعنيه هذا? وهل تمزق رسائله بعد قراءتها أم تحتفظ بها? وما الذي يقوله هذا الفظ في رسائله: أخبار? يوميات? شعر? كلام حلو? ومن هو كاتم أسراره الذي يكتب له رسائله, مع أن جميع أصحابه على شاكلته, وليسوا أقل منه جلافة وخشونة?
يعود حميد جرياً, تاركاً عفاف تطرق الباب بأصابع تنضح غبطةً. وبعد انتظار قصير ينفتح الباب فتدخل البشاشة والتحية والقلب الخافق في وقت واحد.
وفي الحجرة الصغيرة, المراهقة, تتناوب عفاف وصديقتها صفية قراءة الرسالة المحشوة بعبارات الحب والشوق الطنانة التي تفتقر إلى العفوية وإلى الحس الرومانسي, فهي - الرسالة - نتاج روحٍ تهفو وقلبٍ يحب (يتمثل في حمزة الذي أملى ما يريد قوله) وذهنيةٍ تنشد الفصاحة والبلاغة (يتمثل في كاتب الرسالة الذي ترجم المشاعر إلى عبارات وجمل فيها الكثير من الصنعة والإفتعال وبعض الركاكة) حتى أن بعض المفردات أثارت ضحك الصديقتين وفتحت شهيتهما للتعليق والتندر على المبالغة المفرطة.
بعد دقائق تسألها صفية:
- هل ستردين عليه هذه المرة?
- لا..
- لماذا?
- لأنه لا يعرف القراءة..
تضحك صفية, وتبتسم عفاف في مرارة ثم تضيف:
- وهذا هو عيبه الوحيد..
- الوحيد?!
- أحياناً يحاكي ممثلي السينما في لباسه وحركاته..
- فقط?
تتنهد عفاف ثم:
- أعرف أن لديه عيوباً كثيرة لكن..
- تحبينه?
26
القمر الساهر مع ندمائه الفوسفوريين,
هذا الذي ما مرّت أمامه عاشقة أو عاشق حتى ارتج وجْداً وأوفد هالات من الأشعة الزرقاء لتحوم فوق الملاذ وتسعّر الخلوة بالشهوة,
هذا الذي حيناً يطأ عراء الأبدية بحوافر من ضوء وحيناً يتدحرج بين أحصنة كونية تعدو, قارعاً أجراسه وسط الصهيل مثل جوّال يعرف مسالكه ولا يخشى التيه, حتى استقر هنا, في بهو السماء المرصّع بالثريات, ليطل بلا جلبة - لكن بشيء من الدهشة - على سطح بيت حمدان العامر.
وها هو الآن يرشّ بعضاً من أندائه القرمزية فتدبّ في خلود (النازحة خفيةً من إقليم النوم لتصعد إلى هنا كالسائرة في نومها وترنو مأخوذةً حتى تدبّ فيها) نشوة لا مثيل لها ما إن يلامس وجهها الندى المترذرذ كما لو أن شفرة رهيفة قد فضّت روحها فأنّت وتأوهت بلا وجع.
على السطح, غير وجلة, تزيح خلود الثوب عن صدرها ببطء لتعرّي نهديها الصغيرين فترتطم فراشات من ضوء بالحلمتين المحمومتين اللتين ما مسّتهما بعد أنفاس بشرية.. عندئذ تشهق خلود ويشهق القمر ويشهق الليل, في وقت واحد, وتشعر خلود ببذرة المعجزة تتوغل في أحشائها فتندّ من حنجرتها آهة خافتة وخجلة. والقمر يحنو ويهرق لبن التناسل على سمرة فخذيها, يحدب ويبلل شعرها بنثار غيمة عابرة, ومن فرط الفرح تجهش خلود بالبكاء.
في المدى الذي يحتله القمر - بأندائه القرمزية وأقنعته المبهرجة وأهوائه التي لا تُحصى - من سطحٍ شهد للتو ما لم يشهده من قبل, تضطجع خلود خفيفةً مثل عروس ما عادت عذراء, شفيفةً مثل حلم شفيف, لتنام قريرةً, باسمةً, وفي بؤبؤ - أشبه بمهدٍ - يتأرجح قمر وليد.
27
من منعطفات الليل المبعثرة عشوائياً في جغرافيا حيّ تتحول تضاريسه على مهل شديد (ليس بسبب نقص في البنائين أو تقاعسهم ولكن لأن الإستثمارات لم تجتذب بعد رجال الأعمال وتجار العقارات والدلالين) يأتي مفتاح مع بشرته السوداء التي تبدو الآن كما لو أنها مستعارة من غشاء الليل أو كما لو أنه خارج لتوه من رحم الليل, معفّراً بسديم الأزقة وهدير الرفاق, متخماً - كالعادة - بدويّ الشقاوة.
وما إن يدخل بيته المبني من سعف النخيل, المضرّج بالعتمة والكآبة, المنذور للحريق, حتى يبصر المشهد ذاته, الذي يتكرر بإلحاح مثل شريط يعاد عرضه ليلةً بعد ليلة. ويسمع الكلام ذاته مع تغييرات طفيفة تقتضيها الحالة الإنفعالية: أبوه الثمل إلى حد الترنح ورؤية الأشياء تتناطح أمامه وخارج سيطرته فيما يوجّه ما يخطر له من زجر وتوبيخ وسخرية إلى زوجته - أم مفتاح - الواقفة قبالته تصغي, أو ربما لا تصغي, في خضوع لكن دون خوف كمن اعتادت على فعل روتيني حتى صارت تستجيب إليه بآلية, على نحو لا إرادي تقريباً, وبضجر بالغ لكن دون أن تفصح عنه..
هذه المرأة التي ما أفصحت عن مشاعرها لأحد, ولا أفشت أسرارها لأحد, ولا أهدرت أشجانها أمام أحد. هذه التي تزوجت من يترنح قبالتها الآن دون أن تعرفه أو تتعرف عليه وقتذاك, فما كان من حقها أن تسأل أو تقترح أو تبدي رأياً لأن »الرأي رأيك يا أبي«, لذا لم تره إلا قبل أن يفضّ بكارتها بساعة أو دقائق كأنها أيام من رصاص. وجاءت النطفة الأولى في هيئة مفتاح, ثم تلتها نطفة أخرى اتخذت هيئة كائن ميت, بعدها كفّ عن إطلاق نِطافه في رحمها, إذ لسببٍ ما - يجهله كلاهما - توقف عضوه عن الإنتصاب, فصار عصبي المزاج, كثير الإنفعال والشجار, وعندما يستفحل القهر ويستبد الغمّ يعتكف منتحباً, مثقلاً بالرثاء.
ومذ ذاك راح يتعاطى الكحول حتى أدمن عليه. أما زوجته فقد فهمت سبب بكائه الأخرس عندما يرقد بعيداً عنها, محاذراً أن ترى وجهه, لكنها لم تفهم لماذا ينبغي أن تكون هي الهدف الدائم لعنفه البدني واللفظي كلما عاد مخموراً.. وكما يحدث الآن فيما يترنح على نحو أخرق ويلفظ ما في جوفه من شتائم وإهانات تسمع بعضها وتتجاهل بعضها, تاركةً إياه يتخبط في متاهة الكلام ويقول من بين ما يقول:
- ضاع عمري معك, هل تعلمين ذلك? أهدرته هباءً ودون تروٍ. لم أفكر. كيف لبغل مثلي أن يفكر. رميت نفسي في التهلكة دون أن يجبرني أحد. أكبر خطأ, أكبر خطأ ارتكبته في حياتي أني تزوجتك. كنت مغفلاً. أكبر مغفل. لماذا تزوجتك, ها? لا مال ولا جمال, كأنك.. تزوجت عقربة راحت تمص دمي يوماً بعد يوم. أعصريني, لن تجدي دماً. أغرزي إبرة. هيا, جربي.. هنا, في ساعدي.. أراهن لن تخرج قطرة دم واحدة. ماذا فعلتِ بي, ها?.. ماذا فعلتِ بي?
- إياك أن تلمسها..
يصيح مفتاح, وهو في مكانه يسمع الشائن من الكلام, حين يرى أباه وهو يهمّ بالإنقضاض على أمه.
وفي لحظات كهذه - رؤية الأب وهو يهدّد أو يعتدي بالضرب على أمه, يستحضر مفتاح الضغينة في الحال, يستدعيها من أعماقه حيث تسكن مكبّلة ويهيب بها أن تكفر بروابط الدم وتبطش بلا هوادة.
واستجابةً لصيحته, يمتنع أبوه عن مهاجمة أمه لكن ليس خشيةً, إذ يستدير بتثاقل وعلى وجهه ابتسامة طافحة بالتهكم والإزدراء.. وبصوت بطئ سكران:
- أهلاً.. جاء من سيرث أملاكي.
ثم يتقدم نحوه بخطوات لا يستطيع أن يتحكم في إيقاعها حتى يتوقف أمامه مترنحاً, ومعه تترنح الرائحة الكريهة لأنفاس مخمورة.
- هيا يا بطل, أضربني.. دافع عن أمك يا ابن ال¯....
مفتاح يبتعد حانقاً وهو يرخي قبضته, فيصيح أبوه:
- لا تهرب يا جبان.. تهدد أباك يا كلب..
وبحركات خرقاء, يدبّ فيها الوهن تدريجياً, يلاحق إبنه الذي يبتعد عنه متحاشياً مواجهته:
- لماذا لا تواجهني? لماذا لا ترد? خائف مني أم تحتقرني? أكلّم جماداً. هي جماد وأنت جماد والدنيا جماد. لا أحد يسمعني. لا أحد. مثل الحنش تدخل وتخرج ولا أحد يعلم أين تذهب. في هذا البيت أنا أعيش مع عقربة وحنش. تهدد أباك يا حنش? واجهني إن كنت تملك ذرة من الشجاعة.. لا, لست رجلاً.. ولن تكون رجلاً.. مثلي..
في هذه اللحظة, حين يشعر مفتاح بأنفاس أبيه - المثيرة للإشمئزاز - وهي تهبّ نحوه من الخلف, حين يشعر بثقل حضور أبيه حتى دون أن يلتصق به, يستدير مفتاح بحركة سريعة ومفاجئة, ويحط كفيّه على صدر أبيه ويدفعه بقوة فيتراجع الأب خطوتين ثم يسقط على الأرض.
يتخذ مفتاح وضعية من يريد أن يدافع عن نفسه, متحفزاً, ومتوقعاً أن ينهض أبوه هائجاً. لكنه يظل منبطحاً على ظهره, مغمض العينين, ولا يبدي حراكاً.
بهدوء, وبلا مبالاة تقريباً, تقترب أم مفتاح. تتوقف عند رأس زوجها ناظرة إليه في حياد تام. بعد لحظات, يفتح عينيه فيراها ولأول مرة تبدو - من منظوره - شامخة ومهيبة. وجهه الآن لا يشفّ عن عنف أو غضب بل سكينة غير متوقعة, كمن استيقظ لتوه من نوم رائق رأى فيه حلماً سعيداً. ويبتسم لها.. ليست تلك الإبتسامة التهكمية, الخبيثة, التي تنضح إزدراءً.. بل هي ابتسامة حنو أو تعاطف أو ربما إعتذار.
غير أن زوجته تظل واقفة مكانها, مطلة عليه بوجه جامد.. محايد تماماً.
28
كريم لا يعرج في حلمه. ينسل من النوم إلى الحلم برشاقة ريح, ويقفز من مشهد إلى مشهد مثل سنجاب عابث, مانحاً الصور أشكالها والكائنات أقنعتها. بلا كابح يحزم البستان نخلةً نخلةً, أو يصنع من الثلج الهاطل سياجاً لحيوانات من ثلج.. غير أنه كان شحيحاً في سرده للأحلام, فما باح لي إلا بالقليل, وكأنها أسرار ليست للإفشاء.
والآن أذكر بوجه خاص حلماً لا يزال عالقاً في ذاكرتي دون أن أعرف سبباً لذلك, فهو ليس حلماً فريداً من نوعه, ولا أعتقد أنه يحمل دلالة عميقة أو قيمة محددة, مع ذلك استطاع ان يصون نفسه, على نحو خارق, من غارات النسيان.. ربما لأن كريماً, بعد أن أنهى سرده للحلم, اغرورقت عيناه فأشاح بوجهه خجلاً, مستحياً أن يبكي أمامي. ربما. لا أدري.
فقد رأى نفسه يمشي, دون أن يعرج, على مياه مجمدة. واكتشف بأن الطرقات والأزقة كلها تحولت إلى مياه مجمدة فاغتبط وراح يتزحلق ويدور بحركات راقصة وينتقل من موقع إلى آخر بسهولة ورشاقة, وأحياناً يرتمي على الجليد ويتدحرج ضاحكاً, شاعراً ببرودة خفيفة. وكان هو خفيفاً كأنه يطفو إذ لم يكن لقدميه وقع.. كما لو يمشي على بساط وثير. لكن فجأة توقف وأدار بصره في الأرجاء, واستدار حول نفسه, حين إنتبه إلى أنه كان وحيداً تماماً في الأماكن التي ارتادها قبل قليل. لم يكن هناك إنسان أو حيوان أو طير. لم يكن هناك صوت أو حركة أو حتى أمارة لحياةٍ ما. لم يعد هناك غير فضاءات شاسعة وموحشة. ولما أطلق النداء تلو النداء تردّد في الأنحاء صدى مخيف.. ولم يكن صدى صوته.
29
في فسحة فاصلة بين دروس ودروس, في ساحة مدرسة حديثة البناء, خاصة بالمرحلة الإعدادية, وعلى مهلٍ كمهْل غيمة تحبو, يدنو نبيل من حميد الواقف وحده تحت شجيرة يتفيأ بها.
وأثناء اقترابه, كان حميد يرمقه في هدوء وهو ينتقل سريعاً من تخمين إلى تخمين دون أن يستقر, حتى يتوقف نبيل أمامه مبتسماً بشيء من الحرج, بشيء من الإرتباك, وليس في ملامحه ما ينبئ عن مشكل.
- ماذا تريد?
- أن أتكلم معك..
- بشأن ماذا?
- لقد رأيت ما فعلتم بسيارة المدرس..
- وهل وشيت بنا?
- لا, وليس في نيتي أن أفعل ذلك..
- هذا أفضل.. لا تتدخل في ما لا يعنيك..
- منذ مدّة وأنا أرغب في الإنضمام إليكم..
- إلينا? نحن?
- نعم..
يعرف نبيل وأهله. أغنياء. أبوه تاجر يبيع المجوهرات. يسكن بيتاً يتميّز عن بيوت حي الفاضل بارتفاعه ومساحته الكبيرة وتكوينه المعماري الملفت وبابه المتين المزخرف. وهذا البيت, بهندسته وحجمه, يبدو شاذاً في موقعه بين بيوت أخرى واطئة, فقيرة المظهر, وملآى بالتشققات والصدوع. ولهذا يتسم بالفخامة المفرطة.. وبالغرور أيضاً. وكم تمنى حميد, أثناء مروره, أن يدخل هذا البيت ليتعرّف عليه حجرةً حجرةً ويكتشف موجوداته رفاً رفاً.
لكن بسبب ابتعاد نبيل وتجنبه ليس اللعب مع أولاد الحي فحسب بل حتى الاحتكاك بهم, وبسبب تلك الحساسية المتأصلة في الذات منذ الصغر تجاه كل ما هو غني وباذخ ومترف.. أي كل ما هو مضاد لذات نشأت في وضع اجتماعي مختلف واكتسبت سجايا وطبائع لم تحرفها الطموحات بعد, فقد تولدت ضغينة غير معلنة, لم تجد تعبيرها في تصرفات ظاهرة بل ظلت قاطنة في الداخل, وإذا تصادف خروجها لسببٍ ما فإنها تموّه نفسها لئلا تؤول بوصفها غيرة أو حسداً, وسرعان ما تعود إلى شرنقتها. التجاهل كان أحد أشكال التمويه.. فعلى الرغم من حضور نبيل العابر في الحي, وحضوره الدائم في الفصل, إلا أن حميداً كان يتجاهله تماماً, ينفيه, يسلبه وجوده وكينونته بتحاشي النظر إليه, فلا يعود موجوداً, لا يعود حياً.
لكن عندما جاء إليه نبيل, ووقف أمامه بملامح لا تنبئ عن مشكل, وعرض عليه صداقته, لم يعد نبيل شبحاً أو محض طيف, بل اكتسب فجأة كينونة ملموسة وحضوراً مادياً. وطفق حميد ينظر إليه مذهولاً, أو بالأحرى, مصعوقاً حتى أنه ظل دقائق صامتاً قبل أن ينبس بكلمات مرتبكة.
موقف الحيرة والإرتباك شمل الرفاق أيضاً حين أخبرهم حميد بالأمر. ولأن المسألة تستدعي الحسم فقد انقسم الرفاق بين مؤيد ومعارض. مفتاح وزكريا عارضا انضمام نبيل بذريعة أن طبيعته مختلفة وربما يسبّب أهله مشاكل هم في غنى عنها. حميد وعزوز وافقا بلا شروط كمكافأة لنبيل على عدم وشايته بهم. أما كريم فقد أبدى تحفظه لكنه لم يمانع.
هكذا ترجحّت كفة القبول وانضم نبيل إلى المجموعة, حيث استطاع في فترة قصيرة أن يبدّد شكوك مفتاح وزكريا, ويكسب رضاهما. ومعهم راح يحث المكبوح على الإنعتاق ويرخي عنان الشقاوة, وينقض بمرح سافر, غير مألوف, تعاليم العائلة بشأن وجوب إتخاذ جانب الحذر والحيطة والإرتياب في كل ما هو خارجي وغريب. وعندما تأتي أمه لتوبخه, تضطر إلى إرجاء الشدّة والقسوة لا لعدم خطورة السلوك, ولا لإحساسها بانهيار سلطتها, إنما لأنها لم يسبق لها أن رأت إبنها بشوشاً وخفيفاً إلى هذا الحد.
كنا نستأجر الدراجات الهوائية وننطلق عبر الأزقة الضيقة والملتوية خارجين إلى طرقات أوسع وشوارع أرحب, حاملين معنا الضحكات الصاخبة والتعليقات اللاذعة والصيحات البدائية التي تجهر بالإنعتاق من أي رقابة, وتهيب بالطرقات أن تفسح مداها لانطلاق الأجنحة.
كنا نعبر الدروب المبلطة والوعرة, نجوب الأحياء المجاورة فيما تلاحقنا النظرات العدائية ونباح الكلاب, نحاذي البساتين المسورة, نستريح ونتابع متنقلين من مكان إلى مكان حتى نشعر بأن الموعد قد حان للعودة إلى حيّنا الأثير.. هذا الذي نحس في أرجائه بالأمان والطمأنينة, الذي نراه حضناً رحيماً نشتاق اليه كلما خطونا خارج تخومه لسببٍ ما, الذي نحسبه عاصمة للكون.. منه تبدأ الأشياء وفيه تنتهي.
كنا نهرع إلى البحر كلما لفظت البواخر أطعمتها الفاسدة, المنتهية صلاحيتها. نخلع ملابسنا ثم نخوض في المياه متطفلين على مائدة البحر, ونلتقط ما تجرفه الأمواج الهادئة, وما يصل إلينا من معلبات صدئة ومنتفخة, ومن فواكه متعفنة. وبلا حيطة نأكل الأجزاء التي تبدو لنا صالحة أو ما نعتقده غير ضار.
في البحر نتراشق ضاحكين بشرائح بطيخ مرّ الطعم ولا يؤكل. نشق المياه بأجسام فتية تتخبط حائرة بين طفولة يداهمها زمن مستبد يرى بأنها شاخت في أعضائنا وآن لها أن ترحل فيما هي تريد أن تتشبث بمواقعها, ورجولة ترجلت للتو وجاءت تطرق عضلاتنا لتمتحن شكيمة الجسد ولتجسّ نواة الذكورة في الخلايا. فوقنا تحوم رياح خفيفة لا نعرف من أين تهبّ وإلى أين تعدو كالأفراس. ومن بعيد يطل علينا - بلا اكتراث - أفق محدودب يرقب تحولات البحر ليعرف كيف يتجانس معها في اللون والمظهر.
كنا نخرج عصراً من صالة السينما كمن يخرج من سبات.. بأجساد مسلوبة أومغمورة في خليط من عصارة اليقين وكحول الوهم. وفي المسافة التي تفصل خروجنا من العتمة ودخولنا في الضوء, تتحرك الذاكرة في سرعة خاطفة لتسفح أمامنا ما اختزنته من صور متلاحقة ومتداخلة فنحاكي في جذل ما شاهدناه من عراك.
ساعات قليلة كنا فيها رهائن شاشة أشبه بنافذة جوالة تطل على حقول وبيوت وجبال, وفيها تتزاحم الصور والأصوات والحركة.. وها نحن نزاحم أشياء الواقع بحضور ضاج, دليلنا حواس مرتبكة لا يزال يتجاذبها يقين الواقع من جهة ويقين الوهم من جهة.
وكلما عاد نبيل إلى بيته مبتلاً بالغبطة, حدجته أمه بنظرة فيها من الإرتياب الكثير, وتهم بتوبيخه لكن ما إن ترى على وجهه البشاشة وفي عينيه الألق حتى ترجئ ذلك, وترخي أهدابها, وتهمس لنفسها قائلة:
أخشى مما سيفعله به لقطاء البليّة.
30
في صباح يميل طقسه إلى البرودة قليلاً, وفي موقع لم يشهد بعد حضوراً كثيفاً لبشر ضاجين يعبرون فوجاً فوجاً أو يتبعثرون في أركانه كما اعتادوا كل يوم, يستند حمزة إلى جدار بيت وهو متأنق على طريقته الخاصة, أو بالأحرى على طريقة نجمه السينمائي المفضّل حيث ياقة القميص المرفوعة وخصلات الشعر المتكومة أعلى الجبين.
لكن للمرة الأولى في حياته يحمل كتاباً لا بد وأنه استعاره من شخص ما أو ربما سرقه من مكتبة ما. ومن غلافه الذي يفتقر إلى اللمسات الجمالية نعرف أنه كتاب عن مغامرات أرسين لوبين, ذلك اللص الظريف والداهية الذي دوّخ الشرطة الفرنسية.. وهذا الموضوع يجهله حمزة لأنه ببساطة لا يعرف القراءة بل يتظاهر بها. وليس في الأمر أي غموض. إنه فقط يريد أن يعطي عفاف إنطباعاً حسناً عنه, وأن يُظهر لها بأنه يحب الكتب مثلها تماماً..
ولهذا هو يقف الآن قبالة بيتها, مستنداً إلى الجدار, رافعاً الكتاب كما لو يرفع برهان حبه, أو يقدم الشاهد على حبه. حيناً يحدّق في الصفحات المزدحمة بحروف سوداء تتراكض على البياض مثل كلاب سلوقية تلاحق طرائد لا تُرى.. حروف ملتوية, متشابكة بإباحية, عصية على التهجي والفهم. وحيناً يوجّه بصره إلى البيت المقابل, شاخصاً في الباب, راجياً أن ينحسر عنه وجه حلو تزهو الإبتسامة على محياه فيقدم إليه الكتاب شفيعاً, ويقدم القلب رسولاً.
وعندما يبعث نظراته - في احتشام - صوب البيوت المجاورة, ويتركها تسرح كيفما اتفق, يتراءى له فجأة أن الشبابيك عيون.. عيون كالمناجل تهتك سره وتفترع خصوصية اللحظة, فيرتعش قليلاً من فرط التوتر المباغت, غير أنه يتمالك نفسه بعد لحظات ويحافظ على رباطة جأشه, فما جاء من أجله يستحق المجازفة.. والعراك أيضاً إذا لزم الأمر.
كان حمزة يعرف - من خلال رصده الدقيق والصبور - أن عفاف تخرج في مثل هذه الأوقات, ويومياً تقريباً, لزيارة صديقتها صفية. وها هو ينتظر.. تحفّ به عناقيد الشوق, وملء فؤاده حب لا يعرف إلى أين سيفضي به.
أخيراً تخرج عفاف, من باب كان موصداً على عالم مستور يستحيل إختراقه, ومعها تتهادى ريح رشيقة محملة بالطيب, تهب بخفة فتنتعش روح حمزة وينتفض قلبه غبطةً ويرتعش الكتاب بين أصابعه برهةً فيما هو يتطلع نحوها مأخوذاً بطلعتها. وللحظات لا يحيد بصره كأنه صار أسير حضورها, غير أنه سرعان ما ينتبه لنفسه فيرتبك قليلاً وينكس رأسه لئلا ينفضح - أو يفضح الحالة - عند مرور عابر سبيل.
أما هي, التي كانت واقفة خلف النافذة - دون أن يلمحها - ترقب مكوثه الواهن, بصبر نافد, قبالة البيت, وتخبطه الأخرق بين حروف تعرف جيداً أنه غير قادر على ترويضها ونوافذ ترشقه بالإرتياب, فقد أسعدها كثيراً أن تجده قابعاً هناك, رابضاً هناك, راغباً في إثبات جدارته بكتاب لا يؤخذ بشهادته. وها هي تخرج, متظاهرة بعدم الإهتمام, كأنه غير موجود, لكنها توجه إليه نظرة واحدة, سريعة وخاطفة, من خلالها تريد أن تقول ما لا ينبغي أن يقال, بلغة لا تعلم إن كان قادراً على ترجمتها أم سوف يحتار في تأويلها كما هو الحال مع كل شيء غامض.
تمشي عفاف فيطفو من حولها العطرُ, وحَبَابُ صباح مطرز بأناشيد صباحية لا تكاد تُسمع, وكذلك يطفو هديل شتاء لا يزال في أوله ولم يطلع له ريش بعد. وحمزة الذين أوجعه الإنتظار والتظاهر, يتحرك بدوره - بعد أن يتلفت - نافضاً هواجس كادت أن تفتك بأعصابه, تاركاً بينه وبينها مسافة تموّه فضاءها بقناع البراءة حيث لا ضلالة ولا انتهاك لتقاليد صارمة. وعبر هذه المسافة - عندما تخلو من رقيب أو متطفل - يرمق بلا تردد القامة التي تمتشق شباب الجسد متباهية بالنضارة, ويصيخ إلى رفيف الخطى الأشبه برفيف الأجنحة. كل خطوة ختم. والأرض تصير عشباً أو سجادة وثيرة. كيف يترجم الحب, الشغف, الهوى, الولع? كيف يترجم كلمات لا تقول المشاعر بالدقة التي تقولها آهة أو أنّه أو نأمة أو شهقة?
ينعطف خلفها في طريق آخر, أقل اتساعا لكن أكثر إيحاءً بالأمان. وعندما يطمئن إلى خلو المكان, يجازف ويغذّ في السير حتى يصير خلفها مباشرة.. إلى حد أن نفحة من عطرها تهبّ عليه فجأة فتسكره للحظة.
وهي تندهش لجرأته ووقاحته, وإن كانت - عمقياً - تحبذ ذلك.. ودون أن تتوقف, تقول بصوت خافت, مبحوح, لكن مشحون بالعتاب مع شيء من الإستنكار:
- ماذا تريد مني?! إبتعد عني..
- ليس قبل أن أعرف..
- تعرف ماذا?
- مصير رسالتي..
- أي رسالة?
- لا تتظاهري.. أخي حميد سلّمها إليك..
- لم أقرأها..
- لماذا?
- أخشى أن يرانا أحد.. إبتعد
- لماذا لا تريدين أن تكلميني?
- الجميع يقول أنك بلا مستقبل..
- سوف أبحث عن وظيفة
- كيف وأنت لا تملك شهادة..
- ومن يحتاج إلى شهادة هذه الأيام.. يكفي الواحد أن يقرأ ويكتب..
- لكنك لا تعرف القراءة ولا الكتابة..
- وهذا الكتاب? أليس دليلاً على معرفتي القراءة? ثم أنني أحب الكتب كثيراً.
- يقولون أنك إبليس..
- وأنتِ, ماذا تقولين?
كانا يتحدثان همساً - لئلا يفشي الهواء خصوصية الكلام ويفضح ما بينهما - في زقاق يشهد بحيادٍ براءة الحب.. الحب الذي في أوله, الذي تشوبه السذاجة والرعونة وشيء من الجنون, لكنه بلا نوايا شائنة. حب لا يؤذي لكنه عرضة للأذى بسبب هشاشة حصونه.
إنقطع الحوار مع الإنعطافة التالية حيث الطريق صار ملغوماً بالاحتمالات غير السارة, إذ قد يعلن عن حضور فرد في أية لحظة, والأصوات والحركات يمكن أن تنبجس بغتةً ودونما إشعار. لذا يستدعي الحذر من حمزة أن يتباطأ في سيره بحيث يترك مسافة بينه وبينها.. مسافة مزدحمة بوجع الشوق, بالجوع الذي لا يجد إشباعاً, وبالخيبة الفائضة.
من الجهة المقابلة, يأتي بقّال يقود حماره المحمّل بسلال ملآى بأصناف من الخضروات, وينادي على بضاعته بنبرات عالية, حادة وغير مفهومة.
عفاف تصل إلى بيت صديقتها صفية. تطرق الباب فيما يزداد البقال اقترابا. أما حمزة فيظل واقفاً على مبعدة, موجهاً نظرات الخيبة والقهر صوب عفاف التي كما لو تشعر بوطأة النظرات فتلتفت مرسلة إليه نظرة رجاءٍ, رجاء بأن يغادر سريعاً, وهي نظرة سريعة, متوترة ومرتبكة.
ينفتح الباب لحظة وصول البقال قربها. باب مثل فم وحشٍ ابتلع حبيبته في لمحةٍ دون أن يقدر على فعل شيء. لماذا يعاملني دهري هكذا? لماذا يمنع عني ما يهبه إلى الآخرين بسخاء? لم لا يشفق?
غير أنه لا يحصل على إجابات فورية من دهر لا يكترث به كثيراً. البقّال الذي لم يرفع عقيرته منذ دقيقة كي يريح حنجرته, يحاذي الآن حمزة الذي يرمقه بعدائية ثم فجأة وبلا مبرر يوجّه نحو حنك البقّال لكمة خاطفة وقوية تطرحه على السلال.
حمزة يتحرك مبتعداً, ببساطة ودونما استعجال, كأنه لم يفعل شيئاً, كأن شيئاً لم يحدث.. تاركاً البقّال يئن ويسبّ ويمسح الدم النازف من فمه.
وأثناء سيره, يقذف حمزة الكتاب بعيداً.. في غيظ شديد.
31
"فعلتها يا عزوز?!"
تساءل مفتاح أثناء استغراقه في ضحك صاخب شاركه فيه حميد وكريم وزكريا.. أما نبيل فقد تطلّع إليهم في حيرة, مبتسماً ببلاهة, غير قادر على افتعال ضحك بسبب شيء لم يستوعب مضمونه جيداً. لذلك فإنه الآن يستدعي الذاكرة لتستعيد ما رواه عزوز لعله يدرك مصدر الدعابة ويكتشف الدافع إلى الضحك.
كانوا في الخرابة يلهون مع جراء تتخبط في فراغ الغبار عندما جاء عزوز وفي مقلتيه تتفجر ما لا يُحصى من الأسئلة بينما تفشي قسمات وجهه عن ذلك المزيج من اليأس والوهن الذي يعتري من يواجه فعلاً غامضاً لا يستطيع تفسيره ويظن أن عجزه سوف يفضي لا محالة إلى كارثة وشيكة.
إنتحى عزوز جانباً, جالساً على درج السلّم المغبر, مثيراً بذلك فضول رفاقه الذين اقتربوا منه وتحلقوا حوله متسائلين بشيء من القلق: ما بك يا عزوز?
طالع عزوز كل وجه في ارتياب:
- لن تضحكوا عليّ مثلما فعل أبي?
- لا, لن نفعل..
- ولن تصفعوني بعدها.. مثلما فعل أبي?
- بالتأكيد لن نفعل.. تكلم يا عزوز فقد بلبلت خواطرنا..
وشرع عزوز يحكي, متأتئاً, عن ما حدث له منذ لحظة دخوله الحمّام ليستحم. فبعد أن تعرّى, نظر إلى ما بين فخذيه ورأى انتصابا مفاجئاً راح يتفرس فيه ويتأمله مأخوذاً بالصلابة والوسامة. بدا الشيء الحيّ مغوياً ومحرضاً على الملامسة.. ومثل فتنة تستدرج الحواس, ترسل الرغبة حفيفها فتمتد اليد التي يرشح منها لهاث نزق. عندها ترتجل الشهوة دوراً منذوراً لمن بلغ مشارف الفحولة. وبأصابع مبتلة بصمغ الغواية أخذ يجسّ مكامن اللذة ويضرّج العروق بنبض فاضح, شاعراً - فيما يطوّق الكائن الفاحش بكفّ عارمة - بأن ما ينضح من مسامه ليس سوى حَبَاب شهوةٍ طال أسرها..
وكلما ازدادت حركات اليد عنفاً, إزداد اللهاث عصفاً واحتدم الشبق حتى لم أعد قادراً على لجم تلك الرعشات الخارجة عن إرادتي, وجسمي كله صار ينتفض, والمكان يدور وأنا أدور معه, حتى جاءت تلك الهزّة.. هزّة أرعدت كياني. إنتفضت. ومن تلك الفوهة الضيقة إنبجس فيض من القطرات الحليبية التي تبعثرت على الأرضية في دفق حسبته لن ينتهي. وللحظات كأنها ساعات مديدة, شعرت بغشيان وكدت أهوي لولا إتكائي على الجدار. ثمة رائحة نفاذة لا أعرف كيف أصفها صارت تملأ المكان وتنسل عبر أنفي مسببة ذلك الدوار البسيط الناشئ من غرابة وجدّة المادة. وعندما هدأت وارتخيت أحسست فجأة بالخوف. حسبت أن ما حدث كان نزيفاً. نظرت فلم أر دماً بل خيوطاً فضية من ذلك السائل الغامض, ومع ذلك لم يغادرني الخوف. لبست ثيابي دون أن أستحم وخرجت راكضاً. ذهبت إلى أبي وحكيت له ما صار معي فضحك. أول مرة أراه يضحك هكذا, بصوت مدوٍّ. استغربت. ظننت أنه لم يستوعب ما حكيت, فأردت أن أكرر له ما حدث, غير أنه توقف فجأة عن الضحك وقاطعني بصفعة - لم تكن أقل دوّياً من ضحكاته - وقال لي متجهماً هذه المرة وكعادته دائماً: لا تكرر ما فعلت وإلا فقدت بصرك.
32
- حميد, هذا سر.. لا أريد لأحد غيرك أن يعرف. إذا علم أحد بذلك فسوف يفضحنا أو يخرّب..
للمرة العاشرة, ربما, يوجّه عزوز تحذيره - همساً - وللمرة العاشرة, ربما, يقاطعه حميد همساً:
- فهمت, فهمت.. كم مرّة يجب أن تحذرني?! ثم أين هي? مرّت علينا ساعة ونحن ننتظر.
- أصبر.. ستطلع في أية لحظة الآن.. أعرف موعدها..
- هذا واضح..
صعدا إلى هنا, إلى سطح بيت عزوز, بعد عودتهما مباشرة من المدرسة, بعد أن زيّن عزوز للآخر المشهد الفاتن الذي يراه يوماً بعد يوم, والذي يتواطأ مع مناخ الظهيرة في إلهاب حواسه كلها, فيشعر بهيجان يجتاح جوانحه ويحرث أطرافه كأنها حراب تشك نصالها في كل شلو من جسده المحتدم.
في الظل, خلف سور واطئ يتواريان مثل صياديْن هاويين لا يستهويهما القنص ذاته بل رؤية الطريدة وهي تتخبط في الشرك. يترقبان حضور فريسة غافلة تجهل ما يخفي لها الفراغ الذي تحسبه محايداً.
من خيوط الوقت البطئ, المديد, يخيطان المكائد دون أن يستقرا على مكيدة لا تخذل. والوقت يمر وهما ينتظران في يأس, في ضجر. وعزوز يشعر بحرج شديد فيتعثر أكثر في الكلام..
- يبدو أنها لن تأتي اليوم..
- لن تأتي?!
- هش, لا ترفع صوتك.
- بعد كل هذا تقول لن تأتي?! قسماً سأقتلك يا عزوز..
- لننتظر دقائق..
في هذه الدقائق الأخيرة, الحاسمة, المفعمة بالخيبة واليأس, تأتي الطريدة المشتهاة لتطأ الكمين المموّه بريش وحشائش, ولتجعل من يكمن خلف الساتر يستنفر العضل والحواس, وينفض ما علق به من فتور وملل, ويمتثل لما تمليه الغريزة. حضور كحضور المعجزة. مثل غياب كان يمتحن شكيمة الإرادة وبأس الشوق. مثل حلم قلما يهب صوره الأخاذة لأحد. والمخبأ ما عاد متكأً للسرائر والنوايا بل صار شفرةً يتكئ عليها عواء أبكم يطلقه مراهقان لم يشمّا بعد نكهة الأنثى.
وها هي - جارة عزوز - تنشر الغسيل على الحبال: ثياب وملاءات.
ليس فاتناً وجهها. جمال عادي, غير ملفت, غير صارخ. لكن الفتنة في جسدها. ذلك ما يميزّها عن بقية النساء. جسد باذخ يجنح إلى الإغواء - رغماً عنه - بما يبيحه من مساحات متفرقة من العري.. خاصة عند الصدر. ولون البشرة - الشبيه بلون الحنطة - يضفي بعداً إثارياً آخر على هذا الجسد الذي يتحرك في زهو متباهياً على نحو لا إرادي بالاكتناز, مطمئناً إلى غياب التحديقة الذكورية في موقع كهذا.
وحين تنحني على الطست, لتلتقط لباساً معصوراً بفعل الغسل, يتجلى نهداها من تحت الثوب إلى حد الإنبثاق, إلى حد الإنفجار, إلى حد الفيض, أمام أحداق مراهقة ما صادفت من قبل مثل هذا التجلي الإباحي فتشهق من الفجاءة وتتسمرّ مشدودةً إلى الثمار التي ترتج فترجّ المجال الممغنط.
مأسورين يشدهما وثاق البصر إلى مشهد آسر يمتحن قدرتهما على المقاومة التي سرعان ما تتهاوى نتفةً نتفةً, فالأحداق تتلوّن بلون الشبق, والأظافر تنشب في طين السور, والأنفاس تخرج مشروخة كالأنين. أما الجسر الذي بنته النظرات والمؤدي إلى جسد الأنثى فقد صار حقلاً للمجون أو سريراً مكتنفاً بالهذيان حيث كل منهما يرى نفسه متمرغاً في جنة الخلوة مع حضن يوقظ فيه الصهيل.
- فعلتها يا عزوز?!
- فعلتها يا حميد?!
يقولان في وهن.. يضحكان في وهن.
33
(هنا تنتهي القصة, وهنا تبدأ القصة)..
كان زكريا يهمهم مخاطباً نفسه المتأرجحة كالبندول بين حاضرٍ لا ينال فيه الحظوة ومقبلٍ غامض لا يكفّ عن بلبلة روحه.. نفسه المسكونة بوجع الفقد, بفجيعة الذهاب المبكر لأب آثر أن يؤاخي السفر على أن يكون أباً يروّض ما يدّخره الغد لرضيع لا يرى فيه غير القيد, ويلمّ طيلة عمره ما يتناثر من حياة لاهثة. ربما هكذا مضى - بحقيبة قديمة وحلمٍ مريّش - ماحياً كل الأدوار.
(خذني يا سفر)
يتمتم زكريا وهو واقف في مبتدأ البحر حيث المياه تغمر قدميه وتكاد تصل إلى مستوى الركبة. كان وقت جزْر, والمياه قد انحسرت عمّا خبأته المياه, مثل ثوب إنحسر فبانت الأشياء عاريةً, مكشوفةً, ومباحة: حصى, قواقع, علب, زجاجات, رائحة أسماك كانت هنا, ظلال قوارب نزحت مقتفيةً الأمواج تاركة آثارها هنا, ريش طيور كانت قبل سويعات تلهو هنا..
على نحو غريب, لا عقلاني, سحري تقريباً.. صار الصمت سيد المكان. كأن الطبيعة - المتواطئة مع البحر - بكل أشيائها وكائناتها وعناصرها قد أعلنت الحداد فجأة فأضربت عن الكلام, عن الهسيس, عن الحفيف, وحتى عن التنفس. هدوء مذهل. سكون معجز. كما لو أن صلاة كونية تقام الآن ويشارك فيها كل الخلق.
فجأة, وفي اختراق فاضح لطقس مقدس لكنه غير مدنس, تهبّ نسائم خفيفة لها نكهة الملح والصعتر, وما إن تمسّ المياه حتى ترتجف قليلاً مثل جسد إنثى يلامسها الذكر للمرة الأولى.. وحدها المياه تتفاعل إلى حدٍ ما فيما تظل الأشياء الأخرى محافظة على صمتها وسكونيتها.
أما زكريا فيمكث في مكانه بلا حراك, مانحاً وجهه للهبوب الرائق, مستنشقاً الرائحة كمن يريد أن يميّز عناصرها ومصدرها. بعد لحظات يغمض عينيه, منصتاً بتركيز ورهافة لصوت يأتي من نقطة نائية.. نائية جداً. صوت مياه يخوض فيها جسم بشري. وعندما يفتح زكريا عينيه يرى في البعد شكلاً بشرياً غير واضح المعالم قادماً من تخوم المد.. حيث حركة الأمواج أقل عنفاً وحيث يلفظ اللج أحياناً رهائنه من الغرقى.
يحسبه زكريا - في بادئ الأمر - صياداً عائداً بعد أن حرس شراكه المبثوثة واطمأن على مصائده. وكلما طوى المسافة وازداد اقتراباً, استطاع زكريا أن يركّز بؤرته أكثر وأن يرى بوضوح أكثر.
رجل وسيم, ربما في الثلاثين من عمره, يرتدي ثوباً طويلاً.
لكن ثمة شيئين أثارا حيرة وفضول زكريا: لقد كان الرجل مبلّلاً حتى قمة رأسه.. كأنه قد غاص في البحر وخرج لتوه, والقطرات لا تزال تتساقط من جسمه ومن ثوبه دونما انقطاع. حتى عندما توقف قبالة زكريا على بعد مسافة قريبة وراح يتطلع إليه في حنان وحب غير خافيين وهو يبتسم كما لو لصديق لم يره منذ زمن.
والشيء الآخر هو أنه كان يحمل حقيبة قديمة, أيضاً يتقطر منها الماء, لكن تبدو خفيفة لأنها لا ترهق يده. وهمّ زكريا أن يسأله عما كان يفعله في البحر مع حقيبة قديمة كهذه, إذ يبدو أقرب إلى المسافر منه إلى صياد أو بحار, غير أن الآخر عاجله بسؤال لم يتوقعه:
- عرفتني?
- لا..
- لن ألومك, فقد كنتَ صغيراً عندما غادرت..
- ومن أنت?
- أنا أبوك.. (أجاب ببساطة ودونما تردد أو تلعثم)
- أين كنت?
- في السفر..
- ولماذا عدت الآن?
- أنا لم أعد.. أنت الذي استحضرتني..
- حدثني عن السفر..
- السفر ليس تغييراً للأماكن وللوجوه وللعادات فقط.. أن تسافر يعني أن تكون صديقاً للمجهول وللمجازفة, وأن تحب السفر لذاته.. لا لشيء آخر.
- خذني معك..
- لا أستطيع.. يجب أن أعود الآن.. وحدي.
ومع إنتهاء جملته يستدير ويمضي عائداً من حيث جاء, خائضاً في مياه صديقة عرفته منذ سنوات طويلة وها هي أسماك صغيرة تتراقص من حوله مثل عرائس بحجم الإصبع تواكب رحيله أو عودته. ووئيداً يبتعد مع قطراته وحقيبته وحضوره الزائل.. حتى يختفي مثل طيف أو مثل ظل فاجأته العتمة.
- زكريا..
يسمع زكريا النداء من خلفه, فيستدير ليرى مفتاحاً وهو يشير له بالخروج.. عندئذ فقط يعمّ المكان ضجيج الحياة اليومية وجلبة الطبيعة بكل كائناتها وعناصرها.
(34)
الخرابة خالية الآن إلا من كلبة ضجرت من حراسة جرائها فاستدرجها النوم إلى مملكته وذهبت صاغرةً, تاركةً جراءها تلهو وتعبث كما تشاء..
ومن غبار يتكوّم هنا وهناك حتى تطرده هبّة ريح فيتطاير ذراتٍ ليستقر في موضع آخر..
ومن شمس تطل في فتور بعد أن خفّ لهبها مع أفول الظهيرة.
ترى حميداً يدخل وهو ممسك برسغ خلود التي لا تبدي مقاومة لكنها مترددة في الدخول, لذا يجذبها فتنصاع متأففةً..
خلود: لماذا أحضرتني إلى هنا?
حميد: قلت لك.. لأريك سراً..
خلود: (وهي تتلفت, متطلعةً حولها في اشمئزاز)
لا أرى شيئاً.. أين هو السر?
حميد: أنظري إلى الجراء..
خلود: ما بها?
حميد: جميلة, أليست كذلك?
حميد: لا, ليست كذلك..
حميد: هذا هو السر..
خلود: ماذا تعني?
حميد: كنا نربي هذه الجراء سراً دون أن يعلم أحد..
خلود: هذا ليس سراً.. كثيرون لديهم كلاب وجراء.. الكلاب في هذا الحي لا تكف عن الإنجاب.. ليس شيئاً خطيراً.. هناك كلبة نائمة.. هي التي تربيهم..
حميد: تعالي اجلسي على السلم..
خلود: لماذا?
حميد: لكي ترتاحي..
خلود: لست متعبة, أنا ضجرة, أريد أن أذهب.. هذا مكان قذر تفوح منه روائح كريهة..
(حميد يمد يده بطيش ودون تردد صوب صدرها, وما إن تحط راحته على نهدها المتواري تحت الثوب, حتى تجفل خلود وتتقهقر قليلاً مطلقة صيحة غاضبة تفزع حميداً وتربكه)
حميد: ماذا? مابك?
خلود: ماذا فعلت?
حميد: لا شيء.. كنت أريد أن أمسح..
خلود: (مقاطعة) أنت شرير يا حميد.. تريد أن تخدعني.. سوف لن أكلمك بعد اليوم..
حميد: خلود, إرجعي..
(لكن خلوداً تغادر منفعلة)
خائباً, يائساً, منهكاً.. يتحرك حميد بتثاقل صوب السلم المتصدع. يخرّ جالساً على الدرج وهو يطلق زفيراً صادراً من أعماق متعبة.
لم يصدق, في بادئ الأمر, أنه نجح في استدراجها, وظن أنها ستكون فريسة سهلة. لكن ها هي تفلت منه ولن تثق به بعد اليوم. كل هذا ذنب عزوز وجارته, لو لم....
35
- علمني..
- ماذا تريد أن تعرف?
- كل شيء..
هكذا كان حميد يتخيّل نفسه وهو يقف أمام سلطان بلا رهبة, وبرباطة جاش يسأله والآخر يجيبه بحميمية وبحماسة تشي برغبة عارمة في تلقين الأصغر سناً فنون العراك متى ما أبدى استعداده لامتحان بأسه الذي يؤهله لممارسة عنفه ضد الآخرين.
هكذا كان حميد يتخيّل وهو يتجه نحو الأسطورة الحيّة سلطان الواقف عند المنعطف, مستنداً إلى الجدار, يحاول إشعال لفافته بعود ثقاب.
يتحرك نحوه بخطى خرقاء تتعثر كلما اعترضتها حصاة ناتئة, أو يختل توازنها كلما صادفها تعرّج في أرض غير مستوية. وفيما يزداد اقترابا من سلطان - الذي انتبه إلى وجوده فراح يرمقه في تساؤل - يحاول حميد جاهداً أن يتحكم في ارتجافات أصابعه ونبضات قلبه المتسارعة من فرط الرهبة, غير أن ارتعاشة صوته, وهو يقف أمام سلطان, تفضح تظاهره بالجسارة..
- علمني..
- أعلمك ماذا?
- كل شيء..
يطلق سلطان ضحكة تهكمية تزعج حميداً قليلاً..
- ومن تحسبني.. مدرساً أو خطيب مسجد?
- أريد أن أصير مثلك..
- مثلي?
- أريد أن يهابني الناس ويخافون مني.. مثلك..
- ومن قال لك أنهم يخافون مني?
- أنت قوي وشجاع وجرئ و..
- أين رفاقك?
- لا أدري..
- إذهب وابحث عنهم.. إلعب معهم قليلاً ثم راجع دروسك.. هذا كل ما ينبغي عليك أن تفعله.. لا تصبح مثلي أو مثل غيري.. تفهمني?
إحساس حميد بالخيبة والخذلان يكاد يشلّه تقريباً, فهو لم يتوقع رداً كهذا من شخص عنيف يمجّد العنف لا الدراسة. ويظل واقفاً, حابساً رغبة في البكاء داهمته فجأة, ولا يتحرك إلا حين يتلقى أمراً حازماً:
- هيا إذهب.
يستدير ويبتعد خطوات ثم يتوقف عندما يسمع صوت سلطان:
- حميد, إنتظر..
يستدير ثانيةً مواجهاً سلطان..
- تعال..
يتحرك نحو سلطان الذي يتطلع الآن إلى جهة يجتمع فيها أربعة شبان.. على بعد مسافة من دكان أبي أحمد..
- أترى أولئك الشبان.. أحمد ورفاقه?
- أراهم..
- منذ ساعة وهم مجتمعون هناك, يتهامسون في حذر, وكأنهم يخططون لشيء..
يتطلع حميد إلى تلك الجهة, إلى اولئك الشبان, إلى أحمد الذي يحرّك يديه كثيراً وهو يتحدث إليهم بصوت غير مسموع.. ثم ينظر إلى سلطان الذي يتابع:
- أريد أن أعرف ما الذي يدور بينهم, ما الذي يخططون له..
- لماذا?
يوجه سلطان إليه نظرة حادة, ثاقبة, كأنه يوبخه على سؤاله.. إلا أنه لا يجد غضاضة في أن يكشف له الأمر بنبرة صارمة:
- لا أحب أن تحدث أشياء في هذا الحي ولا أعرف عنها شيئاً. لست زعيماً ولا أريد أن أكون زعيماً.. لكنني أيضاً لا أحب أن أكون جاهلاً.. هل تساعدني?
الأسطورة الحية تطلب من حميد المساعدة!!
بقدر ما ملأ الزهو كيانه, بقدر ما أثار استغرابه.. ما الذي يريد أن يعرفه عن أفراد لا يهتمون إلا بالسياسة?!
(36)
ليلتها, ليلة العرس الصاخبة (لا أذكر الآن عرس من كان تلك الليلة) حين إزدان بيت العريس (أو العروس) بمصابيح ملونة صغيرة, معلقة في انتظام وتناسق, وأحاطت سعف النخيل بالباب لا لتحرسه إنما لتعلن عن تميّزه وفرادته بين الأبواب المجاورة المحرومة من زغاريد المباهاة وجلبة اللحظة..
حين استفاقت الطرقات المعتمة والمتعرجة على صيحات الأطفال وضحكات السكارى.. حين تزاحم في الساحة المحتفلون - رجالاً ونساءً, كباراً وصغاراً - محتشدين جمعاً جمعاً هنا وهناك, أو متحلقين - رجالاً وأولاداً - حول الفرقة مرتجلين الرقص على أنغام شعبية ترتجلها آلات النفخ والطبول..
كنا, ليلتها, مثل سرب لا يستقر لأن الإستقرار في مكان يعني أن نكون ضمن مشهد واحد من الطقس الاحتفالي قد يتغير مساره بشكل طفيف أو ينقلب على نحو دراماتيكي, وفي كل الأحوال لن نر غير جانب واحد, بينما كنا نرغب في رؤية كل ما يحدث في هذا الطقس الإستثنائي.. فالعرس مناسبة فريدة, عيد يتهيأ له الجميع قبل أيام.
هكذا كنا نطفو حائمين فوق يقظة الريحان ننثر رقائق العبث وتوابل الفكاهة, كما الهبات السماوية, على بيوت تتبارى في حشد الأنخاب وعلى أزقة تتراكض مبللة برشاش السهر.
نرسو عند قارعة الندامى العاصبين سواعدهم بخيوط من المُخمل, حيث يحزمون النعناع حزمةً حزمةً ويدحرجون جرار العسل في صخب, وحيث النوم المعتزل جانباً يتثاءب من فرط الوحدة.
نخترق كالحيازيم عباب الوحشة آن تحرن عند مراقدها في أماكن لا يصلها الضوء ولا تجاورها الزغاريد وفي لحظاتٍ نهجرها فائضين على أماكن يخفّ إليها الطيب والبخور من كل حدب.
نحط على هودج الضاحية - تلك التي نتقاذف معها أدوار المودة والعداوة آناء النهار - مرشوشين بماء الورد, ممسوسين بأرواح الحجر, هاتفين: كم هو ضيق عالمنا.
ثانيةً نعود إلى البؤرة العارمة, العامرة بما طاب من رقص وقصف وهرج, المضاءة كالنهار. لكن البؤرة أيضاً كانت عامرة بالصمت, صمت المحبين الذين لا يسمعون من بين كل هذا الضجيج غير ما ينسلّ بين الشفاه من غيم أو شهقة, ولا يبصرون من بين كل المرئيات المتداخلة في فوضى غير ما يرفّ بين الأهداب من موج أو زنبقة. هكذا كان حمزة في جهة, وعفاف في جهة أخرى بعيدة بعض الشيء, يختزلان بالنظرات رعشة القلب وخطاب الهوى الأكثر فصاحة وبلاغة من الكلام. وبعض المحبين - مثل منيرة وإبراهيم - يحوكون من رتوق العتمة خلوات يفيئون إليها بعيداً عن الفضول والتطفل.
وفي حيز الرقص يدخل أبو مفتاح, سكراناً, يتواثب ومعه تتواثب الأشكال والأجسام, وتتواثب البيوت, غير أن حركاته وإيماءاته - التي يؤديها بجدية تامة - تثير قهقهات الحاضرين. وضاحكاً يميل زكريا ناحية مفتاح هامساً: (أنظر إلى أبيك, يرقص كالقرد«. ومفتاح, الذي لا يريد أن يفوّت فرصة النيل منه لإشفاء غليله, يتقهقر متوارياً خلف الأجساد, ومن بين الكتل المتراصة وتلك المتباعدة قليلاً, يصنع لنفسه مكمناً منه يقدر أن يرى الراقصين ومنه أيضاً يقدر - مثل أي قناص ماهر - أن يصوب مقلاعه الذي به يرمي حصاة ثقيلة, حادة الأطراف, تنطلق في سرعة خارقة - حتى أنها لا تصدر صوتاً - لترتطم بالهدف المحدد بإحكام ودقة: ردف والده.
يهرب مفتاح ومعه يهرب رفاقه, تلاحقهم آهة طويلة أطلقها أبو مفتاح من فرط الألم. يتراكضون في الطرقات والأزقة ملء حناجرهم صياح وحشي, بدائي, يفاجئون به منيرة وإبراهيم في خلوتهما التي حسبوها آمنة وهما يتناجيان ويتبادلان اللواعج, فيفران مذعورين.. ويفاجئون به كل حيوان غافل أو حشرة تدبّ في كسل.. ويفاجئون به كل نافذة توشك على النوم.
وحدها الدقائق تمضي زاحفة, الواحدة بعد الأخرى, في نظام ثابت وصارم لتتساقط كالندف في فضاء الذاكرة.
وحدها خلود, المستلقية - في هدوء وطمأنينة - على ملاءة ناصعة البياض, كانت ساهرة مع قمر شبق ينتفض كلما غمّست نهديها العاريين في ضوئه.. ومعاً يجهشان.
(37)
ليلة العرس ذاتها..
لكن بعد أن تساقطت الدقائق كالندف في فضاء الذاكرة,
وتفرقت الحشود تدريجياً آخذةً معها بعضاً من رغد المناسبة ومن فتات سهرة تمنّوا أن تكون خالدة,
ولملمت السهرة طقوسها وقرابينها وغادرت المسرح,
وخلت الأماكن من روّاد كانوا يجترّون الكلام كلما باغتهم الصمت لحظةً, وعادت - الأماكن - لتتوحد مع نفسها وتستأنف حوارها دونما دخيل,
وبعد أن اضطجع مفتاح على فراش غير وثير مع نومٍ قلقٍ أضرم فيه حلماً عصياً تلاه حلم عصيّ آخر ثم اكتفى وتخلى عن المحاولة ومضى يطوف مرهقاً دليله نومٌ قلقٌ في حجيرة مسورّةٍ بالسعف والجريد الذي شُدّ إلى بعضه برباط محكم من الحبال, ومسقوفةٍ بأعمدة من الخشب, أما بابها فمفتوح دائماً ومنه يتسرب ما يتناثر من حمحمات اليقظة وضوضائها.
لم يسمع مفتاح - في بادئ الأمر - ما يدور خارج نطاق نومه, فقد كان يستل من بئر عميقة صوراً مبهمة أو مطموسة المعالم يرميها الواحدة بعد الأخرى في دلو أشبه بالهاوية, لكن شظايا من الكلام الغامض راحت تطرق أذنه بإلحاح, والشظايا تتلاحم شيئاً فشيئاً لتصير جُملاً مبتورةً, متوترة, غير أنها مسموعة بوضوح. يفتح عينيه ويظل ماكثاً في رقدته ينصت إلى ما يصله من مشادة كلامية حادة وعنيفة - لم تخرج بعد عما اعتاد عليه - تصدر من أم لا تعود تتدرّع بالصبر أو الحكمة عندما يفيض القهر, وأب يتخضخض فيه الكحول ويعلو زعيقه كلما تعرضت مشيئته لنقض أو نقد.
وحدها صيحة أمه - تلك الصيحة اليتيمة, المفاجئة والمبتورة - تجعله يهبّ فزعاً ويهرع إلى الخارج ليراها واقعة على الأرض وخيط من الدم ينبجس من الشفة السفلى, ولا تقو على النهوض فتمكث جالسة.. جريحة ومهانة ومنهوكة, أما أبوه فواقف بلا ندم, بلا رأفة, وجسمه الرخو, المشبّع بالكحول, يتمايل دونما تحكم.
ليس بوسع مفتاح لحظتها, وهو في مكانه جامد بلا حراك, غير أن يعبّ الكراهية دفعة واحدة, ويحدج أبيه بنظرة أراد لها أن تفتك به لكنها جعلته يلتفت صوبه بحدّة مباغته ويهدر مشيراً إليه بإصبعه:
- وأنت أيضاً, لا أريدك هنا في بيتي.. أخرجا.. هيا أخرجا..
يخطو مفتاح نحو أمه, والحقد يحتدم في صدره, يساعدها على النهوض.. وبلا كلمة, بلا التفاتة, يغادران البيت.. كأنهما إتفقا في لحظة واحدة ولا شعورياً أن يحرماه من كلمة قد تشي نبرتها عن ضعف ما, ومن نظرة قد تفشي عن إستجداء ما. أرادا أن يجرداه من أي إحساس بالغرور والسيطرة, أن يتركاه بلا سلطة.
وها هو يتحرك عشوائياً, لا يعرف إلى أين يذهب أو ماذا يفعل.. مثل تائه ضل طريقه. ويشعر بأنه فقد الرغبة في القيام بأية حركة, حتى في النوم. وفي وسط الفراغ الرهيب الذي يحيط به, والذي يفتح أشداقه الجهنمية, يحس فجأة بوحدة هائلة تضغط بكل ثقلها على أنفاسه, فيخرّ على ركبتيه وينخرط في بكاء أشبه بالعويل.
(38)
الطقس متقلب ويصعب التكهن بأحواله أو الارتهان إلى التقويم المتعارف عليه للفصول. الخريف ليس خريفاً بحتاً, ولا الشتاء. يمكن أن تعرق في يوم من المفترض أن يكون شتوياً. ويمكن للصيف أن يمتد ليبلع الخريف ويحتل بعض فترات الشتاء. تتداخل الفصول وتتجاور المناخات في اليوم الواحد على نحو مربك ومضحك أحياناً.. فمن المناظر المألوفة أن ترى شخصاً يرتدي ملابس خفيفة بينما يرتدي رفيقه أو جاره ملابس ثقيلة. أذكر أن من أسخف الواجبات المدرسية التي كان مدرس الجغرافيا - في المرحلة الإبتدائية - يصر عليها, إلى حد معاقبتنا بقسوة مفرطة إن أهملنا أو سهونا عن تأديتها, هي أن نكتب في دفتر خاص أحوال الطقس كل يوم.. وكم كان ذلك مضجراً وعقيماً.
***
ها هو زكريا يظهر في نهاية الزقاق بأعوامه الأربعة عشرة, ووجهه الوسيم الذي يغلّفه - غالباً عندما يكون وحيداً أو مع أمه - بجدية توحي بأنه مستغرق في تفكير عميق بينما هو لا يفكر في شيء أو ربما يستعيد حواراً أو موقفاً ما. وعندما يصادف أحد رفاقه, فإن البشاشة تكسو قسماته, ويصير جسمه الهزيل أكثر خفة وحيوية.
وفيما هو يسير الآن - جاداً ورصيناً - يبصر على بعد مسافةٍ إبراهيم واقفاً في موقعه الأثير, مستنداً إلى الجدار ورافعاً رأسه ناحية غرفة منيرة التي تطلّ وبينهما هذه المساحة العمودية الخالية التي يحاولان إختزالها وملأها بأنفاس العشق وخطاب شوق متبادل يزعم الخرس من باب التمويه, لكن مثل أي عاشقين محرومين من الوصل, ومحظورة عليهما الخلوة, لا بد من حضور دخيل مخرّب, هادم للذّة, يفسد نقاوة اللحظة ويفرض الفراق عنوة.. وهذا الدخيل يتمثل في زكريا الذي ما إن تحين من إبراهيم إلتفاتة إليه حتى يعتريه الارتباك ويفرّ من موقعه خشية الفضح. أما منيرة التي تلحظ ما يحدث بقلب واجف فإنها تبتعد سريعاً عن النافذة والرعدة تدبّ في بدنها.
وحده زكريا يشعر بسطوته على الكائنين المذعورين, وعلى وضع هش في أساسه, فيختال في مشيته, مزهواً بسلطة - يعرف أنها زائلة - منحه إياها موقف عابر, نافخاً صدره في محاكاة ساخرة لذوي العضلات المفتولة في الحي.
***
والزقاق يفضي إلى طريق أوسع يقع في جانب منه دكان أبي أحمد الصغير والذي يشهد الآن مشادة كلامية بين كريم الذي يحلف بأنه دفع ثمن الكوكاكولا, وصاحب الدكان أبي أحمد الذي يصر على أنه لم يستلم منه شيئاً, فيما يدلي نبيل بشهادة مفادها أن كريماً دفع النقود في الوقت الذي كان أبو أحمد مشغولاً بتحدي أحد خصومه في لعبة (الدامة) التي يعشقها, ولهذا ربما اختلط عليه الأمر ولم ينتبه, خصوصاً وأن ذاكرته, مع تقدمه في السن, لم تعد قوية أو موضع ثقة.. غير أن أبا أحمد يرفض في عناد شديد هذه الشهادة المزوّرة بحجة أنهما صديقان ولا بد أن يدافع أحدهما عن الآخر, وأنه ليس الشخص الغشيم الذي يمكن أن تنطلي عليه الحيلة وينخدع بسهولة.. لذا تستمر المشادة.
***
والطريق ينفتح على ساحة تُتخذ كموقع أثير للألعاب والاجتماعات, وفي طرف منها الآن يجلس أحمد, إبن صاحب الدكان, على مقعد حجري قرب باب بيت كبير يملكه تاجر عطور باكستاني, ويطل البيت مباشرة على الساحة.
حميد, الذي كان قد اقترب من أحمد ووقف قبالته وفي نيته أن يستدرجه للإفشاء بما يدور في اجتماعاته مع أصحابه.. تلبية لطلب سلطان, يحاول أن يظهر للآخر - من خلال وقفته الرزينة وطريقة كلامه المهذبة - أنه جدير بالاحترام وأنه مؤهل للتحاور أو التخاطب مع شاب مثقف يقرأ الكثير من الكتب وله اهتمامات سياسية لا تخفى على أحد, فهو (قومي معروف«, حسب الوصف الشائع, وإن كان الكثيرون لا يعرفون معنى هذا الوصف تحديداً, لكن إبتسامة أحمد التي لا تكاد تغادر شفتيه إلا حين يتكلم بتحفظ شديد وبجمل لا تشبع الفضول, هذه الابتسامة كانت تثير غيظ حميد لأنها توحي بالتعالي حيناً, واللامبالاة حيناً آخر. لذلك يخلع حميد قناع الرزانة ويخرج عن دوره المرسوم بفجاجة, وبعد أن كان يسأل أحمد, على نحو مهذب, عن سبب قراءته للكتب وما إذا كان يحصل على المتعة منها, وعن سبب اهتمامه بالسياسة.. فإنه الآن يسأله بفظاظة وعلى نحو أرعن:
ما الذي تتحدث عنه, أنت وأصحابك? لم نراكم دائماً تتهامسون سراً? هل تدبرون مؤامرة أو مكيدة لأحد?
وأمام هذا السيل الطائش من الأسئلة, يتطلع إليه أحمد مبهوتاً للحظات. وربما فرح حميد لاختفاء تلك الابتسامة المزعجة عن وجه أحمد, وأراد أن يواصل طرح الأسئلة لولا أن إنفجر أحمد ضاحكاً بأعلى صوته, فأربك ذلك حميداً وجعله يحتار في تأويل هذه الضحكة الفجائية, الغريبة, التي راحت تخفت تدريجياً..
عندئذ يسأله أحمد مازحاً:
- وهل صرت تعمل مع المخابرات?
(المخابرات) كلمة لم يسمع بها من قبل, لذلك لم يفهم ما يعنيه أحمد بالسؤال.. وعندما يرى أحمد حيرته, يسأله ثانية:
- من يريد أن يعرف.. أنت أم شخص آخر?
- سلطان..
- لم?
- يقول أنه لا يحب أن تدور أشياء في هذا الحي ولا يعرف عنها شيئاً.. يغضبه ذلك كثيراً..
- لا بأس.. سأخبره بنفسي..
- لا, أنا من يجب أن يخبره.. لقد طلب مني ذلك.. وإذا لم أفعل فلن يثق بي مرة أخرى.
- حسناً, تستطيع أن تخبره بأننا نعد لتحريك مظاهرة سلمية ضد الاستعمار..
- أهذا كل شيء?
- نعم.. هذا كل شيء.. ليس الأمر خطيراً..
***
في تلك الأزقة والطرقات والساحات كان بركات المجنون, ينثر فتات جنونه, ويقارع الأحياء بشتائم يرميها جزافاً, أما السماء فيخصّها - بين وقت وآخر - بتحديقة مديدة, يصمت خلالها, كأنه يصغي إلى كلام سماوي.
(39)
في الخرابة كان مفتاح يحكي والآخرون - حميد, كريم, زكريا, نبيل - يصغون.
كان ينزف وهم ينظرون.
كان يضع روحه على الجمرات وهم يجفلون
كان يغمس أصابعه الصغيرة في هذيان دم حيّ وهم يشهدون.
كان مفتاح يروي جهماً ما حدث البارحة وعن طردهما من البيت, هو وأمه, وكيف باتا ليلتهما خارج بوابة المسجد الكبير, بلا فراش ولا لحاف, لأنهما خجلا أن يلوذا بأحد في هذه الساعة.
وقتها, ورغماً عنه, ذرف مفتاح دمعة واحدة, دمعة حارقة ألهبت القلب قبل العين, إذ لم يختبر من قبل إذلالاً يساوي هذا في قسوته وبشاعته.
ولما عادا فجراً, وجدا أغراضهما مبعثرة عند الباب المقفل.
لبعض الوقت, حط في المكان صمت ثقيل, ضاغط على الأنفاس, وكاد أن يطفئ العيون لولا أن صاح كريم مزيحاً هذا الكرب عن صدره: (كل الآباء تيوس«.
يؤيده حميد: (نعم, إنهم يثأرون من العالم باضطهادنا, كأن في وجوهنا يرون كل ما نالوه من إخفاق وعسف).
ويجاريه نبيل: (ماذا لو نهضنا صباحاً ولم نجد آباءنا في العالم, ألن يكون صباحاً جميلاً?«
وقبل أن يجيب أحد, يدخل عزوز مصفراً, فيعاجله زكريا بتعليق ساخر:
(أما هذا فمستعد, بإشارة واحدة, أن يقذف أباه في التنور).
يتعالى الضحك وسط حيرة عزوز الذي يتلفت في حرج ثم يبتسم كما لو يرغب في مشاركتهم الدعابة, والابتسامة تتحول إلى ضحك صاخب.
واحد فقط لم يضحك.. فقد كان الوحشي فيه ينهش أحشاءه, رويداً رويداً, قبل أن يخرج من الخفيّ إلى الهيولي, من العدم إلى الهباء.
ولو أمعنوا النظر إلى رأسه, رأس مفتاح, لشفّت جمجمته عن رأْب كان يتسع شيئاً فشيئاً.
40
قيل لنا:جنّ مفتاح واقترف الإثم الأكبر.
قيل لنا أن الليل لم يكن الليل الذي عهدناه وألفناه بل كان متواطئاً مع الآثم حتى صار درعه ومتراسه وخندقه.. به يحتمي ويستر المعصية التي ينوي ارتكابها, وحيناً يكلّم الليل همساً ثم يمتطيه بخفة من يمتطي بغلةً صديقةً ليدخل فم الجحيم ويعبر المفازة المختومة بالحمم.
قيل لنا أن مفتاحاً كان يمشي زائغ العينين, جامد الحواس, مأخوذاً بفتنة الشر. كان مبتلاً حتى قمة رأسه بحليب الجنون, طافحاً بالضلالة, يواكبه عمر من المذلّة والضغينة, وفي كل برهةٍ يرمى شلواً من ضميره, جاهراً بالباطل. وبقبضة مدهونة بالعناد يشدّ على عنان حاضرٍ يجمح كلما بان له قدر متملص كان يراوغه تلك الساعة.
قيل لنا أن الجدران كانت تنشج وهي تشم الزيت والكبريت. والأبواب أصابها الذعر فارتجت قليلاً كأنها الشهقة التي ما بعدها شهقة. والكلاب هجست بالفجيعة الآتية فهاجت وهرّت ثم نبحت محذّرة.
والحجر نادى السعف: يا سعف جاءك الحريق فأركض إلينا, لا الخشب يحميك ولا الماء يحييك.. تعال إلينا قبل الجريمة, فبعدها لن تكون غير هباء أو محض ذكرى لن تصونها الذاكرة.
قيل لنا: لم يكن مفتاح يحتاج إلى أكثر من زجاجةٍ مليئة بزيتٍ سريع الاشتعال وعود ثقاب ليفتح الجحيم شدقيه وتسطع الجريمة.. وليتحول بعدها كل شيء إلى رماد.. البيت الذي كان مفتاح يسكن فيه قبل طرده, والحجرة التي كانت تؤوي وقتذاك أباً مخموراً فاقد الحس والإدراك, والأب الذي - في غفلته الأخيرة - إستباحت النار جسده وحولته إلى كتلة من الفحم, وبيوت مجاورة داهمها الحريق فراحت تولول.
قيل لنا: عندما سمعنا العواء الوحشي, الصيحات البدائية القادمة من هاوية سحيقة, تلك التي أطلقها الإنسان الأول, إنسان الحجر, لحظة اندلاع الشرار من حجر الصوّان, معلناً إكتشافه النار لأول مرة..
نهضنا وخرجنا من رغد النوم وطمأنينة المراقد راكضين فرداً فرداً, أو جمعاً جمعاً, صوب مهب النار وعربدة اللهب. وكانت الأرض تركض من تحتنا وتلهث مثلنا. وحين توقفنا مصعوقين, إرتطم بأحداقنا المشهد الفاجع, فما رأينا مفتاحاً بل رأينا كائناً وحشياً إنتحل سحنة وصوت مفتاح وراح يرقص مثل ممسوسٍ لم يعد ينتسب إلينا بل صار يقطن أرخبيل الجنون.
(41)
صباح طريّ كالجرح, رخو مثل خبز ساخن لم نلتذ بطعمه, وديع مثل وجه مفتاح الذي مرّ في أحلامنا ولم يلتفت إلينا.
أخذوه إلى مصح عقلي بعد أن تقاذفته سيارات الشرطة وتكالبت عليه الطرقات المبلطة والوعرة. وعندما ذهبنا لزيارته لم يسمحوا لنا بمقابلته..
قالوا: حالته لا تسمح.
سألناهم: وماذا عن حالنا?
كيف نلعب وقد انفضّ اللعبُ من حولنا منذ أن فارقنا? كيف نرشق الزوايا بصلصال فوضانا ومفتاح لا يهرول أمامنا رافعاً بيرق العصيان? كيف نضحك والضحك في حدادٍ بعد أن نزحت القهقهة الحلوة? وفي غيابه كيف نتجانس?
من ذا الذي سوف يصعد معنا هضاب العمر, بشوشاً كالريح, ويحصي نوى المصادفات عند مغيب كل نهار?
من ذا الذي سوف يخوض معنا حقول البحر, باسلاً كالمدّ, وينادم الأفق كلما اختلج الأفق من فرط وحدته الأبدية?
من ذا الذي سوف يطوي أسرارنا, سراً سراً, ويخفيها بين الضلوع ليحرسها كل مساء?
وهناك,
من يسهر عليه, من يحدب عليه, من يرطّب أهدابه بالحنان كلما عنّ له أن يتمادى في العصيان لئلا تنكسر روحه?
راح مفتاح وراحت معه تلك الحصى التي تكتظ بها جيوبه. راح عنفه الصغير وتوتراته الغضة. راح صخبه ومقالبه التي لا تعد. راح وترك لنا طيفه الصامت الذي يحث فينا الحزن والحنين.
وكم افتقدناه, كم بكينا عليه..
سنخرج الآن من الأبواب, بلا لهفة, غير مبتهجين كما العادة.. غير فاتحين صدورنا لمصادفات تهبّ علينا من كل حدب.
(42)
جموع حاشدة, من كلا الجنسين ومن كل الأعمار, خرجت من فضاءات بعيدة أو مجاورة وجاءت تعلن تضامنها مع شعوب تناضل من أجل التحرر والاستقلال.
من شتى الدروب جاءوا رافعين اللافتات, هاتفين بشعارات رنانة, تقودهم العاطفة والقومية والروح الوطنية. لكن البعض أيضاً كان يشارك من باب الفرجة والفضول وتغيير الروتين ولأن (حشراً مع الناس عيد«.
وكلما نزحت المظاهرة من حيّ إلى حيّ, ومن موضع إلى آخر أشد اكتظاظاً, استقطبت مشاركين جدداً توارثوا الاحتجاج وانتفاضة الأرغفة جيلاً بعد جيل, وجاءوا مكتنزين بالعافية ومطوقين جباههم بالحماس.. وبهم تزداد المسيرة اتساعا واحتداماً.
العتبات الموطوءة ذاهلة إزاء هذا الهدير الفجائي. الحصى يوشك أن يتفتت تحت خطى ثقيلة ومهرولة. المناكب تحتك بالمناكب والروائح تتداخل وتتعالق في اختلاط مربك.
وسط إحدى حلقات المظاهرة, كان أحمد يهتف بأعلى صوته داعياً إلى سقوط الاستعمار وأن يعيش جمال عبدالناصر, والآخرون يرددون بالدرجة نفسها من الحماس والانفعال. وكان أمراً يدعو إلى بعض الاستغراب هذا التحوّل في شخصية أحمد من ذاك الهادئ, الرصين, الذي يتحدث في أغلب الأوقات همساً أو بصوت خفيض يشوبه الخجل كما لو يخشى أن يخدش مشاعر محدثه بالكلام, إلى هذا الذي يعتريه الانفعال ويطلق الصوت عالياً وجهْورياً كأنه يريد أن يشق الفضاء بالدويّ.
جانباً, وفي حالة من الزهو والتباهي, يقف سلطان متطلعاً إلى المظاهرة العارمة التي اخترقت أزقة حيّ الفاضل وبلغت الساحة في هدير لا يوصف, شاهداً على سطوة الصوت الذي إليه يحتكم الجميع في مباراة لا يحكمها عرف أو قانون, ويتساءل في نفسه: من الذي أعلن هذا اليوم ميعاداً للخروج الجماعي? من الذي حث هذه الجماهير لكي تتجمهر في وقت واحد ثم تزحف وتباغت الطرقات بهتافات جماعية تخفت قليلاً لتعلو ثانية في إيقاع تلقائي لكنه شبه متناسق?
إن إحساس سلطان بالزهو لا يأتي بدافع الشعور الوطني العفوي وحده لكن من تصوره بأن هذه المظاهرة ما مرت من هنا إلا اعترافا منها بأهمية ومكانة حيّ الفاضل في رعاية وحماية العناصر الوطنية.
أما حميد ورفاقه فقد آثروا الوقوف جانباً والتفرج حتى تمر المظاهرة.. ولم يكن هذا الموقف نابعاً من ضجر أو لا مبالاة, فقد شاركوا - من باب اللهو والطرافة - في عدد من المظاهرات السابقة, هذه الفعالية التي كانوا يرحّبون بها لأنها من جهة تعطّل الدراسة عنوةً, ومن جهة أخرى توفر الإثارة وتكسر العادة أو الروتين, وكل كسر مرحّب به كفعل تمردي فاتن.. لكنهم الآن مستغرقون ذهنياً في نصب كمين محكم لمعاقبة عنبر, ذلك اللوطي الذي يشتهي صديقهم نبيل ويلاحقه كلما رآه وحيداً.. محاولاً إغوائه.
وقتها, وقت عبور المسيرة, كان الضحى مثقلاً, مثل الحبلى, بريح سوف تهبّ بعد قليل محملّة ببرودة غير قارسة.
(43)
عصر ذلك اليوم الذي بدأ يميل إلى البرودة.. البرودة التي تتقرّى الكتل والفراغات وتهب بخفة وسلاسة فتنعش الوجوه لكنها أيضاً تسري, بين الفينة والأخرى, عبر مسامات الجسم فتثير رعشات طفيفة تحث المرء على إلتماس الدفء إما بتعريض البشرة إلى أشعة الشمس الشحيحة آنذاك أو بالإسراع قدر الإمكان إلى ارتداء ملابس إضافية.
بعض الغيوم الحدباء, الخجولة, راحت تزحف في تردد وتباطؤ كما لو تدفعها برفق يد خفية وهي تقاوم في ضعف لكن تتحرك على مضض حتى تتخذ مواقع لها في المشهد السماوي.
في هذا الوقت نجح نبيل, حسب الخطة المرسومة بإحكام, في إغواء عنبر.. حيث عند مروره قرب الموضع الذي يقف فيه, يتمهل نبيل ويلتفت إليه ما إن يحاذيه مبتسماً له ثم يتابع سيره ويستدرجه إلى الخرابة التي أبعدوا الكلاب عنها كي لا تفسد الكمين.
وعندما دخل نبيل الخرابة, ثم دخل عنبر بعد وقت قصير, تحول المكان إلى ما يشبه المسرح المعد لتجسيد فصل متخيّل سلفاً, وينبغي الآن أن يُرتجل حسب ما هو متصور ذهنيا.
حميد وعزوز وزكريا وكريم كانوا وقتذاك متوارين بلا حراك في مكان مقابل (كان في ما مضى يُستخدم كغرفة) أكثر إظلاماً وامتلاءً بالغبار, منه يراقبون خلسةً كل ما يجري في مدى البصر وعبر الفراغات في الأمكنة. من خلال الإيماءات والإشارات بالأيدي التي يقوم بها نبيل والآخر, يقرأون المشهد.
نبيل يتمكن بعد وقت من إقناع عنبر أن يخلع كل ثيابه وليس بعضها كما كان يرغب, غير أن إندلاع الشهوة في كامل بدنه , وإصرار نبيل على ذلك (وربما تهديده له بعدم الاستجابة إن لم يفعل ذلك) جعلاه يمتثل لرغبة نبيل.
على عجل يخلع ثيابه كأنه يستعجل الإثم ليجاريه في الشهوة, وعارياً يقف أمام نبيل ممتشقاً شبقه, شاهراً الرغبة الجامحة التي تنشد الإشباع. من جهة أخرى, يحيّره الآن موقف نبيل السلبي. ربما يجد مبرراً لاضطراب نبيل الذي تورّد خدّاه حياءً وركز بصره بعيداً عن عريه, لكنه لا يستطيع أن يفسّر ما حدث له منذ لحظة, فقد اندفع إلى زاوية وراح يتقيأ.
في هذه الدقيقة يشن الرفاق هجومهم, مجتاحين الحيّز بصياح موحّد ومدوٍ, يباغت عنبراً ويجعله يشهق ويجفل ثم يندفع نحو ركن محاولاً الاحتماء دون أن ينتبه إلى عريه.
متأخراً, وبعد أن انسحب الأولاد بالسرعة ذاتها التي دخلوا بها, بالاندفاع ذاته وبالصيحات ذاتها, يكتشف عنبر اختفاء ثيابه واختفاء نبيل وعريه الكامل في خرابة مهجورة لا يستطيع مغادرتها.
متأخراً, وبعد أن إنزاح عنه رعبه واستعاد شيئاً من الهدوء وشيئاً من الصفاء يكتشف عنبر واهناً أنه كان ضحية مكيدة, وأنه الصياد الذي تحول في غمضة عين إلى فريسة عارية, مذعورة, وكل المسالك أضحت حبائل.
صار سجين عري خانته الشهوة.. فيستند إلى جدار مثلّم الأطراف, وبطيئاً ينزلق على الجدار فيتقشر جلد ظهره في أكثر من موضع.
وعندما دخل عليه بعض الشباب, بعد أقل من الساعة, وجدوه متكوماً مثل حطام, عارياً يرتجف من البرد ومن الخزي. لم يلتفت إليهم, لم ينبس, بل كوّر جسمه أكثر, وأخفى وجهه بين ركبتيه, وراح يبكي.
الغيوم الخجولة كانت قد نزحت, والسماء صارت ملعباً لطائر أو طائرين يتسابقان في المدى ويغمسان منقاريهما في تخم الحقل السماوي فيتضرجان بحمرة الغروب.
ثمة يد خفية تسرّج المساء.
(44)
أدخلهم نبيل بيته الكبير, فأدخل معهم الإنذهال والانبهار والغيرة والحسد. ما رأوا بيتاً بهذه السعة والنظافة والتناسق. كل شيء فيه يوحي بالثراء والأناقة. وقد اضطر زكريا إلى أن يلكز جنب كريم بكوعه ويهمس في أذنه أن يكفّ عن الدوران وأن يغلق فمه الفاغر دهشة..
(فضحتنا.. ماذا سيقولون عنا, لم نر في حياتنا شيئاً كهذا?«
(هذا صحيح«.. رد كريم هامساً.
عبروا الحوش الفسيح, داروا حول شجرة اللوز والنباتات الواطئة وأزهار القرنفل, مرّوا بغرف كثيرة بعضها موصدة الأبواب والأخرى مفتوحة, حتى وجدوا أنفسهم في حجرة نبيل: واسعة, فخمة, مؤثثة بأناقة. فراش وثير من القطن على سرير خشبي, سجّاد فارسي يدغدغ باطن القدم, ستارة ذات لون أزرق فاتح مسدلة على نافذة مغلقة, خزانة ملابس, طاولة وكرسي, حيطان نظيفة وكأنها طليت بالأبيض حديثاً.
جلسوا ساعة يتحدثون. ولم يكن عزوز حاضراً معهم, فقد كان كعادته يساعد أباه في الفرن. حدّثهم نبيل عن أخ أكبر منه وأختين أصغر منه. وعندما سأله كريم بسذاجة: من أين لكم كل هذا? رد نبيل ببساطة: أبي تاجر.
بعد ساعةٍ خرجوا, وبدراجاتهم الهوائية إخترقوا ردهات الضواحي واهبين جلودهم إلى نفحات الشتاء: رياح حليمة مشبعة بالنداوة.
أطلقوا وابلاً من الحصى على حمام كان يتطاير من سطح إلى سطح كلما استوحش البشري وأسرف في العداوة.
وجذلين أشاعوا الصياح والأحاديث الصاخبة في جهات جذلة اعتادت أن تبسط المكان للفوضى, وأن تنتخب العرائش للهرج, وتستضيف المرح.
ولما عاد نبيل عاد متأبطاً رنين صداقة حلوة وأصداء جدال لم يبدده الوقت بعد, وبرفقة مساء بشوش كان حينذاك يغمس جذوره الطرية في تضاريس حيّ الفاضل. غير أن أمه التي انتظرت عودته بوجه عابس ومزاج عصبي, رمقته بتلك النظرة الحادة, الشزراء, التي تمهّد - عادةً - لسيل من التوبيخ والتهديد, ليس فقط لأنه تأخر في العودة بل ولذنب أكبر, فقد أدخل في البيت - وفي غرفته تحديداً - تلك (الأشكال«, أي الحثالة. أما نبيل فكان يصغي في حياد, متظاهراً بالندم والطاعة, عارفاً بالتجربة أن المجابهة لا تجدي..
(45)
أولاد - بينهم حميد ونبيل وزكريا وعزوز - يلعبون كرة القدم بحيوية وفي جدية تامة, وأولاد - بينهم كريم - يتفرجون وبعضهم يشجع بحماس هذا الفريق أو ذاك.. في ساحة أدفأتها الظهيرة قبل أن تمضي مرهقةً ويجيء العصر مع هبوب النسائم الباردة ليرطب الأمكنة وليلوّن الحاضر بوميض مستعارٍ بعضه من الضوء وبعضه من العتمة.
في جانب, وفي موضع لا يشاركه فيه أحد, يقف سلطان متفرجاً في صمت. يبتسم حيناً, ويقهقه حيناً. لكن يكفهر ويقطّب جبينه عندما يلتفت ويرى شاباً, غريباً عن الحي, يمرّ به ثم يتوقف على بعد مسافة منه متفرجاً على اللعب.
ويشتعل سلطان غضباً عندما يلاحظ الغريب وهو يجيل بصره ويسرّح نظراته لكي تطوف على الأسطح والنوافذ كما لو يبغي أن يقنص من تشاء لها الصدفة أن تطل.. هكذا كان سلطان يفسر إيماءات ونظرات الشاب الذي ربما يكون الفضول دافعه الوحيد. إلا أن سلطان يرى غير ذلك, لذا يقترب من الآخر ومعه يقترب البغض والعداوة والرغبة في تلقين الآخر درسا قاسياً. وما إن يجاوره حتى يبادره بسؤال إستفزازي يتضمن الاستنتاج الذي توصل إليه سريعاً:
- ماذا تفعل هنا.. تغازل?
الشاب يلتفت إليه متفاجئاً.
وحميد يلحظ ذلك, تلتقط عيناه الشرارات الأولى لمجابهة وشيكة سوف تفضي حتماً إلى عراك وشيك لن تكون فيه الغلبة إلا لسلطان.. رغم نحافته وامتلاء جسم الآخر بعضلات قوية.
يستوقف حميد القريبين منه قائلاً بصوت منخفض النبرة, ترتعش فيه الاستثارة:
- يا عيال.. سلطان سوف يتشاجر.
في مهب محنة غير معلنة بعد, ينبثق عنف لفظي, لا يزال في أوله, حيث يرتجل سلطان والشاب الجدال, الذي تحبكه الغريزة العدوانية لا المنطق, في مواجهة صاخبة بين العضل والجسارة, وكل منهما يريد أن يكبّل الآخر بضراوة الحدقة وجلجلة الصوت, فيما الحلبة تزداد ضيقاً وشراهة.
الأولاد كانوا قد كفّوا عن اللعب, كفّوا عن تقاذف الكرة والصياح في آن, كفّوا عن قرع الأرض الصلدة بركض عشوائي لا تعوزه اللياقة بل الرشاقة, كفّوا عن نهب الوقت من زمن عابر, كفّوا عن الحركة والنطق مركّزين كل الحواس, في ترقب وتوجس, على المشهد الدائر أمامهم والذي يشفّ عن عراك محتوم.
في حركة خاطفة ورشيقة باغتت الجميع, حتى أولئك الذين يعرفون المدى الذي يمكن أن يصل إليه عنف سلطان وبطشه إذا غضب, استل سلطان مديته من جيب بنطاله الخلفي وطعن بها بطن الشاب الذي أطلق صرخة وحيدة ومجروحة, إنتفضت لها أرجاء الساحة.. لا بسبب درجتها ولكن لأنها هجست بمثول الموت المباغت.
سلطان الآن يرمقه بنظرة مديدة وحاقدة, أما الشاب الذي خذلته ساقاه لفداحة الطعنة وثقل الألم, وصار يجثو على ركبتيه في ضعف لا يشفع له, فقد أطبق عينيه كما لو يريد أن يأسر وجه عدوه المتجهم, الوجه الأخير, في بؤبوء عينيه.. أو كما لو يطبق أجفانه على سؤال يحتار كيف يجيب عليه: لماذا?
ممعناً في قسوته, يمد سلطان يده, وبلا رأفة يسحب مديته التي أحدثت شقاً في البطن تدفق منه دم طليق, ومعها ينتزع آهة ضعيفة ومبتورة. ينفض المدية ليزيل عنها الدم العالق ثم يستدير ويمضي في هدوء مبتعداً بخطى ثابتة لا اضطراب فيها ولا قلق, حتى دون أن يوجه بصره إلى أحد, تاركاً الكائن الواهن يئن ويرتعش.. جاهراً بهشاشته, جاهراً بضآلته أمام حشد ساكن, فاقد الإرادة, ولا شيء يرجّ حياده.
الأولاد كانوا ينظرون في ذعر تحوّل إلى ذهول ورهبة. توقعوا عراكاً شجاعاً ونزيهاً قد تتوّرم على إثره الوجوه وتنزف الشفاه دماً سرعان ما يتوقف عن التدفق, وقد تنطبع كدمة قبيحة حول عينٍ ما, ولم يدُر في خلَدهم أن مشهداً بشعاً ورجيماً كهذا سوف يباغت أحداقهم ويشلّ أعضاءهم ويجترح الحدث الأكثر شناعة.
عندما قاد سلطان طعنته الفاحشة إلى البدن الغافل أمامه, هبّ فيهم النبض السريع ودبّ الإلتباس دبيب الرعب في نفسٍ خلت من البأس. وعندما سحب سلطان مديته فاضحاً الجرح الهش, شبّ فيهم لهب أشعل الذهول وأضرم المفاصل. بدا لهم الفضاء مقفلاً على الجهات إلا جهة واحدة مفتوحة على المتاهة حيث ما من داخل إلا ويتلمس الكمائن بأصابع عمياء, وما من كوى تتدلى من السقوف لتدل التائه إلى المخارج. وها قد أطبق عليهم صمت كالحديد ينشب ثوانيه الثقيلة في الأوردة ثانيةً فثانية, وينهب ما يشاء من لهاث ورفيف أنفاس تغصّ بها الحناجر.
مذعورةً تخوض الأحداق في الدم المسفوك على التراب, في الموضع الذي خرّ فيه الشاب وهو يستغيث لكن لا أحد يسعفه, لا أحد يدنو كي ينحني ويمسّ جرحه مثلما يمسّ الصديق جرح الصديق, لا أحد يهبه الحنان الذي يحتاجه في عزلته التي تفترس روحه شلواً شلواً.
وها يميل برفق على جنبه محتضناً جرحه الباكي مثل طفل يهفو إلى الهدهدة, مثل عري يلتمس الستر وأن يكتسي بالطمأنينة. ومن هذا الجرح الفاغر كفم صغير يتسرب دم سافر يُسمع له هسيس عراء مستوحش وتحف به ما لا يُرى من ذرات الفراغ. الدم المخذول يمتزج بالرمل ويتكوّم مبقعاً الأرض بلون الفضيحة. أنينُ وجعٍ يشرد بين لحظة وأخرى من حلقٍ ظامئ. لحظة يحسبها عاماً أو أكثر. والأنين يفصح عن وحشةٍ وعن يأس.. عن هذيان خجول لا يحب أن يبوح بهذيانه أمام أحداق تخوض مذعورةً في الدم.
عندئذ - واستجابةً لإلحاح الغريزة أو بموجب اتصال تخاطري فيما بينهم - ينطلق الأولاد راكضين في إتجاهات مختلفة, هاربين من أنين الطريق الذي يشبه تفتت الشهيق, من بكاء الحجر الذي يزداد رخاوة كلما علا النشيج, من دويّ الجناية الشاهرة شباكها الرهيفة لالتقاط شاهد أو أكثر.. كما لو يريدون محو الحدث عن الأحداق.
في دقائق معدودة يغيب عن الساحة جمع كان يحتل أطرافاً منها ويتخذها ملعباً أو حلبة أو موضعاً للطقوس اليومية. يخلو المكان إلا من شاب جريح يسطع فيه الألم, ويرفع الشكاية البكماء بيد واهنة, ودمٍ يملي على التراب وصاياه التي لن يقرأها أحد, وكلبٍ أفزعه الفراغ المفاجئ فيطلق بعض النباح ثم يمضي عدْواً.
على سطح بيت يشرف على الساحة, يتوارى حميد ورفاقه, ويطلون خفيةً وفي حذر ليرصدوا من بعيد ما سوف يحدث للشاب المتروك وحده مع دم مهدور.
نبيل الذي يجثو لصق حميد مسترقاً النظر بين الفينة والأخرى, شاعراً بالتوتر والتوجس, يلتفت إلى حميد, وبصوت هامس لا يقدر أن يتحكم في رعشته, يسأله:
- لماذا نحن مختبئون هنا?
- حتى لا نتورط..
- نتورط في ماذا?
- في كل مرة تقع حادثة تستدعي تدخّل الشرطة, يهرب الجميع ويختبئون في بيوتهم, ومن لديه دكاناً في الموقع يغلقه في الحال ويغادر..
- لكن لماذا?
- لكي لا تحصل الشرطة على شاهد..
ثم جاء رجال الشرطة داخل سيارة جيب توقفت قرب جسد الشاب الراقد بين ضفتّي الحياة والموت, والذي توقف عن الحراك الآن كما لو استسلم لمشيئة قدر يمسك بخيط مصيره وباسماً يؤرجحه بين هاوية مظلمة لا قرار لها, وريف تتناسل فيه الحقول ويجترح الخصوبة والنضارة بلا انقطاع.
أرسل الضابط بصره في أرجاء المكان, طاف به عند المنعطفات وصعوداً نحو الأسطح, لعله يعثر على شاهد صان المشهد في مقلتيه ولا يرتعد من سرد الحدث كما حدث, لعله يصادف وشاية تومئ خفيةً إلى الفاعل وتحل له اللغز الذي يزداد انغلاقا وغموضاً كلما ازداد ثقل السكينة.
بعدئذ غادروا مع وجوهٍ مكفهرة ويأسٍ قابضٍ بإحكام على الإرادة, ومهمةٍ ناقصة مضرجة بالخيبة, وجسدٍ شاحب يتأرجح بين البقاء والعدم وهو ينزف سره الذي لا يبوح به أحد.
وغادرت الشمس مع فلول أشعتها المرهقة - التي استعارت لون المغيب, آخذةً معها أسلاب نهار يغتسل الآن في قرمز الليل قبل أن ينزلق بخفة هواء نحو الوسن.. وجاء المساء هابطاً من المخدع السماوي في أبهة يحلم بها الملوك, وأسدل على أدراج المدى وشاحه المخملي الذي ضوّع المكان برائحة السهر.
في مساء ذلك اليوم, جلس حميد مهموماً ومخذولاً وسط رفاقه وأعلن:
(هذا فعل جبان وغادر. ما كان ينبغي أن يطعنه بالسكين.. إعتقدنا أن العراك سيكون عادلاً ونزيهاً, لكنه غدر به, وباغته من حيث لا يدري ولا يتوقع. حسبناه بطلاً لكننا اليوم اكتشفناه على حقيقته.. سلطان طاح من عيني«.
وحده زكريا حاول أن يدافع عن سلطان (ما فعل هذا إلا مضطراً«.. غير أن دفاعه كان ضعيفاً ولم يصمد أمام اعتراضات رفاقه فآثر الصمت.
(46)
لم يكن نبيل حاضراً, ذلك المساء, مع حميد ورفاقه أثناء محاكمتهم - غيابياً - لسلطان. لم يشارك في الإدانة شبه الجماعية للفعل الشنيع, فقد كان, ذلك المساء, يذرع حجرته الأنيقة في قلق واضطراب بينما ذاكرته تستحضر شظايا منتزعة من سياق الحدث الأصلي, غير مرتبة حسب تسلسلها الزمني, مضخمة إلى حدٍ ما بسبب تركز البؤرة عليها. لكن الصورة الأكثر بروزاً, الأكثر حضوراً وهيمنة, هي التي تُظهر يد سلطان, القابضة على سكين ذات نصل حاد شحذته الكراهية, وهي تندفع بقوة وسرعة فيشق النصلُ الرهيف الجلد الرقيق وينغرز في البطن شاهداً على عنف غير مألوف لم يسمع عنه ولم يشهده في محيطه, حتى حدث أمامه اليوم بغتةً.. بكل ضراوته.
كان نبيل يعلم - وقتذاك - أن الكوابيس المحْدقة به, الرابضة على حافات الظلام مثل الجوارح, تنتظر أن يخلد إلى النوم كي تستنفر صورها المخيفة ومسوخها المهرجة التي ترشح منها دعابات شيطانية, ومعها تقتحم الصدغ الشفيف في اجتياح ضاج.. وهناك, في ضواحي النوم, تنتشر وتتربص بالخطى الشاردة بين كمين وكمين لتجترح له ما لا يشاء من مفاجآت وحيل تمجد الوهميّ والباطل, حيث المرعب يضع - مؤقتاً - نقاب الوداعة ويلهو بالأدوار, وحيث كل شيء ينسلخ كالأفعى عن جلد حقيقته وينتحل الأشكال, قبل أن يشن غاراته التي تفزع الروح.
لذلك كان نبيل يسعى إلى إرجاء موعد الذهاب إلى الفراش لأنه يعلم جيداً أن أحداً أو شيئاً لن ينقذه من بطش الكوابيس.. تلك الليلة.
(47)
- يستأهل..
هكذا علّق حمزة - تلك الليلة - على الحادث دون أن يضيف كلمة أخرى.. متفقاً بذلك مع آخرين أدانوا الشاب لفضوله وتطفله أولاً, إذ لم يكتف بالعبور كأي غريب وقور بل تصرّف برعونة ودون احتشام. وثانياً لأنه كان مزهواً بفتوته, متباهياً بقوته, وتحدى من لا يقبل التحدي ولا يتسامح مع الاستهتار
بعدها لم يعد حمزة ينصت إلى ما يقال, وما يثار من جدل. وعلى الرغم من حضوره البدني بينهم - أقران الفتوة والغضاضة - إلا أن ذهنه كان شارداً صوب البيت المتاخم للشَغَاف, حيث مهبّ العشق ومصبّ الحنين, مالئاً المسافة التي تفصله عن نافذتها بحمّى الصبابة وهذيان الهوى, مؤثثاً المساحة التي إنحسر عنها ريشُ فجرٍ كهلٍ بريشِ فجرٍ طريّ ينتظر عند بوابة الليل. وفي المدى المغسول بالندى, ينثر فتات المدائح ويهرق الشوق كالموجة حتى بيت الحبيبة التي يخشى إن نطق باسمها - حتى لو همساً - لأهدر الأصحاب سره.
ماذا تفعل, صديقة البنفسج, الآن?
يخمّن أنها تطل من النافذة وتلهو بخصلاتها مثلما تلهو طفلةٌ بأهداب نبع, وآن تسدل شعرها تسدل الجهة وميضها.
أو يخمّن أنها الآن تتكئ على غيمة تطفو لصق نافذتها, وكلما دغدغت فروها ماءت الغيمة ممتنة واندلقت من أثدائها أنداء السهر.
أو يخمّن أنها الآن جالسة تنتظر وبخيوط العتمة ترفو حلماً ثم تذرف على الوسادة دمعة حب لأجله..
عندئذ, عندما يستفحل الولع ويندلع فيه الشغف, ينهض حمزة فجأة ويبتعد, بخطوات يقودها الحنين, أمام دهشة أقرانه, ماضياً بلا تريّث نحو الجهة التي يألفها أكثر مما يألف الطريق إلى مسكنه.
لم يرها منذ وقت. صار يشعر بأنها تتعمد تجاهله. تتوارى سريعاً كلما أحست بوجوده, وتشيح بوجهها في نفور كلما بان أمامها صدفةً أو عمداً. حتى أنها لم تعد تتظاهر بالتجهم عندما ترغب في توبيخه سراً. لم يعد ثغرها يفترّ عن إبتسامة خجولة وخبيثة في آن.. مثل هبة أثيرة تمنحها له قبل أن تغلق الباب خلفها.
شيء ما جعلها تتخذ هذا الموقف المتشدد تجاهه.
آه لو يعرف ما الذي غيّرها, آه لو كان أكثر جسارة مما هو في هذه اللحظة.. رافعاً رأسه صوب نافذتها, شاخصاً بصره إلى حيث تتوارى جاهلة, أو غير مكترثة, بوجوده في الخارج.
آه لو كان أكثر بسالة فيلصق جبينه على الجدار ويشقه, مخترقاً ما يبدو له الآن أشبه بقلعة محصّنة.
خائباً ومخذولاً يتحرك حمزة مجرجراً ساقيه في تعب, في يأس, كأنه يحمل من الرصاص ما يثقل البدن والروح معاً..
تاركاً المكان يحمحم في وحدته,
تاركاً البيت يخوض في النعاس,
تاركاً النافذة تتبادل مع الحباحب أسرار الأمكنة,
تاركاً عفاف على سريرها تنتظر النوم بعينين مفتوحتين.
(48)
في الأيام التي تلت نهار الحادث, لم يظهر سلطان, لم نسمع من أحاديث الكبار شيئاً واضحاً عنه. ربما وشى به أحد ما, أو ربما اختبأ في مكانٍ ما حتى تتجلى الأمور. لكننا علمنا أن الشاب لم يمت وأنه يخضع للعلاج في المستشفى الحكومي.
هذا النبأ أسعدنا, فقد ارتحنا لأن كائناً بشرياً قد نجا من موت محقق, ولأنه أزاح عن كواهلنا عبء الذنب.. عبء الإحساس بالتواطؤ في ارتكاب الإثم. وارتحنا أيضاً لأن سلطان قد نجا من حبل المشنقة, وإن كنا لا نعرف بعد ما إذا سوف يُلقى القبض عليه ويُسجن لسنوات أم ينسى الجميع الحادثة برمتها.
إنقسم الناس إزاء ما اقترفه سلطان بين مستنكر ومتعاطف ومحايد ولا مبال.. مثلما يحدث في كل زمان وفي كل مكان. لكن, كالعادة, الحادثة الطرية سرعان ما أضحت قديمة بعد أيام معدودة..
فقد عاد الناس إلى مشاغلهم وهمومهم - الكبيرة والصغيرة - وإلى أحلام مراوغة تتملص كالزئبق كلما حاولوا الإمساك بها.
وعاد شيوخ الحيّ إلى محاولة تذكّر مواويل بحرية قديمة لم يعودوا يحفظونها أو يحفظون بعضها لكن لا تسعفهم الحناجر الشائخة على ترديدها.
وعاد أبو أحمد إلى كشط رقعة (الدامة« بظفره وهو يفكر متجهماً في حركة يهزم بها خصمه الملول, أو يحرجه على الأقل, تاركاً زبائن دكانه الصغير المعدودين يخدمون أنفسهم بأنفسهم.
وعاد بركات إلى شتم كل كائن وكل جماد يصادفه أو يعترض طريقه أو يناوشه مازحاً, متأبطاً الشيء الوحيد الذي يألفه وينسجم معه: جنونه.
وعاد العتّال إلى دفع عربته, ذات العجلات الضاجة, التي تطحن أحجار الطريق مثلما تطحن رحى الزمن أرواح ناس مغلولة أقدامهم وتنهشهم الفاقة.
وعاد أبو ناصر إلى مراقبة إبنته منيرة عن كثب بعد أن إرتاب في نوايا إبراهيم الذي يكثر من المرور أمام بيته, ويرتبك كلما وقع بصره عليه.
وعاد عزوز إلى عجن الطحين الذي منه يصنع خبزاً طرياً وشهياً.
وعاد الشتاء لينثر بعضاً من برده وليبعثر السحب في سماءِ حيٍّ يدّخر له الغيب شيئاً من النعم وشيئاً من المحن.
(49)
- (علمني)..
قالها حميد بعد تردد قصير وهو يقف في احترام غير مفتعل وغير مبالغ فيه أمام أحمد الجالس وحده على المقعد الحجري, والذي باسماً ينظر اليه في هدوء للحظات, خلالها يزيل الإبتسامة فتبدو على قسماته جدّية خفيفة, غير متكلفة, ولا توحي بالغطرسة.
بعدها يرد بصوت أقرب إلى الهمس, كمن يخش من امتحان صعب:
- ماذا أعلمك?
- السياسة..
يتطلع إليه برهة برصانة كأنه يحاول أن يستوعب السؤال ثم فجأة يطلق ضحكة قصيرة, لا هزء فيها ولا تهكم, يقطعها عندما يتيقن من جديّة الآخر.
- السياسة تعيشها, لا تتعلمها.
- أريد أن أكون سياسياً.. مثلك.
الآن يتفحص بنظراته حميداً, كأنه يرى للمرة الأولى تكوين جسمه وطول قامته وتعابير وجهه..
- ألست صغيراً على مثل هذه الأمور?
- بعد شهرين أو ثلاثة سيكون عمري 14 سنة..
- ظننت أن من في سنك لا يشغل باله بالسياسة.. إما خوفاً أو ضجراً..
لم أكن خائفاً ولا ضجراً. في الحقيقة لا أعرف لم طلبت من أحمد أن يعلمني السياسة. ربما لأنني رأيته جالساً وحده فأردت أن أتحدث إليه. ربما لأنني شعرت بخيبة أمل من سلطان الذي يمثّل القوة في أكثر أشكالها بدائية وعنفاً, ووجدت في أحمد قيماً ومُثُلاً مختلفة وتملك جاذبية ما. لا أدري تحديداً, أو بالأحرى, لا أذكر جيداً. غير أنني أتذكر أننا جلسنا نتحدث, وخلالها شعرت بأن صداقةً من نوع ما بدأت تنشأ بيننا.. كما أحسست بزهوٍ من تواجدي مع أحمد الذي يحبه ويحترمه الآخرون لطيبته ودماثته وتعاطفه مع الجميع.
أذكر أيضاً أن مطراً خفيفاً بدأ, آنذاك, ينحدر من غيوم مبعثرة في سماء زرقاء لا نظير لها في الوداعة. وأذكر أنني ضممت يديّ وتركت القطرات تتجمع شيئاً فشيئاً حتى امتلأت كفّاي بماء المطر.. وعندئذ غسلت وجهي.
(50)
آثر نبيل أن يبتعد عن الشلة.
آثر أن يتصفح كتبه المدرسية دون أن يقرأها.
آثر أن يراقب قطاره المتحرك بلا مبالاة.
آثر أن يتمدد على السرير ويزفر وحدةً.
آثر أن ينصت - دون أن يسمع - إلى ما تنثره أمه من نصائح وتحذيرات متكررة تأتي على شكل شظايا لم تعد حادة وجارحة كما كانت: لماذا ترافق تلك الأشكال? أولاد قذرون, بذيئون, عنيفون.. لديك أبناء عمك وخالتك, في مستواك وأذكياء مثلك.. لماذا لا ترافقهم? لماذا تبتعد عنهم وتختار أن تصاحب اولئك.. أولئك الذين لا يستحمون إلا مرةً في الشهر.. ما الذي يعجبك فيهم? في الأخير سوف تصير مثلهم.. وهذا ما لن أسمح به.. تسمعني? لا أريدك أن تذهب إلى هناك.
الحادثة التي وقعت أمامه أرعبته كثيراً, سببّت له صدمة قوية, وجعلته يكتشف أخيراً أنه لا ينتسب إلى ذلك الواقع.. السريع والحاد في تقلباته, المتطرف في إفرازاته.
وعندما سأله حميد في الفصل:
- لماذا لم تعد تمر علينا?
إرتبك ولم يجرؤ على النظر في عينيه: أدرس.
- كل يوم?
- كل يوم..
- متى نراك?
- لا أدري..
قالها وهو يبتعد على عجل كما لو يخشى أن يناديه, أن يستوقفه, أن يواصل استجوابه ويمعن في إحراجه. لكن حميداً كان قد فهم كل شيء, فلم يناد عليه, لم يستوقفه, ولم يلح في استجوابه.. بل شعر بما يشبه الوخزة في القلب. ومنذ ذلك اليوم, حافظ الإثنان على مسافة هي أبعد بكثير عن المسافة المكانية.. إنها تلك التي تفصل بين طبقتين, بين مستويين متعارضين من التفكير ومن العيش.. ولم تعد الأعين تلتقي إلا عرضاً أو مصادفةً, وفي سرعة خاطفة.. كأنها تخشى أن تجرح بعضها البعض..
(51)
دقائق بعد الخيوط الزرقاء الأولى التي أرسلها فجر جذل - قادم من جهة ملبّدة برياح لا تعرف أين تهب, تحفّ به نجوم بحجم ذرات الغبار.. كأنه مبعوث سماوي يفتتح النهار بسيل من العطايا وسيل من الكوارث على حد سواء - إنطلق من بيت العامر صوت رجل كان يصيح موبخاً ومتوعداً, وفي الوقت نفسه يخدش حنجرته بالزعيق المسنّن, ولم يكن صعباً التعرّف على هوية الزاعق: حمدان.
ورافق هذا الصياح صوت أنثوي متوسل يستجدي الرأفة ويدعو إلى نبذ العصبية ومعالجة الأمر بحكمة, غير أن صوتها - الذي يكشف عن هوية صاحبته: زوجة حمدان - يبدو باهتاً, متقطعاً, يصل إلى حد الرتابة في وضع متفجر, الغلبة فيه للصراخ لا الحكمة.
ووسط الزعيق الذكوري والاستجداء الأنثوي, يعلو ويهبط بكاء أنثوي أكثر شباباً تقطعه آهات ألم غير متواصلة, صادرة من فتاة يبدو أنها تتعرض لضرب غير منتظم من شخص غاضب ومقهور. ولم يكن عسيراً التيقن من هوية هذه العالقة بين الصرخة وظلها: خلود.
الصباح السكران جاء متخماً بالمواعيد والمصادفات السعيدة والتعيسة, وبالمقالب أيضاً, ناثراً كل هذا على العتبات وفي المنعطفات. وكان حبَاب الفجر عالقاً على أطراف الصباح الجوّال بلا غاية عندما سرت ما كنا نظن لوهلةٍ أنها مجرد إشاعة سخيفة أو مزحة إخترعتها مخيلة مخمورة أو مخبولة, لكن الخبر راح ينتشر إنتشار الفضيحة في أرض ظامئة إلى الفضيحة. بلا أجنحة كان الخبر يمضي محلقاً من بيت إلى بيت, ومن زقاق إلى زقاق, والممرات كلها مفتوحة أمام حدث قد يغسل أنحاءها بحفنة من الإثارة أو حفنة من الطرافة.
كل شيء بدأ همساً في بيت حمدان العامر:
(خلود حبلى يا حمدان«.
قالتها زوجة حمدان همساً وبصوت راعش مسكون بالذهول والخوف في آن.
(ماذا?«
رد حمدان همساً أيضاً, كأنه لم يسمع جيداً أو كأنه لم يصدق ما سمعه أو كأنه شعر بأن ما قيل ينذر بخراب هائل.
(خلود حبلى يا حمدان«
كررت زوجته القول بالنبرة ذاتها, بالرعشة ذاتها, بالذهول والخوف ذاتهما. وطفقت تحملق في وجهه, متوقعة في أية لحظة إنفجاراً شديداً سوف يطيح بكل أركان البيت, كأن وجهه صار حقل ألغام قابل للإنفجار مع ضغط واحد بالإصبع على البشرة المشدودة, المحتقنة شيئاً فشيئاً, والتي يحتدم تحتها مركّب في غاية التعقيد من المشاعر والإنفعالات.
وما كان همساً صار زوبعة مع حلول الضحى (الوقت الراكض على عجل من جهة مبتلة بأنداء أحلام زائلة إلى جهة تهيئ المجهول من الأحداث).. فقد مسّ الهبوب - هبوب المفاجأة - كل من جاور بيت العامر أو كان قريباً منه أو مرّ صدفةً أمامه. ومن لم يشهد ذلك, على نحو مباشر, راح ينسج ما يحلو له من تآويل.
الإستجابات تدرجت - كالعادة - من الشعور بالصدمة إلى الدهشة والذهول إلى محاولة تفسير ما حدث.. وفي حالة خلود والحمل المباغت, الصاعق, فقد كان السؤال الأبرز, الأكثر إلحاحاً, الأكثر إثارة للقلق, لكن أيضاً الأكثر تحريضاً على الدعابة الشيطانية: من فعل هذا بالمسكينة خلود?
كيف يمكن لأي رجل أن يقترف هذا الفعل الإجرامي, الشائن, بفتاة صغيرة, ساذجة وبريئة, معوقة عقلياً ولا تعي ما يدور حولها? لا بد أنه وغد ونذل, ويستحق الرجم.. هذا مما لا شك فيه, وليس موضع جدل أوخلاف, لكن من يكون?
(من يكون?« صار سؤالا حافلاً بالإرتياب والخبث والمكر, صار تمهيداً لاتهام أحدٍ ما.. أي أحد. وفي بعض الحالات لم تكن الأدلة والقرائن مهمة, يكفي أنه قال مرةً تعليقاً ذا إيحاء جنسي عن خلود, أو أبدى ملاحظة عابرة بشأنها أو شوهد يكلمها أو يمازحها.. وهذا يعني, باختصار, أن كل رجل - شاباً أو شيخاً - وكل مراهق بات موضع إتهام أو موضع ارتياب حتى لو أقسم بأنه غير مذنب. وكل زوجة بدأت ترمق زوجها بنظرة مليئة بالشك, وكل أم راحت تستجوب أبناءها المراهقين أو البالغين العزاب. وكل ذكر راح يدفع عن نفسه التهمة بجدية وحماس وانفعال, ويحاول أن يثبت براءته في جناية لم يرتكبها.
حتى حميد شعر برجفة تسري في عروقه عندما تراءى له, في لحظة تأمل, أنه قد يكون مسؤولاً عما حدث.. رغم أنه لم يرتكب سوى جناية إستدراجها يوماً إلى الخرابة, وقد هربت بمجرد أن لمس النهد, إذن يستحيل أن تحبل منه.. وهو لا يتذكر أنه تحرّش بها في أي يوم آخر. لكن ماذا لو أخبرتهم هي بما حدث ذلك اليوم? مجنونة وتفعلها.. عندئذ سوف يتعرض للإدانة. إذن لا بد أن ينصحها بالسكوت, أن يحتال عليها بطريقة ما كي لا تذكر شيئاً عنه.. لكن كيف?
غير أن الأكثر عرضة للإدانة, والذي إليه تتوجه - من حين إلى حين - أصابع الإتهام وسهام الريبة والظن, كان حمدان العامر. وهو يعي ذلك, يحسه, يشمه, يراه ماثلاً في كل مقلة.. ولا يعرف كيف يصده, كيف يدافع عن نفسه ويحميها. أحضر المصحف وأقسم أنه برئ. لكن حتى زوجته بدأت ترسل إليه, في استحياء وبحذر - نظرات حائرة, قلقة, يشوبها شيء من الظن. بم يتدرع?.. (هي تعيش في كنفه, تحت رعايته وعنايته, إذن هو مسؤول عن كل ما يحدث لها. ومن يدري, ربما وسوس له الشيطان فاشتهاها في لحظة ضعف. كل شيء جائز«.. لا بد أنهم يقولون ذلك وما هو أخطر. آه, ليت ذلك كان محض كابوس, حلماً شنيعاً سوف يزول بمجرد أن يصحو.. لكن متى?
أما خلود,
التي ربطت الحيّ من أوله إلى آخره بوثاق الذهول وأشعلت فيه البلبلة والإنشقاق.. تلك التي كانت بلا حضور - بل محض روح عابرة - فأضحت محور المجالس, والاسم الذي تتمتم به الشفاه, وأمست الرئة التي من خلالها يتنفس الحي..
تلك التي راحت تصقل سطح مرآتها باسمةً غير آبهة لمن يلملم نثار الفضيحة للمنادمة, أو لأولئك الذين يتقاذفون الإرتياب ويخوضون في الباطل خوض الجاهل في الجهالة.. فبعد أن نالت من ضربات وشتائم السيد ما نالت, ونالت من تقريع وغضب السيدة ما نالت, إنسحبت خلود إلى غرفتها الصغيرة دامعة العينين, تشيّعها ما حاكته من إلتباس. وأول ما فعلت بعد أن أغلقت وراءها الباب أن وضعت راحتها على بطنها وراحت تمسح بلطف ودعة كما لو تلاطف من خلال الغشاء الشفيف جنيناً لم يتكوّن بعد.. إذّاك أطلقت الضحكة الطفولية, الجذلى, البريئة من أي إثم.
وحده القمر, في مساء يغسل زغبه بالأنداء ويهيء أقنعته للعب, يطل من شرفته اللامرئية حانياً على المفتونة به, ناثراً العذوبة على المرقد الذي إصطفاه من بين كل المراقد, حيث تتمرغ خلود في ريش النعمة سعيدةً ومنتشيةً.
القمر.. نديم الأرض الذي لا نديم له, هذا الساطع الذي يتقمص الأشكال مع كل رفة هدب: هو الرغيف في نظر الجائع, الكرة في نظر الطفل, الدرهم الفضي في نظر المحتاج, وجه الحبيبة في نظر المتيّم.. هو الذي ينحني الآن إنحناءة معشوق وسيم, متدثراً بغلالة من ضوء, واهباً الحالمة - التي تتواثب فرحةً في حلم فارع - ما يعوزها وقتذاك من حنان ومن ترف.
لكن كيف له أن يسعفها في الصحو, وبعد أن يحجبه النهار الغيور? وخلود حائرة من ردود فعل الآخرين, لا تعلم لماذا هم غاضبون إلى هذا الحد? ولماذا لا يصدقون ما تقول?
(نصدق ماذا, أيتها المخبولة? أن القمر هو الذي نام معك, في فراشك, وهو الذي بذر في بطنك نواة الخطيئة?«
لماذا يضربون كفاً بكف:
(ما هذا الذي نسمعه? جاءك في الحلم? في الحلم حدث كل هذا? إنها حقاً مجنونة«.
لماذا يصرخون:
(إسمعي أنت.. كفّي عن هذه المزاعم واخبرينا.. من هو?«
ظل الفاعل مجهولاً, ولم يشك أحد - حتى لو ذرّة شك - في القمر.. بل أطلقوا القهقهات المدوّية, وصار القمر هدفاً للنكت والتعليقات الساخرة التي لا تخلو من بذاءة.. لكن هذا لم يمنع النساء, العواقر والعوانس خصوصاً, من صعود الأسطح خفيةً, عندما يكتمل القمر ويتحول إلى قرص مشع ينبض شهوةً..
وهناك, تحت الضوء العابر فضاء الغيب, وعلى فراش منمنم بالغواية, يتمددن باباحية ويشرّعن أثداءهن ويفتحن الآهة والأنين أمام الطعنات العذبة لنصال كالبراعم, ضارعات لعل القمر الرحيم يدفق بذاره في المكامن الأكثر غوراً ويوقظ الخصوبة في حقل مسّه الجفاف منذ أن مسّه الإهمال أو الهجر.
ومثلما يلتئم الجرح بعد وقت, كذلك الفضيحة إلتأمت بعد وقت. وعادت الأمور كما كانت قبل تلك الهزّة, قبل تلك الصدمة, فيما عدا أن كل ذكر أصبح مذنباً وبريئاً في الوقت ذاته.. أما خلود, فقد راحت تهيئ نفسها لأمومة غامضة.
(52)
بنظراته الوديعة مثل صباح وديع, بابتسامته التي تبعث على الطمأنينة, بنبراته الواثقة الهادئة, الأقرب إلى الهمس, كان أحمد - من غير قصد - يغوي حميداً لكي يمكث معه وقتاً أطول, ويستدرجه إلى الإصغاء باهتمام أشد.
ربما صعبٌ على حميد أن يهضم ويستوعب كل ما يقوله, غير أنه - وقتذاك - كان يبيح حواسه كلها لكلام يتغلغل فيه حافراً مجراه في تلافيف دماغ يمنح الكلام ما يلائمه من تأويل.
يعرف أن أحمد, بجديته ورزانته, لا يهرق الكلام عبثاً, وأنه يعني ما يقول. ليس ثرثاراً ولا مدعياً. لا يترفع عن الآخرين متباهياً بعلمه وثقافته, بل يحترم الجميع.. حتى أولئك الذين يتهكمون عليه أحياناً ويقولون عنه (بائع كلام«. لقد اعتاد الأميّون النظر إلى المثقفين, وحتى المتعلمين, بوصفهم يمثلون تلك الشريحة من المتغطرسين الأدعياء الذين يتفاخرون بعلمهم ويتباهون بتفوقهم فيدفعهم الزهو والغرور إلى التعالي وعدم الإندماج إلا ضمن نخبة محدودة التكوين لها اهتماماتها وطموحاتها الخاصة. أما أحمد فقد كان يعي هذه الفجوة ويحاول أن يخلق مع الآخرين علاقة قائمة على الإحترام والبساطة في التعامل, مذكراً إياهم - في سلوكه وأحاديثه - بأنه ليس مختلفاً ولا متميزاً, وأن تواضعه ليس زائفاً.
]لا أدري لماذا كنت أتخيله في هيئة فارس مدجّج, يلمع على صدره درع فضّي, وعلى رأسه يضع خوذة تشبه خوذ المحاربين الرومان, وهو يمتطي صهوة جواد أصهب مزهو بسرجه المزركش ويحمحم على الدوام. من حوله وخلفه لفيف من فرسان أقل بهاء وأبّهة لكن عضلاتهم الصلبة تنزّ بأساً وبسالة, وهم يحملون بيارق ملونة.
لا أعرف إلى أين هم ماضون, وماذا يريدون, وما إذا كانوا ذاهبين إلى فتح أو إلى نجدة. لكن الصورة بذاتها كانت أخاذة إلى حد أنها إستحوذت عليّ لفترة من الوقت: كانت الجياد تعدو خببا وهي تطرق بحوافرها أديم الأرض فتثير من حولها الغبار العارم.[
من أحمد فهم حميد أن البلاد, وأن المجتمع, وأن حتى الحيّ نفسه, منقسم إلى طبقات, والطبقة المسيطرة هي المهيمنة إقتصادياً, والذين يملكون المال والنفوذ يستغلون ويضطهدون الذين لا يملكون, وأن هذه الطبقات في صراع مستمر حتى يتحرر المستضعفون وتكون لهم الغلبة في النهاية.
عزوز وزكريا لم يفهما ما يقوله حميد. كريم أعجبه الكلام وأراد أن يستوضح عن المزيد.. بل أن حماسه للفكرة حثه على أن يصنّف من يصادفه من سكان الحي إلى مستغل ومستغل, فكان يحسن معاملة الأول, ويشتم الآخر.. الحائر الذي لا يعرف سبباً لانفعال كريم المفاجئ.
أما علاقة حميد ونبيل, المتوترة أصلاً, فقد اتخذت بعداً آخر.. بعداً سياسياً واقتصادياً. لقد أدرك أن العداء - في جوهره - طبقي, وليس شخصياً أو بسبب إختلاف في السلوك والطبائع. وهو لم يعد الآن يكتفي بتجاهل نبيل في المدرسة بل راح يناصبه العداء الصريح ويتهمه بمحاولة استغلال إخوانه الفقراء, ويحرّض الآخرين على مقاطعته وعدم إعطائه أي فرصة للتحكم فيهم.
(53)
كانوا عائدين من جولة مرتجلة بالدراجات الهوائية خارج محيط الحيّ - حميد وكريم وعزوز وزكريا - بعد أن فاجأوا المناطق المتاخمة بعبور صاخب لكن بلا ضغينة, وفي رئات الجوار أشاعوا الطيش وجعلوا صياحهم يرتطم بالأماكن التي يمرون بها فيضرّجها بالدويّ والصدى. والدراجات - المعفّرة عجلاتها بما تضرجت بها الأرض من تراب وطين وسماد - كانت تختزل المسافات وتختم الطرقات المبلطة والوعرة بأختام محتدمة لكن سريعة الزوال.
كان الوقت عصراً عندما عادوا مارين بالدروب الأليفة, مسرفين في التهوّر, جاهرين بما يجهر به مراهقون يرضعون العصيان والعناد من ثدي الصباح. وعند منعطف, يصل الزقاق بالزقاق, يحدث ماهو متوقع - بتدبير ماكر من الصدفة - عندما يلتقي التهور بالغفلة, أو الرعونة بالشرود: ففي إندفاع حميد ورفاقه من خلفه بدراجاتهم السريعة حتى نهاية الزقاق بلا حذر, باغتهم ظهور الخادم الباكستاني - الذي يعمل في منزل تاجر العطور - ومن شدّة الفجاءة لم يستطع حميد أن يتحكم في دراجته بحيث يكبح عجلاتها أو يغيّر مسارها بل تركها تصطدم بالرجل.
الخادم الذي أفزعته المباغتة طرحه الارتطام على الأرض.
حميد الذي أفزعه الحادث وقع مع دراجته على الأرض.
الرفاق الذين أفزعهم احتمال تعرض حميد للإصابة كبحوا إندفاعة دراجاتهم في الوقت المناسب.
الخادم يتلفت مبهوتاً, إصابته تبدو طفيفة إذ لا يشعر سوى بوجعٍ في الركبة اليسرى.
حميد لم يصب بأذى. بعد أن حدّق في وجه ضحيته ليتعرف على ردة فعله, إلتفت إلى دراجته ليرى مدى الضرر الذي لحق بها.
الرفاق الذين زال عنهم الخوف والإرتباك سريعاً, راحوا يتطلعون إلى حميد وإلى الخادم, وبدا لهم المشهد هزلياً الآن فأطلقوا الضحك الصاخب..
هذا الضحك آذى الخادم أكثر من الإصطدام فقد اعتبره سخرية غير لائقة وإهانة لشخصه, وهذا جعله يوجّه نظرة حاقدة صوب حميد, المسؤول عن كل هذا, ولم يوفر المزيد من الوقت للتفكير أكثر في الأمر بل نهض على عجل وتحرك نحو حميد الذي لا يزال جالساً على الأرض قرب دراجته يبتسم في ارتباك, وقبل أن يعي ما يحدث تلقى صفعة شديدة على خدّه أذهلته وشلّت حركته وتفكيره معاً.
ولما رأى الخادم رفاق حميد يندفعون نحوه ليثأروا منه خاف وهرب عائداً إلى منزل تاجر العطور, تلاحقه الشتائم والتهديدات, لكن لم يتمكنوا من اللحاق به.
كان يمكن للحادث أن يمر على نحو عادي مثل عشرات الحوادث المشابهة, المرشحة للنسيان بعد وقوعها مباشرة دون أن تفضي إلى نتائج سلبية مثلما صار بعد أن استبدت بي رغبة شيطانية في الانتقام من هذا الشخص ورؤيته يتخبط أمامي على الأرض مضرجاً بالدم. لم تكن المرة الأولى والوحيدة التي تلقيت فيها صفعة أو لكمة, لكن لسببٍ لا أعرفه أو بالأحرى لا أتذكره الآن, شعرت وقتها بإهانة لا يمكن تجاوزها أو التسامح معها.. والرغبة الشيطانية تحتدم, ولا أحد قادر أن يشبع هذه الرغبة ويروي ظمأي إلى الثأر غير حمزة.. أخي.
وحمزة كان يصغي, في انفعال ظاهر, إلى ما أسرده عن الحادث مع شيء من المبالغة في محاولة, حققت نجاحاً فورياً, لتأجيج الغضب بداخله. ودون أن يعلّق أو يتيقّن من صحة كلامي, مضى ليكمن قرب منزل تاجر العطور, مترقباً خروج الخادم, ومعه يكمن الشر ونيّة مضمرة للإيذاء تعلن عن نفسها صراحةً بحمله قنينة فارغة يؤرجحها كما لو يهدّد بها شخصاً يراه بخياله فقط.
وكنت حينذاك واقفاً بعيداً أرقب في توتر لم أستطع إخفاءه خروج المنذور إلى العقاب.
وإذا كانت أصابع يدي ترتجف قليلاً فذلك بسبب الاستثارة لا الخوف.
ولما خرج الخادم أخيراً من ملاذه الآمن وجد نفسه هدفاً لهجوم مباغت شنّه حمزة الذي إنطلق في سرعة, رافعاً القنينة, ومندفعاً نحو الرجل الذي صعقته المفاجأة وشلّه الذعر فيما القنينة ترتفع لتهوي بقوة على جبينه, دون أن يقدر على صدّها أو تفاديها, فينفتح في الجبين شق ينبجس منه دم مذعور.
لم أكن بحاجة إلى وقت طويل كي أندم على ما اقترفت, ليس على ما ناله الخادم من ضربة جعلته يدور حول نفسه كالدائخ واضعاً يده الملطخة بالدم على شقّ لا يكفّ عن النزف فيما صراخه يتعالى ويربك السكينة التي كانت رابضة قبل لحظات من الحدث. لم يثر - وقتذاك - شفقتي, بالأحرى كنت منتشياً بالثأر وأنا أرقب في إمعانٍ القصاص العادل وما يبعثه فيّ من لذّة. لكن ندمت فيما بعد على المحنة التي حشرت أخي حمزة في جوفها.
دفعته - دونما تبصّر - نحو طريق شائك لن يقدر على عبوره إلا دامي النفس.. فقد إضطر إلى الإحتماء بما يحتمي به الطريد, والاختباء في أماكن ظن أن أحداً لن يصل إليه, وذلك بعد أن صمّم تاجر العطور على تقديم بلاغ إلى الشرطة ضده, رغم الوساطات العديدة التي تحركت لاحتواء الأمر في أضيق نطاق, وكاد أن يفعل ذلك لولا تدخل إمام مسجد الفاضل, هذا الذي لا يُرد له طلب.. خصوصاً وأن إصابة الخادم لم تكن خطيرة إلى حد الإعاقة أو التسبب في حدوث عاهة.
وحده أبي لم يكلف نفسه أي عناء وكأن الأمر لا يعنيه على الإطلاق (أو هكذا بدا في الظاهر) فلم يبادر إلى زيارة تاجر العطور للاعتذار والتماس الصفح, ولم يوبخني - كما توقعت - لسلوكي السيئ والتسبب في هذه المشكلة التي لا يمكن التكهن بتداعياتها ونتائجها, بل وجّه إليّ تلك النظرة الحادة, المديدة, التي أربكتني ورجّت أطرافي, فارتجفت قليلاً وتوترت قليلاً وتشوشت قليلاً, ولم أتحرر من هذا الأسر - الذي دام لحظات لكن حسبتها ساعات - ولم أشعر بانزياح الثقل الهائل عن صدري إلا عندما استدار أبي وابتعد عني ماضياً نحو حجرته ليعتكف فيها - كعادته - مع سجائره ومذياعه الصغير, ملاحقاً عبر مؤشر المحطات الصغير أنباء عوالم بعيدة لم يزرها, وبشرٍ بعيدين لا يعرف عنهم غير حروبهم وكوارثهم واجتماعات قادتهم. حيناً يتابع الأخبار وحيناً ينظر أمامه, محدّقاً في الحائط الأبيض العاري, حالماً ربما بمدينة بديعة الشكل, تسورّها الأشجار وتفتح حدودها وطرقاتها مرحّبة بكل زائر.. أو ربما يعود ساهماً إلى زمن لم يعد يقطن إلا في حنين الإنسان, وإلى أمكنة لم تعد موجودة إلا في الذاكرة, ليرى نفسه طفلاً أو مراهقاً.. فمن يعلم كنْه ما يطفو في رأس رجل يجلس بمفرده قرب مذياع لا يكف عن الثرثرة وقبالة حائط أبيض يعكس ما يريد الذهن أن يعكسه?
ومن نظرة أمي إليّ, تلك النظرة التي يتواشج فيها العتاب والحزن والوجع, أدركت عواقب الضغينة.
(54)
لحزن عفاف سطوع الفضة ورنين الموج, له ما للخيبة من نكهة مُرّة.
لا يخفى هذا الحزن وإن توارى وإن اعتكف بل تتماهى معه أشياء الغرفة فتبدو كما لو في حداد.
وعفاف الواقفة قرب سرير زاهد, لا يضيئه حلمٌ بعد, ترنو ساهمةً إلى ظلال أرقٍ مأخوذٍ بالسهر تتوافد تباعاً لتملأ المكان لهواً وهذراً, أما هي فتشيح وتتهدج سراً ثم خفافاً تذرع الغرفة, رشيقة رغم وطأة الهم, ولا تعرف بم تستجير.. أ بالحنين إلى فتى لا يحسن لغة الحب ولا ير من الحياة غير عنفها, أم بضفّة تأخذها إلى النسيان لتغسل القلب عن شوائب الأمس?
ليتها تقدر أن تحسم.. هذه الحائرة بين قلب يحب وعقل لا يرى في هذا الحب غير مكائد آسرة لا تتوب عن إغواء الروح.
تلوذ بالنافذة كمن يلتمس النجاة من هواجس تكبّل النفس بوثاق الوسوسة وتطل, هذه المبتلة بالإلتباس, لتشهد ما تحمله الريحُ إلى الريحِ من أخبار ونميمة, ولتجسّ بأنامل هشةٍ غشاءَ فضاءٍ رخوٍ يشفّ عن مياه - لا تعرف من أين تنبجس - تسري عبر الشقوق وعلى أسطح من القرميد, ويشفّ عن حمحمة بعيدة , وصلوات كثيرة ترتقي المصاطب في إعياء.
عندها تطلق عفاف سراح آهة خافتة وخجولة, تعقبها أسئلة موجعة لا تفصح عن نفسها بل تظل حبيسة الداخل:
لماذا يخذلها الحاضر, سائس المصادفات, ويئد أهواءها الصغيرة?
لماذا كلما نثرت الزنابق على شبابيك الوله جاء سهم الشك ليشك نصله في نواة اليقين أو الأمل?
لماذا كلما باغتتها المرايا داهمتها المحنة ورأت وجهاً يتمرّغ فيه الإرهاق ويعتريه الشجن?
بطيئاً يمضي الليل, بطيئاً يأتي النهار, وسرير عفاف ما مسّه حلم ولا هبّت على أجفان النائمة في قلقٍ عطايا الراحة أو الطمأنينة.
وآن تغادر نومها العابس, تهيب بالصباح أن يأخذها إلى فرح فصيح فما عادت تحتمل حيرة أو حسرة.
الآن, من شرفة حاضر
- يبيح لي فسحةً للتأمل ويتيح لذاكرتي أن تخترق بعناد أغشيةً تبدو ظاهرياً شفافة لكنها مراوغة مثل سحب عابثة -
أرنو إلى ماضٍ تدرّج لونه حتى صار رمادياً.. وفيما يمعن في صقل عتباته ومداخله وأفاريزه بلا كلل, ينسى أنه محض ماضٍ لن يأوي إليه غير الأطياف وظلالٍ كانت بالأمس طافحة بالزهو فأضحت شاحبة لفرط الهجر والنسيان. ماضٍ يسهو عن مواعيده حتى يحاذيه الغبار فيشهق ويمتقع عارفاً أن حصونه سوف تتقوّض لا محالة, وأنه موعود بالفصل الأخير: أن يكون مزاراً هلامياً, متحول التضاريس ومحفوفاً بالمتاهات, ويربك الحنين أو الذاكرة أوان الزيارة.
أرنو إلى كائنات أثيرية ما عاد وجودها يمتلك كثافة ووزناً بل أمست منزوعةً من سياق كينونتها وواقعها, عرضةً للتشكل أو التخلق حسب ما يمليه الإستحضار, وأحياناً تقتحم مجال التذكر دونما استدعاء فارضة نفسها بإلحاح, لكن في كل الأحوال صار حضورها حضوراً زائلاً, يتيماً, عائماً كما الرائحة. كائنات ما عادت تضجّ إلا في رأس امرئ مدجج بالحنين تشده الجذور إلى منازل يخفق فيها الدم شيئاً فشيئاً, وإلى أطلال ترجع إلى ما كانت عليه في الأصل, وإلى بشر ينسجون الأحداث ذاتها, والكلام ذاته, من جديد.
أرنو إلى فتاة وديعة تقف بلا حراك, كالأميرة المسحورة في الحكايات الخرافية, وسط أشياء وكائنات جامدة لا تتنفس, محرومة من الحركة ومن الصوت ومن الأريج.. كأنها تنتسب إلى عالم يحكمه الموت.
وعفاف أراها الآن كما كانت قبل سنوات طويلة: بعمرها العذب الذي لم يتغير وكأنه يتحدى قانون النمو, ببراءتها التي تفتن من يجاورها, بأهدابها العاكفة على زركشة الأحلام قبل أن توقظها مهزلة أو مأساة.
عفاف التي أعرف أمسها وأجهل حاضرها, لا أعرف إلى أي مصير أخذها القدر.. هل تزوجت? هل أنجبت ما شاءت من أولاد? هل...?
أراها الآن - كما كانت في حي الفاضل سنة 1963 - لكن أسيرة في قبضة زمن متخثر, تجمدت فيه كل الأنفاس وكل الروائح. وكلما إزددتُ دنواً, راحت قشور الزمن تتآكل وتتفتّت شيئاً فشيئاً حتى أضحت كما كانت في حي الفاضل سنة 1963.. حرةً من تلك القبضة, حرةً من عمر لا يكفّ عن الهرولة, ولم تعد رهينة غيب يؤرجح المصائر في حقله الكوني..
وما إن وقفت أمامها - صبياً في الثالثة عشرة - حتى بادرتني بسؤال ينضح مرارةً وإن تظاهرت بالحياد:
كيف هو أخوك? وأين ذهب?
أخبرتها أن تاجر العطور عفا عنه وسوف يخرج من مخبئه ويعود قريباً.
كانت تنصت بغير انفعال, كأن الأمر لا يعنيها, كأنها تسمع خبراً عن شخص لا تعرفه.. غير أن حزنها كان يفضح ما يجيش في أعماقها.
أردت أن أعترف لها بخطأي, بذنبي, لكني خشيت أن تكرهني فسكتّ, وهي استدارت ومضت مبتعدة.. ولم أعرف لحظتها لماذا طفرت دمعة من عيني.
(55)
لا تهدأ الحناجر الصغيرة ولا ترتخي في أوقات ما بعد الظهيرة, حين يهجع الكبار عادةً في غفوة يتفاوت أمدها من شخص إلى آخر, بل تزداد الحناجر صخباً كلما تدحرجت - في طريق أو في زقاق - كرة من الجلد استغرق نفخها وقتاً, وتشارك الأولاد في شرائها بحصص متساوية. وعندما ترتطم هذه الكرة بجدار أو بنافذة, بفعل ركلة قوية, تجفل الغفوة وتضطرب القيلولة. وأحياناً مع اشتداد الهرج وتصاعد الفوضى المرتجلة, يتعالى الصياح والسباب من داخل البيوت الكسولة في احتجاج وتهديد لا يكترث له الأولاد ولا يؤخذ بجدية إلا حين يخرج أحدهم حاملاً سكيناً ليمزّق بها الكرة.. عندئذ يتغيّر الملعب لكن لا تتغير الزوابع التي يستدعيها اللعب.
والمشهد يتكرر بعد ظهيرة كل يوم: فلا الأولاد يكفّون عن اللعب ولا الكبار يكفّون عن الشكوى والوعيد, غير أن المواجهة لا تقع إلا في أحوال نادرة ولا تتخطى حدود التلاسن.
لا مساحة فارغة في الحي إلا وتصير ملعباً لكرة القدم أو لألعاب غيرها لا تحصى. اللعب يوقظ الفراغ من سباته, يضرم فيه الشقاوة والرعونة, ويضرجه بأشكال الحياة الضاجة فيرقب كل هذا بحياد الحيران إزاء ما يحدث. وآن ينحسر عنه النهار, وتنقشع الضوضاء تدريجياً عن جدران بدأت تتثاءب, وقتها لا يسمع الفراغ غير أصداء صيحات طفولية تلتقطها جهات الأمس كالثمار في سلال حنونة, وغير رنين أقدام صغيرة وحافية تهرول كالبراعم نحو عراء بابه من سديم, وغير بقايا أنفاس متروكة سهواً, فيعرف الفراغ آنذاك كم موتٍ سوف يموت قبل أن يعود اللعب مع غدٍ طريّ.
كان حميد يلعب الكرة مرتجلاً الهجوم والدفاع, حالماً بأن يصبح لاعباً فذاً (معتقداً أنه المؤهل لأن يكون فذاً), عندما اقترب منه عزوز (الذي يلعب الكرة دون أن يحبها, ويعتبرها عبثية وغير نافعة) وتأتأ ملاحقاً كلمات متملصة تشاغب لسانه:
(أسمعت بالخبر? أحمد هرب خارج البلاد«.
لم يستوعب حميد الخبر.. كيف هرب ولماذا? ما الذي ارتكبه لكي يترك كل شيء ويهرب? وأين.. خارج البلاد?
في اليوم التالي استطاع حميد أن يلملم الحدث من الشذرات التي سمعها هنا وهناك:
كانت لأحمد أنشطة سياسية سرية مع جماعة محظورة, وقد لاحظ مؤخراً أن رجالاً تابعين لجهاز المخابرات قد كثفوا من إجراءات المراقبة عليه ومتابعته أينما يذهب, وكان يتوقع أن يداهموا بيته ويعتقلوه في أية لحظة تحلو لهم, لهذا آثر الانتقال إلى بلد آخر غير معلوم لأن الاختباء في مكان ما, هنا, غير مضمون ومحفوف بالمخاطر. ويقال أنه لم يأخذ شيئاً معه غير نقود تكفيه لدفع نفقات السفر كي يبعد الشكوك عن ما ينويه.
لكن الأمر الذي أثار اهتمام وفضول حميد هو موقف أبي أحمد الذي لم يبد أي رد فعل من أي نوع, بل رآه قرب دكانه يحدّق ملياً في قطع (الدامة« الخشبية, وهو يحك بظفره إحدى مربعات اللعبة.. كعادته كلما احتار أية قطعة يحرّك, فيما خصمه يراقب في سك¯ون تام, وفي تأمل عميق, دون أن تبدر منه أية إشارة لضجر أو تململ.
ربما كان يعلم بالأمر منذ البداية وهو الذي نصح إبنه بالهرب, ربما لديه تلك القدرة الإستثنائية على كبح مشاعره وانفعالاته, أو ربما أن المسألة كلها لم تعد تعنيه بعد أن يأس من إقناع إبنه بسوء اختياره طريق المجازفة.
في قرارة نفسه شعر حميد مرة أخرى بالخذلان وبما يشبه الخيانة, فبعد أن مضى سلطان إلى مخبأ مجهول - مثل طريدة لا تثق في أي مكمن وتتوهم أن الفخاخ منصوبة في كل مكان - تاركاً ظلالاً من شخصية كانت مؤهلة لأن تكون ملهمة أو موضع إحتفاء لولا أن غمس يديه في دم غافل فصار موسوماً بالغدر لا النبل, ها هو يرى أحمداً يخرج شريداً, لاهثاً خلف محطات من الزبد تحاذي الأفق لكن لا تستقر في مكان..
يفت¯ح رئته للفضاء الفسيح فتمتد نحوه أذرع المنافي لتتلقفه وترمي¯ه إلى حلب¯ة لا غال¯ب فيه¯ا غي¯ر محظوظ يصطفيه الحظ من بين حشود تدب أينما شاء لها القدر.. بأعضاء منهوكة يقرع الرياح ريحاً ريحاً لعله يهتدي إلى عاصمة يأنس إليها أو جهة تكفكف تعب¯¯ه.
مضى أحمد تاركاً وراءه كلاماً حلواً وخطى هادئة ومشاعر دافئة. وفي لحظة تأمل, إستنتج حميد أن كل من يتقرب إليهم ويشعر بود وإعجاب تجاههم يهربون.. ليس من المكان فحسب بل منه شخصياً, لسبب خفي يجهله. وقد أحزنه كثيراً هذا الإحساس: أنه تحول إلى مصدر شؤم.
(56)
ربما لهروب أحمد, بطريقة أو بأخرى, علاقة ما في التصالح بين حميد ونبيل, والتعهد بنسيان أو محو ما جرى. هذا لا يعني أن أحمداً كان يغذّي هذه الكراهية أو حتى يشجعها, لكن إيمان حميد بما كان يعتقده أحمد, خصوصاً من جهة أن الفوارق الطبقية تولّد عداوات واحقاداً عميقة هي حتمية ويتعذر إجتنابها قد شجع - ذلك الإيمان - على تصلّب موقف حميد وتزويده ببعد سياسي لا تحتمله العلاقة. وقد أدى غياب أحمد إلى إنهيار أفكاره ومعتقداته - أو إلى تصدّعها على الأقل - في روح هشة وذاكرة طرية مثل روح وذاكرة حميد.. هذا الذي تدفعه أعوامه الغضة نحو مهب محنٍ وأعيادٍ لا تحصى, وهو الأعزل وسط مجاهل لا تهادن.. لهذا يمجد الصداقة.
كما أن ابتعاد نبيل عن محيط الرفاق, وانقضاء وقت على حادثة سلطان, جعلت نبيلاً أكثر مرونة في تأمل جوانب الحالة وفي فهم أن ما حدث كان شيئاً عرضياً واستثنائياً, وأن رفاقه لا ذنب لهم.
ذوبان الجليد بين حميد ونبيل لقي ترحيباً وسط الرفاق, فهو - رغم كل شيء - إبن الحيّ الذي يحتضنهم كالأب الرؤوف دونما تحيّز أو تمييز. وبطريقتهم الخاصة إحتفلوا بهذه المناسبة احتفال البراعم بالتفتح أوان هطول الندى, أو إحتفال المزهوّين بالصداقة, العازمين على تلقين المسالك الأفعوانية بهاء أن تكون حليفاً للريح ومتواطئاً مع الجهات, إذ راحوا يجوبون طرقات الحي على دراجات هوائية جارين وراءهم روائح بيوت أليفه, وهسيس سعف يتقرّى دون اطمئنان حصنه الهزيل, ورفيف أحجار صغيرة تتطاير كلما مسّتها عجلات تنسى أن تكون رحيمة.
كريم
يقظة الطائر في فضاء يجمّل أبعاده ويوسّع مداه ليغوي تلك الأسراب المرحة ذات المناقير العذبة والتي تموّج الهواء بخفقات أجنحة رشيقة.
حيناً يرسل كريم حدقتيه لتنقضا كالنصال على فراغات مأهولة بأجناس عجيبة من الجوارح يريد ترويضها لتتعايش بألفة ووئام مع البلابل والعنادل والحمام. لا تخوم لمخيلته المجنّحة. وعندما يطلق بغتةً تلك الضحكات العالية, المجردة من الرصانة أو الحياء, دون أن يعلمنا بالسبب أو الباعث, فإننا نخمّن بأنه الآن يعكف وحده على استلال الفكاهة من بئر المخيلة, وليضحك وحده.. وكأنه يخشى أن يجرح الفكاهة إذا كشفها علناً.
زكريا
هبوب الأعياد آن تسطع الينابيع في أفق له لون المقل. يملأ رئتيه بهواء بارد ثم يندفع طاعناً المسافات بقامة فتيّة وصيحة حادة لعل المباغتة تفتح له المسالك بهواً بهواً وكلها مؤثثة بالبُسُط والريش. يمتطي الصهيل ليجهر بالولاء لصداقة الريح. يطبق بيده على الخفيّ من بلوّر يحسبه جذر السعادة, ويسفح في كل خلاء يلتقيه بعضاً من عنفوانه. من خاصرته ينزّ ذلك الشجن العارم والذي يضفي على حزنه وعلى تحفظه العنيد في البوح شيئاً من النبالة. يحدث هذا في حالات من السرحان الذي ينتشله من بين الجمع الساهر مثلما ينتشل الليل ظلامه عند قدوم الفجر.. برشاقة لا تُلحظ. وبدون زكريا الوسيم تفقد الصحبة ألقها.
عزوز
يهيئ للعجين تنوّره وللأيام الجمرات. يرى الكون في صورة رغيف مدوّر. من يجادل إبن خبّاز يؤكد جازماً أن الله خلق الشمس والقمر على شكل رغيف كي يذكّر الإنسان بأن عليه أن يبحث عن خبزه كل يوم?
يهيئ للصداقة المأدبة مالئاً المائدة بما طاب من هرج ومقالب وجلبة, ثم يدعو من يحب إلى ضيافة البحر.. هناك - يقول بلا تأتأة - المأدبة الكبرى, الملعب الرحب الذي يسع كل الكائنات.
نبيل
كلما ابتعد عن هامش الأمان, متجهاً إلى مشارف المجازفة, شدّته الخيوط إلى حيطان نسجتها العائلة على هيئة سياج أو أسوار حصن, حيث تحت سقف مدرّع كصدفة سلحفاة: أمومة حريصة إلى حد الوسوسة على حماية البيت من النوايا الخبيثة وتراقب بلا كلل إن كان هناك رأْب في الزوايا قد ينسل منها أي وباء.. وأبوّة تنتخب في صرامة ورصانة ما يليق بمكانة العائلة وتطرد أي طارئ قد يخلخل ما بنته أو ورثته.
ونبيل يمرّ ببيوت هرمة ووجوه أرهقها العبء, يمرّ بغبار يرفو ما تهدّم من مسكن غادرته المفاتيح بلا رجعة, يمرّ بخطى ثقيلة يحسب أن لها وقعاً كوقع سلاسل تزحف بطيئاً, فينتابه ما يشبه احتدام الظنون في نفس حائرة يتنازع عليها عصيان يجمّل مواطئة ليغوي الخطى الطرية, وامتثال لتعاليم وأعراف لا يقدر الفكاك منها.
مفتاح
ذلك الذي يرمق الهباء بعينين طافحتين بالرماد ويستقرئ خواء المحيط بأصابع ينتفض فيها حنين غامض إلى أيام غامضة لا يعود يميّز فيها ما هو رائق وما هو ملتبس. في خلاياه يتخبط الجنون. يمكث نهباً لوقت هلامي يبلبل حواسه ويشنّ عليه القهقهة التي تبالغ في تشويشه.
مفتاح الذي كان يمقت السكون ويمجّد الحركة, الذي كان يشعل فينا الهمّة كلما خمدت الجذوة, أضحى توأم الشرود وبات كائناً يألف العتمة.. العتمة الأكثر غوراً داخل النفس. وعندما يعبر من موضع إلى موضع, فإن أحداً لا يشعر بعبوره, لا يعير بالاً لحضوره الزائل, لا يسمع ما يسمعه مفتاح من دويّ يهدر كالرعد في رأس يزداد خبلاً كلما اجتاح اللهب أطرافه الهشة.
مكبلاً يأخذه التيه إلى غرفة لها شكل الجحيم, نوافذها عالية بحجم الكوى, وبابها الموصد المكسو بالمعدن تخترقه بين الفينة والأخرى طرقات لها وقع الحوافر, ومن الأرضية تنبجس حيوانات برمائية بالغة الصغر تتقافز جذلى لتختفي في لحظة, وهو وسط كل هذا يستلقي في هدوء متكوراً مثل الجنين ويوجّه إليّ تلك النظرة الخامدة لكن الطافحة بالحسرة - نظرة من أدرك أن حياته تنزلق من بين أصابعه كحبيبات الرمل وحين يضمها فإنما يضمها على الفراغ - ثم ألمح شفتيه تتحركان في وهن, وإذ أنصت برهافة, يتضح لي تدريجياً ما يتفوّه به.. كان يقول هامساً: أشتهي الآن أن أزرع الفخاخ في البريّة.
(57)
لم تعد خلود تلك الطفلة - الطالعة من جسد أنثى مثل برعم يتفتح إذ تتفتح الجهات المطلة على النعمة - ذات الطبع المرح والمشاكس التي تنثر في منعطفات الحي الدعابات والطيش كلما عنّ لها ذلك وبلا حرج: إذ تضحك عالياً, وعلى نحو مباغت, في وجه شيخ شارد الذهن, أو تشد عباءة امرأة وتجري مغتبطة, أو تتبادل الشتائم البذيئة - بلا حقد - مع صبية لا يعوزهم النزق والحماقة, كما لا تنقصهم حس الدعابة.
لم تعد خلود تلك المخبولة الناقصة عقلاً, التي لا تحتكم إلى المنطق بل إلى الفوضى - كما كان البعض يجزم - والتي تبقع الهواء باللهاث فيما تهرول خائضة في غمام الضحى أو عائدة مع أدلاء صغار ضللتهم الخرائط حتى صاروا من فرط التشوش غير مرئيين. وعندما تعدو مقتحمة أشكال الفراغ وتضاريسه يتلقفها مطر عابث شغوف بالأجسام الغضة يرشقها بمياهه العابثة ليستمتع بما ترتجله من رقص.
حيناً تصيح - هذه المفتونة بالصدى - في الأماكن المهجورة لتخيف بعض الأشباح التائهين عن ملاجئهم الآمنة, وحيناً ترنو ساهمةً إلى الأفق وبإصبع ترسم باباً مزركشاً بالنقوش والمنمنمات تدفعه برفق فينفتح لتدلف وتجد نفسها في ردهة مكتظة بأمهات بشوشات يتهامسن فيما بينهن في حبور ولكل منهن وجه ملائكي يسطع جمالاً ويفيض عذوبة فتبكي خلود من فرط السعادة.
لم تعد خلود تلك التي تحرّك فوانيسها أوان شحوب الضوء ليعلم الليل العادل أن العذراء جاءت لترصّع الجهات بأقراط فيروزية كي يستدل إليها من تضلله العتمة, أو لتلهو مع حباحب تحتشد في مواقع مموهة كي لا يباغتها فضول بشري, أو جاءت لمجرد أن تفي نذراً فحسب.. فيفسح لها الليل في وقار جمّ متسائلاً في سرّه: ما بال هذه العابقة بالصعتر تتصرف كالحواة فتستل من الظلمة أحجاراً تتحول في راحتها إلى مرايا صغيرة?
صارت قليلة الخروج من بيت حمدان العامر تجنباً ربما لتحرشات الفضول ورغبات الآخرين - التي لم تهدأ إلا قليلاً - في معرفة تفاصيل أكثر عن الحمل. أو ربما لحظر فرضه حمدان (حتى لا تجلب لنا هذه المجنونة كوارث ومشاكل أخرى«. لذا صارت تخرج عندما تقتضي الضرورة ذلك.. متقمصة الحضور الرزين لسيدة رزينة, منتحلة روح لبلاب لا يبالي بما ينصبه الطريق من أحابيل. بلا قناع ولا خمار تمسح بصرها في المدى المسفوح أمامها والذي ينبت كائنات حية وأشياء, لكن تغضّ كلما تمادت نظرات الآخرين في الفحش وأرادت أن تفضّ السرّ عنوةً.
في السابق كانت تدافع عن نفسها بالضحك, بالشقاوة, بالإسراف في الشر الطفولي.. الآن, وبعد أن تجرّدت من شرنقة الطفولة ولبست وميض الأنوثة, أضحت البؤرة التي تشد الأبصار إليها - مثل المغناطيس أو مثل الفضيحة - ويحق لها أن تتوجس وتحتدم مثلما تتوجس وتحتدم الجهة كلما هجست بعصف أو هبوب.
وإذا خرجت خلود لتلبية أمرٍ ما أو لتأدية شأنٍ ما, رافقها الزعفران ورائحة البن, وآثار حنّاء على الراحتين بهت لونها, وذلك الجسم الهلامي الذي يتكوّن وحيداً في الرحم من نطفة غامضة قد يجهل الآخرون مصدرها لكن يقيناً لا تجهلها هي.. ذلك الكائن الذي لا شكل له ولا إسم له والذي يمتزج بالمياه عائماً في فضاء أليف يحيط به غلاف رقيق وشفاف لكن لا يُخترق. وترافقها أيضاً تحذيرات لا تحصى عن ضرورة الإبتعاد عن الناس وتجنب الاحتكاك بالآخرين بأي شكل من الأشكال. إنها تمشي وئيداً كأنها تخشى على الأرض من ثقل قدميها, أو كأنها تطأ مفازة.
لم أعد أراها كثيراً - خلود - وإذا صادف أن وقع بصري عليها, غضضت وأرخيت ولجمت نفسي عن الاندفاع صوبها ومماحكتها والتناوش معها, كما كنا نفعل في ما مضى, خشية أن يثير تصرف كهذا - الآن - ظنون البعض فيعتقد أو يجزم أن شيئاً قد حدث بيننا, ويسيّج حولي ورطة لن أقدر على الفكاك منها.
ومرةً رأيتها قادمة من الجهة المقابلة من الزقاق فانتحيت جانباً, ملتصقاً بالجدار, وأشحت بوجهي في حياء وتوتر ريثما تمر, لكن ما إن حاذتني حتى شعرت بثقل نظرة مديدة, مركزة ونافذة, مصوّبة نحوي وتخترقني, فرفعت وجهي ووجهت بصري إليها - لكي أتأكد فحسب, لكي أعرف - وعندئذ رأيتها تعبر على مهل فيما ترمقني بتلك النظرة الصافية, النقية, التي لا خبث فيها ولا شقاوة, المنبعثة من عينين تشعان عذوبةً وألقاً, وعلى شفتيها إبتسامة مترددة وخجولة لكن حلوة.. يا الله, لم أر خلوداً هكذا من قبل.. مشعة إلى هذا الحد, جميلة إلى هذا الحد.
وحتى هذه اللحظة (لحظة استحضار المشهد من زمن قاطن في ذاكرة لا يمكن الوثوق من حياديتها) لا أعرف سر تلك الإبتسامة.. معناها ومغزاها. إنها تظل عالقة في غموض, لا تبوح بسرّها ولا تفصح عن مدلولها, لتبقى هكذا: لغزاً من ألغاز الحياة.
المساء
يخرج - كلما مسّته الوحشة - منتعلاً خفين من سديم ليطوف حول البيوت هاذياً ساعةً ثم يعود بعدها رائق البال فيهرق قطرات من الندى على أسطحٍ غافية وأخرى تضج قليلاً لتهدأ فجأة.
ثمة عشاق نسجوا في النهار - وفي غفلة من الرقباء - مواعيد زيّنوها بالشرائط الملونة ورصّعوها بكلمات عشق تركوها معلقة كالعناقيد ولما جاءوا كلٌ إلى خلوته الموعود بها, الموهوبة إليه وحده - لينعموا بعطايا الهوى ولذّاته, ما وجدوا شركاء الغبطة والمديح, ما وجدوا غير الغياب وأعذارٍ مفترضة لغياب شرس, فعادوا جهمين ومخذولين, يلفحهم الغضب حيناً ويلفّهم الشرود حيناً.
ثمة من يذرع الساحة وحيداً, مطأطئ الرأس, كأنه يمتحن شرايين الحيّ.
ثمة من يعبر على عجل متجهاً صوب المسجد ليرسل إلى الله رسالة عاجلة.
أما المساء ذاته فيلتقط ضاحكاً هبات السماء من غيوم صغيرة يسميها فاكهته.
الليل
يتمرغ مرحاً في أنحاء المدى الأشقر مستبيحاً الطرقات حجراً حجراً, وحيناً يصير وشاحاً رزيناً لحيّ جاد ذهب قسم كبير منه إلى النوم.
من معطف الليل يتسرب فوج من أدلاّء الحلم, أولئك البُكْم من مخلوقات بشرية لا تُرى بالعين المجردة, ولا يُسمع لها صوت رغم ما تحدثه من ضوضاء مدويّة في زحفها صوب كل نائم ينتظر حلمه. وبرشاقة مذهلة يخترق كل دليل صدغ من اصطفاه من النائمين ليرشّ أمامه صوراً تتحدى التأويل إن تجاورت وإن تباعدت, وقد تبتكر مشهداً ساراً أو مشهداً مخيفاً للحالم الذي ينشطر إلى ذوات لا تعد وإلى أشكال لا تُحصى من الكائنات والأشياء.
أما الندامى الذين ينأون عن النوم ليمجدوا السهر, الذين يغسلون الأهداب بماء الأرق, فيسفحون أهواءهم ومجونهم أمام ليل لا يكترث لكن يقرأ - في استغراق - إنشقاقات الضوء ويُملي على الظلمة مكائد المصابيح.
الفجر
يأتي مختالاً, منتشياً بالحفاوة التي تجهر بها الطبيعة والتي تليق بحضوره البهيّ, ويحط على مشارف الجهات بين نورٍ يعرف أنه الغالب الآن في حركة التعاقب الكوني, وظلامٍ ينحسر جمعاً جمعاً ليتناثر في الشتات الكوني.
برصانةٍ ينفض الفجر عن أطرافه بقايا الضباب وذرات الطل.
ومن شروخ في السديم - درع الطبيعة الذي لا يتدرّع به شيء - يخرج عمالٌ على أكتافهم تساقطت ما ندفته السماء من قطن ومن لبن. وعند الموضع الذي تتقاطع فيه الطرق, يتبادلون نظرات التضامن, يتبادلون الوداع الصامت, ثم يفترقون بلا جلبة.. بعضهم يمضي - عبر سيارات النقل الضخمة - إلى (الجبل« حيث الأرض تتغرغر بنفطها. وبعضهم يمضي سائراً إلى (الفرضة« القريبة حيث الصناديق والأكياس الثقيلة تنتظر السواعد والكواحل الصلبة على رصيف المرفأ لترفعها وترمي بها في قعر المراكب الراسية.
أما عدد من الموظفين الصغار والجباة فيمضون في إتجاه السوق إلى البلدية حيث منها يتوزعون هنا وهناك, أو إلى مكاتب الجمارك.
(58)
عندما دخل حميد الخرابة وحده, لم يتوقع أن يجد سنان الغامض (هكذا يسمونه) جالساً على درج متآكل - إستباحه الغبار والنمل - يتجرّع الخمر الممزوج بالماء من زجاجة لم يبق فيها غير القليل من الكحول.
لم يتوقع حضوره هنا لأنه كان قد غاب عن الحي أسابيع دون أن يعلم أحد أي خبر عنه, حتى ظن البعض أنه استقر في مكان آخر أكثر ملاءمة له وانسجاماً مع مزاجه المتقلب أو أحواله الغامضة. وها هو يعود كما خرج.. برفقة زجاجة تنبعث منها رائحة كريهة مقززة, وآلة ساكسفون خرساء تستريح بقربه في كسل, وجسدٍ شابٍ أنهكه الكحول وأفقد عينيه ذلك البريق المتطفل والشهواني الذي تتميّز به عينا أي شاب في سنّه.
بخطى متمهلة يتجه حميد نحوه ثم يتوقف جانبا, على بعد مسافة قصيرة منه, عند جدار كثير الصدوع والشقوق.. ويسأله في حياد ومن غير فضول ظاهر:
- أين كنت?
وسنان كان قد شعر بوجود الكائن الصغير, المنتهك لخلوته المباحة للهتك, من لحظة دخوله البطئ والحذر, وراح يتابع مساره الأخرق بنظرات ملولة خبا فيها كل توق إلى المعرفة, وكل حماس للتواصل مع الآخرين. ولما تناهى إلى سمعه سؤال حميد, ردّ باقتضاب وبكلمات تكاد تتعثر في حلقه قبل أن تتناثر:
- أين كنت?.. هنا.. هناك.. ليس هذا مهماً, حدثني عنك..
- ماذا تريد أن تعرف?
- ما أسمك?
- ألم تعرف إسمي بعد?
- لا ذاكرة لي..
- حميد..
- تعال يا ولد..
- لست ولداً..
- (ضاحكاً) إذن, تعال يا رجل واجلس إلى جواري..
يرفع سنان آلته فاسحاً لحميد مكاناً بقربه.
حميد, الذي يتظاهر بالجرأة أو اللامبالاة, يجلس ويشرع في حك أجزاء من وجهه ويديه كمحاولة لا إرادية للتخفيف من توتره الداخلي وعدم اطمئنانه الكلي.. فهذا الشخص مخمور ولا يعي ما يقول أو يفعل, وسوف لن يتورع عن إلحاق الأذى به, بطريقة أو بأخرى. والأمر الذي يضاعف من توتر حميد أن الآخر لم يعد يبدي رغبة في الحديث أو التواصل بل راح يتطلع أمامه صامتاً, شارد الذهن, متعباً من كل شيء. حتى أنه تجاهل وجود حميد إلى جواره وكأنه صار خفيا, غير مرئي.
هذه الحالة من الإستغراق في الذات, التي استمرت بضع دقائق, خففت تدريجياً من توتر حميد, ومنحته نوعاً من الراحة والإسترخاء, واطمأن أكثر عندما رفع سنان آلته وأخذ نفساً عميقاً ثم أطلق زفيراً مشوباً برائحة الكحول, بعدها وضع طرف الساكسفون على فمه وأخذ يعزف أو يرتجل لحناً بدأ بطيئاً وهادئاً إلى حد الشفافية ثم صار يعلو شيئاً فشيئاً لتتمازج فيه نغمات الشجن والعذاب والوجد حتى تبلغ الذروة العاطفية التي تحتدم فيها المشاعر والانفعالات, ليعود بعدها اللحن هابطاً في دعة وانسياب مع أنين يزداد خفوتاً إلى حد التلاشي. وبمجرد أن أزاح سنان طرف الآلة عن فمه حتى طفرت من مقلته دمعة مفاجئة, وربما غير متوقعة, سرعان ما مسحها بسبابته لئلا تفضح ما يجيش بداخله من عاطفة يراد لها أن تمكث مطمورة أو متوارية, فيما يدير رأسه جانباً ويلتقط زجاجته ويأخذ جرعة منها تبدو للحظةٍ حارقة أو لاذعة المذاق.
أما حميد فقد كان ينصت مفتوناً بالصوت الذي بدأ بنسج شباك سحري حوله ثم استدرجه بعذوبة وسلاسة - مثلما يستدرج المساءُ الظلال - حتى احتواه كلياً في ذلك الأسر الجميل الذي لا يشتهي التحرر منه. لم يشعر أبداً من قبل بمثل هذا الانتشاء, هذا السحر, هذا الخدر اللذيذ, وهو يصغي إلى هذه الموسيقى المدغدغة للحواس, المهدهدة لكل وجع ووهن.. الصوت المستعار من فم الملائكة.
بل أنه لم يكترث - من قبل - بسنان وآلته, حتى أن الفضول لم يدفعه يوماً لكي يجاور سناناً ويصغي إلى ما يعزفه. كان سنان ذلك الكائن الذي لا يستوقفك -بشكله أو بكلامه أو بحركاته - ولا يلفت نظرك إليه.. فهو صامت في اغلب الأحوال, لا يتدخل في أي شأن, ويتصرف كالغريب الذي عليه أن يحسن التصرف لكي ينأى عن المشاكل. كان يعبر كالظل.. حتى تكاد لا تشعر بمروره قربك. وعلى الدوام يحسس الآخرين بأن وجوده مؤقت, عابر, كالمسافر الذي لا يعرف محطته الأخيرة لكن يتعين عليه أن يجتاز تخوماً عديدة حتى يصل.
الآن, يكتسب حضور سنان أهمية بالغة في نظر حميد. الآن يرى بوضوح ذلك الألق والنبل وما خفي تحت قشرة نجح في تمويهها وكأنه كان يريد أن يحمي جوهره من تلوثٍ ما, أو كأنه لا يأبه بتلك الخاصيات التي قد تميّزه عن غيره لأنه لا يجد نفسه مختلفاً. وإذا كان يعزف بمثل هذه المهارة وهذا التألق فلأنه يرغب في قول شيء ما باللغة الوحيدة التي يتقنها.. ولا بد أن ما يقوله موجع جداً, والدمعة التي لمحها حميد وسارع هو إلى محوها, كانت تشهد على ذلك الوجع الذي يضطرم ويتأجج في الداخل دون أن يتاح له الخروج والتدفق للإعلان عن نفسه.
لقد هزّت تلك الدمعة اليتيمة كيان حميد حتى أوشك أن يعبّر عن تعاطفه بالربت على كتفه أو بالبكاء, غير أنه - لسببٍ لا يعرفه - أحجم عن فعل أي شيء, وظل صامتاً, ينظر أمامه في حالة من الشرود.. حتى انتزعه صوت سنان:
- ما رأيك?
فالتفت إليه مبتسماً:
- عجيب.
عندئذ أخذ سنان يمرر أصابعه وراحة يده, برقة ولطافة على سطح الآلة المعدني, كمن يتحسس زغباً أو فرواً وثيراً.. وهو يهب الكلام الذي ربما لم يهبه لأحد من قبل, أو ربما لم يسمع حميد مثله من أحد, وكان في ذلك فصيحاً:
]ليست جماداً هذه الآلة تلهو بها وقتما تشاء وتملي عليها ما ترغب وما تشاء, بل هي روح تنفخ فيها فتعجّ بالحياة وتزداد عذوبة كلما أحسنت التعامل معها. وهي تعطيك ما يبهر النفس وتهبك ذلك الرخاء الذي سلبته منك الأيام.. رخاء الحواس.
لذلك أحس معها بتلك القوة الخارقة التي ترتقي كياني وتضمخني بالقداسة. معها أجهر غير خائف أني الكائن الأسمى الذي لا يُغلب ولا يُقهر. بها أستعين من شيخوخة الروح ووهن القلب. بها أرتدي الأدوار الملونة مثلما أرتدي القمصان.. بحرية ورشاقة. أما بدونها, فأنا مجرد شخص ضعيف, جبان, متردد, غائب ولا مكان لي. بدونها أتضرج بحبر النسيان كل يوم. هل تفهمني?
هذه الآلة مرآة الداخل التي تريك - إن حدّقت بإمعان ما لا تريك مرآة الظاهر. ومن هذه الآلة - أنيسة المدّ أسميها - يرضع الكائن فتنة التناسق والتناغم مع الوجود. إنها الرئة التي يتنفس منها الحلم. أنظر إليها.. هل تظن أن لك, لأحد, سطوة عليها.. هذي التي تقدر بنغمةٍ أن تروّض الوحوش والنفوس الضالة? يطيش بك اللحن إن جنحت إلى التباهي وإن تماديت في الإستهتار.
هل رأيت غيوماً تنبجس من نوافير السماء وتتناثر كالندف, أو تحتشد سرباً سرباً كالزبد?
هل رأيت تفتّح البراعم في الليل دون أن يضيئها برق بل مجرد منارة بعيدة ترنو إلى المراكب شاحبةً من فرط الوحدة?
هل فكرت في عدد الأدوار التي تنتحلها الفاكهة - في الخفاء - قبل أن تصير ثمرة مغوية?
الموسيقى تريك كل هذا وأكثر. تعيد إلينا التوازن الذي فقدناه منذ أزمان سحيقة. تحقق لنا التناغم مع الطبيعة التي لم نعد نعبأ بها, والإنسجام مع الأشياء التي نهملها ونزدريها فيما نمرّ أمامها كل يوم.
تجعلك تحلم.. أحلاماً حقيقية لا كتلك التي تراها ليلاً في نومك وتنساها صباحاً: تحلم بأنك ساهر على كنوز الأقاليم ومخازنها وأنت متكئ على ظل الظهيرة زاهداً في الإمارة وفي كل ما لا ينتسب إلى الحلم. ومن شرفتك العاجية, الغاصة بقرابين الشفاعة, ترى جياداً تمخر عباب المياه وهي تردف عربات مذهّبة لترتقي سلالم المغامرة. وتنظر إلى الينابيع الضاحكة وهي تتبادل المواقع مع ضباب خمريّ اللون ينفض عن زغبه ما علق به من نثار وردٍ وفتات كلام.
تنصت إليها فتحس بخفة العمر, كأنك ريش وروحك جناح خافق. أغنى الأبجديات وأكثرها غواية. وهي شريان الروح. تخيل الحياة بدون موسيقى. ستكون بلا نبض: عدماً ينصب الضجر لكائنات تمشي بلا هداية.[
لا, لم يقل سنان كل هذا, غير أني قرأت في عينيه ذلك العشق الأثير, وربما الوحيد, الذي يرعش كيانه وينعش رغبته في الحياة.
وعندما هزّ زجاجته الفارغة ليتأكد من خلوها من الكحول, ونهض بتثاقل ناوياً المغادرة, قلت باندفاع:
- علمني..
نظر إليّ ملياً ولم ألمح في عينيه تهكماً أو إحتقاراً, بل كان كما لو ينظر في شرود إلى شيء لا يستطيع البؤبؤ أن يحدد ماهيته أو هويته, وبعد وقت غمغم:
- ليس الآن..
تحرك خطوات. سألته وأنا في مكاني:
- متى?
قال دون أن يتوقف, ودون أن يلتفت إليّ:
- عندما تكون مستعداً.
(59)
أمام الواجهة الزجاجية لدكان صغير يبيع الآلات الموسيقية, في السوق التجارية الواقعة جنوبي المرفأ القديم, وقف حميد وكريم وزكريا دقائق محملقين في آلة الساكسفون وحدها.. كما لو أنها بفعل قوة مغناطيسية إستثنائية قد شدّت أحداقهم معاً لتصير البؤرة المحاطة بهالة من الذهب.
بعدئذٍ إلتفت زكريا إلى حميد وقال:
- سعرها يكسر الظهر.. من أين ستحصل على قيمتها?
أجابه حميد وبصره لا يزال مشدوداً إليها:
- لا أعرف.. لكن لا بد أن أشتريها..
هنا إلتفت إليه كريم وقال له مازحاً:
- ومن تظن نفسك.. محمد عبدالوهاب?
وكأن التعليق قد راق لكريم واعتبرها نكتة فطفق يضحك عالياً. لكن حميداً, الذي تضايق من التعليق, أراد أن يلكز بكوعه جنب كريم غير أن هذا تفاداها برشاقة دون أن ينقطع عن الضحك.
في طريق عودتهم من السوق, سأله زكريا:
- وإذا حصلت عليها, من سوف يعلمك العزف.
- سنان..
صاح كريم في استنكار:
- سنان? هذا الذي لا يعرف رأسه من ذيله? إذن أبشرك.. سوف تصير عازفاً ماهراً بعد ثمانين سنة..
- أنت لا تعرف شيئاً..
(60)
في استعادة مفزعة, لكن تقتضيها الضرورة, لذلك اليوم المحفور في الذاكرة (كما لو بفعل أزميل زمن لا يريد للنسيان أن يذر ترابه على ذلك المشهد ولا للعدم أن يأتيه زائراً ليأخذ - كعادته - ما يمحوه) أستطيع أن أقول أن العنف الكامن, حتى في أضعف المخلوقات وأكثرها هشاشة أو رقّة في الشعور, هو باطش ولا عقلاني ولا يحتاج لمثوله غير محرّض بسيط يستفز العصب العدواني, أما جذره فيمتد إلى ذلك الكائن البدائي, السلفي, الذي لم ينقرض بعد, والذي لا يزال يقطن المواضع الأكثر غوراً في النفس البشرية, حارساً البذور التي غرسها منذ عهود غابرة.
كان حدثاً فادحاً لي.. على وجه الخصوص. ربما خفّ أثره مع مرور الوقت لكنه حاضر كالجرح.
أذكر - والذاكرة تنسى أحياناً وتخون أحياناً - أنني دخلت الحجرة مسترشداً بضجيج آلة الخياطة الصغيرة والعتيقة وهي تغرز إبرتها الحادة على طول أو عرض قماش في حركة رتيبة لكن بالغة السرعة تقطعها لحظات قصيرة جداً يتم فيها - برشاقة ومهارة - تغيير مسار الإبرة إلى جهة أخرى من القماش. وكانت أمي هناك تخيط - من بين أعمالها اليومية - ثوباً نسائياً لامرأة من الحي مقابل مبلغ زهيد. جلست أمامها على ركبتّي لأكون في مستوى بصرها حيث لم تكن قادرة, بسبب الحجم الصغير للآلة, أن تمارس الخياطة إلا جالسة على أرض مفروشة ببساط تلاشت ألوانه الأصلية تقريباً والآلة مرفوعة قليلاً بواسطة طاولة صغيرة ترتكز عليها.
إبتسمت لها متملقاً وقلت بصوت كاد أن يضيع من تداخله مع صوت الآلة:
- أمي..
وهي ردّت دون أن تكفّ عن العمل ودون أن ترفع بصرها عن الآلة:
- ماذا?
- إسمعيني قليلاً.
توقفت عن تحريك المقبض ونظرت إليّ متسائلة..
- أرغب في شراء ساكسفون..
- ماذا?
- آلة موسيقية..
سألتني باستهجان مبطّن:
- تريد أن تصير مطرباً?
- لا لا.. أريد أن أعزف..
- لن أعطيك أكثر من روبية.. تكفي?
- أتمزحين?
- حتى لو كان لديّ الكثير, أتحسب أني سأبدّد نقودنا في شراء آلة موسيقية?!
أرادت أن تنهي الحوار وتحسم الموقف فعادت إلى ما تظنه الأجدى: الخياطة.
هنا زعقتُ في حنق:
- إسمعيني..
لكنها لم تسمعني ولم تكفّ عن عملها. إزداد توتري وانفعالي, وفي لحظة غضب لم استطع التحكم فيها أبصرت المقص الموضوع قرب الآلة فالتقطتها في حركة سريعة ومفاجئة ورفعتها لأهوي بها على جسم أمي. وهي شعرت بهذه الحركة فتوقفت عن الخياطة رافعة نحوي وجهاً مبهوتاً وعينين رأيت فيهما ذهولاً لا حدّ له.. ولا أعرف كيف تجمدت ذراعي وتشنجت أصابعي القابضة على المقص غير أني, ودون أن تنقشع فورة الغضب, قذفت المقص بكل قوتي صوب الجدار, وعلى عجل نهضت وغادرت الحجرة.
بعدها تساءلت: هل إنتاب أمي إحساس ولو للحظة أنني سأفعلها حقاً? بأنني سأهوي بالمقص على موضع مقدس من بدنها لأخترقه بنصل حاد وأدميه? هي تعرف طبيعتي وسجيتي أكثر من أي كائن آخر, تعرف أني لست عنيفاً ولا شديد العصبية إلى هذا الحد, فهل صدقت حقاً أنني سأفعلها? ماذا رأت في وجهي? وجه قاتل? وماذا رأت في عينيّ.. وحش تترذرذ القسوة من بين شدقيه, أم ضحية انفعال طارئ?
يومها, وحتى ما تلاه من أيام, لم أعتذر لأمي لفظياً. لم أدفن رأسي في حضنها وأبكي أسفاً كما وددت.
ليلتها بكيت كثيراً.. وحدي وفي صمت. وأقسمت ألا أرهق أمي أو أي فرد من عائلتي بمطالبي المادية, وحتى بالإقتراض, وذلك بأن ألتحق بأي عمل بعد تخرجي مباشرة من المدرسة. والغريب أنني لم اكره الآلة الموسيقية: السبب الرئيسي, أو المحرّض الخفي, لذلك الفعل الشائن.
(61)
لم تكن فكرتي أن نسرق دجاجات وأرانب عبدالودود لبيعها وشراء الساكسفون, فقد نبعت من ذلك الجزء الشيطاني - الذي يزيّن الإثم ويجمّل غاياته - من دماغ مراهق يحمله كريم, ودرسها (الفكرة) زكريا من جميع جوانبها متأملاً أسبابها ومساراتها ونتائجها ليتوصل ليس إلى إمكانية تنفيذها فحسب بل إلى ضرورتها أيضاً, أما أنا فقد وافقت بعد تردد قصير شاعراً باستثارة مدغدغة للأوتار الحساسة في داخلي والتي تتوق إلى اجتراح المغامرة وهي الإستثارة التي غلبت وازع الخوف. وفي الحقيقة لم نكن ننظر إلى العملية على أنها جريمة فعلية أو إثم سوف يسم جباهنا بختم العار. لم نكن نشعر بخطورة ما نفعل. بالأحرى, كانت محض لعبة لكن سنلعبها مع الكبار وبنوايا ليست حسنة , وسوف تسعفنا عناصر التشويق.
لم يكن دوري مهماً أو رئيسياً, فقد كُلفت - دونما احتجاج من جانبي - بالمراقبة والحراسة.. أي أن أكون في هامش المجازفة الحقة (وهو الدور الذي سوف أتقن تأديته فيما بعد وطوال حياتي), فيما تولى زكريا وكريم تنفيذ العملية.
لكن النتيجة كانت إخفاقاً ذريعاً على كل المستويات: إذ لم ينجح رفيقاي إلا في الإمساك بدجاجة واحدة, وقد شاهدنا إبن عبد الودود الأصغر فأطلق صيحة التحذير وأطلقنا نحن سراح سيقاننا فراحت تعدو بأقصى سرعتها, ولم ينفعنا ثمن الدجاجة التي بعناها بلا دراية ولا دهاء في سوق الأربعاء وسط حشود من الباعة الجوّالين الذين كانوا يفترشون المكان مع بضائعهم المتنوعة ويرتجلون المناداة والمساومة كل أربعاء.
لكن النتيجة الأسوأ كانت تنتظرني في البيت.
ما إن دخلت وتقدمت خطوات في الحوش حتى باغتني صوت أبي يناديني. صوت جهوري, حازم, لا لين فيه ولا تسامح. إلتفتّ فرأيته واقفاً جهماً عند مدخل حجرته موجهاً إليّ نظرة حادة, قاسية, لا شفقة فيها:
- تعال..
دخل حجرته عارفاً بأني سوف أنصاع لأمره بلا جدال, وإني سوف أتبعه بلا سؤال, وإني داخل لا محالة. وقبل أن تبتلعني الحجرة بخطوتين, أدرت رأسي جانباً لأرى أمي واقفة تنظر نحوي في إشفاق. بعينيّ سألتها أن تفصح عما يريده أبي, إلا أنها آثرت أن تشيح بوجهها وتبتعد مانعةً نفسها من التدخّل.
من الصفعة الاولى عرفت أن الوشاية بلغت الدار بأسرع مما كنت أتوقع, وأن أبي غاضب جداً لأن من ظنه وديعاً وذكياً ما هو إلا لص وضيع غدر بأمانيه وتوقعاته, ولم يعد جديراً بالمباهاة. وعرفت أن أمي سوف تنبذني ولن تتسامح معي بعد الآن, وأن إخوتي سوف يعيّرونني إلى الأبد, وأن سكان الحيّ سوف يسخرون مني ويحولون حياتي إلى جحيم. وأبي الغاضب لم يكفّ عن ضربي وتوبيخي إلا بعد أن اقتنع بأنني نلت كفايتي, فقد شعرت بإنهاك شديد وفقدت القدرة على حماية جسمي وكدت أقع من الإعياء لو لم اتكئ على الجدار والدموع تبلل وجهي.
كنت أهبط عتبات النوم درجةً درجةً وسط حقل من الأحلام الصغيرة التي تتمايل كالسنابل مع كل هبّة ريح, والطبيعة تلبس ضاحكةً أقنعة الفصول بالتناوب وعلى مدار الساعة لتربك البشر والمحاصيل على حد سواء. وعندما بلغتُ التخم الفاصل بين هدأة النوم وجلبة الصحو شعرتُ بأنفاس أبي تدنو من وجهي وترطب نعاسي, وشعرت بفمه يطبع قبلة على جبيني إرتعشت لها أهدابي لفرط عذوبتها, وشعرت بيده تمسح بحنو على شعري كمن يلاطف غيمة وهو يخشى أن تذوب, وشعرت به ينتصب واقفاً كالسديم ويمضي مبتعداً.. خفيفاً كما جاء, وسريعاً كالومض.
حدث كل ذلك بسلاسة وخفة لئلا يجرح يقين الحالم بصحة ما يراه, لئلا يشوّه كمال المشهد بغزو مباغت يقوّض الأشكال ويشتت المرئيات. كان كمن يعتذر سراً عن قسوته دون أن يظهر ضعفه لغير نفسه.. ولم أفتح عينيّ بل تركتهما مطبقتين على حلم يهيئ صوره ورموزه الباذخة, وينتظر دخولي.
يا أبي, يا عقيل.. كيف صار لك هذا الصدر الحنون الذي لفرط رهافته يكاد أن يشفّ عن قلب مثخن بالحب, يعتريه الحزن كلما عنّ لك أن ترثي في السرّ رفيقاً, وتعتريه الحكمة كلما حاذتك المحنة وأمعنت في التأمل.. وأنت القادم منذ الطفولة من قرية عارية كالشفق أهملتها الفتوحات الحاملة أختام التحوّل, ونسيت الخرائط أن ترسم لها التخوم بعد أن سيّج الأمس الوحشي مداخلها بالغبار وقرون الأكباش, فصارت موسومة بالشظف, مدهونةً بالخشونة والبطء, لا يترجم أهواءها كتابٌ ولا يعرف أسرارها غير المحاريث.
"قلدار" إسمها, "الأرض الخصبة" معناها.. لكنها تلك القرية الصغيرة التي بنت من طين الخرافة بيوتها ومن أحجارٍ منهوبةٍ سوّرت حظائرها, ومع جيرانها - تلك القرى الصغيرة المبعثرة على سواحل فارس - كانت تتراشق بالعداوة حيناً وبالمودة حينا, وكل قرية, كل بلدة, تتفاخر بالحسب والنسب والتاريخ.
أما أنت الغضُ فتعبر حقول الفجل والجرجير عدْواً, باحثاً عن محطات العنادل أو اليمام, قابضاً بإحكام على فخ يخذلك كثيراً. ويقودك الهديل إلى بئر مدلّلة تحتشد حولها النسوة والصبايا مع دلاء أدمنت على الثرثرة.
وفي الأصيل كنت ترى "قلدار" مائلة بجذعها قليلاً كأنها تتكئ على قوس قزح خفي, وترسل بصرها إلى خليج يمتد مثل سرير شاسع, فترسل بصرك إلى خليج يملأ حدقتيك بمياه غامضة وأفق مترجّل يحرس ودائع الأعماق من نهب لا يكفّ عن النهب خلسة.
لم تتخيّل أن تعبر الخليج يوماً إلى أرض لا تعرف عنها الكثير أو لا تعرف إلا ما سمعته من نتف عنها. ووقتذاك لم تكترث بها, كأنها محض حكاية مرشّحة مثل غيرها للنسيان أو متروكة للذاكرة كي تحفظها أو تهملها.
لكن مع عامك التاسع إنتحى بك والدك, الشيخ محمد صالح, جانباً وأعلن موافقته أن تسافر مع عدد من الأقارب إلى البحرين.. تلك الأرض التي سمعت عنها ولم تكترث, تلك الجزيرة التي رأيتها صباحاً تطلع من غفوة العدم مضاءة بما خلّفته البروق من شعل وتستحم مع الموجات المجنونة مثل عذراء أزلية يسيل من أطرافها زبد الشهوة.
وعندما سألناك, على إنفراد, وفي أزمنة متباعدة - نحن أبناؤك الذين كان الغيب يدّخرهم لك في رحمٍ حيٍ وحميم - عن سبب مجيئك إلى هذه الجزيرة, أدليت لنا بالمختلف والمتناقض من الكلام وكأنك تشعل فينا شبق التخيّل وموهبة التأويل, أو تضعنا الواحد بعد الآخر في المدى الغامض حيث لا فاصل بين الحقيقة والوهم, الأسطورة والتاريخ, الوجود والعدم.
قلتَ لي: كنت أمتثل لما أملته عليّ المياه ذات فجرٍ.. أن أسافر لأجل السفر وحده, لا لشيء آخر ولا لغاية أخرى.
وقلت لطاهر: ما فعلت هذا إلا لأهرب من إبنة عم سليطة ومشاكسة أرادوها زوجةً لي منذ الصغر, وهي القادرة على تحويل حياتي إلى جحيم لا مثيل له.
وقلتَ لعبد القادر: كنت ألهو ببندقية صيد فانطلقت رصاصة خدشت في مسارها الطائش راحة يدي وتركت أثراً لجرح غير غائر. أهلي ظنوا أن هذه الجزيرة هي المنتجع المثالي الذي سوف يجعلني أنس الحادثة وأنس خوفي كلما وقع بصري على بندقية.
وقلتَ لشريفة: جئتُ بحثاً عن عمل. لم تكن الحياة سهلة هناك, وكان على المرء أن يساعد أهله.
وقلتَ لحسين: قطعت المشيمة مرتين.. عندما فاجأني النور لأول مرة, وعندما أردت التحرر من كل شيء.. الأسرة والأرض والجغرافيا.
وقلتَ لخديجة: بالغ أبي في معاقبتي على ذنب لم أعد أذكره الآن, فأردت أن أعاقبه بطريقتي الخاصة.. أن يفتقدني..
وقلتَ لصلاح: كان رجال السلطة يجوبون القرى بخيولهم وبغالهم بحثاً عن شبّان مؤهلين للتجنيد. وقد إنتشرت إشاعة بأنهم يأخذون الصغار لتأهيلهم في معسكرات خاصة ونائية.
وقلتَ لفاروق: لا أدري. نسيت السبب الذي حثني على السفر والذي جئت إلى هنا من أجله. نم, ولا تشغل بالك بهذه الأمور.
ربما جئتَ لأحد هذه الأسباب أو بعضها, لكن المؤكد أنك لم تأت نازحاً أو هارباً, بل جئت - بصحبة عدد من الأقارب - طرياً مع أعوامك التسعة الطرية, غرّاً ولا تفقه في أبعاد السفر وألغاز الجهات. وما تسنّى لك بعد أن تختبر ما يعنيه البُعدُ والفقدُ, وما يعنيه العيش غريباً في بلدٍ غريب, وحيداً إلا من رغيف تستعير قضمةً منه كلما عضّك ناب الجوع. كنت في حومة الطفولة تتقرّى جلجلة الطبيعة من حولك وتدرك مجفلاً أنك لم تعد في بؤرة الكون وأنك ضئيل.
وقتها كانت البوابات المائية مشرّعة كالأفق, وكان الانتقال من الساحل إلى الجزر المتناثرة يسيراً ومألوفاً, فلا اليابسة حصن منيع ولا الحدود حدود ولا المرافئ مخفورة بالأسلحة. والمراكب عندما تقطع المسافة من ماء إلى ماء فإنها تحمل من بين ما تحمل تاريخاً من العادات والطبائع والأفكار القابلة للتلاقح والانصهار. وما كانت المراسيم آنذاك تحاصر حركة الحلم وحرية الريح. وقد عبرت الخليج فلول من المسافرين والنازحين والتجار والعبيد.
الأرض كانت كريمة إلى أبعد حد, فلا تبخل بفيء أو ماء, وكانت تعرف العابرين واحداً واحداً من روائحهم, أما الغرباء فتترك لهم بعضاً من الخبز وشيئاً من الحنان.
والبحر هو البحر. يرصف كالطفل مراياه الصقيلة ساعة يصفو ويهدأ. ينفث على رعاياه الصاخبين والكسولين معاً نفحاتٍ من طيبه وسخائه, وبعينين تترقرق فيهما المياه يرنو إلى أولئك الذين يأتمنونه على حياتهم فيهدهد مخاوفهم ويرطّب أجفانهم بما يرشّه من زبد. رائق هو الآن. نبيل ومتسامح. ولا أحد يعرف سرّ تحولاته وتقلباته. كم سطوٍ حدث أمامه ولبث ساكناً بلا حراك, وكم لهوٍ برئ أثار غضبه وهيّج عناصره. مع ذلك, لم يتهمه أحد بالجنون إنما قالوا عنه: "ذلك الغامض الشفاف".
البحر بيت إن شئت. هو, بالأحرى, نُزُل مجاني يهب كرم الضيافة لكل عابر سبيل. وقد تدفع حياتك ثمناً لهذه الضيافة.. إن شاء قدرك.
في الأطراف البعيدة دلافين بعيدة يحسب من يراها أنها شهب تمرح. ثمة زوارق تتهادى كأن الماء يدغدغها. والزرقة تتأرجح في الأحداق. وفي الأفق يمرق سهم من ضوء خيّل إليه أنه برق رهيف, وما كان برقاً بل وميضاً مجهول المصدر.
يا لرحابة الفضاء! يا لعظمة البحر!
وكيف لكائن هش أن يطل في هذا اللج الكوني ولا يصيبه مسّ من الهذيان?
كنت, يا أبي, تنظر مبهوراً إلى هذا المسرح العائم والهزلي, الغني بكائناته وكنوزه, وتتمنى لو كان بمقدورك أن تقرأ الطالع وما يخبئه لك الغد, لتتجنّب ما يمكن تجنبه, وتتبع ما هو صالح لك, ولكن أنّى لكائن ناقص - هشٍ وضئيلٍ مثلك - أن يقرأ أو يترجم ما يسطره القدر في صحيفة الغيب?
كنتَ متكئاً على شرودك ترى المركب المحاصر بالمياه يشق المياه اللاهية فتتناثر شظايا لتعود وتلتئم لاهيةً من جديد, فيما طيور البحر تحوم في الفضاء الحليبي باسطة أجنحتها مثل أسرّة مريّشة تنام عليها الرياح, وبمناقير مضرجة بالملح والحبَاب تخترق أروقة الضحى مطلقة الأصوات الصديقة. وكم وددتَ لو استطعت أن تمد يدك وتداعب زغبها الطري, كم وددتَ لو أن البحر بساط وأنت تتمرّغ على مخمله منتشياً بالنعومة, وتسطع بين الأمواج كالألق.
على سطح المركب, حيث تحكم قبضتك على حبل يشدّ المصائر إلى موضع آمن, كان لحمك يزداد تشنجاً, وبشرتك تمتص كالإسفنج ما ترشقك به الشمس من شعاع ومن هذيان, وعيناك تغمسهما في مهبّ المصادفات فلا تلمح في رحاب الخفيّ غير شتات ينشر مرافئه على ضفاف يابسة تشنّ على الغرباء العداوة تلو العداوة فتنتابك الظنون وتعتريك الرجفة. وعندما سمعتَ رنين قلبك الخافق خيّل إليك أنك سمعت أيضاً حمحمة الجذور فالتفتّ إلى الوراء لتر إن كانت الجذور تقتفيك, وإن كانت البيوت تهرول خلفك, وإن كان أهلك ومعارفك يرخون لك الأفئدة لتعتصم بها وتعود, غير أنك لم تر إلا ساحلاً مغبراً يمعن في النأي, بكبرياء ورباطة جأش, كلما تقهقرت مدججاً بشعور غامض أن رمال ذاك الساحل سوف لن تدغدغ باطن قدمك بعد اليوم, وأن كل ما أبصرته وما لمسته وما شممته هناك حتى ذلك اليوم سوف ينحسر عن مدارك ليصبّ في السبات الكوني, عارفاً قلبك المثقل بالأسى,
أنك لن تعود تركض في حقول الخس والبصل ممتشقاً الصيحة البدائية والضحك الفاضح,
وأنك لن تقتصّ بعد الآن آثار الحواة والمخبولين والمصارعين الذين يدهنون أجسامهم بالزيت ويجوبون الآرياف بحثاً عن متحدّين,
وأنك لن تضمّ إلى صدرك الينابيع الهاربة من قنصٍ إلى حلمٍ تحلمه ولن تشمّ نعناع السهر في الأمسيات المقمرة مع أصحاب يتبادلون الغبطة والفكاهة بين الحكاية والحكاية,
وأنك برحيلك البرئ هذا قد قطعت كل مشيمة تربط شرايينك بشرايين "قلدار" وانسلخت عن أرض لم تختبر بعد مآثرك كي تحتكم إليك وانتسبت إلى أرض لا تعرف بعد كيف تستقبلك,
وعلى سطح المركب الزاحف على مياه حليمة, ترخي حنينك وتسدل أهدابك على المشهد الأخير: ملاءات بيضاء منشورة على حبال الغسيل ترفرف كأنها أيدٍ بيضاء تلوّح مودعة.. في وهن.
وما إن وطأت قدماك حافة الفرضة وشعرت بخفيّك تغوصان قليلاً في الأرض الرخوة حتى داهمتك الرهبة وعلت محياك طلائع الهلع فناشدت الجسارة أن تغيثك لكن ما استجاب إلى هتافك الأبكم غير الغشاوة التي أحاطت بك مثل جيش مدرّع بالضباب, ولوهلة ظننت أنك فقدت السمع أو أن كل من كان في الموقع أصابه الخَرس.. ليس هذا فحسب بل أن حركة الكائنات والأشياء قد تجمدت أو تباطأت إلى حد الجمود, والوقت كفّ عن الجريان أو صار يمرّ ثقيلاً وعلى مهل شديد.
ووسط كل هذا لم تسمع إلا جلجلة أجنحة تخفق وهدير مياه تتقارع, ولم تبصر إلا ما يشبه الغمام يغلّف المرئيات. غير أن هذه اللحظة التي حسبتها ساعات, تلاشت شيئاً فشيئاً وانقشع الحجاب الغائم, وإذ ذاك إستيقظ الوقت وصحا المكان من غفوته واستأنفت كل حركة حركتها وكل خطوة خطاها, واختلط زعيق البحارة بصياح المسافرين القادمين وهمهمات العتالين وجلبة أمواج عابثة ترتطم بالسفن والصخور.
وكان بوسع من يطل في مرآة حدقتيك أن يرى النوارس النزقة تستعرض مهاراتها في الإنقضاض والتحليق, ويرى الأفق الشامخ ينحني في وقار ليستر بعباءته المضاءة عري "قلدار" ويرى قلقاً يترقرق, ثم لا يرى شيئاً مع انسدال الأجفان. بعدها مشيت مثخناً بالفضول.
ما جئت غازياً ولا فاتحاً. زاهداً جئتَ يرافقك الهذيان والالتباس وما ربطته أمك حول زندك من رقية تقيك من العين ومن الأذى. أعزل إلا من أمنية أن تعيش في أمن ووئام دونما عوز ولا فاقة.
كنت تعلم أنك لن تتمرّغ في النعيم ولن يستضيفك الرغد في مخدعه, لذا عوّلت على المصادفات التي تذرفها الحياة عند كل منعطف, واستعنت بمن يعرف أبيك وأهلك هناك ليدبرّوا لك المأوى والحماية. مارست شتى المهن: خدمت في البيوت, طبخت, عملت صبياً في المقهى, ثم عتالاً ومراسلاً.. زادك الصبر والاحتمال, فلا خيار لك.
وهذي البلاد الفقيرة خاصمتك وشنّت عليك العداوة والظنون يوماً, وشملتك بدفئها وعذوبتها يوماً. بلاد تجرح وتضمّد, تقسو وترأف, لكن ما ادّخرت لك أرضٌ حباً قدر ما ادّخرته لك هذه الأرض.
وأنت آثرت أن تتجانس وتسالم الجميع, وفي احتشام آخيت الجهات كلها تفادياً لهبوب الفواجع من حيث لا تدري. وآن تخرّ مساءً من التعب, على فراش تهرّأ من فرط الاستعمال وبان قطنه في أكثر من شق, تسرّح مخيلتك الطفلة وتتمتم: آه لو كان هناك جسر خشبي يأخذني إلى صدر أمي وحنان أبي وعسل "قلدار".
وعندما استطال ظلك وشبّ عودك وبانت فيك فتوة العضل وازداد قلبك رهافةً, رأيتَ على سطح القنديل المضاء, وعبر الذؤابة البرتقالية لشعلة تتراقص, وجه زينب, وجه من ستكون زوجتك بعد موت بعلها, وجه أمي.
وكانت زينب حينذاك زوجة رجل عليل, بشوش وطيب السريرة. يعمل في مقهى شعبي.
وكانت زينب حينذاك أماً لطفل - سمّوه حمزة - يلهو بشقاوة مع عامين غضّين - هما كل عمره - ويلهب الأمسية بالضجيج.
آنذاك ما أمعنت النظر ملياً في الطلوع البهيّ لوجه سوف يضئ لك الدرب بقية حياتك, فقد غضضت حياءً, وخشيت أن تُغضب الله وأهل الدار, وأنت الضيف الذي جاء بك زوجها لتشاركه الأمسية وتتبادل معه الشاي والحديث والضحك. غير أن تلك اللمحة كانت بمثابة الفخ الذي نصبه لك القدر بعد أن نسجه بدهاء بدا ظاهرياً أنه عشوائي أو مجرد صدفة عابرة, وما كنت عارفاً بحكمته أو نواياه, أو بقادرٍ على هضم الطعم, فبدا كل شيء مربكاً ومحيراً, وإلا فكيف تفسّر تلك الرعشة التي مسّت أهدابك وتلك الرجفة التي دبّت في قلبك.. ذلك المساء.
ما هو مؤكد أن تلك اللحظة قد سيّجتْ كيانك بحرير الغواية وأضرمتْ فيك العشق الرهيف, فأشعلت الأمكنة بما يحشده العاشق من وجْد وولع, أشعلتَ الوقت والجهات, وساويت بين اللهب والثلج فكلاهما يحرق الفؤاد إن زاد فيه الشوق.
كان حضورها العابر والسريع - في الأيام التي تلت - ينعش روحك ويذرف على صدغك رذاذ الندى فتخرج ذاهلاً ومنتشياً, يتسارع في عروقك النبضُ ويتلاطم في أوردتك الخدرُ. وما علمت زينب بالكامن بين جوانحك من هوى يحتدم ويهدر لكن لا يُسمع له صوت.. إذ كيف لجاهلة بالنفس الكتومة أن تسبر الخفيّ وتقرأ السرائر من غير مفتاح أو دليل, وأنت أمامها تكظم وتغضّ?
آثرتَ أن تعتنق الصبر والإنتظار, ومرات يأستَ وفكرتَ في الرحيل, لكنك ما أعلنت لأحد عن هذا العشق المكبِّل, وما جاهرت به من خلال ومضة عين أو إيماءة إصبع, حتى حلّ الأجل بالموضع الذي يرقد فيه بعلها بعد أن اشتد عليه المرض ولفظ الشهادتين.
انتظرت سنتين كاملتين بعد موته حتى تجاسرت ومضيت بخطى محمومة إلى بيت أبيها, بيت من لم تبلغ العشرين ربيعاً بعد, وطلبت يدها.
ويوماً سألتك, وأنت تجسّ أعوامك السبعين بأصابع واهنة ومتفحصة, لماذا يا أبي لم تعد إلى "قلدار" ولو مرّة واحدة, ولو لزيارة قصيرة واحدة?
فنظرت إليّ وكأنك تبحث في وجهي عن إجابة تقنعني ولكن يبدو أنك لم تجد فأغمضت عينيك, أطبقتهما كما لو توصد باباً, كما لو توصد أفقاً.
عندئذٍ نهضتُ وغادرتك, عارفاً أنك الآن هناك.. في "قلدار" الذاكرة: تمشي في دروبها الضيقة, تتأمل بيوتها الوديعة, ثم تعبر الحقل ركضاً ومعك تسعة أعوام تعبر الحقل ركضاً.
(62)
إعتاد حميد ورفاقه, بعد عودتهم من المدرسة, الإلتقاء عند دكان أبي أحمد لساعة تقريباً قبل التوجّه إلى بيوتهم ورمي الحقائب المدرسية هناك وتناول الغداء.
في تلك الظهيرة المشبّعة بشيء من البرودة, تصادف حضور (عيد«.. وهو شخص غريب الأطوار ومتناقض. ولم نكن نعلم آنذاك أنه مصاب بانفصام في الشخصية, أو بالأحرى كنا نجهل ما تعنيه الإزدواجية وما أسبابها, وكنا نحسب أنها طبيعة خاصة أو عادة مكتسبة أو ضغط نفسي ما, لكن في المقام الأول كنا نعتبر تلك الطبيعة وذلك السلوك جنوناً أو خبلاً أو إضطراباً عقلياً, فقد كان عيد هذا يتأرجح بين حالتين متناقضتين تماماً, فمرّة هو غائص في السكينة والهدوء, مستغرق في التأمل, وإن تحرك فبرزانة وإن تكلم فبرصانة. ومرةً تراه يتصرف كالطفل وبعقل فالت لا يقدر التحكم فيه, فيشاغب ويشاكس ويطلق هذيانه هنا وهناك, مبعثراً الكلام المبهم كيفما اتفق, تاركاً الجمل الناقصة تتخبط بعشوائية, ويكون نقيض حالته السابقة.. وكأن شخصين يتعايشان في جسد واحد, ويتناوبان في التعبير عن ذاتيهما دون تدخل أو اعتراض من الذات الأخرى. وفي كلا الحالتين لم نر عيداً يجنح إلى العنف أو إلحاق الأذى بالآخرين, بل كان مسالماً وظريفاً حتى في مشاكساته.
كان عيد يتقمص الشخصية المضطربة, المفعمة بالصخب والطيش, عندما جاء مهرولاً وبين يديه مقود سيارة وهو يحاكي بصوت حاد صوت البوق منبهاً ومحذراً كائنات غير مرئية تعبر أمامه, وما إن حاذى الرفاق - الذين كانوا يوجهون صوبه نظرات خبيثة وقد انفرجت شفاههم عن ابتسامات يلمع فيها الكيد وتنم عن غبطة شيطانية بوقوع صيد ثمين في شباك العبث - حتى أصدر عيد صوتاً مضحكاً شبيهاً بصوت توقف السيارة المفاجئ عند الضغط على الكابح.
توقف عيد ملتفتاً إليهم ونثر عليهم بعض الكلام المختلط, غير المفهوم, وهمّ بالذهاب عندما سأله زكريا: من أين لك بهذا المقود يا عيد?
رمى الكثير من الكلمات المبتورة التي لم يلتقط زكريا منها غير عدد من الألفاظ مثل: سوق, انجليز, ماء, تيس, أعرف, لعين.. مع مزيج من الألفاظ الانجليزية والفارسية والهندية. وبالطبع فإن تركيب مثل هذه الكلمات في جمل مفيدة تستدعي جهداً خارقاً لا يحتمله زكريا أو غيره. أما حميد فقد عرض عليه أن يغني مقابل زجاجة كولا, وهو العرض الذي وافق عليه عيد فوراً, وبلا مقدمات أو تسليك لحباله الصوتية باشر في تأدية أغنية إنجليزية يبدو أنها وطنية وحماسية تعود إلى أيام الحرب العالمية الثانية, فقد كان ينشد بنبرة حماسية عالية وبرأس مرفوع كأنه جندي أو محارب في المقاومة, ولم يكترث على الإطلاق بالقهقهات التي تعالت من حوله وكأنه يؤدي واجباً وطنياً مقدساً.
وفي ذروة اندماج عيد في الغناء, أخذ كريم يدور حوله ويبدأ في ضرب الأرض بتلك القطع الصغيرة المحشوة بمادة متفجّرة والتي راحت تتفرقع تحت قدمي عيد الذي كفّ فجأة عن الغناء, وجحظت عيناه من الذعر وصار يتقافز في مكانه وهو يطلق العويل إزاء قصف لا يرحم. ولم يتوقف كريم عن تعذيب الرجل إلا بعد أن نفدت القطع, وعندئذ انزوى عيد في ركن مقرفصاً في فزع, لاهثاً بصوت مبحوح, وهو يتلفت خشية أن يباغته القصف من جديد.
وحده نبيل لم يضحك ولم ير في الأمر أي حس بالدعابة بل وقف بلا حراك, مسمراً إزاء المشهد الشائن الذي دار أمامه, وقد اعترته رعشات خوف لم يستطع التحكم فيها. دنا منه حميد محاولاً أن يبدّد أمارات الذهول والخوف التي بانت بوضوح على قسماته وقال له: لا تقلق عليه.. إنها حالة طارئة سرعان ما تزول.. هو فقط يخشى من البرق والرعد.
قال حميد هذا ببساطة ثم مضى مبتعداً, متجهاً إلى البيت.
في طريقه إلى البيت, رأى حميد من بعيد بثينة قادمة, عائدة من المدرسة, تحمل حقيبتها بيد وأعوامها التي تتجاوز العشرة بسنة أو سنتين باليد الأخرى. تمشي في محاذاة الحائط مطأطئة الرأس من فرط الحياء.
يتباطأ حميد في سيره, مرسلاً النظرات الجسورة صوب القامة النحيلة والشعر الأسود القصير والخطى الخجولة.. هذه الجسارة التي يستمدها حميد من ضعف وهشاشة الطرف الآخر, فهي غير حصينة وبلا دفاع, ويسهل اختراقها بالنظر.
ولو أنها مشت بثقة, وجابهت التفرس المنتهك بتحديقة مضادة أشد حدّة وتحدياً, لارتبكت الأعين وزاغ البصر.
أثناء ذلك, كان حميد يتساءل: لماذا صارت هذه البنت - في الآونة الأخيرة - تلفت نظره وتجذب اهتمامه أكثر فأكثر.. فلا هي جميلة على نحو صارخ, ولا هي من ذلك النوع المرح من الفتيات اللواتي لا يجدن حرجاً من تبادل الدعابات والمناوشات اللفظية, وحتى السباب الهازل مع من يقاربهن في السن من الإناث والذكور معاً. لا شيء يميزها, لا بارقة فتنة أو سحر, ولا خفة روح. حتى أنه لم يرها تبتسم لأحد. مع ذلك, ثمة عذوبة آسرة تسطع فيها, عذوبة هي ربما كامنة أو خفية, ولا تفصح عن نفسها لأي أحد, لكنها تتجلى في هيئة بصيص لمن يقترب منها أكثر, لمن يلامس الروح الشفيفة القاطنة في أكثر الأماكن غوراً من النفس, لمن لا يرى في القلب صقيعاً بل لهباً, لمن يقتحم الحصن الثلجي ليتدفأ بجمر العاطفة.
لذلك, فعندما تحاذيه بثينة وتتجاوزه, دون إلتفاتة إليه وكأنه محض عدم, فإن هذا العبور الزائل يمسّ الشغاف بأنامل من ضوء.
(63)
لم يستطع نبيل أن يفهم وقتها الغاية من إلحاق الأذى بالآخرين, الكائنات الأكثر ضعفاً وهشاشة, ولمجرد الإستمتاع برؤية خوف وألم ودمع الآخر الأعزل من كل شيء والمحروم من الحماية والدفاع. أية لذّة شريرة وشيطانية يحسها هؤلاء وهم يمعنون في إذلال ذلك الرافع عينيه - المليئتين بالرعب والأنين - في خضوع وتوسل, مستجدياً الرحمة, وهم يبالغون في تجريده من الكرامة.
لم يكن نبيل قادراً على محو تلك الصور التي حفرت شخوصها وتفاصيلها وعناصرها في ذهنه العاجز عن استيعاب حالات كتلك, وفي ذاكرته التي - على نحو معذب - لا ترغب في طرد تلك الحادثة وطمس الأفعال والملامح بل تريد أن تختزنها لغرابتها وفرادتها.
كان يستعيد, في عبوس وتقزز, المشهد الفاجع بدءاً من القصف العابث والهزلي, وانتهاءً بالمجنون (عيد) وهو ينشج مقرفصاً ويتلفت بعينين زائغتين, مبعثراً نظراته الوجلة في مختلف الإتجاهات. وعبر هذا المشهد, راح نبيل يستنطق دلالة القسوة في أكثر تجلياتها عنفاً وأكثر نواياها براءة في الوقت ذاته, ويجسّ التخوم الفاصلة بين الخير والشر, ويستقرئ منابع اللذة.. ففي حركة خاطفة ولا شعورية, ربما كانت خارجة عن إرادته, وربما كان مبعثها ذلك الجزء الغامض القاطن في الغور الأكثر بعداً داخل النفس, إفترّت شفتا نبيل عن إبتسامة سريعة, عابرة, وشيطانية.
(64)
غيلان تسعى في الأرض لتنسج, بخيوط المكر والضلالة, اللهو الشارد من عقاله.. اللهو المجنون الذي يفتك بمن يستسلم له ويستزيده.
غيلان موهوبة بالتقمص. تلعب بمهارة أي دور يحلو لها على مسرح طافح بالدعابة الشيطانية. مرةً تصير كبشاً ومرةً تصير إنساً, ولا تكلّ من تدبير المقالب للبشر. يقال أن الغول يتقمص هيئة شخص توفي منذ ما يقارب العشرين سنة, وهو يظهر وسط مجموعة من الشبان, وليس بين كبار السن الذين قد يتعرفون عليه سريعاً, وما إن يكتشف الشبان هويته الحقيقية حتى يختفي في لحظةٍ بلا أثر.
من رحم الظلمة, من شق جلدي يتسع تدريجياً فيتمدد الغشاء المخاطي الذي يغلّفه حتى يرقّ ويتفتت, تخرج المسوخ فرادى وبلا إندفاع, باحثةً عن عابر في مملكة الليل لتستفرد به وتبث في أحشائه الذعر الذي لن يختبر مثيلاً له. مزيج من الشكل البشري والشكل البهيمي. جسم انسان ورأس حيوان, وللحوافر وقع يشبه صوت الجرس أو صليل سلاسل تحتك بالأرض عند زحفها البطئ والمتقطع, عندئذ يسري الهلع في الأفئدة وتتحول العروق إلى ما يشبه الهشيم, ولا يجسر أحد على اختلاس النظر عبر فراغات النوافذ أو من فوق الأسطح. يطلقون عليها ما شاءوا من الأسماء والنعوت المخيفة, غير أنها لا تعبأ. مسوخ تحكم حصارها على الفضاء الدامس وتحرس أبواب الليل الألف بأحداق يحتقن فيها الفتك.
أشباح لفظتهم أجسامهم بمجرد أن مسّها الموت فأضحوا يحومون عبر الأثير في أشكال هلامية غير مرئية ولا تخضع لقوانين فيزيائية, باحثين عن أجسام أخرى قابلة للانتحال لكن لا أحد يعير جلده ولحمه لمن لم يصن بدنه عن البلى والتلف, لذا يهيمون بلا حكمة ولا غاية.. موتى في عالم لم يعد يتعرّف عليهم ولم يعد يقبل باستضافتهم أو يرحب بهم. صاروا غرباء ودخلاء في بيوت وملاعب شهدت - يوماً ما - حضورهم وضجيجهم. وها هم يرتادون الأماكن التي ألفوها وأقاموا فيها حيناً, يشدهم الحنين المعذّب إلى مراتع الأمس, ودون رويةٍ يتركون القرائن التي تدل على مرورهم أو إقامتهم العابرة كي يتذكرهم الآخرون بالدرجة ذاتها من الاشتياق, ولا يعلمون أنهم بذلك يفتحون الخوف على مداه.
جنيات يرفلن بالغواية ويبزغن بزوغ العرائس في مرآة الخلوة ومخدع الفتنة. يرتجفن لذةً, الضاربات إلى الشهوة, لخلب اللبّ ونهب ما يمكن نهبه من شغف أعمى. جنيات يحملن الوجوه النضرة ويطلعن طلوع العسل من مجرى الشمع, مخضّبات بحناء الإباحة وخشخاش الألق. وفي نسغ المساء الحائر يتسربن كالحليب باحثات عن شارد يهيم عبر الأزقة مختلياً بنفسه المحرومة من حضن رحيم أو سرير عاشقة, فتمثل أمامه الجنية لتلهب خلاياه بسياط الأنوثة فيجهش بالرغبة.
يجنحن إلى الإفْك - جنيات الغموض, وصيفات المعضلة - وآن يبسطن الأوشحة الزاهية مراقد للأنين الحلو ويشهرن أثداء الغواية المترعة بالباطل, لا يسلم أحد من شرنقة الوهم, ولم نسمع عن أحدٍ عاد من برزخ الوله راجح العقل.
وإذا عرّجنا صوب البحر, صادفنا وحوشاً ومسوخاً لا تُحصى, غير أن أخطرها وأكثرها إرعاباً ذلك المخلوق العملاق, المفرط في الوحشية والطاعن في البشاعة, والذي يخرج من مسكنه في الأعماق مرةً في النهار ومرةً في الليل, مغطى بالطحالب والسراطين, ليبتلع من تسوّل له نفسه السباحة في محميته المائية, ثم يعود غائصا مع وجبته بعد أن يتفقّد بعينه الواحدة المدى الشاسع من المياه.
كائنات الخرافة التي لا يكلّ الخيال الشعبي من خلقها وإعادة إنتاجها على مرّ العصور, ولا تملّ الشعوب من سردها بأشكال متنوعة ومتباينة, وهم جالسون - جماعات في الخلاء - حول النار مؤججين السمر بحكايات حافلة بالإثارة والتشويق, أو في الحجرات الدافئة قرب المجامر وأباريق الشاي.
لم تكن الغاية الوحيدة تغذية السهرة بما طاب من قصص ونوادر شيّقة وممتعة, لكن أيضاً من أجل كبح نزعة التمرد والعصيان عند الأطفال, ولجم ما قد يظهرونه من تهوّر وعناد. بتلك الكائنات والقصص كانوا يخيفون الصغار كي يمتثلوا للأوامر أو النصائح ولا يجازفوا بالخروج ليلاً أو دخول البحر في أوقات غير مناسبة.
حكايات كثيرة سمعناها عن أفعال الجن والعفاريت والأشباح من شهود عيان إلى ضحايا لقاءات مباشرة وغير متوقعة, حتى يكاد المرء أن يجزم بأنه يسمع وشوشات هذه الكائنات في أذنه ولفحات أنفاسها على رقبته, ويشعر بوجودها من حوله أو طافية فوقه تترصده وتتحيّن الفرصة للانقضاض عليه.
مرّ جوهر قرب (العين« - وهو حمّام عمومي قسم منه للرجال وقسم آخر للنساء - فسمع خواراً, لكنه لم يستطع أن يتبيّن مصدره. وقتها كان الظلام يعسكر بكل ثقله وكثافته ماحياً أبعاد المكان وأشياءه فلا يعود هناك تمييز لجدارٍ عن جدارْ بل يصير كل شيء من أسلاب الظلام. وحتى ضوء القمر ما كان يجسر على اختراق سياجه المحكم.
مرةً أخرى سمع جوهر خواراً فأرسل نحو الدامس خطى بطيئة ومترددة لم تستطع أن تتظاهر أكثر بالشجاعة فتوقفت. عندئذ برقت عينان مثل محجرين من لهب. الحضور المباغت والمخيف لعينين غريبتين يحتقن فيهما الغضب وتشعّ منهما العداوة, أدى بجوهر أن يطلق لا إرادياً آهة فزع ويتقهقر خطوات مدفوعاً بقوة الصدمة. وكأن رد الفعل العفوي هذا إشارة منتظرة لبدء العرض, إذ توهج الحيّز فجأة بفعل ضوء خفي ومشع, وسطع كائن مسخ له رأس ثور وجسم آدمي, يتفرّس وفي نيته البطش.
ولم يكن جوهر بحاجة للتريّث وقتاً أطول كي يستطلع الأمر أو يستجوب الظاهرة الخارقة, فقد إنتزع قدميه من موضع كاد أن يعتقلهما ويشلهما عن الحركة, وركض بأقصى سرعته حتى دخل بيته مندفعاً, وراح يخيط باللهاث أسمال الرعب ويحلج الهذيان بعد الهذيان وسط أهلٍ أحاطوا به فاغري الأفواه, وسوروه بالدهشة وتخبط التأويل. وقد تركت تلك الحادثة بَصْمتها على جوهر والمتمثلة في إرتجافة يده اليمنى ما إن يمسك بفنجان أو بشيء ما.
أما هود فقد رأوه جاثياً عند نهاية الزقاق وهو غارق في ضحك هستيري, وعندما انحنوا عليه يسألونه عن السبب, صمت فجأة واعتراه الذهول ولم ينبس. لم تنفرج شفتاه, بل ظلتا مضمومتين شهراً كاملاً. كل الكلام الذي يبغي قوله كان يدور في حلقه كالدوامة لينحدر بعدها في جوفه. زوابع من الكلام تحتدم وتتدوّم في داخله لتهدأ أو تخبو من تلقاء نفسها. كل هذا كان يبدو جلياً على قسمات وجهه وإيماءات يديه كلما أراد أن يلفظ الكلام الحبيس. وهذه الحالة كانت تثير الشفقة عند البعض وتثير الضحك الفاحش والمكبوح معاً عند البعض الآخر.
بعد ثلاثين يوماً, وقبل أن ينطق بحرف, أطلق صرخة مدويّة أرعبت حتى القطط, وانفتح الفم أخيراً كما لو أن لعنةً قد رُفعت عنه, وبدأ يروي الحكاية: كان سائراً, مساءً, وانعطف نحو زقاق معتم بعض الشيء, وعندما شعر بحضور شخص خلفه توقف والتفت ليرى فتاة باهرة الجمال, تشعّ نضارةً وبراءةً, فنظر إليها مصعوقاً غير أنها بادرته بسؤال عن الطريق الذي يفضي إلى الحيّ المجاور. إنتشى أكثر بصوتها الدافئ والطفولي, وتطوع لتوصيلها. مشى أمامها خافق الفؤاد, راعش الأطراف, من شدّة الوله الذي استولى عليه وسلب لبّه وعقله. غير أنه, مع الأصوات السكرى التي تجيش بين جوانحه من فرط اللذة, سمع وقع حوافر تطرق الأرض بتوءدة وفي إيقاع رتيب. في البداية إرتاب في أذنيه لكن مع إلحاح الوقع الوئيد حلّ اليقين. وما إن بلغ آخر الزقاق, حيث الضوء الهارب من مصدره الشاهق يحتل حيزاً محدوداً, حتى توقف هود ثم استدار.. وإذ ذاك جحظت عيناه من الفزع وتجمدت الصرخة في حلقه..
- اسمع يا زكريا.. إذا تناهى إلى سمعك صوت حوافر, حتى لو كان حماراً حقيقياً, لا تنتظر لتتأكد بل سارع إلى رفع طرف ثوبك وأطلق ساقيك للريح..
(قالها عزوز ضاحكاً ثم أضاف)
- أما أنت يا كريم فيسهل صيدك, لذا حاذر الظلمة وارفع مصباحك عالياً حتى يحسب القمر أنك تغيظه بضوئك المزوّر..
- أخي يقول ان كل هذا باطل.. محض خرافات. والناس يتوهمون.
- أخوك حمزه لا يعرف كوعه من بوعه.
- المسّ الشيطاني يطال حتى الأطفال.. هذا ما يقوله أبي.
- أبوك مخرف يا كريم.
- جدتي تقول أن التعايش بين البشر والعفاريت كان ممكناً ومألوفاً في الزمن البعيد. أيامها كانوا مرئيين, ولهم أشكال بشرية لكن تميّزهم آذانهم الكبيرة. كان لهم عالمهم وللبشر عالمهم.. ولم يكن هناك ما يفصل بين العالمين. وكان بينهم قانون غير مكتوب لكن متعارف عليه منذ القدم وهو ألا يتعدى طرف على حقوق الطرف الآخر أو يؤذيه بدنياً أو لفظياً. وقد احترم الطرفان هذا القانون حتى انفصل العالمان وتباعدا بفعل مجئ الكهرباء وزحف الآلات نحو هذه البقاع.. عندئذ اختفت عن أنظار البشر.
- وأين هي الآن?
- يقولون أنها بعد أن ضاقت عليها الأرض, صارت تحب الإقامة في العراء وفي الخرائب..
- هل حقاً تخاف هذه الكائنات من الحديد والمعدن?
- ياجوج وماجوج يأكلان الحديد والحجارة مع أن طولهما لا يتجاوز الذراع.
- ما بالك يا كريم تخرف مثل أبيك.. هذا لن يحدث إلا يوم القيامة. الله ضرب سوراً حول ياجوج وماجوج ليمنعهما من إيذاء البشر.
- هل تظنون أنها الآن في هذه الخرابة ترانا وتسمعنا?
- ربما..
- لا, هي لا تظهر في النهار. مع مغيب الشمس تخرج.. عندما يحل الظلام. الشمس تحرقها.
- ليس شرطاً, سمعنا الكثير عن خروجها نهاراً.
- ألا يستطيع المرء أن يقاومها? أن يتصارع معها مثلاً, أو يرشقها بالحجارة?
- لن يمسّها أي أذى, فأجسامها ليست كأجسامنا.. ليست من لحم ودم.. هي كالطيف, كحزمة ضوء. وهي شفافة, تخترقها الحجارة دون أن تحس بها, وكأنك تطعن الماء أو الهواء بسكين..
- التعاويذ تفيد.. إنها تبعدها وتحمي أجسامنا.
- ما رأيكم في اصطياد كائن منها ليشرح لنا كل ما التبس علينا, وليفشي كل أسرارهم..
- وكيف نقدر يا ذكي?
- ننصب لهم الفخاخ..
- ألم تسمع ما قيل منذ لحظة? كيف تقنص ما يطفو ويحوم ويميس من حولك دون أن تراه?
- سألتكم إذا كانت هي الآن معنا, في هذه الخرابة, ترانا وتسمعنا.. ولم يجبني أحد..
- قلنا لك.. هي تخرج في الليل فقط..
- لم أنت خائف إلى هذا الحد يا كريم?
- حميد, لا تتظاهر بالشجاعة.. ليس عندما يتعلق الأمر بالأشباح والجنيات..
- أنا لا أخاف لأنني لا أظن أنها موجودة..
- حتى في الليل?
- حتى في الليل..
- وكيف عرفت?
- سوف أثبت لكم.
- كيف?
- سوف آتي إلى هنا.. مساء هذا اليوم.. وسوف أدخل وحدي وانتظر ساعة.. بهذه الطريقة يمكنكم أن تتأكدوا من صحة ما أقول..
- انه مجنون, لا تدعوه يفعلها..
- بل سأفعلها.
(65)
قال له زكريا:
خذ معك قنديلاً كي لا تجهد عينيك في رصد وتقصي كمائن الظلام. للقنديل سطوة على الظلال التي تنبثق وتتلاشى في هلع. الضوء بشفرته الرهيفة يشق لك العتمة كالسكين. وإذا رماك الذهول إلى مهب المباغتات فتشبث بمعدن أو قضيب يتلألأ بين كفيك, أو استعن بضفاف الحكمة وتمتم سراً: (ما هذا إلا وهْم, ومحض رؤى«. لكن لا تذعن لإرهاق أو نعاس, دع اليقظة ترشدك في حقل لن تر فيه بقولاً ولا سنابل, حقل لن تر فيه غير بذور الظلمة.. ولا يفتح أقفاله غير بريق المشاعل. أما الكائنات التي تنبجس هنا أو هناك فسلّط عليها من زيت القنديل وأشعل الفتيل.
قال له كريم:
خذ معك النشيد, ولا تكفّ عن الإنشاد والصفير. أحزم الأغاني موالاً موالاً. أضء الأنقاض بالصوت واللحن, ودع لهاثك يسرد ما يسرده الرواة من قصص ونوادر كي تخفّف قليلاً من غضبهم على إقتحامك الوقح لمثواهم. ومن جديد أبرم الإتفاق معهم بألا تنتهك حرمة منازلهم بهكذا فظاظة وجلافة. أما إذا عنّ لهم أن يثأروا, فارفع عقيرتك واستغث بنا.
قال له عزوز:
خذ معك الخيزران دليلاً, ولكي تلهب به ظهر العتمة إن تمطت واعترضت مسارك. وبه أيضاً تمتحن ما يُلتبس عليك وأنت واقف بين تخوم اليقين وتخوم الوهم. وإذا شئت أن تدغدغ به المياه فلك ذلك إن التقت بك المياه. لكن إذا سمعت رفيفاً يُراد له أن يكون كرفيف الحمام أو سمعت ديباجةً يرتجلها حضور غرائبي فلا تستدر.. أهرب ولا تنتظر, لا تمهل النفس برهةً لتستطلع الظاهرة إكراماً للفضول أو حباً بالمعرفة.. ونحن الشهود سوف نغضّ ونتظاهر بالعمى ريثما تعبر أمامنا ركضاً خارقاً ومن خلفك تعبر الأرواح ركضاً أيضاً.
قال له مفتاح الذي لم يكن هناك:
خذ معك الشفق - كما تأخذ الإبريق - من عروته, واغمس في حبره الوردي ريشة البسالة ثم دحرج الشفق وامض خلفه مهتدياً بما يذرفه من شعاع وردي يشبه حرير الأفق. وإذا صادفك ما يصادف المحارب في الحومة فتذكّر أن لك أمّاً ثكلى ترفو لك من الآن المراثي.
أمزح معك يا هذا! أدخل ولا تتردد. سدّد قبضتك نحو الخوف وأعلن له جهاراً أنك برئ منه حتى الأبد. شمّر القميص عن بأسك الذي لا يضاهيه إلا بأس الصارية, واسأل المساء قبل إنحساره أن يلهمك الحيلة والوسيلة لاقتناص ما يؤويه المكان من ألغاز أو لفضح مهزلة الخرافة.
أخذ حميد كل هذا ودخل, حاملاً كذلك ما يحمله عابر المفازة من:
قلب واجف لم تفلح نعمة المجازفة في صقله بالشجاعة الكافية,
عضل يرتجف كلما أرادت التجربة أن تشحذ همته,
هواجس معلّقة على سندان الوحشة تحتدم كلما ارتطمت بها مطارق الظلمة,
رهبة لا قرار لها ترجو الامتحان أن يكون أكثر يسراً من فعل النوم,
عناد أخرق يحسب الجسارة في رؤية المركب لا في السفر.
حمل كل هذا لكن لم تكن لديه شفاعة البلاغة كما عند الرُسُل ولا شهوة الرحيل كما عند البدو. والمفازة الفاتحة أشداقها تتفرس في الزائر بأحداق يترذرذ منها الإزدراء.
دخل حميد ليجد نفسه في قارعة الجحيم وحيداً وعليه أن يجتاز أسنة اللهب عوماً أو عدْواً. لم يكن الظلام هنا خيمةً, كان عباءة كالحة مسدلة بإحكام على كوْنٍ لم يتشكّل بعد. وعندما حرّك حميد قنديله - يميناً مرةً ويساراً مرةً - شطر الفراغ الأسود بمدية من ضوء لكن لم يترك شقاً منه ينسل, لذا تجاسر واخترق الفراغ الدامس خطوتين.
كان يعرف حتى قبل أن يدخل, حتى قبل أن ينطق بالعبارة المشؤومة (بل سأفعلها«, أنه ما كان ينبغي أن يراهن ويُشهد الآخرين على إسرافه في إدعاء البطولة لمجرد أن كريماً داعبه بالقول: (لا تتظاهر بالشجاعة..«
كابر وجاء مثقلاً بالعناد الأجوف فلم يردعه عقل ولم يلجمه نذير ولم يأبه بالنصيحة. لن ينفعه الآن توبيخ النفس على حماقة نفرت من طيش اللحظة, وعلى لسان ارتكب الزلة في غفلة من الحكمة, وعليه أن يبرهن لرفقة - تقاسم معها خبز الصداقة وملح الحب - صحة ما أصدره من حكم بالباطل على كل الشواهد, وصواب ما زعمه من أن ما يتراءى هو محض أضغاث وخزعبلات, وإلا فسوف لن تغفر له - هذه الرفقة - موهبة الإدعاء وسوف توسم أيامه القادمة بوسم السخرية والتهكم إن هو جبن وتقهقر قبل أن يخوض التجربة.
ها هو يطوي مخاوفه ويهدهدها كرضيع, متضرعاً ألا تخذله ركبتاه في هذه الساعة, ومتوسلاً وساطة الليل كي يخرج من المحنة مصون الكرامة. ويهيب بالعويل أن يؤجل الطلوع من حنجرة سوف تفضح حتماً مالكها الذي لن تشفع له المحاولة.
يتحرك على نحو أخرق, وبلا عجلة, موجّهاً المصباح كيفما اتفق, شاعراً أن الحصار الحيّ يحكم حصاره عليه حتى ليكاد أن يسمع نبضه.
من خلال الضوء الشفيف الذي يتدافع هنا وهناك, كان بوسع حميد أن يرى بأن الخرابة ذاتها قد تغيّرت وتحولت وانتحلت هندسة أخرى غير التي ألفها واختبرها وتجانس معها في النهار ردحاً, وكأن الظلام يخلق لنفسه الأشكال والتضاريس التي تحلو له وتتواءم مع طبيعته.
يطأ حميد جغرافيا الظلام, أعزل حتى من الخرائط ومن التجربة, ليرى بعينيّ الغرّ والمبتدئ:
الفراغات وهي تلملم ما تساقط من أسمال وما تناثر من أحجار لترمم بها الذابل من كل سطح والشاحب من كل قوس, وتملأ كل ثغرة بالرنين والصدى لئلا يُقال أنها هرمت.
المسافات وهي تتعرى من أبعادها ونسبها, وتتدرّع بأشكال ليست كالأشكال, فتتسع الكتلة وتضيق في آن, وتتجرّد الدائرة من قطرها فتنتابها ما يشبه اللوثة, ولا يعود للمثلث خطوطه الهندسية, عندئذ, كل من يذرع المسافة يصيبه مسّ.
الفضاء وهو يحشد ما لا يُرى من أعشاش وريش وأجنحة مبتورة تخفق ببطء شديد, وينظر إن كان أحد يقدّر هذه الدعابة.
الجهات المزكومة برائحة الروث وبول الحيوان وهي تحمحم كأنها أمست مأهولة بخيول من سديم.
الحيّز وهو يغيّر موقعه كل دقيقة ويتقمص في كل مرة هيئةً تبلبل وتشوّش.
لم تعد الغرف, المنزوعة أبوابها, تطل على طمأنينة المكان بحكمة المتأمل وزهد الناسك بل صارت مسكونة بما يخيف وبما يجعل الأوصال تصطك. لم يعد الغبار - بنكهته التي لا تشبه نكهة شيء آخر - يجلس على العتبات ثقيلاً كالِقدْر بل إرتفع كثيفاً وراح يرتطم بما يصادفه في جنون مطلق. وفي زاوية هبّ منها ضوء فجائي كان من الممكن رؤية جسور صغيرة معلقة بلا أعمدة ولا دعامات.. طافية في سكون وكأنها أعجوبة, غير أنها اختفت في لمحةٍ. الخرابة نفسها صارت أشبه بكوكب لا خالق له ولا له أقدار تحكم المصائر, إنما يتشكّل تلقائياً ليهدم بعد ذلك أشكاله, ومن الأنقاض يبني بلا انقطاع.. وكأنه ممسوس بالهدم والبناء دونما غاية إلا غاية اللعب. ووسط الهدأة, بين الهدم والبناء, يستنجد حميد باليقظة وبالذاكرة, ويتساءل:
هل للمكان ذاكرة? هل تتذكرني الغرف والجدران والعتبات فتعرف أني صديق قادم للزيارة لا للإساءة? هل أسطع الآن في ذاكرة السقف المتصدع فيرنو إليّ بعين حانية ويودعني أسرار المكان وخفاياه ثم يسمح لي بأن أخرج في أمان?
يبتهل حميد لهذه الذاكرة أن تهبه العون والمدد. لكن لم يعرف حميد, لم يعرف أبداً لماذا اشتم في تلك اللحظة رائحة ليمون وكأنه يتدلى عناقيد عناقيد حوله وعلى مقربة منه. صار المكان عابقاً بهذه الرائحة التي انتشرت وحامت حتى علقت الحموضة بالأشكال وبالفراغ.
وفي غمرة الرائحة والحضور المربك لثمرة نزحت عن شجرها وجاءت إلى هنا أرتالاً لتتدلى بلا دعم من الأغصان, تراءى لحميد أن عيوناً لا تُحصى, عيوناً تجمهر فيها الشرر, إنبثقت بغتةً من كوى الظلام لتحْدق به وتحدّق إليه, فامتقع وشحب وفاض فيه الهلع حتى غصّ وكاد أن يخرّ لتبتلعه الهاوية لولا أن أطبق أجفانه بشدة وعندما فتحها لم يجد عيوناً كالجمرات تتوعّده وكأن ممحاة سحرية إزالتها, غير أنه شعر للحظةٍ بقطرة مالحة تحرق مقلته ثم فجأة توهج الموقع الذي يحتله السلّم الحجري المتصدّع, فأمعن النظر ليلمح البزوغ التدريجي لشيخ سمح الوجه ذي لحية طويلة بيضاء, وعليه رداء أبيض يغطي قدميه, وكان واقفاً ببهاء ووقار على الدرج الذي صار من رخام, مدّ ذراعه الطويلة نحو حميد مشيراً له بأن يقترب, قائلاً بصوت مهيب:
تعال يا فتى, تعال إليّ.
عندئذ إنبجست من جوف حميد صيحة فزع خالها لن تنتهي أبداً.
(66)
فجاء إليّ مفتاح بطيئاً وخفيفاً كما الشعلة العابرة وحدها عُباب الظلام ولا تضئ إلا نفسها, ومال صوبي بقامته الرشيقة وبشرته السوداء الجميلة, ووهبني ابتسامته الحلوة التي أيقظت روحي وأنعشت أطرافي, ثم مسّد جبيني بأطراف أصابع تكتظ فيها النداوة. وشعرت بنفحةٍ رطبة قرب أذني وتهادى إلى سمعي صوت مفتاح العذب يهمس: (قم معي يا حميد.. إتكئ على كتفي بيد, وبيدك الأخرى إتكئ على هودج حلم غضّ نخوض به ضفاف اليقظة لأريك ما رأيت حتى صرتُ أخفّ من الأثير وأكثر براءة من الجنون«.
وكنت مع دليلي أطأ تربة لم تُحرث بعد, وحولي بذور الرؤى تتقافز صائحة لأن ثمة من أهملها وتركها مهجورة في العراء والبرد, فجثوت وغمست سبابتي كلها في التربة ثم أخذت بذرة ووضعتها في الحفرة الصغيرة ودفنتها, فلم تمض دقيقة إلا وانبثق من موضع البذرة جذعٌ راح يصعد عمودياً ويرتقي الفراغ ويتضخم حتى بلغ طوله العشرة أقدام أو أكثر فكفّ عن النمو, ومن الجذع انبجست الأغصان في لمحةٍ وتفرّعت على عجل وبدأت الأغصان تورق بكثافة وجاءت ريح خفيفة هبت على الأوراق فاهتزت الأغصان قليلاً ثم تماسكت عندما باشرت الثمار في الطلوع والاكتناز والتكوّر وصارت بحجم الرمّان لكنها لم تكن فاكهة تؤكل بل بدأت أغشيتها اللامعة كالزجاج تشفّ عما يتكوّن بداخلها: أجنّة بشرية, بالغة الصغر, تطفو مترعة بالجذل.
كنت أرقب كل ما يحدث في انبهار, وهتفت بي الدهشة أن أدنو واقطف ثمرة, فالتفت إلى دليلي مفتاح لأستأذنه, غير إني لم أجده بقربي بل رأيته يمضي مبتعداً بخطى وئيدة مثل نهر ينأى عن ضفته. ناديته فلم يجب ولم يلتفت.
لحظتها شعرت بعرق غزير يبلّل وجهي, وملوحة حارقة تخترق بؤبؤيّ, فأغمضت عينيّ متوجعاً وراح جسمي يرتجف بشدة بفعل حمى عنيفة اندفعت في أطرافي وباغتت عروقي وخلاياي, وعندما باعدت بمشقة بين أجفاني التي بدت وكأنها مختومة بالشمع, قدرت أن أرى من خلال الغشاوة وجه أبي, الذي يكسوه القلق ويعتريه الأسى, يطل عليّ مشفقاً ومؤاسياً في آن. وبقربه وجه الملا - الذي بدا أشبه بوجه الحلزون - وهو يتلو آيات متلاحقة يزدرد نصفها وكأنه في عجلة من أمره.
أردت أن أسأل أبي لكن خانتني الشكيمة وأخذني الوهن إلى سبات عميق سرعان ما بدأ يضطرم ويهتاج فجاءت الحمّى وانتشلتني لتزجّ بي في رحيل أجهل مبتداه ولا أفقه منتهاه, وأسرت بي الرعشة إلى رحاب غابة تحفّ بها الأجمات وأشجار الصنوبر لأصادف بثينة تمشي مرتدية المعطف الأحمر وفي يدها سلة ملآى بالورد. إستوقفتها منادياً إسمها لكنها لم تعرفني ولم تتذكر إن كان لها مثل هذا الإسم, غير أنها منحتني وردة حمراء ووهبتني أجمل ما يمكن أن تهبه صبيّة لصبي: إبتسامة.
وعندما ابتعدت قلت لنفسي: يا إلهي, سوف يفترسها الذئب مثلما إفترس جدتها ورقد في سريرها منتظراً. صرخت محذراً, لكن الصرخة تمزقت وتبعثرت في حنجرتي ولم تخرج إلا في شكل أنات وآهات, فشعرت إذ ذاك بيد حانية ترطّب جبيني بكمّادة. فتحت عينيّ وكان الظمأ يضرّج حلقي بجفاف مرّ, فرأيت وجه أمي يسطع أمامي بكل رقته ووداعته, وتهبني أجمل ما يمكن أن تهبه أم لإبنها: نظرة حب.
(67)
لثلاثة أيام كان حميد رهين حمّى طاغية تشكّ له الأحابيل وتضرم له الضغينة فتأخذه في مركبة مدججة بالنار من سبات رائب إلى هذيان عارم لتعيده منهوكاً وخائراً إلى نعاس أو وسن لا يستقر فيه إلا قليلاً ليداهمه هذيان آخر يهرس حواسه ويشتت الخطى, أو كابوس آخر يدشن له أشكال الرعب.
وفي خارج صومعة الحمّى المنيعة كان أبوه عقيل يرصد - مرةً مع الملا الذي يحلج له التعاويذ والأدعية لصيانة البدن الذابل من التلف وليطرد بها أرواحاً قد تتوافد لتسكن البدن الطيّع, ومرّات يربض وحده محتمياً بالإيمان, لائذاً بالقدر - يرقب ويرصد تحولات الجسم الهش الذي تطحنه رحى البلبلة, متضرعاً إلى الرب أن يقيه ويحميه.
وفي خارج صومعة الحمّى المنيعة أيضاً كانت أمه زينب الطافحة بالخوف على وليدها, العامرة بالأسى, تحرس مرقد هذا الذي ترك أعضاءه المريضة هنا وضاع في مدى القنص وحيداً ويتيماً. وتتحيّن زينب الوقت الذي لا يعود فيه للنوم أو الحمّى سطوة عليه لكي تتلقفه بذراعين يفيض منهما الحنان ولتضمه إلى حضنها المشتاق. لكن الوقت لا يحين فتعاتب نفسها لأنها لم تدلله كفاية ولم تبذل له ما يشتهي من نِعم.
وفي خارج صومعة الحمّى المنيعة أيضاً كان إخوته طاهر وعبدالقادر وشريفة يطلون عليه, بين الفينة والأخرى, في قلق ولا يفقهون ما الذي ألمّ بشقيقهم الأكبر, وإلى متى سيظل طريح الفراش هكذا. أما حمزة فقد كان يسأل ويتأسف لأنه لم يكن حاضراً معه ساعة المحنة كي يحميه ويذود عنه مثلما يفعل دوماً.
وكان حميد يصحو بين وقت وآخر, ولبرهة وجيزة, معفراً بطين الإلتباس, ليعاين الوجوه المحيطة والموضع الذي يرسو فيه جسده المرضوض لكن لا يمهله الشرود إذ تنتابه بغتة جند الحمّى وتسترجعه وكأنه لا يزال الجسم اليانع الذي يحلو قطافه ولم يستنفد بعد.
في اليوم الرابع كان رفاقه: كريم وزكريا وعزوز ينتظرون خروجه من البيت بقلوب ملأى بالحنين إليه وبالخوف عليه. وما إن بزغ حميد طالعاً من الباب, وأثار الذبول لا تزال بادية عليه, حتى اندفعوا نحوه وأحاطوا به مدثرينه بالبشاشة والحبور وهم يتفحصون هزاله واصفرار وجهه فتطفر التعليقات الطريفة مترددة وخجلة في بادئ الأمر لكن سرعان ما يتعالى الضحك وحتى حميد لم يجد غضاضة في التندر على نفسه.
كانوا في الساحة يتناوبون الكلام والدعابة, ويتقاسمون الضحك والمحبة, عندما لمحوا نبيلاً وهو قادم من الجهة التي تصل البيت بالساحة والتي اعتاد أن يطرقها كلما أراد أن يلتقي بأصحابه. الجهة التي هجرها شهراً حتى كادت أن تنسى رائحته ووقع خطاه. وربما لهذا السبب - شعوره بالذنب لمحاولته الثانية تجنب رؤية رفاقه وقطع صلته بهم - هو الذي يجعل الرفاق يرقبون حضوره الآن بلا عداوة, ويتطلعون صوبه بلا كراهية, لكن النظرات تفشي صراحةً حجم اللوم والإدانة, وتكشف على نحو لا لبس فيه ولا مراوغة أن لا صفح عن إثم كهذا.
وما إن توقف نبيل على بعد مسافة قصيرة, حتى بادره كريم بالسؤال متهكماً: أين كنت يا نبيل, لم نرك منذ أسابيع?
أراد نبيل أن يحتمي بالآخرين من هذا التهكم الذي أربكه, فلم يجد عوناً من أحد, لذا رد متلعثماً: كنت مشغولاً.. أدرس..
ولم يكمل لأنه لم يجد إجابة مقنعة, فاعتصم بعينيّ حميد الذي أرخى رأسه معلناً تخليه عنه ورفضه الدفاع عنه أو حتى تبرير فعلته.
يتحرش به كريم مرة أخرى: ولماذا جئت الآن?
حائراً أرسل نبيل إبتسامة حائرة: أنتم أصدقائي.. أريد أن أكون معكم.
عندئذ إنفجر غيظ زكريا فأطلق الحكم الذي إتفق عليه الرفاق سراً, كل على حده, دون أن يناقشوه معاً: نحن لا نريدك.
كان قراراً جماعياً, لم يخططوا له فيما بينهم, ولم يتفقوا عليه من قبل, لكن تبناه كل منهم بعد أن خذلهم نبيل للمرة الثانية وجرح مشاعرهم. لذا فإن تصريح زكريا لم يفاجئ أحداً منهم غير نبيل الذي شعر بظلم يلحق به لسبب لا يستأهل هذا الموقف الجائر: ماذا فعلت كي أستحق هذا? أهو خطير إلى هذا الحد?
رد عزوز كمن يرى جدلاً عبثياً ويريد أن يحسم الأمر: إذهب يا نبيل, فأنت لست منا.
ونبيل يتشبث بحقه في أن يعرف: لماذا تكرهونني?
يتصدى له زكريا مرة أخرى: نحن لا نكرهك أنت, لكن نكره ملابسك. نكره أحاديثك وضحكاتك وطريقتك في الأكل. نكره نظراتك إلينا عندما تظن أننا نخطئ أو نقول البذئ من الكلام أو نمارس عنفاً ما.. نكره رأيك فينا. كل شيء فيك مختلف عنا. أنت لا تستطيع أن تكون مثلنا, ونحن لا نستطيع ان نكون مثلك.. لم لا تريد أن تفهم هذا?
يلتفت نبيل إلى حميد اللائذ بالصمت, والذي لا يبدي أي اعتراض أو تذمر: حتى أنت يا حميد?
في هدوء يجيبه حميد, هدوء يشوبه الشجن: إذهب يا نبيل, إذهب إلى بيتك..
كان حميد عائداً إلى البيت - يغالب الوهن الذي راح يسري في أطرافه إلى حدٍ لم يحتمله فغادر رفاقه ملتمساً الراحة التي قد يوفرها النوم - عندما صادف عفاف تخرج من بيت صديقتها, فتوقفت مبتسمة له وسألته عن صحته ثم بخفر سألته عن حمزة, فأجاب وهو يحاول التماسك والتحكم في توازنه بأن أخاه لا يزال يقيم مع خاله وبأنه لم يره منذ أيام.. ثم أضاف: (هل ثمة شيء تريدين إبلاغه?«.. هزّت رأسها والشحوب يعلو إبتسامتها: لا, لا شيء.
(68)
هل كان بوسع بثينة ان تعرف نوايا وغايات هذا الذي يتبعها كالهواء, ويطوّق مدارها كالثوب, منذ ولوجها تخوم الحيّ قادمةً من المدرسة مع سرب من أحلام اليقظة, والذي يبدو جلياً أنه كان يترقب مرورها كي ينزّه الشوق في رفيف خصلاتها ويرتجل كلاماً حلواً كالورد يعلم أنه لن ينسلّ أبداً من فمه, لذا سوف يعتصم بالصمت?
هذا الذي ينكئ بحذائه المطاطي النتوءات الترابية والحجرية الطالعة من الأرض فيما يسير خلفها متمهلاً ومتباطئاً, غير راغب في محاذاتها وتجاوزها, بل هو راضٍ أن يكون مجرد تابع أو حارس يقتفي مواطئها, ويلمّ شذاها حفنةً حفنةً, ويحلج بنظراته جسراً وثيراً يصل أنفاسه بأنفاسها ويشاطئ عالمها الأليف?
هذا الذي لم يكترث بها يوماً, ولم يلتفت إليها من قبل, فصار فجأة - ومنذ أسابيع قليلة - مهتماً بها إلى هذا الحد.. إلى حد أن أضحى في الأيام الأخيرة يختم خطاه على ختم خطاها على الأرض, منتحلاً براءة عابر السبيل ومتظاهراً بأنه محض متسكع يذرع النهار بلا هدف?
ما الذي يريده, هذا الذي حفظت اسمه وتعرف افراد عائلته, لكنها لا تعرف نواياه وغاياته? ولماذا تلمح في عينيه الحائمتين, ما إن تحطان هنيهةً على شفرة عينيها, ذلك الوميض القزحي المترقرق كجمرة تدرك أن قدرها الإنطفاء, وفي وجهه الذي يمتقع تتهجّى حفيف الحياء?
لم تلق منه حتى الآن ما يسئ وما يهين, ولم تجد في ملاحقته لها فعلاً مشيناً, بل أنها في قرارتها - ورغماً عنها وعن المكابرة - باتت تتقبل الأمر وتجيز هذا الولع إشباعاً لغرورها وإرضاءً لأنوثة كامنة ما تفتّحت براعمها بعد وما ضرّج الهوى مقلتيها بكحل السهر بعد.
وعندما وصلت إلى البيت وارتقت العتبة الوحيدة ووضعت راحتها على الباب لتدفعه, شعرت برغبة جارفة في الإلتفات خلفها لتر إن كان لا يزال واقفاً هناك, على بعد مسافة آمنة, غائصاً في ارتباكه واضطراب أنفاسه أم أنه لملم يأسه ومضى متوارياً في جهات الظهيرة المفتوحة.
لكنها قمعت رغبتها ولم تلتفت بل سارعت إلى دفع الباب براحتها فانفتح لتهب عليها رائحة بيت أليف إعتادت أن تستقبلها في هذا الوقت, ودخلت موصدة الباب خلفها, موصدة القلب على من لا مفتاح معه وليس جديراً بعد أن يكون فاتحاً.
مرةً أخرى ينفضّ حميد عن ملتقى الخيبة, قابضاً على دجل الوعد الكاذب - الذي أطلقته نفسٌ واهمة - بقبضة من يحتكم إلى ما يراه لا إلى ما يحلم به.. وعد أن يزهر قلبه ما يشاء من غبطة إن اعتنق الصبر ولم يستعجل. وها هو يعلن ضجره ويغمد الوجع في مهب السهو. ومدحوراً يلتقط بقايا الحسرة شلواً شلواً, عازماً ألا يترك دمعة القهر تطفر رغماً عنه. ويسدل أسمال الهزيمة على وهْمٍ غرزه في الصدر كالوسوسة.
ويمضي عارفاً أن لا حظوة له,
وعارفاً أيضاً أنه لن يتوب.
(69)
في عراء مسقوف بغمام مثقل بالضجر يتدحرج وئيداً عبر فضاء تنداح فيه الزرقة وتشتت مسار رياحه أجنحة اليمام والشحارير وبعضٌ من طيور السُمُّن.. في عراءٍ محفوف بحرابي تموّه أشكالها كلما عنّ لها أن تشاغب زواحف غازية, وفيه تعتكف العزلة تحت مظلة من رقائق الضحى.. وكل وحشةٍ في هذا العراء درعٌ للعراء الأعزل أو فزاعة,
ها هنا اعتاد حميد ورفاقه, كل جمعة, أن يجسّوا نبض الأرض خلسةً ويسألوها موشوشين أن تدلهم على أنسب وأخصب المواضع لنصب الفخاخ.. وهناك يشرعون في تأثيث غرف الخلاء بفخاخ ذات بأس وشكيمة لاقتناص الجاهل من طيور لا تسعفها الغريزة في تجنب المكائد.
وبينما يترقب الرفاق - من مكمنهم البعيد قليلاً عن الكمائن - هبوط طائر شره من ملعبه الشاهق, ينغمسون في التراشق بالتعليقات وطرْق الحديث بالحديث بنزق صبيةٍ لا يرون من العالم إلا الوجه الذي كلما شاخ أو تداعى, سارعوا إلى تجميله وتشكيله وفق هواهم.
ينهمكون في الكلام حتى يتطرق حميد إلى تلك الرغبة المهيمنة التي لا يستطيع مقاومتها, الرغبة في أن يكون له أب آخر, أب لا يهابه ولا يخشى أن يزجره أو يوبخه كلما سأله عن ألغاز الوجود. هو أقرب إلى الصديق منه إلى والٍ يملي عليه الفرائض والواجبات ويطلب في المقابل الامتثال والخضوع. أن يصير له النموذج والمثال دون أن يكون تابعاً بسبب الدم أو الولاء, أب يحاوره بلا حرج.
ولم يعلم حميد, فيما هو يسهب في إعلان أمنيته, أنه ينكأ جرحاً غائراً في نفس زكريا لا يريد أن يندمل ويبرأ.. ولهذا كانت دواخل زكريا تغلي وتضطرم كلما أمعن الآخر في الحديث عن أب بديل, حتى انفجر زكريا صائحاً في غضب عارم:
- لماذا تريد أباً آخر.. هه? ألا يكفيك ما لديك? ماذا سيفعل لك هذا الأب الجديد أكثر مما فعله لك أبوك?
لوهلةٍ صعقتهم نوبة الغضب المفاجئة, فنظروا إليه مبهوتين من ردة فعله وصامتين, ولم يفهموا سر هذا الاحتدام إلا متأخرين..
لكن وقتها كان زكريا قد ابتعد بخطى سريعة واضعاً راحته على جرح لا يكفّ عن القهقهة.
(70)
آن دخلت أم زكريا حجرة إبنها وشاهدت الأشياء المبعثرة, المتناثرة في أرجاء المكان, من أوراق وثياب وأدوات, أدركت على الفور ما حلّ بإبنها من نوبة غضب قاهرة أفضت به إلى مقارعة أطياف ماضٍ لم يشهد كل دقائقه ولم يستمتع ببهجة الحضور الأبوي فيه, أما الصور المخضبة بالغموض, التي تتزاحم أمام ناظريه باستبدادية وبلا شفقة, فما هي إلا نتاج ذاكرة رخوة لا تقدر أن تستوعب جيداً كل ما تماست معه من وجوه وحركات وأحداث, ولا تقدر - بالأخص - أن تسوّغ غياباً ضل طريق العودة فمضى شارداً في التيه, مفتوناً بالهجرة, ناسياً أن يومض وميض الأبوّة.
بقلق حارق أدركت الأم, عبر الشغاف الأمومي, ما جرى لكنها لم تفهم لماذا فعل ذلك, فزكريا لا يحركه المزاج بل قهرٌ أقوى من أن يشكمه أو يسيطر عليه.. وما هذه الثورة إلا شفرة يشحذها الفقد.. فمن حرّك مواجعه?
وبهدوء من اعتاد على مثل هذه الظواهر, بحكمة من اختبر الإعصار أو العاصفة مراراً من قبل, تنحني الأم إنحناءة من يبيح للحزن أن يهوي سهواً, وبكفّين - فيهما خطّ السهد صهيله وأضرم الغياب أوجاعه - تلتقط الأشياء, تلملم ما انفرط وما تناثر, لكنها لا تقدر أن تمنع دمعةً من أن تطفر وحيدة وحارة, غير أنها تتدارك الأخرى وتطلق التمتمة المبهمة.
(71)
وجد زكريا في الموضع الذي توقعه.. على ضفة الجزْر الخجول, بعد انحسار المدّ وأوان نقاهة الموج, حيث السماء تفاحة تتدلى حتى تلامس شغاف البحر.. واقفاً في المياه التي غمرت قدميه حتى الكاحلين, وهو يرنو أمامه إلى أفق مصقول كالمرآة تتأرجح فيه الصواري بفعل رياح ضاحكة, والغيوم الذاهلة لا تعرف إن كان عليها أن تسند مقصورات الشتاء أو تتكئ هي على أقواس قزح قبل أن تدلق أمطارها, أما الطيور فتحوم حول مخدع الكوارث دامعةً لفرط تأثرها بمنظر العاصفة وهي نائمة بوداعة طفل.
دنا منه حميد, خائضاً في المياه الضحلة, حتى توقف إلى جواره, وظن أن زكريا لم يشعر بوجوده فناداه همساً لئلا يعكّر صفو اللحظة ويربك عذوبة الحالة: زكريا..
لكن زكريا, الذي تناهى إلى سمعه صوت انشطار المياه وتباعد الزبد عن الزبد بفعل الدبيب البطئ وما تبع ذلك من خرير حلو أحدثه دنو قدمين تحرثان المياه بتوءدة وبلا خشونة, عرف أنهما قدما صديق جاء يتقاسم معه خلوة التأمل.
ولما سمع النداء الهامس عرف أنه حميد فلم يلتفت بل قال بصوت خفيض, أقرب إلى الهمس أو إلى الوشوشة.
- ما الشيء الذي تراه لكن ليس له وجود?
- الأفق.
ثم يستسلمان لدقائق إلى صمت رائق ينأى عن حاشية الصوت ويسرف في الصمت. بعدها يلتفت زكريا ناظراً إلى حميد بعينين تتلألأ في أحدهما بذرة شجن وفي الأخرى بذرة ألق, وكل منهما يحصي الريش المتساقط من سحابة ترتج مثل ثدي الأمومة.. ويسأله:
- كيف سيصير حالنا إن كبرنا?
- لن نكون كما نحن الآن..
- هل من الضروري أن نكبر?
ظن حميد أنها دعابة فابتسم وقال:
- لا, ليس ضرورياً.. الخيار لنا.
لكن زكريا لم يبتسم ولم يعبس أيضاً.. كان وجهه الوسيم يشفّ عن هدوء زهرة وحياد قنديل. وقال مشيراً إلى الأفق:
- سوف أذهب إلى هناك لا محالة.. يوماً ما سأذهب لا لأتبع غبار نبوءة ولكن لأرى بنفسي ما يوجد هناك.. حيث الفراغ الخمريّ ينحني مداعباً ثمار البحر ليستدرجني إلى حديقة الهباء, وحيث لا جذر للمياه ولا ظل للأشكال ولا ترس لليقين.. وسوف أعثر عليه وأقول له: حسبك تجوالاً بلا متاع بين جُزرٍ حسرت موانئها لتغوي فحولتك ثم ترميك كالنواة صوب لج الطرائد, وبرازخ معلقة من دون أعمدة لا تبسط لك ملاءة الحفاوة بل تمرّغ وجهك في مدارات الوحشة وتدفعك إلى التيه, وحطام سفن أضاعت بوصلاتها وما اسعفتها المنارات فاندفعت مهتاجة وبلا هوادة إلى مهاوي الانتحار. تكفيك هذه العزلة التي ترويها بدمٍ مهزوم فلا ترتوي فتغمس إصبعك في خلاء القلب لكن لا يزيدها هذا إلا جنوحاً إلى النهش وإمعاناً في التوحش. يكفيك النسيان الذي تعلقه على صدرك كعقدٍ غزلته لك المجازفة من نسيج شراع ضلّله البحر. تريّث واستل كالخنجر ذاكرتك التي هجرتها دهراً, وتركتها في الغمد عرضة للصدأ وللكهولة.. إرفعها مثلما يرفع الملوك في أحلامهم ممالك من البلّور, وعد معي يا أبي.
(72)
في الأيام التي تلت حادثة الجان أو الشبح في الخرابة, تردد حميد كثيراً في ارتياد ذلك المكان خشية أن يشهد ظاهرة مماثلة تجبره على خوض المحنة من جديد. لكنه كان يعلم أن تجنبه الذهاب إلى هناك لا يعني - في نظر رفاقه والآخرين وحتى في نظر نفسه - إلا شيئاً واحداً: أنه جبان.
كان حميد يدرك جيداً أن عليه, آجلاً أو عاجلاً, أن يتغلب على شعوره بالخوف من المكان, ويدرك أيضاً أن ذلك لن يتحقق إلا إذا ارتاد المكان ذاته وتيقّن بنفسه أن ما ظهر له مجرد وهْم تخيله في لحظة رعب.. وأنه محض انعكاس لذلك الرعب, كما وضح له أبوه وأخوه حمزة وآخرون.
وبالطبع لم يختر أن يذهب ليلاً فذلك بالتأكيد فوق طاقته واحتماله, بل اختار أن يذهب ظهراً ووحيداً.. إذ لا يمكن أن يجازف باختبار شجاعته أمام آخر قد يكون شاهداً على ضعفه, وأيضاً حتى لا يقال أنه استمد شجاعته من وجود آخر معه.
هكذا قرر حميد أن يمتحن مخاوفه وظنونه.. هكذا ذهب ظهراً وليس معه غير وساوس ورجفات طفيفة تسري في أعصابه ويحاول جاهداً كبحها. وعندما اجتاز المدخل راعشاً وواجف القلب, أطبق عينيه برهةً وكأنه لا يجسر على مجابهة أي غزو أو اجتياح, وإذا كان ثمة هجوم فليحدث ذلك سريعاً وفجائياً. لكن شيئاً من هذا لم يحدث.
ثمة سكون مطبق يحيط به من كل جانب. هدوء لم يعهده من قبل.. خارق وغير أرضي. لا صوت ولا رفيف. كأن كل شيء جمد وتوقف عن التنفس. رويداً, وبتباطؤ فتح عينيه فلم يجد أمامه غير الفراغ الأليف الذي صادقه زمناً, والأشياء التي اعتاد رؤيتها من قبل, وأنقاض الزوايا التي لم تغيرّ مواقعها منذ أن حطت قدماه في هذا المكان.
لكن حين أدار رأسه صوب السلم الحجري تفاجأ - دون أن يجفل - بحضور سنان الذي يتخذ وضعية غير مألوفة, إذ هو بين الجالس والراقد على أدراج لا يمكن أن تريح البدن المتكئ عليها في جمود غريب كهذا الجمود الذي يتخذه سنان.
على مهل دنا حميد من الجسد المنشور على الأدراج بلا حراك, كأنه يخشى أن يوقظه, أن يفسد حلمه. وعندما توقف على مقربة لاحظ أن عينيه مغمضتان فلم يشك أنه مستغرق في نوم عميق. كما لاحظ وجود زجاجة خمر فارغة يبدو أنها تدحرجت حتى أسفل السلم, وآلته الساكسفون مرمية جانباً في إهمال.
وجود سنان كان عاملاً هاماً في طمأنة حميد وإزالة أي رهبة وتوجس من حضور شر مرتقب, وأكثر ما شدّ انتباه حميد واستحوذ على اهتمامه هو الساكسفون الأبكم, المقذوف جانباً بلا عناية, المحروم الآن من شفتين تطبقان على فمه, ومن أنامل تتراقص على فتحاته, ومن أنفاس تهب عبر رئته فتصدح أنغام تنتظم عند الماهر والخبير في إيقاعات أخاذة تخلب اللبّ.
إلتفت حميد إلى سنان الغائب في نوم يرخي له عناقيد الصور فيقتطفها مثلما يقطف الغازي الغنائم.. بنهم.
ثم التفت إلى الآلة التي راحت تسيّج كل عصب فيه وكل عرق بحرير الغواية التي لا فكاك منها.
عندئذ فكر حميد: سوف أستعير هذه الآلة بعض الوقت, ريثما يصحو سنان.
ولأنه كان يخشى أن يوقظ النائم بما سوف يرتجله من عزف غير متقن فقد آثر الخروج من الخرابة والعودة بعد ساعة على الأقل.
ولم يعلم حميد, وقتذاك, أن سنان لم يكن نائماً, بل سادراً في موت لا يقلقه أحد.
(73)
مثل المحكوم بواجب مقدس أو إلزامي تعهد به أمام قدر بالغ الغموض ولا يبوح بنواياه إلا إلى الأبدية, مثل العالق في فرو لغزٍ يتعين عليه أن يستجلي مغاليقه وإلا فلن يهدأ له بال ولن يهنأ بما تبقى له من نهار, يمشي حميد الهوينا خلف الجديرة بالإطراء والتي أسرت اهتمامه, وتمشي الآن أمامه بتوءدة, عائدة من المدرسة وعلى كتفيها عبء المذاكرة وهديل حكاية لم تبدأ بعد.. وفوقهما تمشي الرياح الباردة خبباً, وكأنها تختال بتقمص شكل المظلة أو العريش لهذين الكائنين اللذين لا يسترهما غير ظهيرة عارية وغير سرٍّ لم يكتمل بعد ليفشي نفسه.
وعندما يتبع حميد هذه الصبية يتبعها الرجاء بأن تتوقف وتستدير نحوه وتهديه ما يهديه المحبوب للمحب من نكهة الوجد ورذاذ الينابيع ووعدٍ بلقاء وشيك وحفنةٍ من سهر. يتبعها رفيف قلب تتخاطفه فراشات الإلتباس من جهة, ومن جهة أخرى هاوية يأس رأى أعياده تنزح وتتركه في الوحدة وحيداً.. قلب ينفض ما علق به من رعونة المراهقة وينشد هداية الحب.
يتبعها شتاء ممسوس بذاته, بالثلج المخبأ تحت وسادته, والذي تراهن عليه الغيوم الحبلى كي ينثر البرَد الباذخ على حيّ يتدثر بالأجنحة أوان يقظة المطر في المدى المكفهر.. البرَد الذي يتدحرج ندفةً ندفةً ليطرق ذاكرة البيوت سقفاً سقفاً.
وعندما ارتقت بثينة العتبة الصغيرة, الجسر الحجري الذي يفصل الباب عن الطريق, وهمّت بدفع الباب, هتف حميد بوجع أخرس: لا, يا ربّ, لا تفعلها ثانيةً.. لا تخذلني مرة أخرى.
في هذه اللحظة عينها, قبل أن تحط راحتها على الباب لتدفعه, قبل أن يفترس القنوط فؤاد حميد, أدارت بثينة رأسها ببطء شديد - أفضى بالزمن نفسه أن يتريث ويكف عن الجريان - حتى استقرت عيناها على عينيه.
(74)
ثمة شتاء يتمطى ثم يستدعي عناصره لتهيئة المسرح من أجل المشهد الاحتفالي - الذي يليق باسمه وسمعته وحضوره - في فضاء يتلبّد في الحال بغيوم عجولة, وبين الأعمدة تتجمهر الرياح الباردة, أما في الأعالي فتحتشد فلول البَرد مستلة الصاخب من المرح.
ثمة ليل, وبرودة هاذية تسري في خلايا الليل فيلمّ أذيال ردائه الأسود الطويل ويغطي به أطرافه المكشوفة, وأمام مجامر ساهرة يمكث ليتدفأ وليستأنس بنوادر نديميه: البرق العابر بشعاعه, والرعد الذي لا يتكلم إلا هدْراً.
ثمة مطر.. وابل من المياه الطرية التي تنحدر كشلالات صغيرة من الأسطح والشبابيك والحيطان ثم تزحف على أرض كانت تهذي بسبب الظمأ.
ثمة طرقات خلت من البشر فصارت ملاعب لأشباح تطارد ظلالاً تحسبها توائمها الهاربة فلا تقنص إلا الفراغ الضاحك على غبائها.
ثمة حجرة باردة تضم بين أحشائها أطفال أخذهم النوم في جولته الليلية: طاهر الذي يمضي منتشياً داخل حلم إستدرجه بالوافر من الريش, الوافر من الرنين, وهناك يرى نفسه مغامراً يمتشق البطولة / عبدالقادر الذي يضمر له الحلم الهبة التي ما وهبها لأحد من قبل.. قطيع من الخيول يعدو معها خلف سهول تعدو, ورياح تعدو, والمدى ينفتح على جنة كانت موعودة له / شريفة التي يهيئ لها الحلم من قوس قزح أرجوحة ينصبها في حقل الغبطة وكلما تأرجحت بخفة من لا وزن له, تأرجح الأفق والسماء, وتأرجح المطر.
أما حميد, الساهر مع الرؤى, فقد شدّ اللحاف القطني حتى عنقه بعد أن اعترته رعشة باردة.. وهادئاً يبتسم, هادئاً يحاور اليقظة, هادئاً تترقرق في عينيه صور زوار يمرون خفافاً قبل أن يستضيفهم الغيب:
عفاف: بأهداب مبتلة بتوابل الحيرة والظنون, تطل على وقتٍ يمضي ووقتٍ يأتي, ولا تلتمس غير راحة القلب.
حمزة: يطيش عندما تراوغ الصدفة نواياه وأمانيه, ويحتار كيف يكون جديراً بحب لا يكفّ عن امتحانه.
عقيل: ماكث أمام مذياعه الكهل, والمرافئ تمر أمامه محيّية, أما القرى فتزف اليه قريةً مضاءة بتسعة أقمار, فيغصّ بالتذكّر.
سلطان: يدحرج عنفه في رماد المأساة ثم يذهب متكئاً على جهة تتمايل مثلما يتمايل النعاس.
زكريا: يرشو القوارب ببقايا عمره لقاء أن تهبه مكاناً لجلوسه ومكاناً لحقيبته ومكاناً لنشيده الذي يمجد السفر.
كريم: يبتكر إيقاعه الخاص كلما طرق الأرض بقدمه العرجاء مقتفياً صدى التجربة, وللسجون يبتكر أحلاماً سوف يخذلها أوان المحن.
عزوز: يعجن الطحين, يعجن الحكاية, يعجن الحاضر.. وقبل أن يقحم كل هذا في تنّور الذاكرة.. ينثر عليها رذاذ الحنين.
مفتاح: على ضفة الجنون واقف يسلّ من غمد الخلاء درع الفكاهة.. ضاحكاً من ذعر النهار.
خلود: تمسح على بطنها المنتفخ وتضحك, تنظر إلى المرآة وتضحك, وعندما تفتح كفها ترى على راحتها طفلاً مجنحاً.. فتضحك.
بثينة: ترتقي العتبة الوحيدة, عتبة القلب, وقبل أن تدفع الباب تلتفت لتمنح الكون وردة الأمل.
ثم تأتي زينب وتنحني فوقه, تنظر إليه في حنان, تميل نحو وجهه وتطبع قبلة على جبينه هامسة: تصبح على خير..
يبتسم حميد ويسدل أجفانه على أعوام ضاجة تتراكض في ربوع الأمس.. مثل غيب يسدل الستائر على رهائن لا يعلمون أنهم رهائن.
مارس 2002
أكتوبر 2003
****