أمين صالح
البحرين

العاصمة الأولى

الأرض

1

تلك الساهرة على عتبات آلهة سود يؤرجحون الاجرام كي نسوا عزلتهم الأرض الملأى بالحليب والهتافات المجو فة لكائنات لم تتشكل بعد . ذات الاثداء العذرية والأفواه التي لا تحصى . الخائفة من فناء عناصرها قبل أن تولد مختومة بالوحشة الحاملة أسرار النبو ة والصلوات المنحوتة في معابد لم يشيدها أحد الواهبة حلباتها للتناحرات الشهية الباكية في مهب النجوم حين تتساقط أشجار البلوط قرب البحيرات الغريقة والشياطين, من شد ة الكآبة والوحدة ينتحبون
ببراءة ترتجل الهدوء الأول وتزرع في مقلتيها الحلم الشاسع حلم أن تزدهر يوما بالأساطير والحضارات أن تكون واحة البهاء والمسرح القزحي في كون مزدحم بالكواكب المقفرة آنذاك لم يكن ثمة إغواء أو هداية لا معرفة ولا خطيئة القوارض كانت تستحم بحرية في جسد الغابة الحي ة أمواج المحيط كانت تبل ل رؤوس اللقالق وهي تحل ق في فضاء مزين بكوابيس لا ت رى والانسان ذلك الكائن المغسول بالرعب من كهوفة الشاحبة يطل على هذيان الانشقاقات القادمة ثم
يرفع رأسه ضارعا هاهي الأرض تسامر الشجر الكوني فيما يلهب الليل بلا ملل
أجراس اللذ ة
غير أن لا أحد لا شيء وأنت
أنت أيها الليل الاباحي الكريم كالموت
الطاعن في العمى
الممعن في غزو الأماكن الخلية أما ساورك الشك بعد في العبث الكوني وأنت في مجلسك تتخيل رفيقات سماويات يستحم من فيك فتمجد الانتشاء المحر م بينما الرفيقات محض ظلال مجن حة لقمر يمو ج المحن ذاتها تمعن أيها الصديق المجنون : هدأة الأمكنة
غياب الفرح البشري نداءات خفية لمخلوقات لم تتناسل بعد هاهي الأرض
في غيبوبة الصحو
تلامس بأطرافها مرح الأعشاب وإذ تسري الارتعاشة
الأكثر شبقا
في هضاب روحها
يدغدغها التهي ج وتجتاحها الحم ى
النهمة التي تقرض تخومها البيضاء باشتهاء يا أعشابا تتمرأى مأخوذة في خصوبة الماء
يا عشيقة الماء المدل لة
أمن أجل المتعة وحدها تفعلين ذلك ? تذرفين الندى العذب حين يداعبك النسيم الشهواني
وتدهنين السيقان بعطر الينابيع لحظة هبوب اللذ ة لا عر اف هنا يدث ر طمأنينتك بالنبوءات المبهجة
تقرأك الحيوانات المنقرضة في أفول المواسم أي رثاء أدبج لشهوة الرياح ! أجل
فأنت قناع الفراغ وبك
تستطيع المجابهة أمنحكم
يا فرسان البداءة وساطة النار لتعبروا أفواجا تخومي المتداعية وتتدفقوا في الأرجاء مثل جيش باسل موعود بالنعمة لكم الأسلحة والثيران المتوحشة لكم الفتح والسفك لكم كنوز القارات وأخشابها الطري ة لكم كل ما
تشتهون لكن
أحضروا لي الذاكرة البكر
والارث المذهب هل تعلم الأرض
تلك التي كانت بلا ذاكرة فأضحت مكتنزة بالص ور والمشاهد أنها
حبلى بالضغائن والآثام جلبوا لها ما شاءت من أساطير واختراعات
جسور وأبراج
حيوانات مرو ضة
وأعياد
أسواق ومنتزهات
أزمنة وحضارات غير أن مخلوقات البداءة ما تزال تعيث في الأرجاء فائضة بالحقد والتعصب
منذرة
بفتك أشد ضراوة
دم القاتل يمتزج بخمر القتيل
خرائب تتوز ع في قلب الغابة
حرائق تغتصب طفولة الأشياء
أيتها المسرفة في الرذيلة
أما آن لك أن تملي علينا وصيتك الكاذبة
فجرأ
يهيىء لك الاله نعشا وثيرا لا دعوها غارقة في الندم تتور م بحشود فاتنة مطع مة بالنهب أين كنوزها الخرساء تاريخ مضل ل ذاكرة متقر حة ماذا بقي لها تلك الساذجة
المشب عة بالذنونب جيوش تتقاسم الغنائم طفل ميت في قلب الرجل
المشطور نصفين نواة الشر حدث ذلك في الظهرية كانت القارة كتلة واحدة مكتظة بالأنواع ما كان فتحا أو اكتشافا بل مذبحة النبات المتطاير كان يشف عن طغاة بلاد عد
في راحاتهم تتساقط المدن كالقتلى حين جاءوا تناثرت أوصال القارة
لا دعوها تتوقع إندثارها الحلو كل ساعة
فيما بعد
فيما بعد
آه
يا للفعل الخارق ! يا للجرأة
كأن الأرض تكتشف عريها للمرة الأولى
كأنها تتغرغر بخلق يولد تجفل في بادىء الأمر ثم ترقب في دهشة ملكية
تلك المسيرة العظيمة لسلالة
هربت من أمامها المدن في لمحة شعب الجهات توأم الحجر من أين جاءوا ? أم ن الباطن
من المناخات السحيقة أم كانوا هنا وهناك منذ الأزل لكن يقينا
ما كان لهذا النص أن يوجد من غير سلالة تأتي هكذا كالفجاءة أو كالصدفة لتمتحن شكيمة الخرائط وتستوجب الضمائ وإذ نتأمل المسيرة المهيبة
المفعمة بالوجع
الباطشة بالرمل
نشحذ مخيلتنا لنرقب عن كثب هبوب
المأساة ما كان ينبغي
بعد أن تبد دت دهشتك الملكية
أن تديري ظهرك هكذا بلا مبالاة فيأسك الدمث ليس عذرا الأحرى أن تفتحي ذراعيك مرح بة أن تسفحي سهوبك مأوى لشعب عل مته الهجرة كيف يخاطيب مكامن الفخاخ أنظري التعب الذي يلطخ أصداغهم والنبال المتاخمة يراوغون الطرقات المتخمة بالدسائس في مهارة فائقة
ويبذرون قتيلا عند كل منحدر مثل قرابين مقد سة شعب يتفاوض مع الفضاء
بلغة دافئة كالخبز
ببكاء نبيل كالبحر
بحقد دفين لا حد له إذن
لم يبق إلا أن ندهن الزناد بالعنف ونطلق
برباطة جأش
سيلا من الرصاص على رأسك المشحون بالذئاب الثملة بعدئذ نلق ن ذئابك
التي لا تهجع غريزة الفريسة وفتو ة الذبح نغويها بالخطيئة تلو الخطيئة حتى تنفجر من
الاثم ليس فينا نكهة المغفرة هاهم
في مدارات السم
على مرأى من المسوخ الأنيقة
يتقدمون خفافا كما
لو كانوا منذورين لحلم بهي
تضيئهم الاشارات الغامضة فوق الأغصان
أغصان الشجيرة المتعر جة
تتدلى حدقات معدنية لا تومض
إلا أنهم يمضون سائرين في إثر ألق المسافات : مزامير النهر إنبجاس معجز ذلك الذي شهدته العقبان ذات المناقير الذهبية وإذ يرفعون رؤوسهم المكسو ة بالغبار بحثا عن ملجأ
تجهر السهام بالهجوم هاهم
موشومين بذخيرة أر خت لها الكتب
يتأبطون بهجة الأنثى المرصودة لخميرة الوقت من جهة واحدة يأتون
مثل رعد الأعالي أو مثل بركان الأعماق
لكنهم سيذهبون إلى الجهات كلها كلما وضعوا الألم على حجر
شب وبالغ في مضاهاة الجسد المجنح
فلا تسعه التقاويم وتميل لوطأة معدنه الذاكرة سلالة لا منتاهية في التنوع
طاغية الحضور
مضيئة بالزبد والصلصال أكثر هيبة من النار هاهم
لوقع أبصارهم رهبة الغابة وغرور الدخان ما من موجة إلا وهيأوا لراحتها رمل الاقاصي وغرف الرحيل ما من سفر إلا وانتظر إيابهم الهادىء يهيمون مثل ماء مأخوذ بالجنون كلما انتبذوا سهرة وانتخبوا الأقداح
فزعت الأقاليم تحت غفلة أنثاهم الفاتنة ينكسون أدواتهم المتعبة عند سفح الغيم
يؤثثون الظل بأسمال ورثوها من سماء قديمة
وينشدون في رفقة مزاميرهم المائية
عندما يلتفتون إلى الجهة التي خلعتهم
يرفعون شظايا الأقفال عن مائدة الطريق ثمة حديد يحرس المداخل ثمة نسل من قلامات البراكين
قيل أنه بوصلة
تضلل النساك وسدنة الهيكل
يتكلمون
فتنهض معهم اللغة
وتخجل الكلمات العذراء مرة قيل أنهم سعاة الرياح الزرقاء تلك الرياح المقدسة وقيل أنهم أجمل من
تبادل الفقد مع الخريطة عندما يستريح حوذي النيازك
ويسند مهاميزه إلى حافة المشهد
تتعثر به سلالة المباغتة
فيما تنوش مجاهل المجر ة سائلة عن جهة ضائعة وعن خطيئة تنتظر المغفرة منذ الآن لن يهدأ الحوذي المفرط في الزهد المفرط ف الجهل سوف يطلق سراح الرعونة من غمد اليأس
سوف تئج مهاميزه مثل عجلة العاصفة سوف تغمس
نيازكه الشاحبة حوافرها في رغوة البداءة يقظة الجحيم منذ الآن لن ينسى أحد رنين الأهداب الملحدة
صديقة الفتنة
وهي تسأل الأمكنة
عن المحنة المبجلة أنثاهم الفاتنة
التي شغفت بها شريعة الغزو
وشاغلتها الخطف أنثاهم الناطقة بالوعد
رفيقة الخطوة والجلجلة
تعر ي في مجون الكارثة نهديها العاجيتين وتطلق من مدخل المأساة عويل الابتهالات من النهدين تنحدر غيبوبة المساء نشوة الضحايا
آلهات الحداد
بقايا الدسيسة
شعائر النهب رماد الحديد
سلال الأرامل وأفراس تحسن المكابرة وتعرف كيف تتملق الموت
من أنتم حتى تندفعوا بمثل هذه الضراوة في عين الأنثى بلا روية أعضاؤكم مسنونة على شفق الحجر
تقايضون الضفاف البخيلة من أجل أن تدلكم إلى شفرة الرصاص
من أنتم
سوف يتاح لنا نخب وترنح ماجن في مأدبة الطبيعة سوف يسألنا معدن الناس
من أنتم
وسوف نسمع من يصقل النواقيس معلنا
هاهم نتفقد منظم تكويننا
نرى عناصرنا الأولى قبل الخلق نتقمص الولادات ونعد
السفينة بالريح
نقول
هنيئا لنا هذه الأقدام التي ترسم النبات على
الرخام
هنيئا لزوج من الجنادب يبدآن سهرتهما
الخرافية في ظلام الخميلة
هنيئا لخراب سيفتك بهيكل الكتابة فاتحا
الأفق على نص يتمر غ في حرياته
بكاء طفل : شكوى كونية هكذا هي البدايات تدخل الآن في المأساة أو ربما في الملهاة م ن يجزم أننا نعرف ماسيكرن لسنا أكثر معرفة أو أ كثر حكمة نجم ل الحكاية ونعلن موتها في آن نشك ل النص ونقو ضه في آن كل حدث تختزنه ذاكرة مشوشة
مضل لة
مسرفة في التباهي كائنات شتى تنداح في الذاكرة إستيطان موجع لدينا أسئلة تعشي البصر لدينا أنواع من الحيل : بناء مفكك
حبكة غير محكمة
مقاطع سردية غير نافعة
لغة مفتوحة
خيوط ملونة تغوي وتخذل نرمي الشعر كالقرص
وأحيانا
كالنر د
لتقتات به مسوخنا الجميلة وأشباحنا المرحة
يا للفرح صديقان حميمان يمزجان الضوء والعتمة
أرواح شفافة تهبط من الأعالي
فنلهو معها نضع مرآة كبيرة عند كل منعطف لنصطاد بها الدم العاهل من يقدر أن يرو ض هذا الشيء الخرافي
هذه الأب هة الملكية خذنا
خذنا أيها الدم الفاخر
قبل أن تذوب فينا الدهشة وينحسر عنا الهذيان
كم من وقت نحتاج لنتكلم عنك أيها الباذخ تلك مخلوقاتنا تتكاسر مثل كواكب في ضلالة الفضاء لسنا نملك قناديل للهداية لا نعظ ولا نهدي لا نعد بشيء نغوي بتيه لا يضاهى يحدث أن نشهر الفضيحة كالمخللب ونبج- ل الخراب رغبات تحتمل وطأة التآمر
والعشق فو هة الجد جو ال غامض هو البحر
مياه مذعورة هي الحرب نسمع سعال الجبل أو أن شجوب الغابة : تلك الطفلة التي تلملم ألعابها لحظة نشوب
الحرائق فلتجنح مخلوقاتنا إلى العنف إن شاءت آنئذ يختلج المعنى إزاء لغة تبطش بالتوقعات نعرف أن المساء سرادق الحب وشهوة الممسوسين بالحلم نعرف ذلك ونعرف أيضا أن الكتابة إمتحان للبسالة ونرى التياتل شخاصة تستنطق الحصون بقرونها الفضي ة هكذا
نفضح اليقين بالشك
ونرتاب في الشك ذاته عندما تخوض شراك هذا النص
لا تتوقف كثيرا عند المعاني التي قد نبعثرها هنا وهناك أو ربما تجدها بالصدفة فليس لدينا المعنى المعنى فيك
في داخلك محض استدراج فليكن طموحا مشتركا نغر ر بك لتثق بأن ذخيرتك الكامنة
المكبوتة أكثر غنى وجمالا إحذر التأويل الوثير وتعال إلينا لنقتحم مخيلتك
ولتكتب معنا هذا النص
أي تيه فاتن سيقود خطانا
إلى لذة الغيبوبة

2

نزال يومي غير متكافئ، مرّ كالكذب، له رائحة صنوبر محروق، ذلك الذي تشهده فصائل من البرمائيات الباكية، بين أرض ترفع ملوكها المرابين - المملوءة أفواههم بالزبيب ولحم الموتى - فوق قمم خشبية محفوفة بالمشاعل، يطلّون منها على جيش مأجور يخضّب الأصابع بصمغ الاغتيال وينصب المجانق عند تخوم سامّة تتظاهر بالخصوبة وتكوّر أديمها كما الحبل الكاذب، وبين مسيرة وديعة تخرج من غشاء النهار بلا عطر، بلا نجوم، تتحسس كالضرير منابت الضغينة.
يحدث أن يخرّ القتلى في الميدان العام، على أرصفة مبلّطة بالرخام والأعشاب الطرية، تحت شرفة مزدحمة بأمراء صغار يتنزهون في سهرة الطفولة مطلقين الضحكات البريئة، وشرفة أخرى تتحرك فيها الخادمة بهمّة لتغيّر ماء المزهرية أو تنادي البقّال، وشرفة ثالثة تصيخ لأنّات ذكر وأنثى يغتسلان بالجنس، وشرفة رابعة تتصدع تحت وقع مخبرين يبثون الإشاعات المزدوجة.
المرأة ذات النوْل، التي تغطي بالقطن جسمها المرضوض، تذرع الميدان شاردةً، لا تعرف إلى أين تمضي، تتوقف برهة لتتأمل شيئاً ، تتجه إلى ناحيةٍ، ترفع رأسها، تحدّق في السماء، ثم تخفض بصرها، تعضّ على شفتها السفلى حتى تكاد تدميها، تهرول، تركض، تتوقف.. وفجأة - في منتصف الميدان - ترفع رأسها ثانية وتطلق صرخة مدوية أشبه بالعواء.
شرطي يتوارى خلف عمود، يبرز رأسه بين الفينة والأخرى، إنه لا يرصد أو يراقب أحداً، بل يتوقع حدوث شيء.. شيء يجهله. إن إنعدام الحدث، إضافة إلى غياب المعرفة، أمر يقلقه كثيراً، وربما يعذبه. يشتهي أن يبكي، يشتهي أن يعود إلى زوجته وابنائه، يشتهي أن يسدل الميدان أجفانه ليشبّ الظلام. مع ذلك، فإنه لا يكف عن حركته الآلية تلك. كأنه يخشى أن يضبط متلبساً بالإهمال وعدم تنفيذ الأوامر.
قطيع من الماعز يداهن الميدان من أجل أن يعبر، إذ يحك أظلافه الصقيلة بأطراف التماثيل الطينية الممتقعة، ويسرد هذيانه البهيج : بالأخص عن انطلاق الهداهد من مفارق الموج ورحيلها في أحضان عاشقة كانت تروّض النوم بأمشاط الرغبة. أيضاً، يحكي عن الموشومات بملح الاغتياب. حارسات القصب والفلفل، اللائي يمزجن الليل والنهار ويطلقن النباح المسعور في أرياف القادة الفاتحين.
على مقربة تداهم الغفوة الرصاصية أصحاب الحوانيت المائلة وتأخذهم إلى نافورات تخدّر الحواس بثمارها المتلألئة.
وقتذاك،
كان الحاكم المعطّر بالكراهية يطوي بلاطه الفاحش ويخرج لجمع محتشد خارج السور المذهّب.
عندما يريد أن يفتن جمهوره المتثائب ويستحوذ على مشاعره، كان يرتدي زي الحكمة وينتعل خفاً مطاطياً يتيح له حرية التواثب بين لحظة وأخرى. ألقى الخطبة فأنصت الجمع بلا حماس. قال ما معناه أن المسيرة غير شرعية وأن الشريعة، قال. والجمع المحتشم، الذي نسي عادة الاكتراث، يصغي، قد جاء متوقعاً أن يسمع خبراً يبهج، لكن هاهو يبصر اللغة تستمني علانية، والحاكم في ذروة هيجانه يقذف الكلمة الأخيرة.
بعد ذلك، يبسط بلاطه المنسوج من مواعظ المرائين وآيات الصيارفة..
بعد ذلك، يبسط الجمع نحاس الغياب، ينحني لجلالة الأفيون .. ثم
يمضغ الأيام الحامضة..
بعد ذلك، يرتقي الحاكم العتبة الإباحية، تؤججه وصيفة شبه عارية تفرد ذراعيها، وآن تفغر شدقيها، يهتز الإيوان ..
بعد ذلك، يفتح القروي باحة النسيان ليخترقه الذنب ..
بعد ذلك، يمصّ الحاكم حلمة اللهب ويشق فم العشب بجذع الرذيلة،
فتئن الوصيفة لذةً
ويئن القروي وجعاً
ويئن الجمع إثماً
ويئن الاحتشام
وقتذاك.
تباطأ، وضع قدماً في شرك الطبيعة. كان شاعراً غريب الأطوار. أخذ يتنشق نكهة الدم السائل على كاحله فيما كان يرنو إلى طيور التمّ ترقص عائمة في مستوى منخفض وترتطم الواحدة بعد الأخرى بقمم الجبال الواطئة. ضحك للمنظر ولم يعرف معنىً لضحكته، لكنه أيضاً لم يكتب القصيدة. سار وهو يصفّر تاريخاً مبهماً، ناسياً قدمه على الرمل.
كان ذلك في آخر الصيف، عند تقاطعات القرى، حين كانت الأجراس الكبيرة تطارد الصواعق الضالة :
الحدّادون في الإسطبل يطرقون حدوات أحصنة وهمية لن تحضر أبداً.. إنها تترقرق في صدر غيمة غاربة.
القرويون يرقّعون الطريق العام بالأوجار لكبح إندفاعة شاحنات النفط.
النساء الملونّات يتمرّغن لاهيات في كثبان الذرة بينما الأرغفة الموشاة بالسمسم تمتقع داخل الأفران الطينية.
الباعة العابسون يلملمون منسوجاتهم ومستحضراتهم التي لا يشتريها أحد ليمضوا بعد ذلك صوب عشائر البدو الذين يقايضونه بجلود ماعز وقارئات كفّ منبوذات.
علماء الآثار ينتشلون بالشباك المعدنية مدينة غائصة في الرمال المتحركة مزدحمة بالقباب المسوّسة.
والشاعر يقف وحيداً وسط حقل
الشاعر المقمّط بالشرور، رافعاً
قصيدته كالحربة.. لكنه كان يبكي.
وقتذاك،
إتكأ المحارب على حلمه المحمحم، المضرج بالضباب، تاركاً سلاحه يغفو على مقربة منه. كان مثقلاً بالسهرة وبأعياد مهجورة. أراد أن يخاطب البطولة فيه، لكنه لم يشعر برغبة في الحديث. كان طعم الليمون المرّ مايزال ملتصقاً بحلقه الجاف. أشفق على حلمه، الذي يرافقه أينما يمضي كالسراب، فلملم صوره ووضعه برفق على الحشيش العابق بالأنداء، ثم دثره بلهاث الأصيل.
في مهب الفراشات العمياء، بين كلاب تطارد شمساً غاربة، وأفق يطوّق خاصرة المدى بزنار ذهبي، كان المحارب يصون حلمه براحةٍ فسيحة كالسُهْب، وبعينيه اللتين يحتقن فيها فضول الهزيع كان يرنو باندهاش إلى أزهار السحلب البازغة من هدب الطبيعة.
مع ذلك، كان يعلم، أثناء إستراحته القصيرة تلك، أن عليه أن يحترس كثيراً، فالوهاد تتنكر أحياناً في صورة شلاّل يرشي حارس البحيرة بثلج أصهب من أجل أن تدخل مهرجان القواقع. كذلك الغارة التي تموّه أشكالها وتنطق بلسان الببغاوات. وما السراب إلا حيلة تبتدعها الطبيعة، بلا ضجر، لكي تضحك على ورطة المخلوقات.
سهو كثير هنا، ينبغي أن.
" هل سيطول انتظارك أيها الشبح ؟" تسأل زهرة السحلب.
" أنا لا أنتظر أحداً." يجيب متململاً.
" لكنك تقف هنا منذ سنوات بلا حراك، ودون أن تمسح رماد الليل عن وجهك، لا نسمع سوى أنفاسك الثقيلة، البطيئة، أشبه بحشرجة تنّين ".
" كان ذلك في حزيران، عند مساقط الخوذات قرب النهر الميت، أوان نزول الفتيات المشوهات من المنحدرات الصخرية، حين التقيت به، كان ذلك في حزيران. جثث تستحم في مياه ضحلة. نسور تطعم صغارها فضلات مدن آفلة. الفتيات ينفضن العرق من أجسادهن المحروقة ثم يتمرغن في الطين الشفيع، في حزيران. التقيت بحلمي الذي. قرب تشنجات برك مليئة بقادة عصابيين ينهشون أفخاذهم بشراهة. عند مساقط الخوذات والرؤوس اليافعة التي تتطاير وتتدحرج. كان ذلك في حزيران، حلمي الذي ما أن رآني حتى غرز مخالبه النحاسية في صدري. قلت. في حزيران قلت. كاشفني. كشف عن وجهه فعرفته. قال لا تذع السر. عند النهر الميت حيث يطفو الحديد. حدث ذلك. وقت كانت الأذرع المتفحمة تهرب من جثام مسعور. فتيات عاريات ينز الدخان من الفتحات الصغيرة في أجسادهن الليّنة. في حزيران التقيت به. ما كان عندي دثار. فرحت الفتيات حين جاءت الشظية من بعيد. فرحت حين تكوّمت المدن الرخوة في قبضة طفل. كان ذلك في حزيران."

3

ظلال الخطايا تتنزّه في البحيرة،
فوانيس هاذية تزحف نحو منجم مهجور لتموت هناك،
خشخاش طاعن في الوحشة ينحني ماداً أذرعه الشاحبة لتلامس ماءً مجنوناً شديد الصخب هائج الحركة،
وفوق مرْج فيروزي مسوّر بأسماك تتواثب في هرج، تجتمع ذوات البشرة الداكنة - النساء الداكنات - المبقعات بريش الغمام رافعات المناديل والخمائر شاهرات جدائل الرهان :
إلى أي الجهات نرهن أرواحنا الشفيفة ؟
يقايضن الغبار بزعفران المدى، يحتكمن إلى التخوم البعيدة التي موّهت حراسها، يبسطن النذور على مائدة العرّافين، لكن أحداً لم يصغ إلى الداكنات اللائي سلب النسيان ألوان عيونهن واغتصب ما تبقى من بهاءٍ وعذوبة.
ما من صوت أو همس أو صدى في هذا القفص الرملي حيث القش الوابل يلاحق يأسنا ويصادر كرز طفولتنا.. ذاك الذي قطفناه في عيد الأولياء يوم كنا ناصعات مرصعات بالغبطة واللهو، نؤرجح تنانيرنا وندلّي خصلاتنا فيثب الغناء من حرير أثدائنا وحافيةً تدخل الأحلام الحمراء مقصورات نومنا كنا نشبك الشرفات مثل حبات الخرز ونعلقها قلادة على صدر البلدة في ليل الأعراس كي تضيء مواكب الأعيان وهي تختال بين الطرقات الزاهية مزهوة بالحسناوات اللائي يرشقن الفتيان بالزهر، وكنا نرش الأفاريز برضاب أنوثتنا جاهرات بالفتنة وإننا الممالك التي ليست للنهب وإننا عطر الحكمة المنذورة للقلب، وفي المدى الأبعد، بين هضاب تشهد دون اكتراث زحف أجناس تبني على عجل دويلات تسنّن قرونها وتسمّم نبالها استعداداً للعراك، كنا نرمي غلائل المكيدة ونصطاد طوائف غضّة نرطّب بها شبق الرغبة والهيمنة.
لكن ها نحن الآن مستوحشات يشرنقنا الخراب حيث لا فيء بل سماء مثقوبة تمطر زيزاناً تسلب ذاكرتنا إقليماً إقليماً، معصوبات بالرمل يستبيحنا الخفاش وعلى راحاتنا الملساء يتمعدن السرّ. حتى الأمومة لم تعد تستطلع الأرحام وتغسل مداخلها بأنفاس المها.
هكذا، كل ساعة، ينزعن الأنوثة مثلما ينزع الصباح قناعه، ويطلقن في عراء الروح صيحات الفريسة آن يضرّجها الحنين.
نساء حجريات. مهملات في موقع مهمل.
ساعةً يضرمن الجدال والرهان،
ساعةً يجمّدن الوقت ويمسحن الكلام.
نساء حجريات. يجوس النمل الأحمر بين أسنانهن الحامضة حيث تتعارك الأرواح المغلولة.
جئن من المساءات الألف المأهولة بالحكايات والسهر، المأخوذة بالسفر، تلك الرافلة بالأهواء بين مأدبة أمير مولع بقنص الأميرات ومائدة مغامر لا يملك ثمن الجعة لكن يلمح في ذؤابة الشمعة خارطة تخبئ كنوزها وتمحو الإشارات بسحابة فيجهش، ويجهش الفقراء فيما يطوون مآسيهم لئلا تتشوه الأسطورة.
مساءات بلون الخلوة، التي تستر عاشقين مسفوحين للكراهية، طافحةٌ بالغدر والمكر والجنس والحيل. جاريات يهبطن من فم الحكاية مثل دمى في قارورة جنّي. خليفة يتفقد الرعية مدججاً بالفخاخ. بلاط يتقوّس تحت انحناءات قضاة يخرقون الشرائع بدبابيس زوجاتهم.
يالبذخ المساءات !
غامضة كابتسامة فتاة بزغت للتو من النهر.
تجمع في جرّة واحدة فخامة الطقوس ورعونة المهرجان.
وئيداً تشدّ المجرّات كالأحصنة إلى مرابطها، وتبذر الهدايا في عتبات الأزمنة.
جئن. وحين أعلن المبشّر الأبكم أوان الولادات، غسلن أفخاذهن ببلّور المخادع وأنجبن في غشية سلالةً متجهمةً ركضت كالجراد مقتفية خفاف أقطار كانت تتساقط إعياءً في الأرجاء. ولم تعد السلالة من رحلة الصيد. كانت الأمكنة، الأكثر اخضرارا وبراءةً، تشرّع ممراتها الليّنة مثل عذراء ترجو صداقة الوحش. كانت تستدرج بسلالم طرية نصال الغزو لتستقر في الغمد، حتى أنها وهبت ما شاء الجباة من سبايا وعطايا، ولم تعلم السلالة مدى حنكة الأمكنة.
قيل أنها ضاعت في مهب المجون. قيل أنها صارت طريدة لأقطار تعلمت البطش منها.
في ذلك الفجر، المثقل بحشرجات الوقيعة، إستنطق الحديدُ الجمرَ ومضغت الحمُرُ الوحشية بقايا عرش جليل. كان تابوت بحجم إمارة محمولاً على كتف فارس شاحب يجوب الحانات المقفرة وإلى جواره يسير جواده الشاحب مطلقاً من منخريه نفحة الموت.
وحين رأى المبشّر الأبكم زوارق تهرول في الصحراء ساحبة خلفها أنهاراً سوداء مكتظة بالغرقى الحالمين والدلافين المحمومة، أدرك أنها العلامة فدفن نفسه حياً في صدفة توتياء..
ولم يبق للداكنات غير التيه والعويل.
أفقن. تلك جزيرة الأحفاد تدنو مسروجة بالمشاعل، تردم الماء بالانشقاقات. من حول حيزومها الفصيح تكبر نوى الفتوحات، وكل نواة تجثو وتستعير ملوحة المرجان قابضة دفّة الشكيمة لحشدٍ ينتعش في رئته العصيان. ثمة ليل رؤوف يلتقط حيواناته الشاردة في ساحة الصدى، وآبار تنتحي مسدلة الضباب على عزلتها.
إفتحن بهو النواقيس الخرساء لنهيئ استقبالا يليق بذريّتنا. إلينا بالبشاشة، إلينا بالرموز والمزامير، بالأراجيح الفسفورية الحائمة تحت عريشة العناكب. كم حلمنا بهذه اللحظة ! من منا لم تحلم بمملكة رخوة، صغيرة بحجم الكف، تشرّع بواباتها النحاسية لكتائب الأحفاد يدخلونها متعبين جائعين لكنهم أكثر مرحاً من الحشائش التي تغطي أكتافهم، فنمد لهم راحاتنا الملآى بالقمح، ومليّاً نتأمل أحداقهم العميقة التي لا تكف عن إغوائنا.
آنذاك نتجرّد من الحجارة ويأخذنا الماء المسرف في الوداعة إلى جذورنا : ملتقى الأسلاف، الرعاة والراعيات، مضارب تسفح أرتال الظباء في هبوب الحشائش والإبل تجتر سفر الأودية في ذاكرة خائنة تحرّف الصور. لكن العشيرة رأت ما هو أبعد من مرمى البصر.
حسبنا هذا، حسبنا هذا المشهد !
نراهم يجيئون عراة وعرايا يضيئون بقاماتهم المديدة مخابئ الكواكب النائمة، يمدّون جسراً إثر جسر، ويدحرجون القنافذ البيضاء مثل كرات ثلج تقتحم أوكار الخلاء.
وئيداً تشق الجزيرة قلب الأرض
بطيئاً نهمس للحلم أن لا ينطفئ
ثمة نشيد. أشعلنا مصابيح الماضي كي نبصر جوقة باسلة ترمم الحضارات بالمصاحف. ما رأينا غير الصراخ. نشيد أم نشيج ؟ إختلط علينا، نحن الأسيرات المهجورات، المملوءة أعيننا بالرمل حتى أن النحيب صار يطفر من جباهنا. وكنا ننتحب ليلاً لئلا تسمعنا الحدأة :
رسولة الجحيم.
كم إشتقنا لمجيء عابر يقدر أن يخاطب الحجر فينا لنسأله : أما رأيت دويلات بلا قوائم يجرّها أحفادنا الطغاة مثلما جرّ أسلافهم القارات من أذنابها ؟ أما رأيت خطواتهم تشطر وجه المحيط وتزرع في شقّه بأس الغزوات ؟ يتدفقون من المغاور - كما تقول النبوءة - مجبولين بخمرة المعارك شاهرين نداءً بعلوّ الولادات. أذرعهم الطويلة، البيضاء الطويلة كبياض العنف، تجتاز الأبعاد فيما يقوّسون ظهورهم لاغتصاب الأرض الموطوءة بالصراخ.
إن أردت وصفاً أبلغ أخذناك إلى سرادق النعناع. موطن أرواحنا، وهناك نريك الأبراج المنجّمة تستجلي بويضات الغد. إنتظر يا رفيق الصمت.. إنتخبناك مرشداً أو رسولاً، قائداً أو رائياً. فقل لنا أي المسالك أكثر أماناً وأي الخطى أكثر رصانة. ليس لنا ما نفعله غير الحدس. لكن لماذا لا يسطع صدغك تحت ضوء أعيننا الميتة ؟ نتحدث بإسهاب فتسخر منا، نعرّي أمامك حماسنا فتشيح مشمئزاً ! كأنك لا تشبه جنس الفرسان.
كذلك لست أنت ولست أحداً :
جثة هلال. ظل يبعثره الهواء.
واحسرتاه ..
نطرّز أثداءنا بآجر الفصول كي لا تعرفنا الدسيسة
ونبقى وحدنا مع بقايا السنين الشائخة
إذن إصرخن يا فزاعات
إهرمن يا أمهات الأمس
فما يدثّر نداءكن غير الصدى
والنشيد المحتل
هنا، ولآخر مرة، ينبت الصبّار من أفواهنا.
كن يتظاهرن بالنوم آناء مسيرة الطمي نحو الأمم الراكضة خلف تضاريس لا وصاية لأحد عليها. وكن - حينذاك - يصنعن من طين العروش ممالك يفتحها الأحفاد بضربة فأس السديم :
من هناك ؟
من ذا الذي يفضّ رئاتنا الحاسرة ويطعن حضورنا بلهاثه الصلب ؟
لا أحد ! لا شيء !
إذن كنا نحرّك أرواحنا الناعسة في المهد ولا ندري.
وإذ ينعسن صباحاً يوثقن فروة المملكة بخيط حول أناملهن. وكن - حينذاك - يدهنّ وجه الشمس بالزيت ويطلقنه مثل بالونة في بهو النهار. في النعاس تحلج النساء المرتجفات أحلاماً بلا صور تداهمها بين الفينة والفينة مناقير اللقالق فما يبق منها غير نثار جثة تتوزّع بين ضفاف الفرات وأطراف الأوراس. لكن لم يخطر ببال المرتجفات أن الخلوة تلد حلفاً متواطئاً وأن فراديسها هالكة لا محالة وأن
الجثة
تسقط
وتنكسر هكذا المرة
تلو الأخرى
وأن الموت كاهن معتزل في معبده، يطل بوقارٍ من كوةٍ شابكاً قبضتيه خلف ظهره، يوجّه نظرات ثاقبة نحو النساء المنبوذات فيما يهمس لغرابه بكلمات مبهمة فيطلق الغراب قهقهة عالية ويمضي ليدشّن قبوراً فاخرةً لشعوب فاخرةٍ بينما يظل الموت - قرناً بعد قرن - في موقعه لا يحرّك هدباً كأنه الحارس المتجهم والشاهد الأعمى. وحده يفتح بعينيه الأهوار ويملأ راحتيه سراطين نهمة تقرض الأعوام على مهلٍ، والأعوام تترك أطرافها هناك، حيث المنبوذات يضحكن ويولولن في آن (وكن حينذاك ينشرن هذيان الماضي الحيّ على أغصان شجرة كثيرة الحيل، فتارة تلولب جذعها وتنتحل شكل ماموث وتارة تصبغ أوراقها بالفحم) ووحده يصطفي كرسياً وكتاباً وشهقةً منبلجةٍ من إبط امرأة تشتهي أن تموت.
من رأى كائناً يتآمر ضد نفسه ؟ رأيناه يطل من كوّة رافعاً بيدين ثابتتين مرثيته كالمعول مقصلة صدئة نسيت أن تشحذ نصلها.
صحنا بصوت واحد :
هيا أجهز علينا في لمحةٍ
نكن لك عاشقات وخادمات
إبتهلنا للطعنة أن تدوّي في نحورنا بلا تباطؤ كي نعبر المجرّة وتغسلنا يد الله.
صحنا بالحجر تمزّقْ يا رداء
بكينا تكفينا المحن والخيبات
ما كان ينبغي أن يهملنا إلى هذا الحد.
قرأنا في الرؤيا أن أحفاداً بلون الأقحوان - فوق رؤوسهم تحوم الغنائم ومواكب الأسلاب، يسوقون أشرعة المدن بهدير تجفل له الأرض - سوف يقبلون نحونا فلولا أشد إحتداماً من وقع البروق. بلّلنا أجفاننا بعنب السهر وإلى هنا جئنا. مكثنا صبورات نحرّك الرؤيا بطواحين صبورة تدور يوماً بعد يوم وما اندلق الحلم بعد.
كفانا انتظاراً فقد اجتاح الحجر أجسامنا وطمر بصيرتنا. صرنا لا نشم أعياد الأحقاب. طلبنا ملائكة فأتت الأشباح تضجّ من حولنا كل حقبة تدهننا بالكافور وتلملم أطرافنا المثقلة بالرياح حزمةً حزمةً في سلال لا تُرى لتطعم بقرات لا تُرى ثم لتعيدنا من جديد ذبائح يومٍ لامبال.
إلينا إذن بطعنةٍ لا تتقن الرأفة، تخترق السرّة وتسحل الأحشاء
إلينا بالضغينة والضراوة، بالعصف والقيامة
إلينا بذبح يحنو ويداوي
إلينا بكل شياطين الهتك
النقاء ! النقاء!

4

واحدة تنحدر من قميص البهلول
وتشمر سواعد الضباب. بيدين عاجيتين تحلب الخرافة.
أعيروني عيناً من فضّة. الطفلة خرجت ليلاً تبحث عن مدفأة. كان الثلج يحترق في قمة المئذنة. من النافذة سمعنا كل شيء : كلام الثلج، إحتضار الذئب، نشيج أصابع صغيرة تعدو في بهو الدم. وعندما أرخينا المقل أبصرنا كل شيء : الطفلة تلبس جسد الذئب وتتسلل بين الأعمدة اللولبية لتغوي أطفالاً يخرجون ليلاً ويدفنون أصابعهم في إقليم الرصاص.
لم تعد العائلة مزاراً مقدّساً. مات الأب، نام الابن والأم في سرير العناق، تقوّض الكتاب والضريح. ما من أوسمة لكتيبة تحتضر في أدراج قائد مخبول، أو لألوية تنتظر إشارة لتسقط في أجيج الجنازة، نعش للمدينة. لدينا ما يكفي من الفضائح. وإذ نخترق العادة ونشق باطن الطبيعة السويّة، نهيب بالمحارم أن تفيض وتنقضّ بالباطل على مناسك الحكماء. وللفقهاء نبتكر أخلاق الضد. نجمّل قبح الأشياء، نقبّح جمال الأشياء. ونتمادى في قلب نظام الطبقات.
ها نحن، الذئاب البشرية، نرمي مرساة البدْر عند اكتمال التناسخ ونرفع أعناقنا الراشحة شبقاً صوب سهوب مدحورة نمضي إليها عدْواً حيث نتزاوج ونملأ شراشف القرى ونسبّح للانقراض
كان الذي يسكن ركعة اليأس يذرف صلاة
محروثة بالرؤى المجهضة :
كفيفةٌ تمشي المدينة إلى الجريمة.
ونسعّر الانقراض
حتى لا تظل هاوية شاغرة والنجوم المشعّة تهوي كالمطر الأسود ليمتطيها النسل الأنبل مضرِجاً خواصر المرافئ بالقتل.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه نفسي
طفلةً ذئبة تقود التخوم إلى منابع
النسيان،
وما غادرتْه قط !

5

واحدة تلوّن السماء بخضرة حدقتيها وترسم للأشياء حالاتها الغامضة. تفتح البوابات وتسمح للأكواخ أن تدخل دهاليز المتاهة المحفوفة برؤوس أباطرة طغاة ينهشون كواحل العابرين إلى الثمرة التي لا يصل إليها أحد، وتقول :
ساحات تطير بلا أجنحة، أشجار تغيّر مواقعها كل دقيقة، قمر يسبح في عين مراهقة وردية.. كل ذلك ليس سوى حضور مبتذل للمعجزة. إن كان ثمة إعجاز في هذا الكون، فيمكن التحري عنه في العرق الأزرق الذي يطوي ملوحته وينسل بين جسمين ملتحمين حتى اللهاث الأخير يهاجم كل منهما الآخر بجذر الأنين الحلو ويرتجفان مع كل إهتزازة لعصب أو عضلة.
لذة لا توصف في تفجّر الندى من فم البرعم، في اندلاق العصارة داخل نفق الغضارة.
أقدر - أنا اللاهجة في عسل الخَدر -
أن أحصي ارتعاشات أظافري وأجترح
المدهش
ينحني انحناءة المتعبّد يعبئ أهدابي بالوجد والعشق صلاة لمن لا قبّة له لمن غسل الكراهية بفراشة الحب ينثني ليتحد بشهيق النهدين فأسافر مع مدّ البهاء في نبعي والعنق جسر يأخذني إلى عش مشعشع يفرد سطوعه فيغمرني وأغمره بالشقائق وبي وجع الغواية أغويه والإبط عريشة تأخذني إلى مسرح الأنداء حيث الحركة المنفلتة من أسر التلقين تؤله الفوضى الجميلة والعين قوس ومراكب تتهادى أرتقيه فيتهاوى نهوي في فيض كما الحلم السخيّ يمنحنا سرباً من الموج لا غناء أعذب من غنائه لا نداء أشهى من ندائه يرتقيني فأغيب ممسوسة بالشهادة تخومي لهاث الذكورة أحاصره بالإباحة فيطعنني بالقبل وإذ نتسابق في مجرى العسل اللاهب مأخوذين بإيقاعات التهيج بتجانس في فضاء الحلمة أتجانس في نفحة التأوه ومعاً نتمازج ونعلن الإشراقة العظيمة بأجراس جسدينا كيف لهذا الجسد البدئي أن يتجلى في حومة العري من غير منارة الجرأة والاحتفال يحتفي بي وأحتفي به طقساً كونياً معاً نستحم في صيحة الكائن الواحد نتمرغ في قماش الماء الواحد أتيمّن بالشفة اللاثمة مهبط العشب وأبتهل للغيبوبة الحلوة أن تأسرني ليتقرى وحده نزيف مصبّاتي وأتهجّى وحدي رنين موجاته أنا العاشقة أتناثر وجداً كلما استدرج العاشق أنّاتي وامتدح الرعشة الطالعة وردةً وردةً من مجرى عناصري وعالياً نرفع حياء الفضاء ونغسله بفراء الشبق الداجن فلا يغادر القمر الخجول سماء سريرنا إلا مهتاجاً وبلا سطوة فلمّا لمحتُه يحشد هتاف الطفولة بين جوانحه إنهمرتُ في بنفسجة قلبه لتمحوني البراءة والمدّ وكان الكون عندئذ مطلياً بالدهشة.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه نفسي
عاشقة تبكي غبطةً وتجرّ بحراً خاشعاً كالسرير إلى واحة الانتشاء.
وما غادرْته قط !

6

واحدة تخرج، نابضة الحب ساطعة العري، من حرير نهر مخمور
مرشوشةً بعصارات الزنبق. ما أزكى أنفاسها تلك الموهوبة براءة الذاكرة ونقاء العشق، تلك الواهبة نبض الكائنات في جنة مداها، ما أحلاها ! وحدها الناجية من الدنس، البشرية الأكثر نعومة والأكثر حصانة. تحرّرت من إثم النسيان وأعلنت أنها الشاهدة على فجور الضعف وإرهاب الصمت. ما أن تطأ كثيباً حتى تلد شبلاً نهماً يرضع الوسامة والجرأة من نرجسة الثدي. فيض من البركات تهمر من أطراف أصابعها. وإذ تميل ملصقة صدغها على أجنحة العشب الشفافة، منصتة إلى حفيف شعوب ضاحكة تتنزه في ممرات الحديقة وتتهامس فيما بينها، يخترقها - آنذاك - فجر عذب مليء بالوعود والنعم.
هل نَـصِِِفُـها ؟
جمال المدفأة، قلب النورس، شفافية الظهيرة، هشاشة اللذة، بكاء الدهشة، براءة النهد، بأس الأمومة، حنان الضحك همس الوله، طفولة الخجل، سخاء العنب، حزن الحزن، حياء المصادفة، إسراف الوردة، قناعة الجذل، أمانة المفاجأة، إشراقة الحب، حدقتان تشع فيهما غرف مأهولة بالضوضاء، وثمة أطفال بحجم الدمعة ينثالون من النوافذ الكبيرة مع أسماكهم الملوّنة وطيورهم ذات الأجنحة الزجاجية ليثيروا فزع مرايا الشارع. ذراعان مخمليتان تطوّقان بوداعة تعب الصديق وخيانة الصديق. والفم. نحسدك أيها الفم القادر على العفو، الفخور برضابه الحريري بلآلئه المرحة، فيك يسافر الهيام غير آبه لنداءات الحشمة. من أين لك كل هذا الشهد، كل سبائك الحكمة والمتعة ؟
هل نحكيها ؟
الهلال ..
زورق يرتعش في خلايا المدّ. يدغدغ ظلال رُسُل أرضيين يحومون في بهو السماء بعد أن خانتهم الذاكرة. يشق بخفّة قلب الماء الرحيم، مجذافه سحابة ليلة ومرساته حبل الخرافة. لا أحد يخمّن مقصده، لا أحد يعلم أين سوف يرسو. كأنه جاء من زمن غابر محمّلاً برائحة لغات محظورة وإشارات متناقضة.
الهلال ..
زورق أزلي وامرأة مضطجعة في هدوء وسكينة بعد أن أوصدت أجفانها القطنية حابسة نجمة كانت تعدو في مجرى الدمع جامحةً. في منتجع الوريد يتشنّج ربابنة النوم قبيل مجيء الحلم النادر، وعلى أطراف الشفّة تتغضن الغريزة مغمورةً بزيت الانتظار. الليل المتشح بالوجْد يعرّي بشرته الفضّية وينحني على البحر الطافح بالعاطفة، هذا هو الحب. هذا هو الحب، ولا إسم آخر، ولا نعت آخر، لهذا العناق الكوني.
الهلال ..
زورق وامرأة دامعة ورجل يعلن عن حضوره بمداعبة الشعر الأنثوي الراشح نفحات وعطايا. ياللطمأنينة ! يا للارتواء ! كم سيحتاج من تضحيات، ومن جروح، ليستعيد - بعد زمن - اللحظة ذاتها، والرائحة ذاتها، ونداوة العالم ذاتها ؟ لكنه الآن يتطلع إلى البعيد، يرنو إلى المنارات البعيدة، كأنه يحنّ إلى الانتماء لشيء مجهول، لقارّة لم يمسّها بعد. كأن وجود المرأة وحده لا يكفي لارضاء جنون الفرح وإطفاء شهوة السفر. ألهذا السبب كانت تبكي تاركة شعرها المضيء يتلوى ألماً في أسر حضنه ؟ هات أحزانك الشوكية، يا امرأة مراعينا، لنمشط بها ليلنا الطويل.
الهلال ..
حيوان خرافي ينتصب على جرف سماوي ويخلب لبّ الفلكيين بتحولاته وتقمصاته المدهشة، يبتكر الحيل البصرية ويرمي في أركان الأرض رؤى آسرة.
هل نحكيها ؟
رأيناها - المرأة الوارفة، الرافلة بالعصيان - تلتقط الكوابيس الخصبة من أذنابها وتمضي بها حثيثاً إلى كهوف بدائية لم تذق وحوشها طعم الخبز من قبل. هناك تسعّر المجاعة وتضرّج بالقسوة براثن الوحوش المزعنفة كي تغادر شرانقها وتنازع أشباهها الأليفة، القاطنة في المدن، لحم الكهنة وخبز الخشوع.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه نفسي
موجة في عين شاعر محموم يسحل بي الباطل.
وما غادرْته قط !

7

نصْل الكتابة، النساء الحجريات، بهنّ نقتحم
بهو الفضة
قبّة الوقت
حاسرات الصدور، شاخصات الأنوثة نحو
زعفران
المدى
الغريب
تخشعن لجلالة البياض. تخرجن من ماء الخرافة ومن عجين الغياب. نخرج - زهرتين - من مستنقع القتل. أضع يدي على حزنه المقوّس، ونبكي معاً. ذلك أن طيور المخيّم كانت تهاجر فينا جزافاً. نرمي فتات الفضيلة كي نستدرج فوانيس صلواتكنَّ المقنّعة. إلينا بحضوركن الشاسع، هاهي المائدة فائضة بالمحابر. نرقب صليل الفاجعة آن تلامس أرواحكن شغاف المخيّلة. لحزنه - صديقي الضال - رائحة الفحم : لن يفقد الفقر أثره.
يا للأحداق الشاهقات !
كمن ينوي خديعة الجريح بسنان أكثر جمالاً
ولا نكاد نميّز حدود النص عن أهدابكن البتولة،
ذلك أن
مقلته المجنونة تئج في سبرها الملعون،
وتفيض بالقرمز مثل دَنِّ النبيذ. يعرف -
فيما يرمق رعشة أصابعي في صلصال الحرف - أن يكتشف أسلاب المنجم، يجوهرها، يصقلها، ويفتن بها الضالين.
آه، يا الحجريات، الماثلات في المجابهة.
ها يجترح بكنَّ المعجزات، فتجمحنَ به !
رأفة به، رأفة بالوديع الفاتك. إرخين له قليلاً، فإنه يدّخر لرذائلكن الذخائر ولأعناقكن قلادات من خرز الحُمم. ما من جميلة أسلمت له جسدها إلا وزيّنها بخلود الأسطورة
يتقن كتابة الناس
يتقن كتابة النساء
لا يتقن شيئاً غير الكتابة
إحذرن،
لا تجنحن لقصبة الجوقة
ستلتهب، بكنَّ، مواضع العزف
مكامن النزف.

8

مرّ شعب الجهات،
بمحاذاة النساء الحجريات، ذوات البشرة الداكنة، مرّوا دون إلتفاتة. ربما لم يحسنوا الإصغاء، أو ربما لم تدلّهم الخرائط إلى المساءات الألف.
مضوا - رفقاء السفر - كالفجاءة من غير دروع ولا مركبات، مرفّلين عباءة الجرح المستبد. لم يتركوا رائحة أو كلمة.
نسدل سيرة أنينك البحري يا من تموت مراراً وما يزال في فمك طعم الغابة، أيها الغريب الذي يشتت أشلاءه الرنانة في مساقط الدم وانحسارات التضاريس، لنسرد - نحن المرشحين لمواقد الفتنة - مشاهد لا تشفّ عن رمزٍ أو مغزى، وأشكالاً ماكرة تنزلق بكثافة في
خميرة الكتابة
هندسة الحكمة
أزياء المعنى.

***

العاصمة الثانية

أسلاك

1

أسلاك
أسلاك شائكة
تخوم مسيّجة. رؤوس منكسة : حيرة الارتياب، وجوم الأسلحة.
ثلاثة جنود، يزدهر بهم القتل، يقتادون شخصاً معصوب العينين، مقيّد اليدين من الخلف : تحقيق أم تصفية ؟
شبّان يحدقون في ترف الدم، صخب اللحظة، ويتهامسون : أسرى حرب ؟
جندي يحمل رشاشاً ويراقب : ثمة كابوس يتربص به في مكان ما.
برج مراقبة
أسلاك شائكة
جندي يهوي بكعب بندقيته على رأس أسير : يطأطىء النهر، ثمة أرض تحتضن نشيج بلاد. كتل من الأجساد المرجومة بالغبار والنصال تتلاحم في هذا العراء.
عبر فتحات الأسلاك الضيقة، التي تسيّج جسداً مثقلاً بالكمام ينزّ رملاً أسود وكلما مدّ عنقه تجزّأ وطناً وطناً، يهرّب شعب الجهات الذاكرة راجياً أن تعود بصفاء إلى سنوات اندلقت في قبو الزمن الذي أطبق أجفانه عليها فمضت في اللج بلا مصباح.
وعندما انحدرتُ من التلة لم أكن قد بلغت الخامسة بعد. هرعتُ إلى جدّي الجالس تحت شجرة لوز يصغي إلى شحرور يشدو. قلتُ : )يا جدي، لقد أبصرت الفضاء والمرتفعات، لكني لم أر الجبل الأخضر). فأطلق تلك الضحكة الوقورة ثم قال : (أغمض عينيك لترى).
أغمضتُ، لكن :
سترى الرماد الكامن ينبثق كالعصف.
تشبثْ به. هو الجناح الشاهق الذي يطل على السريرة. سترى في ريشة الغيم.
توشّح به. تراه كأنه التراتيل الأولى.
بيت حدوده السماء.
أغمضتُ، لكن :
إصبر بأجفانك على الرؤيا، على احتمالها.
أطبق بهما. تصر لها جنة وجنيات، تشبث بموتك تحيا تهاجم يحتفي بك الوقت والطريق، احتفل برهبة الذكرى تكن عرساً
جريمة تكن تدور حولك الخرائط وتغتسل
الأنهار بقدميك.
هذا هو التل
إصعد
تصعد حول قميصك الرياح
وإن أغمضت يراك الكون وتركض إليك
العناصر.
أيها الطفل، ماذا ترى ؟
... وكان التل أكثر علوّاً من الكلام. وللحجر بكاء الأنبياء. إنحنى على زهرة الحجر، مسح غباراً شفيفاً فصار الحجر درجاً، رسم قوساً ودخل، طالعته صبيّة مليحة تمد إليه ذراعيها، وعلى كتفيها تنسدل البحيرات القرمزية والبساتين المتصلة بنوافذ السماء، لمح في عينيها باباً، رسم قوساً ودخل، فانهالت حوله الحيوانات الزرقاء تحتك بجسده وتخترق قميصه، للحيوانات قرون طرية تأخذ شكل قناديل وأصص أزهار، وكان في صدرها طرق، رسم قوساً ودخل، فتقاطر حوله سرب رهيف من الشحارير الفضيّة تدسّ مناقيرها في ثنيات سرواله المهلهل، تخدش جبينه بحنان مخالبها وفي قصة شعره تبني جسوراً. خاض في نهر غزير من الزنابق فيما كان الدم الغريب حتى الوحشة يغطي مقلتيه. رسم أقواساً ودخل، حتى وصل إلى حيث أخذته الحجارة. وكان مطر خفيف يرش قمة التل، ولم يعد مكان أعلى من قمة التل وسقف الرؤيا. نظر إلى أسفل..
ماذا رأيت ؟
تلك بلاد تبدأ من حجرٍ، وخاتمها سيد الأحجار.
جلستُ بقربه أتمرأى في لحيته البيضاء الرزينة. قلت لنفسي (سأفهم عندما أصير في مثل سنّه). لمحت مفتاحاً يتواثب بين أصابعه الهرمة فسألته (ما هذا ؟) نظر إلي متسائلاً ثم أدار بصره إلى حيث أشرت، أجاب بدهشة (مفتاح). قلت بتبرم لأن لهجته أوحت إليّ بأنه يتهمني بالجهل أو الغباء (أعرف أنه مفتاح، لكن لماذا تحمله معك دائماً ؟). انقبضت تجاعيد وجهه فجأة فاعتقدت بأن طرحي للسؤال بهذه الطريقة لم يكن لائقاً، وندمت.
ظل صامتاً فترة طويلة. لم أنبس، فقد خشيت أن ينهرني. مع ذلك لم أغادر مكاني بل طفقت أحدّق في التجاعيد والشعيرات الكثيفة التي تكسو وجهه. وأتشبث بالوميض الذي يتوهج ثم يخبو ثم يتوهج ثانية في عينيه اللتين ترنوان بعيداً.. صوب أفق لا أدرك كنهه، صوب مدى لا يُحد. أخمّن أنه سيغفو الآن بعد أن تدثر بالصمت وتوسّد الشيخوخة، أراهن أنه سيحلم عالياً مثلما يفعل كل مرة، وسأشاركه حلمه إلى أن يغزوني النعاس. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. بل انتفض بشكل مباغت وتمتم : (أشم الآن رائحة بيتنا).
لم يكن بيتاً حجارة. كان شجراً هارباً مثل أفق لا تسعه الأحداق. أشمه الآن مفتوحة نوافذه على الروح دم مذبوح يلهو بشاغر الهواء تتراكض نحو السنابل. له لغات تحاورها الأعماق يستجيب لها شغف الغريب، شاسع شاهق، ليس بيتاً حجراً. كلام صلاة كأنها في هدأة الهيمنة الأخيرة قبل فجأة التوقع. له في شهقة الوليد في تأمل الحكمة عطر يجول في الخلايا والقلب مزدان كهودج النسرين. له الوقت الطرقات المفتوحة المختومة الآن هذا العبير المجنون الهارب من الصدى الهائل الذي لا يسع غرف القلب دم مذبوح وياقوتة الروح منذورة له هذا الذي أشمه الآن أراه يحضن المدى ينادي
تعال
ذهبتُ. عبرتُ المضايق والأرخبيلات، وفرشت لي التضاريس عتباتها. هناك بيتنا كأنه هنا. أشمه الآن وأطراف الندى تمسك بردائي تقودني كمهاجر أضاع دربه. لا حاجة بي إلى من يقودني قلتُ رؤياي بوصلتي والحدآت دليلي قلت يرافقني الماء والحصى وعلى عجل نمشي نهرق عصير البدن نرهق الوقت حيث تغادرنا المسافات مساءاً وفي الصباحات تحيّينا بتعب (صباح الخير يا فرسان الرؤيا).
تعال، تعال
إجتاز الأبعاد، عبر فوق إيقاعات الجغرافيا، والأقاليم الملساء كانت مسفوحة بين قدميه. وطأ التخوم دونما وجل وتوغّل في رئة الوقت. رويداً غاب الصوت الصدى الأبعاد المسافات المواطئ الزمان الزمان.. وحضر الجبل الحارس الذي لا ينام وفي حدوده تسرح الفصول.
تعال، تعال
تمتد حقول الكروم حتى المرافئ حيث ينثر البحر زبده على السفن الكسولة والأرصفة الضاجّة بالحمالين والصيادين. ومن بين دروب القرى المتعرّجة تنسل أشجار الزيتون والبرتقال لتظل الساحات والصبايا.
الطرقات تنزلق تحت خطواته وترشده إلى بيته
الأصيل موعد الزائرات الطيّبات ووقت الثرثرة الحلوة في فناء الدار.

2

البيت المسالم موغل في النوم. هدأوا في أسرّتهم بعد أن أرسل الليل جواميسه السوداء لتسرق - كالعادة - نواقيس النهار. هجعوا، ملاذهم حلم تتعدّد صوره وأحداثه. الأجاص الذي يتلألأ تحت ملامسات أنامل القمر يتدلى كأثداء عذراوات إستحممن لتوهن في نبع الياسمين وبزغ نصفهن الأعلى منتشياً بالطل : عصير المساء.
البيوت المجاورة، التي بدت كعناقيد أرجوانية دحرجتها الرياح العابثة تجاه هذا الموقع، أيضاً أخلدت للغفوة ولم تسمح بأن يربك سكينتها ثغاء أو هسيس. ثمة ديك ضرير يغني، ثمة عجول تحاور نفسها هامسة، ثمة حقول تحرسها فزاعات جبّانة تنتفض هلعاً لمرأى السناجب، ثمة أرض أباحت أرصفتها وثمارها ونامت.
تلك ساعة متأخرة من ليل نيسان فيها يحلو للمؤامرات أن تحيك دسائسها وتسرّح ضغائنها دونما لجام، فالأفعى شحذت أنيابها وانسلت عبر سلالم القرى، والنصال الشرهة انتصبت حول المدائن : وحدها البوابات الرهيفة اختلجت أهدابها، لكن لم ينتبه لها أحد.
دروب مهتوكة والحصى سيد الليل. ليل مهادن
حيث
الكوامن تخرج جائعة وفي هيام. درعٌ لأحجارها كل صمتٍ
تفتضّ، تلبس فروة الثعالب والعناكب أجراسها
تخبط في هدأةٍ وتمرُّ
حيث
كل غصن يضيق ويهلع. ضجّوا. هاتك الحلم والسرائر، توأم الوحش والنصال. إستوى بيرقاً واحتذى في دماء لها صليل وسلطة كل غصن فزاعة الليل تفزع
دروب مسفوحة والأرض قاعُ قباب لبغتة الليل.
حجارة تثمر أحجاراً. لم يكن للقرى كان للغاب ابتكاراً لجوقة الهتك عاراً لدماء الملوك كان كل تاج مهادن كل سهم مضرّج بالسلالات وجْر.
حيث
يغفر الرب
يغفو في هذه الدروب، يمر في عشبةٍ في جناز
يعبر من قسطل الدم من كرمة تجنح
وابن آوى يقلب ضوءاً في الطريق، يقود الكتائب القادمة من الخرائط. أخلاط. أخفاف تخبط مكامن النمل وتحزم الخريطة بسوار، تهجهج في هودج الليل مدججة تغتصب البكورة. (انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء، اجلسي على الأرض بلا كرسي لأنك لا تعودين تُدْعَيْنَ ناعمة ومترفهة. خذي الرّحى واطحني دقيقاً. اكشفي نقابك شمّري الذيل. اكشفي الساق. اعبري الأنهار، تنكشف عورتكِ وتُرى معاريكِ. آخذ نقمةً ولا أصالح أحداً.. اجلسي صامتة وادخلي في الظلام، لأنك لا تعودين تُدعين سيدة الممالك)
جنس يهنّدس العتمة على شكل أنشوطة
أظلافه تكشط العشب، لا يسهو لا ينتمي يكبو في هيكل يسكن التراب
حيث
قطيع الضباع يخلع سر المعدن الأول. إرث من الأشراك يتناسى أيامه ويهيم في سعة البهائم. كلهم يعبر الدروب ويسفك، والملوك الرقيق الملوك المعارون من جوسق الغدر جاءوا قناصل مندوبة لاقتسام الذبيحة
وما خشع الدم بعد
وما نبت العشب بعد
وما وطأت الصلاة دفء نومها بعد.
جميعهم مرّوا من هنا، اقتحموا الجسد الهش وخاضوا فيه فاضوا وفاض الدم.
تلك هي قرابينهم :
فاتحة طقوس الذبح.
شرّعت يوماً أنحاءها وينابيعها وخواتمها باطمئنان وراحت تسرح في راحة الجبل لاهية، عارية غير محصّنة. تسوق بظفائرها قطيعاً من النُعاج سرباً من السمّان بأناملها الموشّاة باليشْب تحفر الآبار تدشّن نافورات رخامية ذات مياه معدنية. وفي غمرة ابتهاجها لم تلحظ شحوب الجبل الذي بدا كمن يحتضر بل أمعنت في اللهو : عابثة، متخمة بالطفولة، تلهج بالشقاوة تلهث فرحاً. حيناً تدغدغ لحاء التين وتقطف السوسنات. حيناً تلوّح لسفيرات الطبيعة.. تلك الغيوم الملوّنة التي تمشي خبباً :
زائرات متشحات بلبن البحر. ينفثن أقواساً قزحية ويمرقن بخفة فوق سلالم الريح، عجولات دائماً. (لا نستطيع التوقف، أيتها السيدة، فليس هذا موسمنا)
كيف يمكن لهذه المتدثرة بالأمان والشفاعة أن ترتاب أو تستنطق المكامن كل يوم لتعرف بما يُدبّر سراً من مكائد ؟ كيف يمكن أن تلحظ شحوب الجبل ؟
لو أنها استدارت قليلاً ورفعت رأسها نحو فروة الجبل وبثوره المتعرّجة، لأبصرت الخوذات وهي تتسلل خلسة بحثاً عن مكمن، لكنها لم تفعل. وعندما ارتجت التربة تحت قدميها إلتفتت في هلع وفغرت فمها في رعب، غير أن الصرخة لم تطفر، فقد عاجلها اللهب، الفاتح شدقيه، بلدغة من نابه الباطش.
لهب ينهب المساكن ينهش أجساد القاطنين. لهب يهطل على الرؤوس الهائجة المذعورة. سنابل تُقتلع من التربة وتتطاير في الهواء محترقة. صبي يحاول الفكاك من نار تشبثت بملابسه وراحت تفترسه دون شفقة. خلع الرجال قمصانهم ورفعوها رايات بيضاء لعل التنّين يكفّ عن السفك، فمداخل القرية قد احتلتها براميل البارود وحاصرت النيرات ممراتها وينابيعها، والنساء والأطفال محتجزين بين شفرة النار وناب الرصاصة. لكن الرايات تضرّجت بلعاب السفك وتداعت الصرخات والتأوهات لترتطم بالتربة المتوجعة.
شبّان كانوا بالأمس مصابيح القرية سمّار الجبل،
شبان يا عيني كانوا
وين راحوا
ضاعوا !!
تقدّمن أسيرات، كسيرات الروح، سبايا يطوّقهن الأسر بحبال من صلصال :
إحزمن خيالات شرفاتكن وأباريقكن والمهود قبل أن يحين الغياب. وانتم تحاذون إقليم الحنطة يا صبية ويا صبايا لا تنسوا أن تنثروا زيت خطواتكم كي لا تنساكم وقت العودة، ربنا ليكن الرحيل سفراً قصيراً وليس فراقاً.
ولم تعد تسرح بعد ذلك في راحة الجبل، فقد نسجت من ورق العنّاب رداءً تقمص الحداد، ثم التقطت جرّتها ومضت حافية صوب النهر. وجدت النهر ناضباً، فجلست على الضفة وبكت.
تلك هي قرابينهم :
كانت تمشط شعرها في الليل وحيدةً، مكشوفة في العراء، لا صديق لها غير شمعة تتغنج شعلها ما أن يلامسها النسيم. لماذا لا تهجع هذه الكائنة مثلما تفعل رفيقاتها في هذه الساعة؟
بعد حين نهضت بتثاقل ورفعت شمعتها ثم مشت. من يراها تتجول هكذا حول الحقول يظن أنها حارسة البقاع تستطلع زوايا البلدة. لكن لا. لقد هجرها النعاس وباتت تسامر الأرق فترة حتى ضجرت فخرجت تلتمس حضور مخلوقات أكثر جلبة وإدهاشاً. مرق طائر أزرق فوقها فرفعت رأسها لكنه كان قد غاب مخلّفاً وراءه خطاً فضياً سرعان ما تلاشى. دنت من سنديانة تتقلّد الأجراس نهاراً وفي الليل تتوّج أغصانها بالثلج رغبةً في التمويه. جلست تحتها ووضعت الشمعة بقربها وأسندت ظهرها إلى الجذع المرشوش بالأبيض. ربما تطرّز بخصلاتها كوخاً للنبوءات تقطن فيه، لكن النبوءات مجنحة ولا أحد يعرف مسالكها، لذلك لا تستطيع أن تتكهن بما سيحدث. في آخر الليل، إنطفأت الشمعة وخلعت السنديانة قميصها الثلجي.
قيل إنها كانت نائمة في حضن السهل حين باغتتها الطعنات. قيل إنها حلمت بموتها فاستغاثت بالرب الذي مسح شعرها وهدّأ من روعها. قيل إنها هبت مذعورة واستنفرت أظافرها ولم تكن تدري أن الأظافر شفافة كالضوء. قيل إنها مجزرة تألّهت فيها الحراب. بحثت عن شمعتها ولم تجدها لملمت ثوبها المرتّق بخيوط الدم، التقطت جرّتها ومضت حافية صوب النهر. وجدت النهر ناضباً. فجلست على الضفة وبكت.

3

مهموماً عاد المساء إلى عربته، حاملاً قنديله الذي يرسم للأشياء ظلالها عند التقائه بها ويمحوها عند مغادرته لها، قائلاً )إلى البلدة أيها الحوذي).
إنه يختزل المسافات ويخوض في ريش الطقس عابراً مدارات القرى المبعثرة كأشلاء محارب صريح مُثِّل بجسده بعد موقعة ما. الحوذي، لأنه أفرط في معاشرة الطرقات غير السالكة، يعرف كيف ينزلق في المهاوي المألوفة بلا سوط، فجياده لا تطرب لسماع الفرقعات بل يكفيها أن تمتلئ أفواهها بالجزر. يعرف الحوذي المرخي أجفانه كيف ينزّه عربته برشاقة في شقوق الغرف الهوائية، لهذا يطمئن المساء ولا يخشى السفر معه رغم تهوره.
يخبر المساء قنديله بأنه متعب قليلاً ثم يميل جانباً ويغمض عينيه. يطلّ القنديل من نافذة العربة ويرسل أنواره لتنزع أقنعة الطبيعة، آنذاك تشهق الطبيعة لأن أجزاءً عارية منها بدت مكشوفة.
- هل البلدة ما تزال بعيدة، أيها الحوذي ؟
- سنصل قريباً يا سيدي، إنني أرى من هنا الجبل وهو يلوّح لنا بقبعته، عجيب هو بتناقضاته، يوماً يسقيني النبيذ ويوماً يلطم صدغي لأني جازفت بقطف ليمونة من قبعته دون أن أستأذنه. أقول لك..
- لا تقل لي شيئاً أيها الحوذي، كلّم جيادك لئلا تشعر بأنك تتجاهلها عن قصد.
أخيراً تصل العربة. من بعيد يمكن للرائي أن يبصر العربة المضيئة تتسلق خفافاً خاصرة الجبل وتمتطي صهوته.
يترجّل المساء مع قنديله ويودّعان الحوذي الذي يهمس لجياده بحمحمة غير مفهومة فتنطلق مبتعدة وهي تقرع درجات الريح الابنوسية بحوافرها.
هناك - يشير القنديل - البلدة تسكب ذكرياتها عند السفح وتتمرأى في إنعكاس روحها في مرآة الحلم.
أنا متعب - يقول المساء - سأرتاح قليلاً.
عندئذ يضطجع تحت شجرة ويغمر نفسه بالأوراق الرطبة. يتأمله القنديل فترة منصتاً إلى هذيانه الفصيح ثم يشرع في السير، ينحدر من الجبل مصطحباً معه ظلال الحشائش والحصى مسترشداً بخُلد يتقدمه ويفسح له الدرب فيما يرمقه الحرون في سخط لأنه داس على جحره.
عند السفح تتفرع الطريق، وبلا تردد يتجه يميناً صوب البلد. يتخطى السياج ويعبر ممراً ضيّقاً محفوفاً بأعواد الذرة. ثمة جداول تشق تربة الحقل، إنها تتقاطع في أشكال هندسية بديعة، وعندما يصادف جدولاً يثب فوقه ويتابع سيره في الحقل. على مبعدة تلوح أشجار الزيتون والخوخ ومن خلفها تبزغ البيوت الواطئة التي تعتلي سطوحها أبراج الحمام.
يتقدم القنديل مصغياً إلى حفيف اللوز وتمتمات قبّرة تناجي البذور المبثوثة في كل حدب. القنافذ الفضولية تسأل في إلحاح عن كنه هذا الضوء المتحرك الذي يثقب الليل بجسارة، غير أن الجداجد - التي لا تفقه شيئاً مع أنها تتظاهر بالحكمة - لا تشبع فضول القنافذ بل تتمادى في الصرصرة كي تواري جهلها. في الجوار مقبرة تحرسها شواهد لا تكف عن الصلاة، وعندما ينهكها التحاور مع الله تستحضر أرواح الموتى لتدخل معهم في حوار صاخب ومرح عن الأسفار والنساء الجميلات في حانات المرافئ، وتكتمل السهرة مع مجيء جوقة السحالي مع آلاتها الوترية فتهتاج المقبرة بأسرها إنتشاءً بالضجيج والسُكْر.
هاهي الساحة التي تشهد كل يوم ضوضاء الأهالي : تحياتهم، أحاديثهم الوديّة، شجارهم، مقايضاتهم.. أمست الآن خالية إلاّ من كلب مقطوع الذنب يجري، وآخر يبحث في القمامة عن عظمة أو بقايا لحم. على باب دكان صغير مقفل تزحف رتيلاء، وبين شقوق الجدران تكمن العناكب للبراغيث التي تهرول دونما حذر، الأبواب المطلة على الساحة موصودة، خلفها أسدل القاطنون ستائرهم وناموا. إلى هذا المكان يحضر البقالون في الصباح بخضرواتهم المحمولة على بغال تفرط في الاستياء، والصيادون أيضاً يجيئون بسلالهم جالبين من نداءاتهم البوري واللوتس والمياس، إذ ذاك تزدحم الساحة بالأصوات الضاجة المنفلتة من شباك السكينة.
يتوقف القنديل أمام بيت مسوّر يكسو حافته ليلك يتمدد ليعتلي الجدار الداخلي من الجهة الأخرى حتى يصل إلى الميزاب - يدلف القنديل ويلفي نفسه في الفناء الواسع الذي تتوسطه شجرة برتقال، تحت الشجرة تبعثرت بإهمال بعض حبات البرتقال، إذ لولا نزقها لكانت مع أقرانها فوق الغصن وهي الآن توشك أن تتفسخ من العزلة. على الحائط تتكئ دراجة قديمة بعض الشيء بهت لونها الأزرق من فرط احتكاكها بالأيدي العابثة. بجوار الدراجة تربض جرّة كبيرة مليئة بالماء تجاورها خزانة مكتظة بالأواني من مختلف الأنواع والأحجام. خلف الشجرة مساحة صغيرة مغطاة بالتربة يقيم في جانبها قنّ الدجاج وفي الجانب الآخر جحر عميق حفرته الأرانب التي لا تجرؤ على إبراز رؤوسها، خاصة في هذه الساعة. ثمة قطة تتجول، تدير رأسها في الأنحاء، عيناها المتألقتان كالبلّور تخدشان نسيج العتمة وتفتشان من خلاله عن طعام، بعد برهة تجري وتقفز فوق السور، تتلفت ثم تسير على مهل. البيت يعبق بالصعتر : رائحة تستقبل الوافدين بحفاوة. والليلك المشرئب إلى تموجات البرتقالة المبهرة يرطّب طقس البيت ويهب قرميده طراوة لا حد لها.
يتحرك القنديل متجهاً صوب الباب الداخلي، يرتقي العتبة ويدخل. هناك يتجول بحرية مطلقة، فالسكان قد لاذوا بالأسرّة غير مكترثين بتطفل كائنات الليل الداجنة. وحدها الأشياء انتصبت في بادئ الأمر على قوائمها متحفّزة، مستنكرة هذا التسلل الذي لا يليق.. (هش لستُ غريباً) همس القنديل، عندئذ طأطأت الأشياء رؤوسها وسمحت له بالتجول والاكتشاف. بساط كبير يغطي الأرضية تتوسطه سجادة متعددة الألوان، فوق البساط توزعت المقاعد الواطئة المحشوة بالقطن والقش والمكسوّة بجلد ناعم أملس منمّق بالنقوش الذهبية، والوسائد قد رتّبت نفسها يعناية. في المنتصف تقيم منضدة مستطيلة، قصيرة القوائم، فوقها صينية صفّت عليها فناجين قهوة مهملة تجمّد في قعرها البن. منضدة أخرى منسحبة إلى الطرف البعيد وفوقها يتلوى إبريق مزخرف يتنفس أريج مبخرة تتغنج بجواره. على الجدار عُلقت آية قرآنية بالخط الكوفي، يحجبها زجاج شفاف ويؤطرها خشب مصقول مزدان بالنقوش. من السقف تتدلى مشكاة فخورة بإشرافها على الموجودات المتوزعة في الأسفل. هنا تستقبل العائلة زائريها من الجيران والأصحاب والأقارب تتبادل معهم الأحاديث والأخبار والهموم. للأحاديث رنين لا يهدأ، حتى بعد أن يخرج أصحابها ويختلي المكان بأشيائه يظل الرنين حائماً لفترة حتى يتشظى.
يصيخ القنديل إلى همهمات تتوافد من غرفة ما، فيتحرك نحو المصدر. يفتح الباب.
شبح يهتز في العتمة،
شيخ يتأرجح بين الصحو والغيبوبة. كان متربعاً على السرير، يوجّه نظرات زائغة في فراغ الهواء في نسغ الغرفة، يكلم نفسه أو شخصاً غير مرئي بلغة مضطربة انفلتت من تحت اللهاة دونما كابح، ينثر كلمات كيفما اتفق. نبرات غير مستقرة تتصاعد حيناً إلى حد الصياح وتنخفض حيناً لتصبح همساً :
(شدّي يا زينب شدّي. لا أريد عنباً. شدّي يا امرأتي لا تجزعي. لقد انكسر القادوس وستبكي الناعورة الآن. فماذا نفعل ؟ انظري أولادنا، هدهديهم يا زينب كي ينعسوا. يالرقتهم ! أنظري. لا بأس. اذهبي إلى البيدر وسألحق بك. هاها صرت هرمة لا تقدرين حتى أن تزحزحي ردفيك. كان عرساً لائقاً. كان. يا ويلي الناعورة تبكي. هاهم أحفادنا. نسيت أسماءهم. هيا قبّلوا جدتكم. لماذا أنت حزينة هكذا، أحزن عندما أراك.. لكن ادرسي بهمّة ليعرفوا أنك مازلت شابة وقوية. لا تشيحي بوجهك عني يالئيمة، أعرف كيف أؤدبك. الناعورة. شدّي. أمس كان موسم القطاف. مرّ علينا ونسينا. لماذا ينسى؟ ألأننا كنا نائمين ! الظلام يحيط بي منذ أن تركتيني. ساقك تؤلمك ؟ ماذا أفعل ؟ الظلام يريد أن يفترسني. ماذا أفعل ؟ إنهضي واجلبي الماء لنرش هذا الظلام. أعرف. يخاف من البلل. أين كنت ؟ ولماذا هذا الثوب الأبيض الذي أراه لأول مرة ؟ من أين لك هذه النضارة وأنت عجوز ؟ أخبريني. اخبريني يا أحب الناس إليّ. أنا وحدي هنا والناعورة تبكي. كيف أسكتها؟ اجلسي بجانبي. هكذا.. كما كنا، إحكي لي. لا أحد يسمعك غيري ولا أحد يسمعني غيرك. أخذوني إلى المقبرة وكذبوا علىّ قالوا أنك، البنت سمّوها نجوى.. ما أحلاها. إلى أين أنت ذاهبة؟ لا تديري لي ظهرك عندما أكلمك يالئيمة، عودي. زينب. أتوسل إليك أن تعودي. عودي يا حبيبتي فأنا وحدي مع الليل الملول. ما أضيق هذا الكون الأسود. الضوء البخيل وسط الظلام الشاسع يشبه النفاية. حتى روحي لا أستطيع أن أجدها بين أكداس الفحم. زينب لا تذهبي، أو خذيني معك كي أشفى ..)
يعلو صوته مع النداء الأخير، يصير أشبه بالنشيج الممزق. ومن غرفة ما يأتي بكاء طفلة يظهر أن صياح الشيخ قد أفزعها. ينسحب القنديل إلى تلك الغرفة، وقبل أن يدخل ينفتح الباب وتخرج منه الصغيرة نجوى وهي تبكي. إنها تتجه إلى غرفة مجاورة بابها مغلق. يدلف القنديل إلى الغرفة التي خرجت منها الصغيرة لتوها ..
نعيمة راقدة على جنبها الأيمن .. إنها نائمة.
تبتسم في نومها. لابد أن حلماً جميلاً، مترعاً بالغبطة، يترنح الآن تحت إبطها وينزّهها في إمارته. يتعين على القنديل أن يتقمص نفس عرَقٍ كي يمكن له أن يتغلغل في وريدها ويشاركها النزهة ويجلو غموض الحلم.
قبل أشهر كانت تنام مع أخوتها في غرفة واحدة، وعندما فطنت الأم إلى نموّ الأنوثة العذراء في خلاياها، جهزت لها غرفة مستقلة لا تُقمع فيها الرغبات المبكّرة التي ستفيض يوماً، وفرحت هي بمملكتها التي تحكمها وحدها، بلا شريك ولا رقيب. صارت تملك خزانتها ومشاجبها ومرآتها وعطورها. ولم تمانع من وجود نجوى معها طالما أنها لن تنافسها في الحكم.
قالوا لها كبرت وصرت ناضجة يحلو للشبان مغازلتك. خمسة عشر عاماً مرّت. الزمن يمضي سريعاً ولا وقت لديه للتأمل، وآن تتمهل الأقمار والنجوم لاهثةً يلهبها بسياطه ليطرد الكسل عنها وتنفض غبار التعب عن عجلاتها. في الشفق يلبس المرء قميص الطفولة وفي الغسق يغادره. إذن ماذا سوف يقولون حين تبلغ العشرين.
كانت تدنو من المرآة، تنظر إلى وجهها المتورّد وتتحسس شفتيها النابضتين.. هل أنا جميلة حقاً ؟.. تهمس للمرآة التي تطالعها بدورها في خفر. وببطء تفكّ أزرار ثوبها من عند الرقبة إلى أسفل كاشفة عن البياض المستور، عن الصدر المتواري في استحياء، والذي بدأت تتمازج فيه الصلابة والنعومة، وتتريث عند النهدين : بذار الأنوثة، التكوّر المهيّج، الموعود للملامسة واللثم. ستضمخهما الأيام المقبلة بالنداوة والشبق.
يغادر القنديل تاركاً نعيمة راقدة على جنبها كحصن هش بجتاحه الحلم الرؤوف بصوره وشخوصه الشفّافة. وفي الخارج يرى نجوى ما تزال تبكي وتخبط الباب براحتيها حيناً وبقبضتها الناعمة حيناً. ينفتح الباب بعد قليل وتبرز الأم بشرى التي تتثاءب وتهز رأسها في ضيق يخلو من القسوة. تنحني وتحمل الصغيرة التي ما أن رأت أمها حتى توقفت عن البكاء. تستدير الأم وقبل أن تغلق الباب ينسلّ القنديل خلفها.
غرفة نوم الوالدين. الأب نائم على ظهره يشخر بين الفينة والأخرى.. ربما بسبب شقاء اليوم أو ألم في الظهر. الأم تعود حاملة الصغيرة وتمدّدها بينها وبين الأب.. (نامي الآن. صغيرة أنت ومن الصعب أن تفهمي حالة جدك إنه لا يعي ما يقول، وعندما يصرخ فإنه لا يقصد إخافتك. يجب أن تعتادي ذلك مثلنا ). لكن الصغيرة لا تفقه شيئاً مما تقوله، وهذا لايهمها بقدر ما يهمها أن تكون قريبة من أمها وأن تلامس الدفء المنبلج من حضنها، لذلك فإنها سرعان ما تستغرق في نوم عميق.
بشرى تبتهل للنعاس أن يُقبل دون تباطؤ، لكنه لا يُقبل عقاباً على ذنب لم تقترفه، فتمكث مستلقية على ظهرها، مفتوحة العينين، ترنو إلى السقف المغلّف بالعتمة. تنثر الشعير فتهرع الدجاجات إليها بتقدمها الديك المتباهي بفحولته، تعاين مراقد الدجاج وتعثر على بيضة، أربع، سبع، عشر بيضات.. لدينا ما يكفي للفطور.
تمارس روتين يومها بلا تذمّر. لقد اعتادت على ذلك. ومن قبل لقّنها الأهل ما يجب أن تفعله عندما تتزوج وتنجب أطفالاً. إنها الوصايا العائلية التي لابد من حفظها وصونها. وهي تهندس أيامها بنفس الدقة التي تخيط بها ملابس عائلتها والجيران. تشرف على كل شيء وتتدخل في كل شأن.. أمومة تعرف كيف تحزم خيوط الأسرة في كفها، وفي حضنها يعتصم كل فرد.
غرفة نوم الأولاد. يقترب القنديل من السرير ويطل على موسى. سبعة عشر عاماً تتمدد فوق السرير غائبة عن حلبة الوعي منتسبة - في هذه اللحظة - إلى موجة نافرة طفرت من خاصرة البحر وألقت مرساتها على الشاطئ وراحت تدور في قارورة الريح مدموغة بالذكريات الحافلة ببراءة الرمل وشقاوة اللعب.
يجتاز موسى عتبات الطفولة ويكبر، يتسلق مع صديقه سور المراهقة فخورين بفتوتهما، ويظلان يتأملان بولهٍ ذات يوم الجدائل الواقفة بالقرب من النبع تلاطف حمامة تستحم في راحتها. بعد دقائق يلتفت إلى صاحبه ويسأله : (تحبها؟). الآخر يدير رأسه ناحيته ويسأله : (وأنت.. تحبها ؟). يلجآن إلى القرعة، فمن يكسب يفوز بها. يكسب الآخر وحين يعودان للنظر إلى الفتاة لا يجدانها. لقد مضت، والنبع اختفى، والحمامة نزحت إلى موقع آخر.
يتحرك القنديل نحو إبن العاشرة، إبراهيم، الموغل في النوم والذي يطارد الأرانب في الحقول وحين يتعب يركب القطار ويجلس في المقصورة مستمتعاً بمشاهدة الأعمدة الهاربة والأشجار التي تجري مبتعدة عنه. غير أنه لا ينتبه إلى نظرات المسافرين المحملقة فيه إلا بعد فترة، حينئذٍ يمتلئ رهبة ويقفز من القطار عائداً إلى بيته ليبني مسكناً فوق الشجرة.
وئيداً يجرجر القنديل هيكله نحو السلّم، يصعد الأدراج الحجرية المؤدية إلى السطح، مخترقاً العتمة الرابضة في كل حدب. في نهاية السلم يطلع له برج الحمام الخشبي بتشكيلاته الهندسية منتصباً في زاوية السطح ومغلفاً بالسواد الذي تتخلله الصفرة المستمدة من الضوء الآتي من القمر. ظلال الأشكال تنحني لتنكسر على السور المنخفض. البرج مأهول بالحمام. حمامة تهدل، أخرى تمدّ رأسها وتتطلع تجاه القنديل ثم تعود وتسحب رأسها إلى الداخل، ذكر يدور حول أنثاه بهيجان.
يتقدم القنديل من حافة السطح ويطل على القرية الغافية عند سفح الجبل.
بوسعه أن يرى من هنا :
بيوتاً ساكنةً تحشر في ستراتها الغرف والأواني والنباتات وأغراض العائلة. ساحات خالية إلا مما يفرزه الليل من زواحف وحشرات وحيوانات صغيرة ضالة. حظائر مسوّرة تحرس مواشيها الكسولة. حقولاً تتمطى رافعة أذرعها المكسوّة بالأغصان والأوراق، مسترخية على ظهرها واهبة أطرافها العشبية للجداول تسري عبر مفاصلها وتعرّج كيفما شاءت. نتوءات الجبل البرّاقة أشبه بمحاجر جاحظة تتفرس في التشتت اللامنظم للأشياء القائمة أمامها.
بوسعه أن يسمع من هنا :
أزيزَ حشرات الليل التي تظن أنها تؤانس سيدها فيما هو يزداد وحشة وضجراً. حفيف أوراق وطنين علب فارغة ترتطم بها الجرذان في الطرقات الضيقة الملتوية. أنين ناي ينفخه فم مجهول عند بيدر مهجور. نباح كلب وحيد لا مأوى له. أصداءً تائهة لكلام قيل في النهار ولم تصنه ذاكرة الساحة العامة.
فجأة ..
تندلع السماء، تتزلزل الأرض.
بروق أرسلت جيوشها المسلّحة بالنار لتهاجم.
لقد ابتدأ القصف وساد الهرج كل الأنحاء.
• الأهالي يخرجون من بيوتهم مذعورين لا يعلمون إلى أين يتجهون
• الأهالي يركضون في طرقات لم تعد مأمونة. تتلاطم أجسامهم في فوضى وارتباك، ترتطم بحافات البيوت المسنّنة.
• عجوز مشلولة الساقين تزحف
• أطفال يتساقطون على الأرض. صرر تتطاير. الغبار يملأ المكان.
• أيادٍ متشابكة تنفك وكل يد تذهب في إتجاه مغاير.
• منزل تتناثر أحشاؤه، ومع أحجاره يمكن تمييز أشلاء ساكنيه
• دواب تعدو، في الخلفية شجرة تُقتلع.
• كهل يصعقه الرعب فيجلس أمام داره واضعاً رأسه بين كفّيه
• امرأة تجري مفزوعة حاملة بين ذراعيها مخدّة وهي تحسب أنها تحمل طفلها
• أفراد أسرة يقفزون من السطح
• نيران تحاصر طفلة، يندفع نحوها رجل مخترقاً اللهب بجسارة
• رجل يلوّح بعصا مهدّداً ومتوعداً
• صبية شُقّت نصفين ومن فمه الفاغر تنبعث صلاة خرساء
• يد ذات عروق نافرة قابضة على حفنة تراب
• حبلى اندلق الجنين من حوضها المبقور
• ساق مبتورة
• عجوز تنظر إلى السماء ريثما تنجدها يد الله أو تجندلها شظية
• جثة تعانق الطريق .
لقد فتح الجحيم أبوابه وانهمرت الحمم بمجانية تفصح عن حقد هائل.

4

كائنات تتغرغر بها مداخل القرى كي تخرج كالفيض تنظر الطبيعة فيها إرتعاشات السنابل تحت السنابك واحتدام الخشب ساعة التميمة. تتجرجر حيث الأرض تلقي بأقفالها في الكواحل جبّانة أو جنازة وهم العويل الأخير.
يا ملك القناديل،
إستدر
هذي الخطى المنتعلة خفَّ الخوف انحرفت عن عادة المسالك وهامت. اهدها واسهر على فجيعتها. استعر من زيت الحقل شهقتك الأخيرة واستدر.
تراهم يخرجون الآن من ثغر الحلم ويتزاحمون أفواجاً عند باب الغموض عند مضايق المنفى بلا سجادة ولا مشكاة.
تلك دروب أضاعت علاماتها فأضاءت جدائلها بالفوسفات لعل الشرفات تبصرها لعل المآذن تمد نحوها سبابتها وتدلّها،
تلك دروب تجري خائفة خلف من تركها وحيدة مع بكاء النواعير. تراهم يخرجون الآن من نفق النوم ليدخلوا ألف المنفى ولم يبق لهم غير غبار أفقٍ تائه
غير دثار رعبٍ حاكم
يا ملك القناديل.
إستدر
أدر وجهك شطر عويل يعلو لتبصر الأيائل المتخمة بالجروح تعدو.
من أين جاءت هذه الأيائل تتراكض كأشعة الخوف خفية مثل الحب موغلة مثل الحقيقة. جحافل بلا مرشد ولا جواشن كأنها انبثقت للتو من مغارة زمن غابر، شعارها الحزن والتهاليل.
يا بنات الأقاصي. أنا الأرض التي ترتاح لوقع أظلافك. أتباهى بك بقرونك المطرزة بحبات الرمان. لكن من أين لك كل هذا الدم والأشلاء، كل هذه الغربة التي نتأت في المساءات الوسيعة فتوشح بك الغروب ؟
تعالي أيتها المضرّجة بحنين الذبيحة وهلع الهتك، أيتها الخالدة في القنص والرحيل. لن تكوني منذ اليوم في مأمن أيتها الطريدة الجميلة. إني مفتوحة لك أبواباً ليس لسعتها أقاليم ولا تجلو عن النهاية. مفتوحة أحراشاً ومهاوي.
هل دلّك عليّ الطير أم الكمأ !
أنا المفتوحة على السرير الأقصى حيث ليس لأمانيك غير الشوك والشرك، الغياب. ترابي سجادة لك وسروجي الحرس لكن لا نافذة للنهار.
أما يزال طعم النبع يعرّش أحداقك ؟
بعد اليوم لن تشربي ماءً عذباً، ولن تختزن أحداقك سوى النأي والمطاردات.
تضرّعي إلى سيد الماء ليدفق القطرة في كبدك اليابسة. كوني عبدة للطين لتتعلمي لغة الخبز
وتعالي
فمن أخافك سيخيف خيمتك وخائنيك
وتعالي
يا هاربة من صيادٍ إلى قبيلة لن تصطاد سواك. توزّعين دماءك كالوشيعة في حدود خرائب تسمى مدائن. تدشنين حائطاً للبكاء وجبّاً للأمل. أنا لكِ، عندي لكِ رعونة الغبار فزع الكمائن.
ها أنت تغمرين الأفق بعصافير ملتاعة قدّر لها أن تتجانس مع تضاريس الهجرة.
عقدت الأيائل أغصانها وربطت القميص الأخير قالت هذا هو البيرق الذي لن يهوي قالت وأعطت أكتافها لصقيع الصحاري وانهماك الريح.
نتجرجر كأن الأرض صلصالها دمٌ ودمها كلامٌ يلبس عادة التشفي. نسحب أعضاءنا ليس تعباً لكن عشقاً والتضاريس تصهل، كيف من أين جئنا إلى أين تركنا وسادة مكتنزة بالأحلام هجرنا لعل هذه الصرر المكتظة بالمفاتيح تنقذنا من اللجّة تحمينا من الجلجلة. من سيحمل هودجنا عندما يحين وقتنا ؟ قال الشيخ : لا أريد أن أموت في أرض غريبة.
وحدها الحقول تفهم الطين يتعاطف مع انكساراتنا، حنين حنين نحنّ إليك يا جرّة السهر.
أرخى القنديل أيامه وكسر ضوءه. مدحوراً يرتّق آيات بيت تخلّف عن الركب، ويصيخ لبكاء زيتونة هجرتها الأصابع في طريق مرصوفة بالنشيج صار يباهي بالدم المنذور للهدر.
أغطيك بأعشاب ودمع، أسمّيك خطى تصعد الرمل
اعطيك التل والمرايا، والبقايا تيجان لأطفالك
إذا مرّت يداك ارتج صدر الصحراء وانتحب.
يا دهشة التيه يا صخر، كن هودجاً إلى الريح هذه القدم المذعورة تخرج من دفنها تضرب الهواء كن لها بادئاً تلك أيامها البادئات
جثة أم جنين ؟
امرأة مترعة بالخرق والصراخ ليس لها غير أطفالها وأجراسها كنائس الخرائب. كن لها فاتحاً، فالصحراء التي تحتضنها اليوم ستقتلها في الغد. غدر ؟
جثة أم جنين.
ترتدي قماش المسالك ترضع الأقاصي. أطفالها أشلاء ومراثي. فتحت دارها للغريب فضاقت الحكاية بالضجيج. يوماً ستصير الحكاية خرافة. تقبّل شفاعتها يا صخر وافتح لها الحنين. لا بأس أن تغلق الفضاء لكن اكتب لها أن تغوي كل من أغواها
هذه السيدة الواثقة بعذابها البادئ
بكتْ. تحوّلت. صارت تهياً يخوض فيه شعب فقد بوصلته.
الوقت يرصد غفوتها، يحصد يقظتها، يصادر مواطئها
فرفقاً بهذه السيدة التي ترفل بالحرائق وأخلاط الجوع. خرجت من الدار إلى الدوائر تفتح أقواساً وتدخل. تنهال عليها المراثي وليس لاسمها ترجمة
هيا
انزلي
في
هذه
المسيرة
ملك القناديل بيرق لك، في أحداقه شهقة القرى والقرابين
يروي
رأيت القرى ترفل في ترف القتل والمخلوقات تتكاسر خارجة من الجحيم المزدهر. رأيتها تتكوّن مثل الوردة شلواً .. شلواً والأبناء يمزجون الحنجرة برغوة الرماد والجرار تتدافع في فزعة الصبايا. لم يكن في النصل إلا فسحة لغرغرة الدم والدم يرسم قوساً طرقات والطرقات تتقطر أقداماً تنهال في شعب الأسماء وكان الله يراني أدفق ماء زمزم في ياقاتهم ليتدفأوا كسرة خبز ليشبعوا يراني
أفتح خرقة في صلاةٍ
أروي إسراء الروح في شهوة الجوع :
تراءى لها رواقاً فسيح الأرجاء يفضي إلى مدخل له شرفة والشرفة مفتوحة على حوش مبسوط بالسندس وللحوش سبع قباب كل قبة أكثر علوّاً من الأخرى فلا تكاد العين أن ترى باطن السقف وعند نهاية القبة تمتد بركة تفيض ماءً ليس كالمياه مذاقه أكثر حلاوة من العسل وخلف القبة درج يفضي إلى إيوان وفي الإيوان يمتد نطع ليس لأطرافه حد وعلى النطع أصناف من المآكل والمشارب إلى الحد الذي ليس له عد وكان الخبز سيد المائدة فلما أدارت رأسها تبحث عن الناس لم تجد بشراً وإنما رأت كائنات أجمل من البشر قالت لها نحن الملائك الذين ينتظرونك منذ الخليقة الأولى وهذه المائدة المنصوبة لك موجودة هنا منذ الخليقة الأولى ومنذ الخليقة الأولى كنا نعرف أنك تأتين فأعددنا لك كل هذه المآكل التي لم تدر في بال أحد وكنا نعرف أنك تجوعين إلى هذا الحد وكان لنا أن نحتفي بجوعك وكنا نعرف أنك تعطشين إلى هذا الحد وكان لنا أن نحتفي بعطشك منذ الخليقة الأولى لم يبرد الطعام ومازالت رائحة الشواء طرية مثل عطر الوردة والفاكهة كأنها لم تزل في أغصانها والشراب المعصور كأنه هذه اللحظة هي مائدة الشريدة الجائعة التي تأكل كما لم تأكل من قبل كما لن تأكل من بعد
تراءى لها وكان الخبز سيد المائدة
طوت ركبتيها وركعت حتى مسّت بأناملها طرف الرغيف وانتابتها الرجفة الآسرة فقد كان ساخناً يلسع برودة أطرافها وعندما رفعت الرغيف انكشفت تحته فجوة عميقة ليس لها قرار وبغتة هاجت الفجوة بدماء ساخنة أخذت تطفح وتفيض وبدأت تغرق الأواني الملآى بالأطعمة وتسيل حتى تغطي رخام الإيوان وتتسرب تحت ركبتيها الراكعتين دون أن تقوى على النهوض كأن أعضاءها ليست لها وكان الدم سيد المائدة والرغيف الذي في يدها استحال شريحة لحم بشري ترتعش حيّة بين أصابعها التي لم تقو على تركها وليس لها سلطان على الاحتمال وعندما أدارت رأسها لتنظر إلى الكائنات التي قالت أنها الملائك التي انتظرتها منذ الخليقة الأولى لم تبصر إلا أجساداً بلا رؤوس تتمايل ومن رقابها المقطوعة تطفر دماء غزيرة
تراءى لها أن الجوع قد غرّر بها وأنها لن تنال شبعاً
تراءى لها أنها تموت.

5

صرر تتساقط من الكواهل المتعبة وتتناثر محتوياتها كأنها إشارات أو معالم ترشد من تخلّف عن المسيرة. عجوز تحتضر، ترسل الأنفاس الأخيرة وفداً إلى البيت العابق بالرياحين الذي احتله الماضي. أخرى تسدل الصباحات لعلها تختصر الأبعاد في مقلتيها. ظهور احدودبت قبل الأوان. أفواه تختزن الغبار.
الطرق ملغومة بأسرار الحصى وصلاة الغصون، والقافلة تهيئ حيزومها لطينة جديدة تفتح أختامها وتدعو الملطخين
برعدة المطاردات
بتعب الطين
بخديعة الموت
هذا نشيد تنحته الجموع في
تضاريس الوقت
بياض الفجيعة
أشكال الوضوء
يفتح الطقس بركانه البارد. التقوا وشدّوا شراشف الأرض من بؤبؤ العين حتى آخر المجرّة، يمشون تسبقهم آلامهم تتقرى المضارب الفسيحة التي لا تسعهم وليست حماية لهم. مروا، على كواهلهم تلاوين المجد والقش. انتضوا الأحجار والخرق وبقايا قديد لم يكمل دورته في الحلق. تنكّرت لهم الأقاصي وهربت من أمام خطواتهم الطرق التي نحتوها لفرط ما طرقوها. بعضهم يموت وبعضهم يؤجل موته.
يهيمون في وحشة السبيل. تحتدم أقدامهم في اقتفاء مواطئ هاربة، تتعثر كواحلهم في أوصال جيوش مهزومة وسوف تنهزم. في حطام عروض على امتداد اليابسة، في خيانة دويلات نتانة أحلاف. في مناورات ساسة تحدّق بمصائرهم. في جمر فصول ولهو فيتشبثون بالمفاتيح. تحت أقدامهم تتكور السماء فيمعنون في الشك. تتوزع أعضاؤهم بين الشعاب يطلبون راحة في خرائط أخرى.
أفواجاً عبروا الحدود، تتقدمهم الهداهد الجاهلة، مصبوغين بالطعنات وأختام الاقتلاع. دخلوا بلا نواقيس ولا ذرائع. عزّلاً إلاّ من أسمال اهترأت وحناجر تشقّقت. أحاطوا بالقرى المبثوثة كالبثور، تناثروا في الأقاليم. وعندما استقروا هنيهة تذكروا موتاهم الذين تركوهم في الطريق بلا ملاك يحرسهم، أو قبر لائق، أو زهور صديقة ترطّب حدائقهم الموحشة. كيف نرثيكم يا أجمل موتانا ؟
يا من اكتفيتم بتلويحة متعبة، كأن يد الله تستعجلكم، ومضيتم بعيداً ؟
أهرقت دموعي على جسمك الرهيف رجاة أن ينهض وتعودين يا أخت كما كنت : صغيرة، صبوحة، عذبة كالثمرة، أردت أن أشاطرك سريرك الضوئي لكن حال بيننا حاجز من التراب الشفاف. رأيتك تقومين من قبرك يحففن بك صبايا مليحات الوجه مزركشات بالزمرد مزخرفات بالنرجس، لهنّ طلعة بهيّة وثغورهن المضيئة تفتر مبتسمات لك كأنما يدعونك إلى حفلة ميلاد أو عرس. وأنت تمشين بينهن في خفر لا يواري فرحك، كنت توأم الضوء صنو الغبطة.. بيضاء، بيضاء أجمل من القرنفلة أشهى من الفاكهة. كنت النسغ الملائكي وهن الينابيع، لوقعكن رهرهة الثلج حين يلامس باطن القدم الطريّ البساط العشبي مدغدغاً زغبه. ورويداً شرعن في الإنشاد بصوت عذب رخيم بينما الحلزونات الأرجوانية تتصدر الموكب وتقوده صوب كورس البجع المحتشدة في مراكب شفافة راسية فوق راحة المحيط، آنذاك أيقنت أنك موعودة بالصومعة المائية في فردوس المحيط.

6

قال الشيخ : سأرجع، لا قبر هنا يسعني.
منعوه خوفاً عليه، لكنهم لم يقرأوا ما كان يجول في خاطره. لقد تظاهر بالنوم فيما كان يرسم في المخيّلة شكل نبع يفيض فتتدفق منه خيول وفرسان وسعفات وأعراس وأجراس وقباب ودفوف وحشائش ونواعير وبيوت صغيرة وبيادر ومزارعون وسهول وسناجب وعنادل وطرقات وزغاريد وقرويات يفتحن أذرعهن ضاحكات مرحّبات بقدومه : (أهلاً يا حبيبنا.. لقد غبت طويلاً).
ارفعي يا زينب الخمار المرصّع بالياقوت ليلمع ذقنك في مرآة القلب حيث شظية الله كانت لها السهول بهواً تنداح بها والصبْية يدورون حولها كأنها النقطة وهم الدائرة يشحذون نظرة تغسل المرايا المرصوصة بين العظام يجهشون بالحب وأنت تهدلين كالنسمة كأهداب الكون والله لأجعلنه أحلى عرس وأجعلنك أحلى عروس تتمايلين مع الحنطة كالحنطة بين النساء أنت الأشهى بين الحمام أنت الأبهى فهيئي الزناد خضّبيه بالحناء لأطلق من الماسورة أربعين طلقة في أربعين ليلة تميد خلالها الساحات نشوة في صخب الأقدام التي ترسم دبكتها حتى الحجلان ستتقن الرقص في الليالي الأربعين ستصدح العذارى المتبرجات بالأهازيج كلما مالت هوادج الموكب عدّلتها النوارس والأرض لها فتوق تحضن زغاريد تحتفي بالعروس وكل هذه الصافنات تحمل لك الهدايا
للنساء المسفوحات على شرفات المدن سأسرف في الولائم لا أدّخر ذبيحة للفاقة فلتأت القوافل حاملة البركات وأبناء المخاتير يضربون كفاً بكفٍ جنّ الفلاح ابن الفلاح ولا يفقهون سرّ جنوني إذ آتيك يا زينب فوق الحصان الأشهب ومعي كوكبة من الفرسان الضاحكين المشمري السواعد لا لأختطفك بل لأسكنك فسيح جناتي هناك ألا تسمعين القرى تتنادى جذلة بيوم المسرّة أطوف القرية مع حصاني وأنت أمامي شاهقة أكثر علواً من التضرّع والله سوف أهيئ لك دفئاً وهذه الأصابع التي اخشوشنت شوقاً ستكون أساور في معصمك وهذا القلب قلادة تتقلدينها في الصباحات تذرعين الحقل بخلاخيلك الشامية تروّضين مالا يروّض وتسوقين الجداول الداجنة كيفما شئت وإن شئت لك الوقت سجادة آن ترخين تضرعات الطبيعة على أعطافك وأنا وحدي في رفقة الجنون أرى انتظارك الغامر يكشط اليأس ينتضي سلاحاً لحنايا روحي وحدي عالم يتجمّع في فسحة القلب أتجمّع على حدودك كأني النطفة أو الحنين الأول الأخير هنا أعدّوا السرج يا شباب فإن صبر زينب يكاد ينفد من طول انتظارها عند البيدر ولا رفيق لها غير النوارج وسلة ملآى بالكرز تلوّح لي من بعيد وذلك الألق في عينيها غرّة النساء زينب واقفة عند المشارف كالنخلة تتسامق فعجّل أيها العكاز بي وجع من الشوق وفي صدري حنين أنا الطاعن في الحزن المارق في عصب المراثي وأنت المطلّة على احتمالات الأرض وخبيئة الدهشة منتصبة كرمح الغابات صخرة الأعالي منتورة نافرة تمتدين في ذاكرة نساء لا تبلى لكن من هذا الفارس الذي يشطر اليابسة نصفين فوق جواد ينثر الخبب مثل الأرز والفقاعات تتموج من حوله وخلفه إعصار مهذّب يتأبط الصخور المائية ويدفع اللغات الهدايا وما أشمخ أحلامه هذا الطود الذي يهدهد ريشة الغيم لكن لماذا يطأطىء الجليل رأسه ويمضي بعيداً كأنه لا يعرفني ولماذا هو شاحب هكذا ووحيد إذن رجرجن أثداءكن يا بنات لئلا يقال أن العُقْر قد داهم ديارنا أديري الرحى يا زينب واطحني الزيتون فمن دثارك تنبثق السخونة اللافحة تلفحني وتصطفيني للحمّى زندك وسادة ومن الجديلة تنطلق يمامة زوّجوا الفارس أحلى صبيّة كنت وهذا عرسنا الألف فيه أهرقنا رحيقنا ولقحنا عناقيدنا بلقاح عشب ينتفض كفرس الوديان الخارجة من الحظائر مسرجة بخضرة الجبال وقد أسّس لها الماء لغة هادنتها الوهاد شغفاً فلا فارس إلا وغلبته الغواية عندما تهشل بصليل الذخائر ارفعي خمارك المخملي فقد جئتك بريش النعام من أرض ليست أرضي وبلاد لا تسع أحلامي وأحداقي نسور متغطرسة تراقبنا نتعانق في فصاحة الدم نمتزج في رغبة الماء كان اللقاء الأول تحت الغصن المرصّع بالندف وحين غادرتُ رأيت حفيفك وأصغيت يا شجرة الريحان ظلك يسع مداي ومداك البحر البعيد الذي أشاطئه في الرؤيا حط الوقواق على كتفي أخيط لك السهل بإبرة الفضة آنذاك أنسج مقبض الحلم وأبسط شفرته بساطاً تمشين فوقه باختيال بين القرويات حاملات الجرار يتأودون وكنت الأشهى وكنت الأبهى لكن لماذا يدخل أحفادك نفق القرابين عند كل سرادق منصوبة لطقوس النهب ولم نر في الجنازة غير الفقراء قلت سأبيع الخيار في المدينة إذا اقتضى الأمر أفضّ أحداق الكون بإبهامي غير وجل إذ تكونين لي فيئاً يشاطرنا كل عابر سبيل متوحّد مع كوفيته ولم أسمع حين قلتِ خذ الحيطة ولا تذهب وحين قلتِ تدرّع تقمّص لكن لا ترحل وها أنذا يا زينب شدّي الناعورة من فروتها فكلما اقتربت نأيتِ لماذا كلما أرخي قبضتي على العكاز أهفو إلى حضورك في المسامات وأنتِ لا تصيخين إلى حشرجتي الذائبة في الريح اسمعيني بالله عليك لا تسدلي صدرك أضيع ضياع الجبل الدرب الدار ليست هنا لست سوى هائم وكل المسارات موصودة بالتيجان آن أن تكشفي النقاب عن عورة جيش الإنقاذ عن مكر الملوك حسبي كفاف يومي لك أيتها المليكة خدعت الوقت خبأت البلابل المجنونة تجيء أجيء إليك مأخوذاً باحتمالات الغموض وعدِ الشظية مدخراً لك شغف الخطوات بها أستطلع احتضار النجوم وقريباً يسطع الجبل في جبهتي عند الناعورة أسفحيني يا زينب تحت إبطيك ثم أدخليني بحر الغرابة أجعلك دهشة الأوطان ودهشة كل من رآنا ننتشل الصغيرة التي وقعت في البئر وكانت تضحك بوضوح أراها الآن البحيرة ساعة انزلقنا فيها وسبحنا معاً بين جذل البدو وخجل طاحنات الحبوب اللائي يرمقنني طافياً أجيء إليك راجياً أن تحكمي الشدّ على ساعدي مبتهلاً انتشليني زينب واقفة في العراء مشعثة الشعر بلا سقيفة تظللها أو عريشة تضمّد سخونتي كي ابتهل انتشليني عندما تحتشد النوارس على شاطئ بيتنا أنزاح عن وشيعة أضلاعك فتشهقين في ذروة الرغوة نهبط معاً في جسد واحد وبقايانا تتشبث بنا لئلا نصير نثاراً في الحقل أراك من بعيد كما كنت في الليلة الأولى من الليالي الأربعين تنظرين نحوي لكن لا تلوّحين فأسأل ما شأن هذه العقارب بي ثم أهمس بي لوعة ووجد وأهمس من هنا مرّت العربات وكنت أقتفي آثارها وخلف الهضبة تختفي بغتة وإذ التقط الهضبة بيدي تنهمر الرمال اللاهبة ولا أجد في قبضتي سوى عجلة قديمة تصدأ دولابها وبيت كان يحترق على مهل وقرويات أنتِ بينهن الأشهى وأنت الأبهى تجيئين يا كلّ عمري تجمّلين مواعيدي أحلاماً وأقول كم هي كثيرة هذه الأجساد التي تتوالد من جسدينا وكنتِ منذورة لرياحي معتصمة بي أيتها المعصومات يا بنات الحقل الواهبات أناملكنّ أشرعة لنا غير أني انتفضت حين التفت حولي وصرخت من جاء بهذه المسوخ المحدقة بي تنحر حواسي ولا ترفق بي يا زينب أطلي فقد رأيت فلاحاً يهب منجله إلى قاتله قلتُ هذا شعب يدّخر دمه لأوعية السلاطين هناك يريدون مني أن أخلع الخرقة لأرتدي عراءً يهادن الوقت الذي يحاذيني فأحاذيك وتديرين لي ظهرك دون كلمة فأعرف أن البؤبؤ باز يفقؤني آنذاك أهتف ارفعي الخمار كي أتمرأى في وميض ذقنك المشع وأصير مائلاً من الانبهار وتميل المصبّات صوبي ومن جدائل المطر أبني بيتاً لك أنسج الزمن ثوباً لك ولا أطلب شيئاً لنفسي غير أن تنظري وتكلميني فمن أجلك جئت أسحب أهدابك غطاءً لجسدي البارد وجسدي المتعب غطّيه يا حلوتي غطّيه فمن أجلك أنتفض وأرتعد وأحتضر وينحسر عني الرداء وما أن أهتف باسمك حتى أراك تقْبلين الآن مبتسمة الآن الأحلى والأشهى والأبهى كما كنتِ وكما تكونين تقْبلين يا أنتِ ضميني إلى صدرك الآن وامسحي هجرتي فمن أجلكِ وحدك جئْتُ.

7

عاطلون إلاّ من أمل مستكين في كوّة الصدر يزقزق بالرجوع لكن الأجسام هزلت والشفاه تراخت من فرط الترتيل ولا نجاة من الموت إلاّ بالموت. صار الأمل يتضاءل وينزلق من الجيوب المثقوبة وكل أقنعة أصحاب الفخامة والجلالة أخذت تتمزق كنسيج مهترئ لتشفّ عن خيانات لا تُحصى وحكم يتآمر علانية وفي الشرفات الملكية يلمح الشعب ذيل طاووس يستر العورة كفى بيانات يا أمم كفى طعناً يا مخادع جمهورية سنمضي بهدوء دون أن تخدش حياءك في المجالس.
والمدائن تتقهقر أمام الزحف المجذوم، تتبرأ من الخطى المقهورة الراغبة في المصاهرة، تتحاشى محاذاتهم كما لو كانوا لعنة أرسلها الرب لتدق ناقوس الوباء، والعروش تطل من طاقات قصورها يثلجها هذا النزوح الوديع وحواة البلاط يلبسون دور الرزانة ويتفاوضون كفى تهريجاً يا خرائط المشرق فها نحن نندحر بعيداً عن فجورك تواكبنا الفصول لقاء حفنة من الدم.
عَمّدوا أصابعهم بالدم، أسرجوا كواهلهم بالصرر وتقوّسوا في درب المنفى تؤازرهم فصائل الزواحف التي تبرز رؤوسها بين الشقوق وتترقّب هذا الزحف المبهم : مَنْ يستضيف موتك غيرنا، من يتعاطف مع أسمالك غيرنا.. تلج الغامض المحصّن بلا درع. تهندس مداراتك الوهمية، كعب في الجدْي كعب في السرطان، وأضلاعك مشرّعة للغزو من كل صوب، إبق يا سيد المسافات، زحفك يتقرّى فاحذر.
البقاء في هذه الأمكنة أيضاً له أحابيل ليس بوسعهم تجنبها، لذا تابعوا سيرهم.
كان الجغرافيون يشطرون القارات بمعاولهم حين مرّ شعب الجهات قرب السور القرميدي ووطأ الأسمنت والقار ماضياً إلى جهة ليست قاطنة في البوصلات. توقف الجغرافيون عن العمل مشدوهين لهذا الاختراق المدنّس لتعاليم الجيولوجيا والذي لا يخطر لبالٍ، ثم أخذتهم الحماسة وولع الاستكشاف فتركوا معاولهم ونضوا عن أرساغهم الساعات وبدأوا يهرولون خلف الشعب الذي كان يبعثر خطواته الواسعة في أنحاء المراعي المأهولة بعرافات نائحات يتربعن تحت شجيرات لا تورق، فوق أغصانها الشوكية تتدلى الأباريق وقرون ثيران ذهبية، بينما النجوم المتوارية وراء الكثبان ترشق آثار المسيرة بالطباشير لتضلل الجغرافيين الذين لم يتمكنوا من اللحاق بها فلبثوا يتحرّون عابر سبيل أو منجّماً يدلّهم على من يبلبل الجهات الأصلية والفرعية.
ثمة أرائك رخامية يجلس عليها الخزّافون المتأبطون فخارهم وهم يرنون في استغراق إلى سهل تمرح فوقه الظباء. أحدهم يشعل لفافة ويدخنها بنهم، آخر ينهض بعد برهة ويضع الفخار برفق على الأريكة ثم يستدير على مهل ويمشي بتؤدة نحو امرأة لها شعر أسود طويل وترتدي ثوباً أزرق يغطي قدميها الحافيتين، واقفة عند سور بيت متهدّم. تنظر ناحيته وعندما يصل إليها يبدأ في الحديث معها، لكن الخزّافين الذين يرمقونهما لا يسمعون ما يقولانه ولا يفهمون إشارات أيديهما. بعد قليل تبتعد المرأة وتدخل البيت. يظل الرجل عند السور الأبيض المتآكل، منكس الرأس، واضعاً يديه في جيبي سرواله وينقر الحصى بحذائه المطاطي ثم ينحني ويلتقط حجراً يرميه عالياً بكل قوته، وبينما يتابع انطلاقة الحجر في الفضاء تجتذب بصره نافذة في الطابق الثاني من البيت نفسه فيلمح صبيّاً يطل من خلف زجاج النافذة. الصبي يتأمل بائع بالونات أعمى يسير بحذر خلف الأرائك لئلا يصطدم بالعرّافات اللائي يتمرغن في الرمال غير أنه يصطدم بطفلة مبتورة الذراعين فيبتسم معتذراً ويختار بالونة صفراء ويمد يده نحوها لتأخذ البالونة إلاّ أنها تضحك في حيطة ثم تتنحى عن طريقه وتبتعد وهي تتواثب في جذل أما البائع فيلبث في مكانه فترة طويلة، مبتسماً، مادّاً يده والبالونة تتأرجح دون أن تتناولها يد.
إنها البلاد المصقولة بذخائر القنص تلك التي تفرش لك الآن عتباتها لتصعد مخموراً بخمر الزمان، والدَرَج الأخير يفضي إلى جناحٍ يعقد لك أنشوطة في دائرتها المسنّنة ترقص الحوريات اللائي يرفعن أطراف تنانيرهن لإغواء ساعدك،
تمهّل :
ما من مذبحة إلاّ وأنت رغوة الكأس فيها،
ما من جزية إلاّ وتصطفيك،
وتلك العواصم التي تجهض انتفاضاتك سوف تحيك لك تابوتاً من جلد الأفعى يجوب بك محيطات أنت غريب عنها.
تمهّل :
إنها البلاد المغسولة بالشراك تلك التي تسنّ الشرائع المراوغة بيدٍ وتسنّن السكين بيد.
البوابات كانت مفتوحة فدخلوها وتشتتوا مرة أخرى.
يا أهلنا جئنا نسألكم عن أهلنا، فهل لديكم خبر يفرح ؟
الخيام
ندوب تفضح
بشاعة الأرض

8

تبدأ الأرض المزدحمة بالعناصر المذعورة تفتح أسوارها، والسماء المستثارة شريك شاهق تحنو، بألوان ليست للقوس ولا للقزح، على ولادة الأسرار الغائرة.
سرّ سريره فوهة الكون، يهبط إلى الأعالي ويصعد إلى أعماق مأهولة.
لم يكن ضوءاً هذا الذي يأخذ شكله من نظرة الدهشة، يهندس الطبيعة على هواه. شالٌ تتشح به الأرض أرضه حيث له الحفائر وحظائر الناس وشغب الحيوانات وبراءة الغصون. طلوغٌ ترسله الأعالي في هيئةٍ من فضة المصادفات. موسمه يملأ الأفق بآخر التوقعات مثل غياب التيوس الحمراء في عتمة الجبل. عتبات الأرض تتقافز لتحضنه بحنو.
انتظار هنا توقّع هناك. آتٍ، هذا الهيكل الهائل الذي من سديم البدايات تنتهي عنده المشاريع وخفقة الأقدام فوق نشوة السبيل. آتٍ، يضع أطرافه على مفازة شهقت من طينها من مداها.
هيكل من الوهج. كل هذا الجمال. هذا المتوحش يتشظى ببطء. يتهادى في اندياح كريشة في سلّم الهواء تنساب تهب المربعات والمثلثات تستدير تستطيل تضارع العلوّ تهيمن على الشسْع تهندس الأفق تنساب تتقوّس تتحلّق تصير لها هالات تكلّل الأرض التي صعدت في شغف وانبهار. ريشة ترسم وتندفق، ليست في عجلة من أمرها. والوقت لا يكاد ينمّ عن بدء أو نهاية، نهار أو ليلة، جحيم أو جنة.
لكن الليل الذي من هناك يتجلى عن فارس بهي البياض، يتخلّق بين غموض الرؤيا وخصوبة المرايا.
من هذا الفارس المهيب تصحبه التوقعات ؟
لا أحد يسأل
لا أحد يرى
يرى إلى العالم بسطوه المهيمن.
حصانه في الصهيل أرقط ينفث من خياشيمه ضبابٌ يصون إيماءات سيده. فارس جميل على صهوةٍ، ليده منجل يشغل الفراغ الذي تزرعه الخطوات كقلنسوة للفضاء. يرى إلى هنا حيث المخلوقات في طور ذهول بين واقعٍ ووهْمٍ ليس بينهما حدّ. يرى إليها بأحداق تتسع كلما اقترب، تصير مشرّعة مثل كهف كلما مسّها بنظراته. تتصاعد من كتفيه طيور مائية مناقيرها نافورات ترسل شباكاً لأعالي المدن وتفاصيل القرى. تتفصّد المخلوقات. يلامسها بحنان نظراته. منثورة في خيام. يتجول بين الخرق الكبيرة المنصوبة فوق الصلصال. كل خيمة تفيض بأنفاس العناصر الأخيرة.
صبيّة
كهل
حصاة
امرأة
يلكز الفارس بطن حصانه يدنو من خيمة تتهلهل بفعل الريح. يغادر مهاميزه ويترجّل. تطاله الأرض فتحمله إلى داخل الخيمة، يجول بنظراته كمن يبحث عن فرائسه فيرى الفرائس غزالات تحاصرها النيران تلهو بها. هياكل ذائبة بلا مأوى ولا شعير. عيون غائبة عن النظر مشدوهة بالقادم الذي يملأ شواغر الخيمة. عظام ناتئة تتكسر عند ملامستها أحجار العتبة. كل هذا الهزيع في خرقة تكتب فيها الريح. من يقدر أن يأخذ شيئاً ليس موجوداً ؟ صوت هرم مثل صدى جرس حجري قديم.
أشكال ضعيفة تهزم الفارس الذي ليس للهزم. يتململ. يخرج من الخيمة. تطاوعه المعادن المتشابكة في مدى أكتافه. خوذة مثقوبة تطفر منها أشجار الريح حتى تصلصل الفلزّات.
هذا شجار مع الطين
هذا وقت تكتبه النساء في هامش الطبيعة
هذا أزميل يكالم الثواكل ويحرّض البحيرات
هذا شكل الأحياء الذين
هذي لغات لا تحسن المخاطبة
يلمح وعاءً فارغاً، يضع منجله جانباً وينحني، يدان شاخصتان في طين الإناء. يدان. لغتان. من أعطى لمختلج البياض جماد الأسماء. قبعة اليتامى. يد في فضة الصلصال. طين سيد. قصعة تطفر منها موجة من بياض الحليب يتطاير يتناسخ حمائم صغيرة تعلو الواحدة بعد الأخرى فيصير الفضاء قميصاً يغمر فراغ الطبيعة والحمائم تتمادى وتنتقل
مرة على وتد يشدّ الخرقة مرة على غيمة ضيعت مسالك
لفجوة الرمل الهاوية
مرة
على
كسرة
الكبرياء
الموزع بين دار مهتوكة
ودروب مجهولة
مرة على كتف لاجئ
بلا قماط ولا علامة
حتى أوشك الأفق أمام الفارس أن يصير كلاماً من الحليب لفرط الحمائم التي تتناسخ وتطير من القصعة.
بغتة، يمرق طفل قذفت به قدماه إلى حيث لا يدري. عيناه مبثوثتان في المكان الأبيض تسألان. إسمع، يهتف به الفارس الجميل ذو القصعة ذات الحليب. إسمع. يستوقفه ويتقدم نحوه بالقصعة. تعال من عطشك الشرس، هذا الأبيض لك. إشرب حيث لا ترتوي ولا يفرغ الإناء.
طفل نسي عادة الماء. في حنجرته شوك استطال حول صوته. تأمل القصعة وهي تبعث بحمائمها صوب الفضاء المتعالي. كيف يشرب كل هذه الأجنحة ؟
الفارس يترك ليديه تدنوان نحو العطش الفاغر. إشرب. يضع الطفل شفتين ناشفتين على اندلاعة القصعة فيطش الريش أمام عينيه. من أين لهذا الفارس الغريب أن يملأ القنص بذخيرة الظلام. من أين للشوك كل هذا الاحتمال في مواجهة شلال الحليب المصطخب. يمسح الطفل نثار الأبيض من شفتيه بكمٍّ مهلهل تحوّل لونه الأول.
- ما اسمك أيها الفارس النبيل ؟
- أدعى الموت.
يكافئ الفارس بابتسامة مشحونة باليأس ويستدير كمن يواصل رقصة تعثّرت برهة. الطفل يبتعد، يكبر كلما ابتعد، تعلو قامته كلما ابتعد.. والفارس يواري غموض ابتسامة لم تغادر. يضع القصعة في الهواء فتطير، يأخذ منجله المنتظر هناك، يخترق الفراغ الذي يشغل الفسحة بين صهوة الحصان ومهاميزه. يسرّ لحصانه كي يسير خارج المخيّم. وفي الخارج يترك الحصان والمنجل والمشاريع المشحونة، يطلق للجميع حرية الحركة، ويبقى لحظة في وقفة الرفق بهذه المخلوقات الساكنة. يسند جسده المتعب على جذع. هنا يعتزل مهمة الطاعة. ينظر ناحية المخيم، يتأمل، ينتظر الشتاء الذي يشحذ العربات الثلجية.

9

أقبل الشتاء بمعطفه المنسوج من وبر الثعالب يتذرذر من ياقته الثلج، وحين يفرك يديه يتقطر من أنامله المطر. حلّ بيننا ضيفاً متطفلاً : يغفو قليلاً فتصعقنا أنفاسه الباردة، وعندما يصحو يُخرج من سلّته الخيرزانية مكبّات ملوّنة ويلهو كالحاوي بالخيوط النارية مدوزناً رموزه العنيفة : برق ورعد.
قلنا له :
يا سيد الثلج لا نريد أن نخذلك، كنا نعجب بألعابك السحرية ونصفق لمهاراتك، أما الآن فاعذرنا، رؤوسنا الحاسرة لا تستطيع أن تصد حتى الرذاذ. تعال معنا لنريك سبب تعاستنا. هنا الوحل يترجرج من فرط الخوض فيه، ومن صلصاله يصنع أولادنا الدمى والدواجن. وتلك خيامنا التي تعرّي أجسادنا.. لا تشهق رجاءً لئلا يُقتلع القماش الشفاف، ففي الداخل رجل يتحدث مع أمه الميتة. وهناك رجل مخبول يحرث الصخرة بمنقار عصفور، قصته محزنة ولن نرويها لك كي لا تعكر مزاجك. أما إذا أحببت فلدينا حكايات مأساوية عديدة، وعلى أية حال ستشهد بنفسك فصولها الباقية.. وربما الأخيرة. من هنا يا سيد ي لترى أحلى بنات القرية، كانت تقدر أن تسابق الظباء، أنظر إليها الآن وتأمل شحوبها، حتى الظباء لن تتعرف عليها. أنهكناك يا سيدي ؟ إذن استرح بعض الوقت.. هل أدركت سبب فتور حماسنا لمجيئك المبكر؟
أشاح الشتاء المتجهم وانزوى في بقعة بعيدة مهموماً مخذولاً أشبه بطفل عابث جاء يعرض ألعابه فأعرض عنه أهله. هكذا مكث هناك غير راغب في ملاقاة أحد لكنه نسي أن يحمل معه سلّته الخيزرانية لذا انفلتت الخيوط وراحت تسرح بحريّة في فضاء المخيّم، حيناً تشق الجو بسهمها المشتعل وحيناً تدوّم الرياح حتى تتشبع بثلج السماء ثم تطلقها.. هكذا سكنت الفوضى طقس المخيّم واختل الانسجام بين البرق والرعد.
الذاكرة توجع، تشهر أمامهم بلدان صقيلة كالمرايا يرون فيها بيوتاً تجري، أشكالاً تجري، حقلاً ينتحب وفي كل سنبلة مهاجر يرفو درباً.
موجع هذا النبش، أجدر لهم أن يوصدوا المقل ريثما يلتئم الجرح والمتاهة تصبح أقل التباساً.
شعب يستعير من السحليات الحيل بعد أن صار توأم الغبار، وبين الحين والحين يرهف السمع ويستقبل الفجيعة.
- أخبرينا يا فتاة الملجأ، ماذا تسمعين ؟
قالت :
هبوباً ليس لريح ولا لموج. كائن من غبار له شكل بشري، لكن بلا ملامح، يحاذيني أينما أمشي كظل كجلد، وأنا خائفة من هذا الحضور المهيمن رغم وداعته. ماذا يحدث لو احتواني بأعضائه الرملية ؟ أصير حجراً ؟! ألتفت لكي أرى أحداً أعرفه فلا أرى. كنت وحيدة في وادٍ بلا هوية. طويت خوفي ومشيت، والكائن الحارس يمشي معي، إلى أن وصلنا قرية مصبوغة ممراتها بالأحمر. كل شيء فيها أحمر حتى أشجارها وينابيعها وعنادلها. وما أن لامست أقدامنا تربة الساحة الحمراء حتى غاصت قليلاً في شيء سائل، تحركنا ببطء كما لو في نهر شحيح الماء. انحنى الكائن وملأ كفه بالسائل ثم شرب منه قليلاً وقال بصوت مرتعش : (هذا دم).
قالت النافذة :
أعناق ممدودة كانت تفتح المرايا الكثيرة على المشهد المطمئن حين لم يعد هناك مطمئنون في خليفة الكوكب. أعناق على خشبة التأمل الدامي كانت ترى من هنا، من هذا الشحوب المتربع. والجراد يأتي يجرّد ذؤابات المرايا، يثقب سلام الانتظار، يوازي هدأة الجرار المليئة بالغبن. أحفظ ملامح الوجوه واحداً واحداً. إصطفقت الأخشاب الرهيفة على الجانبين بفعل العصف المجنون الذي اجتاح الدار، ولم أعد بعدها أسمع هسيس الخطوات تنتقل بين الردهات والشرفات، بين أصص الأزهار المنتعشة وشراشف الأسرّة. بعدها بقيت هكذا وحيدة تسوّرني وحشة المستنقعات.. لا أحد يفتحني لا أحد يغلقني، ولم أعد أطلّ على شيء.
قال المساء :
عندما يلهو هواء المنحنيات بعطايا الأقدام كانت الأغاني المجروحة تتوّج نزهات كثيرة يقوم بها العشاق في هامش المساكن الطينية. أصير جبّة العاشق ووشاح العشيقة. ما من وسادة إلا وازدهرت عليها قواقع صفراء لا تسأم المنادمة. والأطفال مبثوثون مثل زنابق ضلت الحديقة. لا يروّضهم النوم ولا يحلمون بغير أعشاش الكناري المتآلفة على حسك الغرف المشحونة بشهوة الأمهات. أتخلّل همس النسوة المتأرجحات بين الأسطح والعتبات، كل واحدة تنتظر مني أخباراً أو إشاعة فلا يحصلن إلاّ على مداعبات شقيّة حيث أسكب الطل بين نهودهن وأصيخ لصياحهن العذب. أخبئ للصبايا أحلاماً طازجة لئلا يخطفها الزاجل. وأجعل النوم يخاصم فتيان السهر. أقول للأشجار ارتقى أكثر فأكثر حتى يطال الأطفال حبات البرتقال من سطح الدار.
في الخيمة، كان الجميع يتكلم ويصغي
في الخارج، كان كل شيء يمتزج ويصغي
إلاّ الشتاء،
لم يقل شيئاً. وهنت عريكته وتهدّل البياض من أهدابه، استطال حتى امتزج بعناصر السهل. آخر الشتاء الأخير غلب العويل شكيمة المطر الوابل.
لم يعد له مكان. احتلته فصول خارج التقاويم.
يطوي سجادة شرشتها الضفادع بكركرة الليالي الأخيرة. يجرجر أخطاءه الكثيرة. أشياؤه الباردة تتدحرج عائدة إلى تجعّدات ملابسه الكالحة
القرائن كلها لا تكاد تكفي لوصف تحوّل الطبيعة.
ذئب المستنقعات مسلّح بقواقع تفتح البراري على الغزاة. خوذات تتحدّب تحت وطأة الهباء، يكسر السياج.
ترافقه أشياؤه إلى بوابة الفصول. خائباً يخرج حزيناً يغادر المسافة الأخيرة من سقيفة الحديقة تدعوه الجنادب ليلقي تحيته الأخيرة، ليلقي نظرته الأخيرة على أزهار بدأت تنتخب أشكالها. خائباً يخرج تاركاً مكانه لغزاة شحذتهم الموانئ ومصارف الغدر.
وإذا سألوه : من أنت ؟
لا يقدر أن يقول :
أدفأت الأقدام المذعورة بأسلاك الجليد وحزمت لكل
نهدٍ الأطفال
قلادةً لفزع
من الفرو اللبن
ودفقت لؤلؤ
لئلا
يتخثر الحزن في أمسيات الفجيعة
لكن ،
من يصدّق فصلاً على وشك المغادرة ؟ من يكترث لاعترافٍ ينمّ عن مكابرة التمائم ؟ وهو يلملم أشياءه المبعثرة على قلق الشوارع ورهبة القرى. تتدرّع مخلوقاته بعراء الخرق.
وإذا سألوه : ماذا رأيت ؟
يشفق أن يقول :
شهدت
أمةً
تجاور
الليل
والنهار.
حضرت سطوة الغابة على شغب العشب. وتأرجح الحجل بين صيّاد يذهب وصيّاد يجيء. صارت يدي قبعات تضاهي صفرة الوجل وحمرة الخجل، كتابي تراث لا يعرف الشفقة.
لكن ،
من يصغي إلى عجوز اخترق الجنون مثلما يعبر الهواء ممرات البيت، وصار يتلو وصاياه الأخيرة على : تضاريس الروح - تهجّد الفريسة - جنادب المجهول - مدخرات الكتّان - بياض الماضي - خرق الجسد - حرية الموت - ذخيرة الرعاة - جواميس النهر - وبر المتاهات - إقليم الكسل - مراكب العصافير - لوتس الحكايات - حوافر الوحشة - رؤى المزامير.

10

الغيوم تتراشق ببلّوراتها في جذل، تتناثر البلورات في الجو وعندما تغيّر مسارها لتهبط صوب الأرض، رغم تحذيرات الغيوم، فإنها تتأكسد وتتخذ شكل برد يطرق برعونة الرأس المكسو بشعيرات سوداء وبيضاء، رأس ذلك السائر على مهل في ساحة المدينة الخالية تقريباً. يمرّ بحانوت انحشر فيه عدّة أشخاص يراقبون الطريق وينتظرون توقف المطر. يتباطأ عند عتبة باب انحسر عنه طلاؤه ويتوقف تحت شرفة تقيه من البرد.
كان مبلّلاً. ثمة قاطرة تعبر الساحة مكتظة بلقالق ووزّات لا أجنحة لها. ثمة ميازيب تسرّب الماء الذي يتقوس عند اندلاقه على القار. يدنو منه درزي حاملاً صندوقاً خشبياً صغيراً، يتبادلان ابتسامة سريعة، يجلس الدرزي على علبة من الصفيح كانت مرمية عند العتبة ويفتح صندوقه المليء بدود القزّ ويبدأ في استخراج الحرير من شرانقها وعندما ينتهي يضع الحرير في كيس من النايلون ثم ينهض تاركاً الصندوق وواضعاً الكيس في جيبه ويمضي ماشياً تحت المطر شابكاً كفّيه خلف ظهره.
امرأة تطل من النافذة وهي تشمط شعرها. طفلة تجري مغتبطة تحت المطر، تستحم برهة ثم تتجه إلى الرصيف المقابل. عربة ذات عجلتين جاثية جانباً.

11

ما بال الربيع لا يطل من محفّته على مخيمنا؟ ألأن البساتين المنمنمة بالأثمار والجداول غادرت إلى الجانب الغربي ؟ متوعكاً صار من فرط التجول ؟
هاهي خيامنا الراسية تتضرع إلى الطقس أن يرأف بها ولا يجرّدها من كسائها فهي تعرف أن تحفظ أسرار الحجر مثلما يحفظ البحارة حكايات الأسماك ويصونون أسرارها.
أنظر، لقد جلبنا الصنوبر من مكان بعيد ومنه هيأنا لك مقعداً تتغطرس فوقه، فلا تكن عنيفاً أيها الفصل المدلّل.
من هنا يطفو نسل الخيمة في احتشام وينتشرون في البقاع دونما خوف، يتقصّون آثار الأمس التي تاهت أو محتها حوافر بغل يائس.
تذهب؟ إذهبْ. لسنا بحاجة إلى أقحوان أو نسرين. هنيئاً لنا الشمس التي تسكب علينا عصارتها رذاذاً وتصقل أوتادنا. سننضو عن جلودنا الجروح ونعبئ أيادينا بالهتافات متنكرين لئلا تنكرنا الطرقات الغريبة.
من صحراء شاسعة ممتدة الأطراف تأتي شاحنات الأمن المنتسبة إلى العنف لتطرق غشاء المخيّم بخوذات صاهرت وجوهاً مكفهرة، بهراوات لها رائحة عظم مكسور، ببنادق مدّخرة ليوم تتباهى فيه ببطش البارود.
ذلك نهار جدير بأن يؤرخ له، بل ويُحتفى به، في وثائق الخطاطين والوراقين.. نهار أطبقت الشاحنات على صدر المخيم بعنجهية عامرة بالغدر.
مهلاً، تلك خيام انتخبت العراء موقعاً مؤقتاً، وتلك وجوه خرجت من مصاريعها رافعة مفاتيح القرى برهاناً على احترامها للتحالف المبرم مع عادات الضيافة. من نحن إلاّ ضيوف، عابرو سبيل. خطوة هنا، بعدها نستقر بين كرومنا. فليكن نهاراً مؤجلاً هذا النهار. لقد أرعب هدير الشاحنات الرضيع النائم على ثدي جفّ حليبه وبدأ في الصراخ، بماذا نسكته الآن ؟ والموقع صار يتشظى تحت وقع جزمكم العسكرية، رويداً، معنا أرملة ذاهلة لا توقظوها. وهاهن نساؤنا يحلمن بنولٍ ينسجن به أردية لا لأجسامنا فحسب وإنما لذاكرتنا أيضاً. ونحن بدورنا نشيّد مناهل وهمية كي لا ييأس الشعب كثيراً.
خيراً، ماذا جئتم تفعلون عندنا.. نصيحة ؟ أهلاً بها. تحقيقاً ؟ نساعدكم عن طيب خاطر. آذاننا رهيفة ومن الأفضل أن نستعير صوتاً حليماً مرشوشاً بالحكمة ليس عرضة للمباغتة والاقتحام. معكم سلاح معنا أطفال.
حالاً يا مولانا ؟! تريدون منا إخلاء هذا المكان حالاً ؟ لماذا يفحّ صوتك بالحقد هكذا كأن ثمة عداوة بيننا ؟ هل تعلم كيف وصلنا إلى هنا ؟ حسناً.. تقوّسنا تحت القناطر بعد أن تركنا موتانا جاثين يختمون الرمل بأشياء جلبوها معهم مثل الأسماء والأسمال وأشتات صور لأيام حلوة ليس بوسعهم طمسها. وأضرمنا أصابعنا في مهاوي حسبناها ينابيع ستنفجر بالماء ما إن تتقرّى رغائبنا. وتخبطنا في أنين الطين وحدنا نسمع أنيننا كلما أمعنّا في النأي. بعد كل هذا تأتي أنت، يا مبعوث الدولة، لتطالبنا بالرحيل.
إن كنا قد اخترنا هذا الموقع فلأنه قريب من وطننا.. قريب إلى حد أننا نكاد نجسّ زيتونة وعنبه ونلامس نداوة جدرانه المطلّة على الساحة والحقل. نصيخ في الأمسيات إلى خوار البقرات الهائمة في حظائرها، ونتذكّر تحلّقات الأبناء حول حكايات الجدّات بينما القهوة تتواثب و تندلق، ونرى من هنا أعراساً مشعشعة ننسى أننا هنا فنحلج المسالك ونهرول في الفراسخ ليس تيهاً ولكنه الوطن يلوّن حضوره في أحداقنا.
من جديد يشتتوننا، ماذا يبقى من العصب إن ظلت روافده ترشح على الإسفلت قطرة قطرة؟ ماذا يبقى من الوطن إن ترذرذت القرى واستدرجتها أجراس الأحناش غير مفاوز مختومة برميم الأكباش لا ترسو فيها قافلة عرس ولا رنين أرجوحة.
من جديد يجزّ المهندسون بطباشيرهم شرائح من أكبادنا ويوثقونها إلى الإسطبلات المستريحة على شفا المدن. نومئ إلى الوقت أن يدثّرنا بفوانيسه قبل أن تستدرجنا طلاسم الحرابي فنقع على ظهورنا.
درك مغلّف بالبراثن، شغوف بالهيمنة، يلوّح بسلاسله المحتدمة قدّام جمهور أعزل يحتكم إلى وتد صدئ. انصفينا أيتها المحنة يا النهار العادل أخفق بجناحك على رهائنك المتوجسين. إذا لم تكن السيطرة للهراوات فلمن الغلبة ؟ لقد تزحزحت جواشن النهار الذي خذلنا وتركنا بلا معتصم كما الملوك المتوّجين بالخيانة.

12

حزيناً كان الساعي الواقف على ربوة يرنو إلى الشاحنات وهي تمرق على عجل، لوهلة حسب أنهم يلوّحون له فرفع ذراعه وأوشك أن يلوّح لهم، وعندما أيقن أنهم يترجمون له مأساتهم بإشارات لا يفهمها أحد غيره، أنزل ذراعه وغضّ بصره في أسى.
على مقربة يمر الاسكافي يحتذي جوارب مثقوبة تنزّ منها نقود معدنية تقرع الرمل بنقوشها كي تنبّه سيدها غير أنه لا ينتبه بل يمشي شارد الذهن يحمل صندوقاً مليئاً بالأحذية والأخفاف، حتى أنه نسي أن يلقي التحية على الساعي الجالس على ربوة مطأطئاً يتأمل بقجته المزدحمة بالرسائل ويتمتم (منذ زمن وأنا أطاردكم من أرض إلى أرضٍ أيها الطاعنون في الهجرة. هلاّ توقفتم برهة.. معي لكم أخبار).
بعد حين ينظر إلى جهة متخمة بتيوس تفرك قرونها بالحشائش وترشي الجهة أن تضلل العقارب كي لا تقتحم مخدعها، ويتمتم (إنها القيلولة)، فيغفو جالساً فيما تتناهى مقايضات الجهة الطامعة في أظلاف تزيّن مداخلها، وفي نومه يرى قزماً متبرجاً بنياشين عثمانية يتسلل بنزق ويسرق البقجة، إذ ذاك يهبّ الساعي مفزوعاً ولا يجدها فينحدر عدْواً ويهرول خلف آثار أقدام صغيرة بعثرها قزم مأخوذ بالسطو.
إلى هذا المكان، بعد ساعات، جاء الفينيقيون - المسفوحون من جليد القوقاز - ملتفعين بعباءات أرجوانية، حاملين على أكتافهم السفن والعاج وقوارير العطور والطنافس المطعمة بالياقوت، فيما يرشون ماء الورد على الطريق في سخاء وحبور. في ذؤابة الموكب يسير الكهنة المغمورون بالخطايا يسحبون بحبال ملتفة حول أعناقهم نواويس حجرية وجرار فخارية. أما في المؤخرة فيتجرجر العبيد الموثقون بسلسلة حديدية تصطخب في إيقاع مثقل بصليل.
في هذا المكان حلّ الفينيقيون غير آبهين بالرعاة الذين تجمهروا حولهم مع حملانهم وكلابهم ومزاميرهم يتطلعون في دهشة وفضول - لا يخلو من الريبة - إلى هذا الحضور الأسطوري لشعب إندغم في تحولات الأحجار الأثرية حتى أضحى فصلاً في كتاب قديم. لكن هاهم، في لمحة خاطفة، يشيّدون هيكلاً مترفاً بالقرابين والمهرجانات والطقوس حيث يعلو صراخ الضحية أمام تمثال الإله اللاهب وتطيش الصلوات الثملة بالتهليل. ومن الأركان تنبجس مومسات الهيكل المباركات لتلجم مجون الكهنة وتبني بالسنديان والشربين أعمدة لمدينة غابرة.
وئيداً وئيداً يعبرون البوابة هاتفين لتموز وملكار حتى تطمرهم المدينة أمام مرأى الرعاة الذين راحوا يجترون المشهد الاحتفالي ويهزّون رؤوسهم في ريبة. ورويداً تتهادى المدينة بمن فيها مثل سحابة يجرها فاتح ضرير إلى جرم يقطن وراء الأفق وعندما تتلاشى المدينة ينفض الرعاة عن عمائمهم شظايا الصور التي شاهدوها ولم يصدقوها وظنوا أنه السراب يلهو بهم. تقهقروا وخلا المكان من الجدل والجلبة.
ثانيةً يعود الساعي متقلداً حقيبة جلدية خاوية، يدبّج في ذاكرته تحيات الرسائل وحيناً يهلوس في دائرة التنجيم. مهموماً يمتطي الربوة ويتمتم : (حنانيك يا شاحنات).

13

تمضي الشاحنات في طريق ألف جلجلة، تطوي عجلاتها بعنجهية مواطئ رسمتها أظلاف ماعز وحوافر بغل كانا يتنزهان منذ برهة ثم اختفيا خلف التلال، شاحنات تحرث الهواء الذاهل المنزلق من شرفات مدن ساحيلة بعيدة، وتئد مقصورة خلّد متغطرس كان واقفاً على مقربة يرنو إلى سرب من الحجلان وعندما انتبه أخذ يهتاج ويشتم بكلمات بذيئة تلك الدواب الحديدية - كما يسميها - والتي تتباهى بالعنف والصخب.
شاحنات تنجرف بلا كابح، محمّلة بفصائل بشرية مغسولة بالغبار موسومة بالهجرة، اقتلعت من مواقعها لتهوي في سراديب متعرجة بلا منافذ.. رهائن أزمنة تختلس الدم، وأمكنة موثوقة بشواهد قبور لا تُحصى.
يوم مشؤوم ورث الفجيعة من يوم المغادرة.
دركي يتثاءب ثم يتكئ على بندقيته، لكنه لا يغفو بل يرشق رهائنه بنظرات حادة ومهدّدة، كأنه يحذرها من القيام بأية حركة تخدش السكينة
خبئوا
هفواتكم
بين
الآباط
لئلا
يصيبكم
الأذى
وبعد أن يتيقن من فعالية نظراته، يتطلّع أمامه وتدريجياً تسرح عيناه وأعصابه وأفكاره في بقاعٍ أخرى غير موحشة، بقاع يعرف أخاديدها وزواياها وأهلها.
بماذا يفكر هذا الشاب الوسيم ؟
حبيبة تنتظره في الشرفة ؟
زوجة تخيط زراً لقميصه ؟
وعندما تسمع الطرقات تنهض لتفتح له الباب. تراه أمامها واقفاً يتأملها كما لو أنها حلم مستحيل، وعندئذ تدرك مدى حنينه وشوقه فتفتح ذراعيها تدعوه أن يأتي، وعلى عجل يأتي ويرتمي على صدرها في رفق لاثماً كل أجزاء وجهها وعنقها وكتفها ثم يحملها بين ذراعيه القويتين دون أن ينبس ودون أن تعترض، وفي غرفة النوم يدعها تنساب منه برشاقة لتستلقي على السرير اللاهج بالشهوة، ولبرهة يتفرّس في بياض عريها الذي يلهث شبقاً ضارعاً إليه أن يدنو فيدنو مائلاً نحوها، ينحني، يتقوس.. بغتة يلدغه صياح طفل فيلتفت مفزوعاً ليرى طفلة تبكي في حجر أمها التي تهدهدها وتوشوش في أذنها.
لقد همّ بالنهوض وإخراس الصوت بكعب البندقية، أو توبيخ الأم، أو شتم القابعين في مذلّة، غير أنه تمالك أعصابه ومكث في مكانه مغمغماً لاعناً الأطفال والأمهات والعالم بأسره. ملامحه الوديعة اكتست بالشراسة، والمخيّلة انحسرت في حضور الشمس والهدير والوجوه الكالحة.
يظل ساهماً لفترة هدأت خلالها أنفاسه المضطربة وأعصابه المتوترة، وحلّت الشفقة والرثاء محل السخط والنفور. ودّ لو يجلس بينهم ويتحدث معهم، يحكي لهم عن لمياء الحلوة : وجه بيضاوي مستدير كالقمر، ضحكاتها تبلبل القلب وهمساتها تدغدغ العروق. تعرفون لمياء ؟ ليس في البلد من لا يعرفها. كل الشبان يهفون لملامسة أناملها ولكنها اختارتني أنا. قالت لي أنت من سكن قلبي، أستطيع أن أكلمكم عنها ساعات إن شئتم.
وجوه يائسة، خائفة، قلقة.. كيف تقدر أن تستحضر الرقص والعرس؟ كيف تقدر أن تشكم المسافات ؟ يكمّمون الشوق بطحالب الوقت ويرثون لأرواح ليس لها مأوى. ينظرون إلى البعيد.. إلى تضاريس تغيّر ملابسها وأشكالها بين الالتفاتة والالتفاتة.

14

هضاب حاسرة، أشبه بكدمات على الجبين الأرضي، ترشح ملايين من الطيور الصغيرة الملوّنة التي تتصاعد في الجو كالفقاعات وسرعان ما تتبدد، في حين تزحف الأعشاب في طوابير تتحرى مكامن تائهة. الطبيعة تنساب بزغبها بين النهود الكثيرة التي صقلتها الرمال. أجنحة الهواء تخفق ليغسل الريش الأحلام الهائمة في أعالي الهضاب. وبين التوقعات يتدفق هدوء يشبه الذهول تبدو فيه النهود الكثيرة في حالات من النشوة كما لو أنها تحتك بحرير قميص بارد. تنظر الطيور من خلال الريش فتمتزج بالرغبة الكامنة في الارتقاء حيث الرياح أسرّة تتصاعد. والطبيعة ترقب ما يحدث.
سهول محتشمة تخترع لأطرافها حصوناً من قش لا تقدر أن تصونها، إذ تتوافد بنات آوى لتخرّب الحصون وتدنّس مراقدها وتسرق ريش طواويس كان يزيّن شراشف المنتجعات. السهول تعجز عن مقارعة خصومها لكنها لا تكف عن تشييد حصون هشة تتداعى أمام غزوات حيوانات مرحة. مسفوحة الأطراف لطوارئ الوحش وهجومية الدواجن. ويطيب للفزاعات أن تشق الجيب وتغادر الحقل، فلم تعد الغرانق تخشى هفهفة الأسمال فوق عصاتين تفتعلان الخصام، ولم تعد الفراشات في حاجة لمحطات بين البهجة والبهجة.
رمال، سجادة عريضة، تتقافز فوقها الجآذر لاهية تداعب رصانة الهدوء. مباحة للنظر والمطاردة، تلمحها السباع فتنصب لها أحداقاً رهيفة. فيما ينهمر القش على مهرة تصلي.
وديان ترش السراب في الأرجاء لتغوي الجوّالين والأكباش الهاربة، ثم تتسلى بالتفرج على هذيانهم في أغوارها. يصل الجوّال الغريب إلى موقع مسيج بالسراب، يحيد عنه إلى موقع آخر مسيّج أيضاً، ويعي آنذاك المأزق الذي وقع فيه، فيجلس على الأرض ويُخرج من صرّته رغيفاً وجبناً ويبدأ في تناول طعامه بينما يبعثر نظراته هنا وهناك، بعد دقائق ينهض ويضرب برأسه غشاء السراب حتى يفتّقه، وعندما يلج يلفحه هواء ساخن، يرفع بصره ويحدّق في رعب غامر.*1

تلال متشابكة الأذرع حبلى بنفائس لم تُنهب بعد، يحرسها أطفال مجنحون، يحمل كل منهم شمعداناً، يجوبون المنحدرات ليلاً ونهاراً *2. يتقرّون الصخور بأصابعهم الناعمة من غير أن يستدرجهم اليأس. وفوق تلّة يستريح طاووس تجرّد من ريشه للتمويه ( هكذا يزعم رغم أن الجميع يعلمون بأن قاطع طريق - جنّدته السهول لهذه المهمة فقط - قد سلبه كل ريشه وتركه عارياً في البراري )

***

العاصمة الثالثة

في المنفى ابتدأت الخليقة

1

برصانة انتشر الملاّحون في أروقة العاصفة رافعين بوصلاتهم ومراصدهم المبلّلة بالمغامرة غير آبهين للجزر الاستوائية التي ترشقهم بالأناناس وجوز الهند، فيما كان الباز - ربّان الغيم - يشك بمنقاره المعدني فراغ الريح ويدلّ السفن المترنحة زهواً إلى قارات ليست موطوءة.
سفن تحسن الجدال، تتقن لغة العاصفة، تقدّر صداقة الموج رغم تقلّبات روحه. وبينما أسماك القرش البيضاء، المتحصّنة وراء حطام أخطبوط عملاق، تصغي منبهرة إلى هذا الحوار الذي لا تنقصه الصراحة ولا يخلو من طرافة، كان برابرة أشدّاء يخوضون طفولة الماء، قادمين من كهوف بعيدة، وهم يجرّون قرى صغيرة منهوبة ليؤسسوا بها ممالك للذهب، كانوا يطلقون من سواعدهم العامرة حلم امتلاك العالم، وكانت أناشيدهم الغامضة تزداد سعاراً كلما حاذوا مجتمعاً آيلاً تتناحر فيه الطبقات.
ثمة جزيرة عامرة بالغزلان وأشجار الموز، في ضفتها تسكن العاهرات الزاهدات في الجنس اللائي يعطين دروساً في الكيمياء وعلم الفلك، وفي الضفة الأخرى يقف تجار الخشب والعطور والأقمشة الذين اعتادوا المراهنة على تحولات البحر وهم يرصدون بالساعات الرملية احتضار العاصفة كي ينقلوا بضائعهم إلى أقطار مجاورة لم تتعلم بعد المقايضة.
في هذه الجزيرة تحتشد التناقضات ولا تتجانس العناصر. الزرافة تنتسب إلى الكواسر، الثعبان يلوذ بالحكمة ويتنسّك، المرأة تغيّر جنسها والطفل يعبر الرجولة لحظة يشاء ويحدث للرجل أن يوحّد في ذاته الذكورة والأنوثة. كلٌ ينتحل وجه الآخر ومهنة الآخر. حتى الفصول، المشهورة بالدقة والاتزان، لا تنتظم في مدار واحد تحت طقس جامع فقد سائسه الذي امتهن التسوّل. أيضاً تقدر الجزيرة أن تتنكر في هيئة ضباب أو قوقعة، أن تنقل آبارها وأشجارها من مكان إلى آخر، أن تسفح مرتفعاتها وتكوّر أريافها، أن تتظاهر بالشجاعة أو الجنون. تفعل كل ذلك من أجل حماية نفسها من القراصنة المجنّحين الذين يتربصون بها من كل ناحية، ولم تعلم أنهم قد رحلوا منذ زمن مع الجغرافيين إلى أصقاع نائية لم تُكتشف كنوزها بعد.
رحلوا مع دعاباتهم الفياضة ومشاعرهم النبيلة حاملين القليل من الزاد الكثير من وجع الغياب، غابوا مثلما غاب أجدادهم في خرائط الليل عاقدين البسالة حول أرساغهم خائضين عزلة الدم، يرنون بفيض من الشوق إلى وميض مرافئ كانت فيما مضى تزفّ لهم الأنخاب بسخاء وتضمّد دموعهم الخجولة يجرّحهم التشرد.
سيمرّ وقت طويل قبل أن تدرك الجزر مدى رهافة عواطفهم ونبالة مواقفهم. كان ينبغي أن تحبهم وتحسن ضيافة حضورهم بدلاً من رجمهم بالعداوة وسوء الفهم.
هكذا تعود الأساطيل من لجّ إلى لجّ بحثاً عن مخبأ قرصان، وفي مهب القصف تعدو اليابسة صوب النهرِ والنهرُ صوب اليابسة.
وثمة زنجيات موشومات بالعرافة عابقات بالسوسن يتزاحمن عند مدخل الغابة التي تئن كلما تصارعت الثيران البريّة. كن قد خلعن هالات الديانة وخرجن بلا احتشام من صومعة الكاهن الأكبر بعد أن دنّسنَ المعبد ولطّخن الشعائر بالبول والحيض وهنّ يهلّلن للانشقاقات.
مبدعاتُ أساطير. والغابة لا تحقق كمالها ولا تكتسب سحرها إلاّ بحضور الزنجيات اللواتي غسلن نهودهن بشحم فهود رقطاء.
في الغابة المغمورة ببياض الحكايات :
كان الغُريرْ يتأمل انخطاف السماء حين يدغدغها الريش فتكتحل بسعف الليل.
الكرة الأرضية تتدوّم على قرن جاموس يمضغ إسطبلاً. الوشق المغرم بالاغتيال يستعير شقرة البحيرة ويلعق مرآة أنثاه. الزنجية تمتدح أمومة القمر وتستخرج من سرّتها حواة وأميرات وأسواقاً شعبية.
الثيران البرية تدشّن حلبات مغبرّة مرصوفة بالدويّ.
واليحامير الفسفورية - المسترخية في محميّات ليفية - ترقب كل هذا، ترقب مختلجةً شتاء الغابة وتتمتم :
الحلم ربيع الأشياء، طفولة الأمس
ثمة حيوانات ستنقرض. لكن الطبيعة كانت مكتنزة بالتكهنات. ليس شاذاً أن ينبثق من الخنشار نهار مبرقش يرشح توابل، تتبعه ثعالب أنيقة تحاصر الأرض بالحقب الجليدية على الثلج دم لبوءة تحلم في خيلاء. شلالات تتدلى على كتف جبل يشق المدى بخطواته الواسعة. كوكب يفتح حقيبته فتنسكب منها النيازك المرحة.
كان العالم كله مرشوشاً بالسِحر.

2

يوم قال اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو
ابتدأت الخليقة
في المنفى
وأنت، يا من تموت مراراً وما يزال في فمك طعم الدخان،
أما شبعت موتاً ؟
أما اكتفيت تجوالاً من حانة تقرض ببطء عنان ذاكرتك، إلى ميناء يصادر رسائلك ويرجمك بالحقائب، إلى غرفة ترفع فيها قبضتك مهدّداً ثم تخرّ باكياً كل مساء ؟
أما اندثرت
أبسط لنا صدرك الرخو، يا متخماً بالوحدة، لننبش وشم التجربة ونستجلي :
غياهب أيامك
حاضر الحلم
ألغاز السفر
ماذا صنعت بدم الغربة يا غريب ؟
كنت أقرع الضاحية الرطبة، شبه المهجورة، بكعب حذائي فيما أستنشق مخموراً تعرّجات المسافة، كائنات ليلية تتسلل زاحفة من الفوهات لتحرق الغفوة وتسعّر الجلبة. رذاذ ينقر رخام الحي الشعبي ويتجمهر في الأفاريز. عازف كمان، مصاب بالربو، ينشج على الرصيف. امرأة تخرج رأسها من النافذة وتغسل شعرها بزبد ضباب أسود، وكانت أصوات خافتة، لمحادثة مبهمة، تتبعثر في زاوية مقهى بعيد بينما في الناحية الأخرى من الحديقة المحبوكة بالضوء يتوارى أطفال خلف سنديانة مترصدين كهلاً يروّض الحمام بفتات خبز.
كانت الطرقات المتورّمة تزمجر تحت خطواتي. خبأت القشعريرة تحت ياقتي واحتميت بجدران كانت ترخي أسمالها المكسوة بالملصقات وتدفعني نحو عتمة تتحرش بي كلما توغلت في خميرة الليل. عند المنعطف كلاب تنهش ذراع متشرد فاقد الوعي. بين الأزقة سكاكين ناتئة تغتال أنحائي دونما شفقة. أجفلت، أسلمت لهاثي لركض قادني إلى بناية متداعية ارتقيت سلالمها قفزاً حتى ألفيت نفسي وسط غرفة موبوءة بالضغينة راحت تمضغ أطرافي كالهشيم فعرفت أني سوف أتشتت خلية خلية وأن العالم سوف يتهشم في أحداقي.
أول الطفولة
باب يجنّحني، أحلّ وثاق الثدي السخيّ فيرفعني الفطام إلى ومضٍ استحم فيه مقمّطاً بالبهجة، وخلسة تزدحم فيّ الشقاوة فأرسو مانحاً ضجيجي لغة اللعب والمشاكسة. تلك اللغة المشاعة بين أقران يتأرجحون كالعناقيد في لبّ الأفق وفي مصبّ النهار يتخاطف غضارتهم الزحام وخبث الباعة.
كنا نجمع الصدقات والقطط الصغيرة عند عتبات المساجد. نسمي الشارع ميدان حرب والحوانيت البخيلة نبيحها للسطو. بالحصاة نمتحن فتوّة الخصوم. أما الأكثر مهارة في رمي السحالي فينتخب حارساً للحصون المشيدة من الخيزران والمستخدمة كمخابئ للمعادن والأسلاك والدواجن المسروقة.
وما كان المؤذن الأعشى، القيّم على تلقين القرآن، يقدر أن يصدّ شياطين الغزو عن اقتحام داره مساءً وسرقة سراويل امرأته التي كانت، عندما تجلس لتغسل الثياب، تباعد ما بين ساقيها كاشفة عن فخذين ممتلئتين بينهما نلمح عشاً أسود يلمع بفعل قطرات فضيّة لا نعرف مصدرها، وكنا في خضمّ المشهد نجهد في كبح القهقهة المدويّة سراً ونلوي أعناقنا صوب آيات مرتعشة بين فكّي بعلها الذي يخيط كلام الله في رؤوسنا ويمجّد العقاب.
بأقدامنا الصغيرة، الحافية كالعراء، نحشد الطرقات في محاجر الضحى، ونلهب ظهورها ببراءة الشر، نرهب بالبغضاء ابن التاجر، نطلق في أرجاء الطوب هدير الخلخلة.
لم يخطر لي. أنا الذي يحشو جيوبه بأعراف ديوك ميتة ويرشو الريح بالمصاهرة، أن الأرغفة مختومة بالدم. و إني سهواً دخلت
أول النمو
وعلى غفلة شبّ فيّ وتد الذكورة.
الملامح الغضّة، العصيّة، طفقت تتأوّد في اليقظة الشبقية حيث النهد نهر والإبط فضاء تسرح فيه فحولة التخيل. ما من أريج، ما من حفيف شفتين نابضتين بالاشتهاء، إلاّ وكان مدّخراً لسرير الوهم.
مضغتُ قات الجنس وحولي ستائر مسدلة على نساء يغرفن من موسم القطاف أنين المعاشرة. أذكر حمرة الكحول في سهرة الهباء وأين زحفت زحف الثمل في سندس النكاح باحثاً عن أعشاش سوداء تتلألأ بالقطرات الفضية تحت غلالة جسد الحنطة، لكن طوّحني الظمأ إلى سُلّ المواخير حيث الدهاليز اللولبية تتجشأ هياكل عجافاً تتداخل في عتمة الزوايا منخورة بالاغتصاب ولها طعم المستنقع.
وكنت قد راهنت روحي أن أظل بمنآى عن المعصية وجنون الاضطهاد، غير أن الذنب راح يتسرطن في أعضائي فقلت : يا رب، خلصني، وكانت الشوارع وقتذاك تندلع بالهتافات وخراطيم المياه تلاحق اللافتات من بيت إلى بيت، نفّضت جلبابي واعتليت سنام مظاهرة سلمية أخطب هاذياً في جمعٍ هاذٍ لا يفقه أقوالي الثورية، وأذكر أن حزبياً ضليعاً في النظرية والممارسة قد وبّخني لجهلي بالأصول الثورية والأبجدية النضالية، فخجلت ومضيت أقذف المحلات التجارية بالروث.
أول العشق
حفيف بالغ الطراوة لفتاة تمشط النهار بأجفان كقوس قزح، تدغدغ الضوء بضوء محيّاها خطاها المخملية تبحر بي إلى مدى يشرنقني بالوعود وينذر لي مفخرة النقاء.
كنت أمشي، أنا الغارق في سهرة الحلم، خلف أساور الجميلة متمادياً في العشق، مالئاً كراريس الحب ثمار اللهفة.
عذبة كالهمس، باسمة كالاحتفال.
الليل المراهق كان يرصّع الشرفة بحضورها الحريري، وإذ يميل جذعها القرنفلي معرّشاً أرق الحارة، تلتهب أصداغ الساحة المهملة ويكتنفني الوله المعذّب بين زيزان السهر شاخصاً إلى شرود أنيق يظلل عينيها المسافرتين معاً في أشكال الحدس.
ظهراً، تتفيأ زرقة الأنوثة فيما يحرس النخل تورّد ثغرها في بشرة الجدول.
هلاّ أفسحتم، يا جيران القيلولة ويا أشباه الثرثرة، ألياف النسيم كي تمرّ حبيبتي نحو عرشي. فسحة ضيقة من أجلي كي أمرّ للقاء الموعود لقلبي.
حبّذا تباغتني الحبيبة بالحب. تبسط لي العلامة المذهّبة، مثل ملاءة، لأتقدم رحباً صوب حنان ذراعيها حاملاً سبائك الحصاد مكلّلاً بالينابيع. كان يكفي هذا لأضم الأحياء بين جوانحي وأصنع من عجين الصباح أعياداً يومية.
وحين جازفتُ بالمثول أمامها مرتجفاً، أشرح إرتباكاً، أشاحت ممتعضة ومن أظافرها طفر النفور. رأيتها فيما بعد تخاصر شاباً بالغ الميوعة يتناغيان كحيوانين مريضين.
من قال أن هذا الحولاء مفخرة النقاء وأميرة القمر ؟ تدرج مثل البطة ومن صدرها تنتأ لوزتان تسميهما نهدين. حتى أن جمالها غير ملفت. ليس عن حقد أقول هذا، ولا لأني مخذول، إنما هي لحظة سطوع الحقيقة الموطوءة، من منكم لم يستر عاهات حبيبته بعبارات الإطراء ولم يعتبرها الأجمل والأنبل في كون النساء ؟
غير أني تجزّأتُ، حوّمتُ بعضي فوق بعضي، وانسكبتُ مسفوعاً بالخيبة والإهانة نحو حضيض المكتبات العامة أقرأ بنهم عصارة البشر.
أول الشك
مغارة تشرّح اليقين بمبضع التناقض. قادني الجدل المحظور إلى المتاهة المحظورة. هزّني الوجل بادئ الأمر، ولما انتفض اليقين داخل هيئتي، جدّفت في بئر القداسة هادماً أيقونات العصور مسمياً الطاعة رجساً والكتاب أفيوناً. كل الرموز باتت مهدورة للبصاق : وحي الدجل، علم الإرهاب، ختم الطبقة، شارة الطائفة، لبن العائلة، مبولة النُصُب.
أشهرت ارتيابي ووسمت المسارب بوسم السيول، لوائي قوارض الفولاذ. لذّ لي أن أحاكي الأرباب في صياغة عالم عادل تزهو به الأمم. قبر للجيفة الأرستقراطية. نبع لفقراء الصفيح.
وكنت أحسب أني المؤهل لعبء الانقلاب. هكذا حملت راية الفداء وأومأت للجهاد أن يلبسني، ثم مضيت أنتقي حزباً متزمتاً يعلمني الطهارة الثورية. فهمتُ أن المضاجعة إذلال للمرأة، وأن التنزّه إهدار للطاقة، وأن الاستحمام يومياً عادة بورجوازية، وأن بائعة الفول الخرساء يمكن أن تكون مخبرة إذا نظرت إليك بتفحص وإمعان.
أول الانكسار
سجن يشلّ الفراغ يصادر المسافة، غياب مجاني. الأسماء الحركية، الملغومة بالخيانة، جاءت دفعة واحدة لتحتل كراسي الاعتراف. صعدت الوشاية إلى هرم المهزلة، فتموكبت الخلايا السريّة مطوّقة بالذهول في أقبية السوط المجدول.
تخوزقتُ هازئاً بالقيادة الرشيدة. تحت شجرة نبقْ وحيدة، وسط فناء مبطّن بالقضبان والزواحف، أرخينا أوشحة الأخطاء وتبادلنا الاتهام، حداد الأهل، مباهاة الأصدقاء في الخارج.
كم اشتقنا، كم تأقلمنا، وكم اخترقنا الجدار بإغماضة عين. حلمتُ أني محارب من قش أوجّه المنجنيق نحوي وافتح ثغرة في العنق بحجم دالية منها يتسلل أسرى الوهم هاتفين للوهم بينما يهدرون أغلالهم في زرائب قاحلة.
وكنت أتشتت كالتبغ في شرانق الرثاء.
اعتليت سوسنة التيه معتذراً لجمهور كان يحتشد محدودباً في حضيض المسرح يرحّب بالقباقيب مسيرة وزراء مكلّلين بحبر المفاوضات، تحت عباءاتهم المذهّبة تتدشّن مرابط الأحلاف.
طاب مساؤك
يا اندحارات
يا كتباً تتدجّن تحت أختام المحرّمات
يا فتيات يهبطن من الملاّحات بأفخاذ مريّشة وينثرن التوابل في فم الفحل
يا البراءة القاتلة
يا قمراً يسرد إباحيته في عين عاشق لا يبصر داخل المدى غير حلم فاحش ينزلق من ثديٍ ليخلب قلب مذنّبات تتطاير اهتياجا
يا طرقات مدّخرة للتناحر
يا نواطير مزنّرين بالمهابة تحتدم أسفل أظافرهم الرعدةُ إذ يجادلهم الصقيع فيلتجئون إلى عوسج يرشوهم بالدفء تاركين الساحات مفتوحة أمام عبور المخازن المهرّبة
يا الرغبات المنكوثة
يا جمهور المستعمرات
يا نساءاً مشجّرات بالخصوبة يحلجن الأرحام فيما يصخن للجارات العواقر وهن يرسلن الفحيح الجهوري إلى محراب الشفاعة
يا قططاً تخلع جلودها تحت ليلكة ومن المدخنة تشنّ الغارة الانتحارية على بيت يحاصره الضباب
يا مروّض الأرداف الجامحة
يا حضانة التعب
يا بكاء الأمهات في أرياف الحنين آن يضرّجهن الفقْد
يا صديقاً يضرم براعم اليأس في قلبه وبعناية فائقة يفقأ روحه هاتفاً للقصيدة
يا كهولة الحزن
يا رفاقاً سمر الوجوه غابوا في الطفولة بلا رجعة
يا لقطاء التخوم السائرين تحت القناطر المهمومة ملطخين بنثار ليلٍ يلاطف شعر النجمة الوحيدة
يا الخيانات المبجّلة
يا مدينة تخون شعبها في مسرّات الأمراء
يا صديقة أحلى من نبيذ الياسمين تهدهد جراحي بعسل الهمس وفي لمحةٍ تدخلني بنفسجة الطمأنينة كي ألتئم
يا المعمّرات اللواتي يمسكن تلابيب الزمن العجول وفي دلاء الحليب يأسرن أرواحاً شابة كنّ ينتسبن إليها أوان تورّد الوجنات
يا أقارب السهر وورثة الحب
يا أمومة الريح
يا صلاة تتخثر بين مآذن الرخام ومحبرة الفقهاء
يا وجهاء يخضّبون أكتافهم بالرياء وفي الصباحات يقيسون مع وطاويطهم حدود الملكية
يا بياض الأبوّة
يا موجة تدحرج العربات القطنية المكتظة بالفلكيين
يا ضجعة المومس العرجاء التي تغوي الفتيان بوجهها المستعار ثم تمضي آخر الليل نائحة وسط خرائب البوم
يا الخليج الآفل بنفطه ومائه
يا مآتم تخترع المعجزات وبمجانية تزهق الدم في مسارب المواكب
يا خطيئة الأشجار حين تفضّ شفافية القطا
يا العبودية في زيّ مهنة تختزل أبعادي
يا فاشية الجسد والمبدأ
يا من يجتاز ليونة المنابر ويرفو المحارم بسهام الطيش
يا ورّاقين ينحتون المخطوطات برموز الحضارات البائدة
يا الكتابة الآثمة
يا الغيبوبة
يا أنا الذي يراودني الانتحار كلما لمحتُ بطرْفٍ طفلاً يضحك
طاب مساؤك
يا بلاداً تبعثر أشلائي في مسالك المنافي
أول الغربة
زورق مترع بالذنوب، طحالب صمغية تتفصّد من حولي وتسوّر أنسامي، منارة مزخرفة بالزعانف ترميني بأمعاء قرش.
أبحرتُ ممتشقاً لجام الموانئ الغريبة، ممتقعاً مثل غُرنوق تلاحقه جمرات الرجم من خليجٍ إلى خليج.
أبحرت بلا خطيئة، وبلا حكمة، زادي حلم معطوب. أسلمت دفّتي لاخضرار الرياح المعطّرة بالمصادفات المضيئة. كان البحر خالياً من حظائر الصيادين ومن تلك البواخر التي تشق أصداغ حيتان غافية، كان وقتذاك يلمّع دروع الفيضان الرابض كنسر ملكي يرقب عن كثب جسراً شُيِّد حديثاً.
وإذ أمخر غشاء مصبّاته. يلتفت إليّ ويسميني هازئاً !
وريث الكآبة.
حاذيتُ جزيرة شوكية، شحيحة كالصدفة، يتسلق جبلها الوحيد مماليك متشحين ببيارق التضحية حاملين القرب وسلال التوت، وفي حسرةٍ يتأملون السلالة الأخيرة من الأباطرة، المفقوءة ذاكرتهم، وهم يجسّون الماء بالعكاكيز بحثاً عن وطنٍ له رائحة فراشة وشعبٍ ليس مدهوناً بالعصيان.
رأيت الأرقاء عند سفح الأرخبيل يشعلون ثياب القساوسة وبمناجلهم الرشيقة يطلقون زوبعة التضاريس.
رأيت القارات الرخامية في مرآة المحيط تتعرّى وتغتسل بسنابل من ضوء.
قلت هي الرؤيا الأخيرة
ولما بلغتُ مرفأ الشقراوات اللواتي سوف يقتلنني تحت سقف غائم، وسوف يحضر شرطي عنصري ليحملني بين ذراعيه الرحيمتين، وسوف أكون جثة مجهولة الهوية في مشرحة عتيقة، وسوف أفتح عيني، وأحلم بشخص غامض يطل في وجهي فيتعرّف عليّ ويعانقني منتحباً، وسوف يجنّحني لأعود إلى بلادي التي أهرب منها ثانية فأبحر صوب شطآن لا تصون رؤاي، وسوف أصل مرفأ الشقراوات اللواتي يتجمهرن حولي يلثمن أنحائي ويبللن صدري بالدمع، وسوف يأخذنني إلى حدائق فيروزية محروسة بأزهار اللوتس حيث أضطجع في مخدع من الدقيق فتجثو أمامي الأكثر طراوة وتمرّغ وجهها الأخضر في راحتي التي تشفّ عن مهرة حزينة وطواحين مرصّعة بالفتن، وسوف أتمتم منتفضاً : ها إني أحلم براهبات مصلوبات في حقل القصب وآلهة من لبن يعجنون الذهب لرُسُل أوفدتهم العصور الحجرية كي يرضعوا موهبة الأسلحة فيما يخوض الموتى مستنقع البرْديّ ملطخين الجداريات المقدسة بأحشاء خنزير بريّ،
وسوف يجهشن مضرّجات بالحنان : الحلم ظل للأشياء التي لا تُرى، ونحن الفانيات -إذ نمسح الحضارات المحنّطة بغاز الميثان -نجمّل لك الوجود ونسفح لك هباتنا من حليّ وسراويل،
وسوف ألمح الدرّاق يطل ذاهلاً على جمع غفير من المستحمين في زئبق الشارع مقلين صوت الدم، وسوف أحمل حرية القول كالدلو فأرش المنتزه بمظاهرة والضواحي الفقيرة باحتجاج ثم أجوب يقظة المساء متسولاً لحظة جنس من بائعة أجنبية تغزل متعة المخادع، وسوف أحكي لها عن حضارتي العريقة اللمّاعة مثل النفط وعن الفتوحات التناسلية المبرمجة في تاريخي، وسوف تضحك ملء شدقيها وأنا ألج وَجْرها القاتم الملقّح بالغراء ولن تهدأ حتى تحشو حلقي بريش الوسادة وتزرقّ أطرافي من الاختناق،
وفي موتي شممت حضور أبي الجليل الواقف على شفرة الماء، ففتحت عينيّ ومشيت إليه مستعيناً بأطياب الأبوّة. قبّلت غرّته وقلت : يا أبي، خلصني.. فاحتواني بذراعيه الشاسعتين وأسكنني مرعى كهولته، حينذاك مضينا عائمين في منتجع الهواء نتحدث همساً - كي لا تسمعنا القوارب - عن شؤون الكيمياء وأحوال الصلاة. ولوهلة شعرت بهاوية تنتصب بيننا و إني منفرد في فراغ الأحابيل، وحين التفت شاهدت أبي يترامى مثل فضاء ليس له حد تاركاً لي رائحة عالم في طور الاحتراق.
كم أذهلتني تلك اليقظة الخارقة ! كم باغتتني جرأتي في اجتياز الغابة القرمزية المكسوة بالمانجا والببغاوات الطينية لأشهد إبادة التماسيح على أيدي صيادين محنّكين يخضّبون عضلاتهم المفتولة بمعجون المجازفة، هكذا أصادف الهنود الحمر في زوابع الطريدة يطلقون النبوءات بنبال التجربة كما لو أنها إشارات غامضة تعبر السنوات الضوئية في لمحة، كذلك الغواصين الموءودين تحت أغلفة الأصداف وهم ينبشون أكباد المحارات ملتمسين شفاعة اللؤلؤ، بينما في الجوار تعسكر السفن الغارقة التي يصطخب بداخلها عراك الأسماك، وأيضاً جباة التمور الذين يعاينون مراقد النخيل كل صباح وحين لا يعثرون على الجزية يعلنون بصفاقة اختلال الجاذبية، وأخيراً أولئك القادة المطلية أنوفهم بأمارات الشهامة إذ ينحنون بتواضع أمام الأسرى قبل أن يبقروا بطونهم ويستبدلوا الأحشاء بالأعلاف.
لكنني، لما بلغت مرفأ الشقراوات اللواتي سوف يقتلنني تحت سقف غائم،
عرفت أني خاتم المهزلة
وبي يختتم العالم هلاكه

3

وتنظر، مثل نسّاج معتزل، إلى فصيلة الهزائم تتوافد تباعاً بأسمالها الدامية وتواريخها الميتة لتعبر مضيق سورك المغلول بالأقفال. تنظر إليها بقلب ضجر خانته الأمكنة منذ زمن، ضيّعت الإبر الفضّية ذات النصال المجدولة، وأنك تقمّصت التعب والكآبة.
ها أنت تهبط، مكابراً، سلالم العزلة. تفتح الباب الذي لم يُفتح إلاّ على ضربات مرسوم جمهوري أو ختان ملكي، وتأخذ الهزائم كالجراء بين ذراعيك تهدهدها، ترضعها، تخترع لها النقوش والحرائر، ثم تضعها على خزانتك كالأوسمة.
(تبّاً للحجرات المتواطئة مع الصقيع)
هكذا تغمغم ذاهلاً بينما تهبط أدراج الذاكرة، عاماً عاماً، متدثراً بالأقاليم المضيئة حتى تحلّ ضيفاً على رصيف أليف كان يرشقك بالأخلاط والأحزاب وكنت تقترف التسكع ومغازلة المطلاّت من النوافذ أشبه بثريّات محصّنة،
وكنت تنتخب الخلاسية - التي أبداً لم تبادلك الابتسام - ملكة فضائك. وإذ تمضغ التين المرّ، تشعل انتفاضة هنا انتفاضة هناك، بعدها يندلع صخب عظيم ومصادمات فيختنق الشارع بالغاز. وإذ ترخي صارية العنف، تندلق الفوضى من ردائك وتأوي، منتعشاً، إلى حانة تعاقر فيها السياسة.
ما من حدث يمرّ - آنذاك - في شارعك دونما استنطاق : الشمس فجيعة، التتويج مؤامرة، اليأس ظاهرة غريبة. عند رصيفك الجانح إلى العربدة تتشبّع المدينة لتنبئ عن كارثة وشيكة، وكنت ترحل من خطبة إلى خطبة ملطخاً حناجر الدعاة بالوقيعة، وتنتشل المدّ به تفضّ أديم الفصول به تعرك بكارة التمرد.
نازلت ضغائن القبائل المالكة، لم تجندلك الزنازن، بل أسرفت في الضوضاء. آخيت الشكيمة وهتفت مع الجبهات المتصادمة.
كانت لك المهابة بين السكّان، لكنك لم تستوعب الدرس جيداً، ملأوا رأسك بالقش، أوهموك أن الحظوة لك والأختام لك والمرابط لك، وأن الخلاسية لن تكون إلا لك، فتقاعست لاجماً قلوعك المفتونة باللهب ورحت بلا حذر تنهل من الخلاسية لقاح الوله فتنهل منك نداء الوهج، وعندما أتتك تشتهي ألوان نبضك لبّيت مختلجاً، فما رآك أحد بعد ذلك إلاّ صاغراً وممتثلاً،
صرت تمشي بنبض أعمى ووهج أبكم، لذا أنكرتك الطرقات أهملتك شرارات المد. وعندما رمتك الخلاسية بوشاح الوسن، إستفحل فيك الصلصال فما فرّقت بين حيّ وحيّ بل ساويت الجريمة والبراءة وقلت :
أنا ظل الشحوب
كم كان بكاؤك فواراً وموجعاً آن أومأت برأسك، المحشو بالقش، فتدحرجت منه النكبات واجماً تفحّصت الأبجديات فاندلقت اللغة الكاذبة.
ماذا تريد أن ترى أيها الأعمى ؟
سراباً وثنياً ؟
أشجاراً معتّقة تثمر التفسخ ؟
تلك أعضاء فتك بها العقم تسير بين أعمدة الأنقاض تسأل وتنتحر. نوارس تنتحر. بيوت تحمل عتباتها وتنتحر. هاوية تكدّس الدول الخاوية في واجهة المحرقة،
وأنت، أنت المسفوع بالأضداد، المنتحل وجه وعلٍ مضطهد، يا رهين بادية تهدر بأسك وتتوضأ بيأسك،
ماذا تنتظر لكي تنهض على قرن سهلٍ تداهم ظُهراً مجلس المومياءات وتجزّ بحدّ رمحك شمع المتحف ؟
انزويت، رسمتَ بالصلاة بلاداً عفيفةً، وأسدلتَ الدمع على خاصرة رصيف كان يعاقبك بالذكريات. لما جاءتك الهزيمة الأولى مثخنة بالإثم، احترفت النساجة وقلت :
أنا ظل اليأس
الآن، كما نراك الآن، في ركن حظيرة مزدحمة بالسعال والأحلام المشلولة، تحت مظلة مصباح سينضب زيته بعد حين، تجلس لتفتح كتاباً يكتبك، ويأخذك المحيط إلى المحيط حيث الأسماك الغفيرة تحاور البحّارة التائهين في مسرى الأحواض المحّارية، والحوت الأزرق يزيّن نافوراته بأزياء القراصنة المزركشين.
ويأخذك الحلزون، سفير الماء. إلى بلّوط يزخرف بالتوابل أجنحة الأوزّات القطبية، وفي مخازن القمح تسبح البنادق المعبأة بالبارود.
ويأخذك الوهم، إلى وهمٍ أكثر نضارة كما الطفل الخمريّ الذي جلب لك السُمّان هدية من وليمة السحب.
مروّضو المسافات يلوّحون كي تتبعهم. آه، ما أصغر العالم في أحداقهم.. ملوّن وطريّ. الكون مترع بالصهيل. أجنحة الأرض، المرقّشة بالفسيفساء، تصطفق. الكواكب ترتجّ كأهداب أنثى فاجأتها الذروة،
ذلك لأن الطفل الخمريّ كان يمشي على أطراف المجرّة. وكنت تمشي في الفضاء البور حاملاً على كتفك بشارة التناسخ، من زندك يترذرذ عسل الأعراس، وكنت تفشي لبلابل العُنّاب سرّ الأهراء فتنداح وتنسكب الأرض المشاعة بين ساقيك - لك وللأتباع - نعيماً وملاعب. لكن، عندما جلست وفتحت الكتاب، وبّخك البياض فأجفلت وقلت :
أنا ظل البهاء
اقتادوك، سنةً بعد سنةٍ، عبر أرخبيل الغدر، إلى حظائر مزيّنة بالياقوت معطّرة بالياسمين. صدّقت، يا مسربلاً بالسبات، أنك في غوطة وأن السياط ثمار، فمزّقت الكتاب واستبدلت الصراخ بالثغاء.
ظننتَ أنك الأثير، المنتقى للرغد، ولم تدر أنك المصطفى للوأد. هتفت موحلاً لأعلام تجدل ألوانها في مرآة الحكم، خضعت موحلاً لبيانات تحيْون أعضاءك وتدوزن أشياءك، حتى أنك ما رفعت سبّابة أمام حربة كانت تخترق أضلاعك.
في باحة مهجورة، محرومة من ألق النجوم، تمدّدتَ على بساط المحن مانحاً جسدك العاري لغزو حاذق يبعث قوافله رتلاً رتلاً لتقتحم صدرك وتزهر صوراً ورؤى.
خيّل إليك، لوهلة، أن أنهار عدْن تجري في راحتك، وعندما انحنيت لتستطلع رأيت قبيلة من آكلي لحوم البشر تنظر إليك بحقد وضراوة ثم ترميك بسهام تفقأ عينيك على مهل، لكن الذي كان أكثر رعباً من هذا الفتك، أنك سمعت نفسك تضحك منتشياً بالافتراس وتقول :
أنا ظل الفريسة
لا، لم تكن واهماً،
نقذفك بكابوس تلو كابوس،
نهيل عليك أشباحنا الحامضة تكسر فيك حصانة الغيبوبة وتطارد شيخوخة أيامك وتحرثك كما الهلال المنجل يحرث الليل،
نكون فضيحتك في ساحات الدول،
وعن كثب نحصي تشنجات العبودية فيك،
أما تكفيك انهيارات ؟!
بين سياج الخيانة وفضاء البراءة نلمحك جاثياً تحفر وجهك الندوب ومن أكمامك يشرّش النمل، لا العبادة طوق ولا الهرطقة. محض تاريخ قابل للاستهلاك، تنكسر في صحن غرفة مغلّفة بالرياح، وعندما تحدّب زمنك تشبّ فيك الخيبة فيما تتأمل رأسك وقد صار علفاً
لكبش حليم يبارك النعمة.

4

ينحني على زبد السماء، يملأ رأسه الشاغر (إلاّ من مصابيح تستبدّ بها الظلال) بكوكبة من السحب الشامخة، ويمسح بأصابعه المرتعشة على هامات التضاريس الشاهقة، ثم يطلق الوروار في مجالس الأطفال.
ياله من شهق يفضح السفح
يرى إلى كل شيء
مثلما يحدث في يوم ممطر.
كان يرعى قطيع المدن (التي تتدافع نحو كتفها كل ضحى). مرةً جرّب أن يسعف السيل من خطيئته، وكلما حاول أن يرأف بالحظائر، تذكّر أن الغيم سلّة مكنوزة بالعصافير، فيميل ويملأ شاغر الرأس، حين يتعب، يضع مصابيحه أمام القوافل و يقطع عليها الطرق. لعل، فيما يستريح وينام، تصحو المدن، تخرج من قطيعها، وتكتشف - قبل فوات الأوان - أن الأوان قد فات. وأن في الصوّان ماء، ماء كثير، وينبغي لها أن تبسط مائدة الكؤوس وتسأل الخبز.
جاء إلى الوقت الجميل
وكان في شغف لموهبة البكاء
الساعات القليلة، التي كانت شاسعة بحجم دم نبيّ، منحته بكاءً لا يضاهى. للأصدقاء أحضان تكفي، وله أحزان لا تقاس. كأنه قنصل الفجيعة. كان يصد الجيوش، وحده، حتى لم يبق في جسمه فسحة لغير الجراح، جراح لا تندمل، تتطاير كالنحل لتعود أغنى رونقاً ومهابة. كله وجع. جاء إلى هنا، ليس للقيلولة، لكن لتدشين اليقظة ونزهة المكابدات.
لماذا كان الهواء المتسوّس على غير عادته، يغوي بمتعة الشوارع ومشاغبة الشجر ؟
صديق له، قال : هات نشيجك. هذا الصدر لك.
ليس سهلاً أن يأتي، ولم يكن سهلاً أن يغيب. يعرف أن جراحاً كثيرة تنتظره لتغسله بالنزيف، لكنه جاء. حمل كل بكائه وجاء. كأن البكاء ليس مباحاً إلاّ هنا، تحت شجرة تحنو على الشارع وتسند الهواء لئلا يسقط.
هل تذكره، ذلك الفتى : غزير الأحلام، مكسور الشفتين، وحيد الكلمة.
هل تذكره، يوم أقبل مهتوك الفؤاد، مفقوداً من قبيلته، مضرّجاً
بالرؤى.
هل تذكره، يطرق الباب فتسأله، من أنت ؟
يقول : لا أعرف.
(كلما أثقلت عليه بالأجوبة، مات عنك قليلاً. وحين تترع له القلب، ينمو كالنبات، مأخوذاً بك، ويتماثل للموت فيما تتماثل للشفاء.)
هل تذكره، وأنت في طين التجربة يشدّك مثل الأمل. قلبك في يد، وجسدك في اليد الأخرى. ذلك الفتى الرهيف كالومض، الخفيف كالوردة.
هاهو يحلم. إلحق به قبل أن توبّخه الصور ويغتاله المشهد:
لأنه مات قبل أن يولد.
منتحباً يقول :
متى أطفئ ظلمة هذا الكوكب
وأنام ؟

5

تدفعين بي إلى شفرة الكوابيس الناهضة في العراء النابضة بالعواء
بينما
تهبطين
في
نعناع
النوم
تبرأين من الانتظار كمن يسوق المصادفات الجليلة بين سرير يحبس الأحصنة وشكوك تخدع اليقين،
تمرحين في رابية مريّشة بمراهقات ضاحكات يحصدن الذرة وتارة يمشطن شعورهن بسنابل مضيئة،
ومن الليل الواشي، الأكثر بذخاً، تأخذين حقائب الرموز.
ها أنت في النوم
يا امرأة تلهم مياهنا الموحشة
ولا من يقدر على فك ألغاز كوابيسي.
القواميس في اضطراب. واسمك مأخوذ بخجل المجانين الذين هم في هدأة الولوع
لكن،
مَنْ أعطاك هذا الاسم الذي تتدلى من شبابيكه أمطار خائفة وشهيق كأنه تضرّع الروح ؟ من غرّر بأوصالي كي تستباح بمثل هذا البهاء الفاجع ؟
لست بريئة من الدم، فما من قميص إلاّ ورائحة رضابك الغادر ممهورة على أردانه
لكن،
ها أنت في النوم الوابل
وأنا في صهيل الوحش وغربة الذبيح
موعود بفتنة القصل.
كتف في الوجع
جوع في القدم
والعين تبحث مهتاجة عن بَـلبلة
لماذا لا أرى منارةً تخلو منك كي أصرخ :
ها هنا،
في هذا الجزْر المختنق بالفاقة والسِّفاح،
مكان شاغر ينبغي أن يُهدم.
وحدك تمنحين المنظر رخاء المدّ، وتهمسين لأقنعة الرغبة أن تسرح في ردهات الشريان،
وحيدةٌ تذهبين إلى النوم
وحيداً أتصاعد في عطارد الجنيّات كمن يتشبث بالهاوية وينسى
لكن،
كيف يجرؤ جلدك على نسيان أمشاطي الحائمة حول نهديك تقضم، بطيئاً، نور ثمارك وتعصر الذهب على جبين المملكة ؟
ذلك الوجر زاخر بثعالب صغيرة تتمرّغ في أنحائي كل عشيّة. ثعالب حمراء ألقّنها صلاة التضرع لرقبة مصابة بوجل الناسك وتهدج الشبق.
مدججة بالوعود كنتِ. قلتِ : في السَحَر يتألق الجسد.
صدقنا، أيتها الكاذبة الجميلة، ورحنا نزيّن خواصرنا ببهارات جلبتها الجدّات من المخازن البعيدة، ووقفنا عراةً إلاّ من الأمل. فيما كنتِ، أيتها الماكرة الوديعة، تلطخين الوشاح بالنوم
شـجرة في الكلام أنتِ
حنجرة في المياه أنت
مَنْ أعطاك طبيعة النصل وجرأة انتخاب الأسماء ؟
وحدك
وحيدة في النوم
ووحدي
لكن،
قلتُ لك : افتحي النافذة كي أعرف أن لك داراً تشرف على المساءات كلها، فبدون هذه العلامة الرشيقة لن يتسنى للهزيع الأخير أن يتثاءب ويدفق الأحلام في روحي.
قلت لك،
لكنك أوصدت النافذة ومحوت الدار، فهربت المساءات وظل الليل الحزين يلملم أطرافه في عربة لا تقود إلاّ إلى الفناء.
يالك من وحيدة ..
وحيدة مثل نجمة في سديم
آن أن تخلعي هذا المطر الوارف وتسعفي التوابيت المحْدقة بك أشبه بجوقة جاءت لتبطش بالحلم. النوم ليس ملجأك الأخير. تنزلقين من مأتم إلى وليمة عامرة بالقتلى، فيأخذك اليأس إلى ملجأ أشد فتكاً. وأنتِ وحدك.
آن أن تكتملي مثل فراشة المحنة
وتكترثي بطريد الكوابيس المبجلة،
يا الغائبة مثل قناع ينبش في الوجه
يا الغارقة في عسل الغدر،
ارفعي خمارك المطرّز باليقين
وانظري ..

6

أطلّ عليك، أيتها الفاضحة، مذعوراً من هذا الشهيق،
السحيق كما الهاوية.
لم أعرف سريراً بهذا البياض والشسع
أتشبث بذيل المعجزة :
فلربما،
حين يخذلني الحديد،
يسعفني البياض الرحيم.
أطل عليك
مغموراً بالمستحيل كافراً بالنعم :
فلربما،
في سرير رشيق كهذا،
أخرج من جاذبية الموت وتدلّني البوم إلى الجذوة،
آه، أنتِ هناك، في طيّات نجمة داجنة تغوين أصابعي لتسوق - في رواق الغيم - بغلات حنونات تحمل شفاعة البحر. تراودينني كي أقفز في البياض اللامتناهي. بلا طمأنينة، أذعن لمهرجان الوسائد.
آه، هناك أنتِ .. عارية مني
وأنا هنا.. عارياً منك
لا بياضك الوسيع يهب جحيم المغفرة
ولا بياضي المتجزئ يدفق الدم في الثلجة المقدسة
مباغت بالغياب. أرى إليكِ متهاجة، تفقدين أقراطك في غيبوبة الخندق. تقولين عن بهجة الرفقة فأخرّ في نحيب مكبوت. أقول عن السنواتْ الضوئية التي تخلع القلب وتفصل ما بين جسد مرضوض وجمرة متحفزة للهجم بلا هوادة.
كأنكِ لست جنيّة البحيرة
كأني لست الصدفة المبهورة بالضلالة
ذلك الصباح ليس للنسيان
فقد كنت سجين زندك
أباهي بأجمل أخطائي. بأكثرها قدرة على المعصية. أرتقي سديم الطفولات. تحتي السحب وفي رأسي تحتدم الشهب.
في خندق منسي، اغتسلنا بعرق المبارزات. تبادلنا رعب القتال وهزيمة الجسد، مَنْ منا كان فارس الهزيمة ؟
قلتِ لي عن الرفقة
قلت لك عن الفراق
وها أنا أشرد بين سماء ليس لي
وأرض لستُ لها.
عندما يعجز الجسد عن التعبير، ترتعش الروح مثل زلزال
ووئيداً
أتصاعد في شهقة قديس
يحتضر أمام بهجة الحديقة

7

أجلس في حاشية المليكة
كاحلي في جمرة المزيج
أشرد بين هزيمة ومطاردة وليس لي راحة في مكان
تاجها مكلّل بالثلج وبين أردانها ريشة الغرور
انتخبت لها عصير الدوارق لئلا تصاب بسأم الرفقة
ترى إليّ مثلما تنظر في مرآتها المعتمة
هودجها الخفيف برج مراهنات.
كل ملك يبعث سعاته :
يبذل الحب من هنا يبذل الحرب من هناك
والسواعد الخبيرة تحمل الهودج وتحميه
رشيقة مثل قلنسوة البهلول.
جلست في حاشية المليكة
قميصي متروك في مخدعها
وهي تستجوب جسدي عن تاريخي الصغير
من الكاحل حتى الكاهل
هذا هو تاريخي الصغير الذي أدّخره.
- من أين لك كل هذا التراث ؟
سعاة الملوك يلهثون في فيء خطواتي
كنتُ في ذهب السبات، في منجم الليل الزاخر بالغرابة والمجابهات
كنت في حاشية المليكة
وكانت تمنحني كنزها المكنون.

8

ها أنتَ.
جثة حولك، أكثر حضوراً من الحياة
تغتصبك، ولا تصير ذكرى.
جثة طاغية،
تشعّ كلما لامستها بنظرك.
جثة صديقة :
ثمة رفقة لا يأخذهم الموت
ولا يذهبون
ها أنتَ،
كلما شردت في جنون المجابهات
بين سماء ليست لك
وأرض لست لها
طلعت من أقدامك الحمم، وصار للجثة الرفيقة معادن موصولة بعينيك، حتى لكأنك في حضرتها مصلوب في زئبق مرآة لا تغيب ولا تخطئ، ولا تطالها الغفلة.
تضع يدك في المرآة كمن يسأل
يدك القديمة المصابة بالتجربة، تكتسب طاقة النبات، يتدلى من عقابيلها الدم الأخضر، ويتطاير من مسامها الوحش الكامن. يد شرَّشها الموج والملح، شاغلتها خميرة الطين وصلصال الوقت
آن لها أن تذهب إلى ذاكرة المعادن ومكاتبات الشريد
يدك القديمة المفعمة برفقة مكابرة.
ماذا ستأخذ من مرآة مباحة
وجثة تخترق المكان والوقت
ها أنتَ
يسألونك عن النص، فتنسى الكلام
يبغتونك بالمخيّم، فتصاب بالغموض
ها أنتَ
يدك في فتنة الرؤيا
لكنك تزيّن المنظر
بأنخاب جثة
تعال إلى جهاتٍ فاتكةٍ تتبادل الموتى مثلما تدير الرحى
تعال إلى هيبة الناس وهي تهوي
في الكتب والقباب وموائد القنافذ
تعال، ذخيرة العشاء منذورة لفجيعتك
أنت الذي
ما من زنزانة إلاّ ومنحتك دفئها وأشباحها الجدارية
ما من دم إلاّ واتصل بدمك ودنانك المترعات
ها أنتَ، ها أنتَ
لم تزل مقسوماً بين زنزانة لك
وحانة عليك
تلمس قرينتك الجثة فوق ركبتيك
ولا تكاد تقوى على هدهدتها لنوم مؤقت
لعلك في سبات الكلام ها أنت ؟
لعلك في وهدة الصبر ها أنت ؟
لكنك لست جديراً بغير الطريق الغريب
لست / لأنك قنصل المأساة وبغتة الفتك
لست / لأنك رفيق ثورات تتقمط بخيوط الكفن
لست / إلا قرين جثة لا تموت ولا تغادر ولا يغسلها الوقت.
أنظر إليها - إليه
يخطئ الخطى ويضرّج المداخل بلهوه ؟
تتماهى مثل شحرور لها الهواء مسرح وسترة ودرج رشيق /
ما أن يفتح كوّة الذاكرة حتى تعرفه،
تعرفه، تحس به كأنه هنا
وتكاد..
كأنه أنا :
سمّوني صاحب اليد
رحبة. تبعث بالكائنات الصغيرة من مكامنها. صديقة لطفولة يائسة. في راحتها تغفو دواجن المدينة وتمنح الظل قبعّةً لناس الفرار
سمّوني صاحب اليد
أضع اليمامة في تاجها كما في كرسي. يخرّ جاموس السهوب زارعاً قرونه الرهيفة في الذراع والمرفق، ويخضّب الرسغ بقرمزه الفائر.
ليست يداً.. يتمتم الجاموس.
يا صاحب اليد
يا البرزخ بين الزنزانة والحانة
ماذا تسمي حصاة مقذوفة تتصاعد، وتطير بلا أجنحة ؟
ماذا ترى في الأفق غير الفخاخ المنصوبة مثل مشاعل الطرقات الليلية ؟ ماذا تسمع عندما تطاردك الأجراس والقباب والكتاب ؟
سمّوني صاحب اليد
ولستُ إلا نورساً يتدرب على فن الذهاب إلى تلك المصائد كمن يجلس إلى وليمة بحر، أحصي المؤامرات وأقتحمها مغروراً. فعلى هذا الرسغ الآمن كان لهم أن يجربوا كل ضروب القيود، ويطلقوا كل براثن الدغل.
ولستُ إلاّ موجة ترتطم بعظام منسية على خراج الشطآن.
لستٌ إلاّ مجد الهواء الذي يتهدّم عشية كل هزيمة.
وتحتشد أسراب الطير لتنال اللحم المهترئ بفعل النسيان، حيث لا عظام إلاّ وكان للوحش حظوة. مأدبة على شرف البحر.
أجلس إلى الوليمة. الفخاخ كلها لي، وليس لي أن أخذل التوقع وأخيّب الظن.
هذا هو صاحب اليد
يخذلكم للمرة الأولى والأخيرة.
ها أنت
جثة أخرى تشعّ من حولك
وأنت تتخبط في جوقة المجابهات
لستَ في جنون ولا ينتابك الوهم،
إنه هو، إنه هنا،
شخص يختزل التجربة
ماء باسل ينبثق من تحت أظافره
يؤثث الإسفلت بروايات الاغتيال المربكة.
ها أنتَ
في حضرة المواقد، ثلجة، في شرفتها تعبر المواكب.
نسمع في شرايينك رائحة الغسلين
مثل نفط يخلع نكهة الماء عن الطين والغصن
والمجابهات
ها أنتَ
ترى إلى المجابهات كأنها في الكوكب البعيد
وكلما طفر ماء الشهوة من ضفيرة
راح الطهاة يؤججون جمراتهم تحت سفّود البهجة.
شخص يلذّ له أن يبغتك بتحولاته
من طبيعة الجثة إلى شبق الجنين
ويُتاح لك أن تسأل : جثة أم جنين
ويتاح للشرق أن يفقد عادة القتل
ويُقتل.
يخطئ الخطى
كأنه حنجرة البحر موشومة بملح الأقاصي
وأنت
كأنه هو
سمّوني صاحب الرأس
قنديل العرّافات. لم يعرف الخطأ إلاّ ليدفع الصواب إلى التهلكة. انتقل بي من أنين الدروب المغمورة بغبار الغياب إلى زنزانة الليل. ومن طنين الحنجرة المبحوحة إلى حانة المبارزات، قنديل، راق لهم أن يدفعوا به إلى الغيوب والغياهب.
سمّوني صاحب الرأس
لئلا تنقض العذارى لهفتهن لعناق الفتية المخبولين بنطفة الملاك،
لئلا تستفرد الهاوية بأحفادي،
سمّوني، ولم أكن جديداً على الندم،
لئلا أقف على شفرة الرؤية لكنني فعلت
لئلا أتذكر أصغر الطغاة شأنا لكنني فعلت
لئلا أترك أثراً لخطواتي الهاذية لكنني فعلت
سمّوني صاحب الرأس
وكنتُ أجلس في وردة الوقت في كمين المدينة في وحشة الغريب في راحة المطارد في خديعة العشب في شرق الغروب في الرغبة :
أن أنجو من النار
أن أنجو من الجنة
في صلافة اللغم وهو يفتك بي لتبدأ الفتنة
في شهوة اللغز وهي تغوي كل ذي فطنة.
هذا هو صاحب الرأس
يخذلكم للمرة الأولى والأخيرة
ها أنتَ
كيف، من جبّ إلى جنازة إلى جبّانة
كيف، ترى إلى كتائب الضباع تقود الدواجن إلى التنور
وأنت
في شفير الرؤية
لا تمدّ ولا تميد
ويفيض النحل من مقلتيك.
ها أنت
في غيلان تتدافع، تتكاسر على جثة شاعرٍ تكاد تكون جثتك. ولحمك يتخلّع من العظم. ترى، وتسمع
العربات تصهل على أطرافك الثملة
ويقال أنك آت هل أنت ؟
ويقال عنك الكلام هل أنت ؟
سمّوني صاحب النخلة
لكنها ليست لي.
حلمت بأطفال موصولين بالماء والخشب. تنساهم الكتب وترأف بهم وحشة الدار. وما أن أسعفتني الرؤية حتى خذلتني الكلمة.
وفاجأني الوقت
أوشكت أن أعلن خاتمة النحل
اختلج في صدري حيوان الحزن
وفي أرداني الخجولة فاض النرجس
سمّوني صاحب النخل
شامة في حدقة الكلام
لكنها ليست لي
لتشنج الريح وهي تشحب

9

انظروا إليه،
هذا المتوقد الحدقتين مثل أفعى الأساطير
يندفع بي نحو الهذيان الدافئ،
كمن يذهب إلى حضن الأم الرؤوف.
نترنح مثل ملوك الحانات، ويقول :
هذا يكفي
هذا جدير بنا، أنا وأنت
لسنا أقل
نحن العدد الهائل
أحدنا لم يمت
والآخر لم يمت
والآخر لا يموت
نتوغل. راقَ لنا أن نبرأ من خرافة المفؤودين
بفتوى السباع ومنطق الهوام.
لن تلتفت لسلالات تتناسل من جيفة اليقين التي تصعّر خدها لجلافة الأجوبة.
لن تلتفت لمخلوقات تزدوج في كل مرة يرفّ لها جفن، أو نبض في عروقها دم. دم يتعفن كلما ازدوجت.
لماذا تلتفت وأنت مليك حريتك :
تهذي وتهندس
تهدم وتهذي
لماذا إليهم، وأنت سلطان الوحي الوحش
الذي انطلق بك من المخيّلة
لماذا إليهم، وأنت إلى الكوكب الغامض البعيد
يأخذك إلى اللانهائيات المتروكة من ملايين السنين،
لماذا إليهم، وأنت إلى مكبوتاتك الجميلة
تخبّ بك مثل خيل الرياح الخاطفة
لماذا إليهم، وأنت في حرية الثلج الهاطل الحنون
يمنحك دراريعه الأنيقة
تدسّ رأسك العارية في الأبيض المعصوف
لتتسرب حيوانات الجليد الصغيرة إلى غرف الرأس الملتهبة
فلا يزيدك إلا هياجاً وشبقاً.
كأن بالكيان الذي وضعت عليه أعضاءك
العاطلة يهوي بك إلى لذة تنتشل
عناصرك الرخوة من غفلتها
لماذا إليهم،
وأنت إليك.

10

ها أنا في المتاهة، وهو يعبث بي.
يدي في أخمص النار
يدي في خندق في خناق الخديعة
والمتاهة في تمادٍ
أيها الخلد الخجول، خدين الينابيع، المستوحش في أعراس الناس، مروّض الحكايات.. سعت إليك الحباحب كي تسعف شيخوختك الماثلة في نحيبك المكتوم، والتفتت إليك الجنّية في ظهيرة النص كي لا تنال منك الغفوة.
تذكرها ؟!
صديقتنا الجنّية ذات الوبر المترف، التي ما أن ندْعكَ جسدها بفحيح شبقنا، حتى تتفصّد الجنادب من تغضنات لحمها المكتنز، ويتصاعد حريق الوبر من إبطيها متغلغلاً في حجرات القلب السريّة، فيتألق هياجنا ويرمينا الحدس والهجس بنبال الهلوسة تشعل فينا الحمّى الباذخة.
تذكرها؟!
تلك الجنية ذات الوبر الأزرق الذي يغري جوقة العناصر بفتنة الصراخ. يروق لها أن تسمع ذلك النداء كأنه يلامس خبيئتها الملكية، تنتظر خروجك من اختلاج المرتبك المهدّد بالإغماء. تنتظر البراكين المكتومة. وينتابها الشبق الشاهق وهي ملهوجة تبحث فينا عن ملاكٍ شرس تمنحه تاج الخباء، ذلك الجرح الوحيد.
ما من أحد يجلس في حاشيتها إلاّ وينال من ذهبها الشامخ.
تذكر؟!
قلت لي : أية صداقة هذه التي تذهب بنا إلى التهلكة !
وكانت كل الأبعاد محروسة بها.
وقلت : حين أصل ذروة الهذيان
سيكون الدم العاهل دليلي.
صدّقينا أيتها الجنية المشتهاة، إننا لم نترك بوابة من مداخل جسدك إلا وحاولنا اقتحامها. كل بواباتك على الإطلاق، سرية كانت أو مباحة. وكنت المحصنة بشكيمة الأعداء وغفلة الأصدقاء وتخاذل السعاة.
ممنوعة علينا، بعد أن كنا حاشيتك الرافلة في أهدابك.. نحن عشاقك المولعين بك منذ الهديل الأول لهذا الجسد. عرفناك وريداً وريداً وخليّة خليّة. لم يكن يمرّ علينا يوم دون أن نلامس مسامك الملتهبة بأطراف أصابعنا الجائعة.
آه، أيتها الجنّية التي ليست مثل النساء.
منذ أن وقعتِ في يقظة الرقباء، وصرنا في الانتظار، لم يكن لنا شغل سوى إطلاق العنان لمخيلتنا ترسم لنا مشهد اللقاء المنتظر. ومن المنافي رصدنا جسدك الذي يفتن أحلامنا.
حفظنا حركته نأمة نأمة. ولم ننس لحظةً تلك التفاصيل لكل بوابة من بواباتك الخمس :
فنرى الهيكل يتطوّح كالخشب المتسوّس على رؤوس محنية تعبر قوس الهزيمة بلا غطاء.
أنظري يا صديقتنا التي من الجحيم
ها نحن، لم نزل، نتشبث بأعضائنا المشحوذة على بشرتك الثلجية، مستعدين للامتحان الفاتن، حين تنادي مداخلك أنفاسنا لساعة اللقيا.. حيث البداءة الضارية.
أجلسني أمام الورقة
قال لي :
الفتنة نائمة، أيقظها.
وكنت شغوفاً بالأبيض الماكر،
أكاد أن أسأل : مَنْ منا سيغوي الآخر
وهو يصرخ بي من خلف قرمزه المستتر :
أيقظها.
هذه الباهرة المجبولة بحليب الغموض. ما أن أضع عليها رحيق الثمرة المحرّمة حتى ترتعش وتخضلّ أطرافها، ومن كبدها ينبعث ذلك الزفير المثير
ينهرني :
أيقظها
كمن يدفع أشلائي إلى هاوية العناصر التي تنحدر من الكهوف نحو اشتباك العواصم.
اختبار الكتابة في غفلة اللغة
هذا هو النص
ها أنت الآن، أمامك الفتنة :
بياض
خريطة
إغواء
تهفو للملامسة
تقدم وأيقظها
مَنْ أنت حتى تكشف عن الشباك التي أتوارى في سديمها.
مَنْ أنت لتجس حديد القلب وتبذله لفضول الطهاة والصيادين
مَنْ أنت يا من تضع الطريق أمام خطواتي وتسمّي الورقة
خطيئة الصمت
دعني
دع الصخرة المشتعلة تلتهم أحشائي
ولا تسأل عن هندسة الذهاب إلى ماء المعنى
دع لي الجلوس أمام بياض السفر
أهذي ويعصف بي تيه الرفقة الذين يقذفونني بالأحصنة من خلف متاريس الغربة، ويقذفونني بمفاتيح سجونهم لئلا أغفل عن البياض
هكذا هو :
تستحوذ عليه غيبوبة النص ويمضي مثل كبش مقصوف الأظلاف، يسعى إلى اجتياز الأعالي ليصل إلى شهق الجبل، ليقف هناك ويشير بإصبعه النحيلة :
أنظر،
هنا يكمن عسل اللغة وخبزها
خذ قصعتك ولا تخذل رفقة
ينتظرون صوتك
يحلو له دوماً أن يهندس ويهندم ويجترح الخارق
ولا أقوى على شكيمة ذهابه المجنون
أضطرب، أهمس له بوجل :
لكنه الخوف
فيثق أكثر :
جميل الكتابة أنها تجعل القلب يرجف مثل
موجة خائفة تحت وطأة الريح المنبعثة من
جحيم الأعماق.
تشبث بخوفك،
ولا تدع الفتنة نائمة
هيّا،
القتل هناك أقل موتاً.
كلما سهوت عن النص، تسللت إليه الغزالة المصابة بالخبل، متخفية في زيّ غزالة مثلها. تفزّ من شباك الصيادين الوسيمين، تركض نحو داري المثقلة بالتخاريم والنمنمات، وتجلس في هدوء خبيث لترقب فجور الحمّى في ليالٍ لا تنتهي.
تتحيّن غفلتي كي تتسرب من الحبر والحروف والجمل (يحدث كثيراً أن يختلط عليّ شكل الكلمات مع مخلوقات وعناصر لا تحصى) وغزالة مأخوذة كهذه، تقدر على تقمّص الأشياء والحالات، تستعصي على الوصف والأسر بفعل ما ينتابها من هياج، لكنها تحاول اقتحام تخوم النص ببسالة.
صديقي الخلْد يواري ابتسامته الماجنة ويسمعني سخريته المكتومة :
- كيف ستتصرف هذه المرة. إنها تدخل مصيدة النص، وسرعان ما تتخبط بين براثن الدلالات وأخلاط العناصر، حيث المعاني اللامتناهية.
هاهي معجونة بالوجل، لن تتوقف عن الأسئلة، ولن يطالها اليقين.
ماذا ستفعل لها أيها الضبع الأرقط ؟
صديقي الخلد يتقن اقتناص اللحظات الباهرة ببراعة. يتمتع بغريزة الصقر وبموهبة الأصداف. وسوف يداري ابتسامته الماجنة دوماً فيما يتأمل الغزالة وهي تتوغّل في أدغال النص، مفتونة بالهذيان ولا أحد يحسن استدراج غزالة مخبولة مثل خلد ماجن.
لكنني سأقتسم معه سرير الملكة ونستغرق في إغماءة لذيذة بداخلها نتيح للمخيلة حرية الفتح بنص يفقد جواشنه في مجابهة إجتياح باسل.
ماذا تريدين منا أيتها الغزالة المرنة ؟ تركنا لك حرية مراقبة المشهد، صبرنا على سهرك جالسة في حافة الميدان تلملمين الشظايا التي تخلّفها الكواكب ومبعوث السديم، فيما كنا نتبادل العراك.. أنا وصديقي الخلد.
قلنا لك عن فزع النصال ولهب الصلصال
حذّرناك من الشهوة الجارفة
التي تفتك بالغريب في الليل
وأنت وحدك.. وحيدة
أنظري ماذا فعلت بنفسك
ها أنت عرضة لمزاج الطهاة
وهدفاً لقناصين يبدأون تمارينهم للتّو.
من الذي غرّر بالصبية ؟
يسأل صديقي الخلد، وهو الذي يهندس الشراك لقدميها الغامضتين منذ أن تعلمتا حركة الطريق.
يسأل، وهو الذي يمتلك بصيرة السعاة. هو الذي كان يصفّ لها أقداح الخمر على حافة المسالك.
يتقمّص حكمة الذئب ويؤرجح رخام البستان لينشد التهويدات وتراتيل العربدة.
الآن يسأل !
كأنه لم يطلق جياده المخبولة لتخبط بحوافرها المتآكلة عنفوان الصبية وهي تكتشف الجنس. كانت الأسوار عالية والصبية تجهش في صخب المجازفات. وكأنه لم يسدّ عليها الباب ليحتقن جسدها المذعور بين ساعديه.
يسأل، صديقي الخلْد، وهو خدين الفراشات، هاتك أعراض العذارى، منظم رحلات الصيد الملكية، ملك الغواية.
شخص يتقدم في ابتكار أقنعة الساحر. يتميز بمواهب الحاوي ويقظة البهلوان. ما أن يضع أنامله على كتف الصبية حتى ينتابها جنون المغامرة، حيث لجسدها اشتعالات الملاك وهو يبطش بعناصره، فلا تكاد تلتقي برجل حتى تجذبه إلى عشب الغابة وهو في الضرام، تفرك أنحاءه
بالوحل حتى تتصاعد رائحة الأخلاط وهي تتمازج.
ذلك الممسوس يخرج من جحيم الرؤيا، تستغيث به مخلوقات مصابة بشهوة الفقد. حين يدفع بها في تخاريم اللذة، يختلج جسده كأنه سيموت
هذا الذي ليس للموت
لكنه يسأل عن الذي غرر بالصبية.
كانت محاطة بورع الأوزّ وخفر الحدآت. مشغولة عن مكامن الولع في كيانها بتطريز العباءات لنساءٍ يحلو لهنّ الذهاب إلى الحزن بأردية مشغولة بالقصب.
كانت، عندما تغتسل عن حيضها، تتجمع عوانس الحي وعواقره، يركعن ليلمسن بأطراف أنوفهن ذلك الرحيق القرمزي، وروحهن مفعمة برجاء المباركة.
كانت لا تلتفت لجهة إلاّ لتفادي نظرة رجل يتخابث. تبرأ بنفسها من صهوة الفتنة فتصاب بغفوة الرعشة.
كانت .
تلك الصبية التي كانت،
سيملك هذا الخلد الفاتك أن يسأل عمن غرّر بها.. الآن.
يا صديقي الخلد
ها أنت تتخبط بين أجمل طرائدك الهتيكات، وبين أخلاط العناصر القادرة على البطش بمخلوقات تخلقها وتغدر بها.
ها أنت تطاردني بشبق الناسك،
تخدعني بالكتابة، وتخدع الكتابة بي.
هكذا، نتكاسر مثل نمرين على حمل مذعور.
من أين لي أن أد فع بأشلائي في النص وأنت تكتظ به
كوكباً ينتحب، تضيق به حدود المجرّة.
تسأل، والصبية تجهش بكلينا.
وعندما يحين وقت الموت
لا نجد أحداً يموت معنا.

***

العاصمة الرابعة

1

هكذا تجرجر، هكذا يا شعب الجهات تجرجر دمك المشعّ، الأنقى من ماء الورد، وترجّ في مسيرتك العظيمة طمأنينة جيوش أيقنت منذ زمن أنك اندحرت وانك اندثرت وصرت صنو الغبار، لكن هاهي تستنفر آلية العنف في معسكراتها وتنتظر مرورك بشبق لا يوصف.

إيه يا الدم العادل،
توزّع رائحتك بالتساوي - قطرةً قطرةً - عند مشارف عواصم شرهة تزخرف قبابها بأردية الاغتيال. ولك الحظوة دائماً، من وكر إلى وكر تمشي وحولك تطفو براقع الغدر مخبئة أجناسها السفّاحة تحت الجلد. ما من متراس إلاّ وصان بعضاً منك وهَدَرَ بعضَك الآخر. وفي الهشيم كنت، نذكر ذلك جيداً، تكبح الدمعة لئلا يسمع رنينها ذلك الطفل الجالس على مصطبة، ملتفعاً بخرقة بالية، يرنو إلى تشنجات الحربة المنغرزة فيك، ويرقب - باسماً - موتك أو بعثك. لكن، من معصمك، كان النشيج يطفر خلسة وينتحر من فرط الخجل.
إيه يا الدم العاهل،
ما كان ينبغي أن تتواضع إلى هذا الحد، وتساوم الممالك الهشة من أجل زقاق تجري فيه بلا رادع ولا أمل، كان الأجدر بك أن تنتزع أحشاء المدن، بما اشتهرت به من بأس وأنفة، وترميها بإهمال في صحن بلاطك قرب فهودك الحمراء ذات الأعين البرونزية. آنذاك ستأتيك تباعاً وفود الممالك مادةً أعناقها، صاغرة، ممتثلة لأوامرك. لكنك آثرت التظاهر بالوداعة، وحسبت أن الأغماد - التي لا ترتوي إلاّ بك - سوف تتنحى جانباً وتلتمس المغفرة، ما احترست، أيها العاهل الحليم، بل صالحت وصافحت ذاك الذي لا يرتوي إلا بك، ماذا ستقول للمرأة الجالسة على مصطبة، مغطية وجهها بوشاح الذهول، وهي تصيخ بقلب راجف إلى هجرتك الضوئية من كثيب إلى كثيب ؟ أية ذرائع ستتلو هذه المرة ؟
في صخب الجثة كنت تركع خاشعاً وتصلي،
بدأ يُصفّر. الشاب (الذي سوف يُقتل بعد قليل) بدأ يصفّر. لم يكن يعزف لحناً، إنما هي إشارات خاصة لا يفهمها أحد سوى حبيبته (التي سوف تُقتل بعد قليل) والتي تقذف بالكتاب جانباً وتهرع نحو الشرفة لتطل منها بلهفة ووله. إنهما الآن يتناجيان بلغة خرساء لكنها مترعة بهديل الغزل، مرهونة إلى الحب وحده.
نظرات ثملة، بالغة الشرود، تتوجس تارةً، وتهيم تارةً في فضاء المتعة المحرّمة، يبلّلها عسل الحلم وحده. تطل الحبيبة فيتضوع المكان كله بأريج لا مثيل له. ليس أزكى من رائحة العاشقة "يقول الشاب الواقف تحت شجرة شربين (سوف تُقتل بعد قليل) فيما يتأمل جمال الكون المنطبع على وجه حبيبته.
من يجرؤ على تدنيس هذه اللحظة الحميمة غير الجارة النمّامة (التي سوف تُقتل بعد قليل) والتي تتباطأ - أثناء مرورها - مختلسة النظر إليها ثم تسرع لنشر النبأ في الأرجاء، وحتماً سوف تصل الأقاويل - مع إضافات لا بد منها تبتكرها المخيّلة الخصبة - إلى أسماع أبيها (الذي سوف يُقتل بعد قليل) والذي يندفع بقوة منقضاً عليها ويكيل لها الضربات وهو يهدر ويتوعد، بينما الأم (التي سوف تُقتل بعد قليل) تحاول أن تتدخل لحماية ابنتها لكن دون جدوى. أما الجيران (الذين سوف يُقتلون بعد قليل) فيضربون كفاً بكف ويهزّون رؤوسهم أسفاً على السلوك المشين.
قتلى هنا وهناك، يهندسون مشيئة الموت. ما أجملهم !
للجرح الفاغر رائحة النعناع،
للجرح الزاحف في احتضار الأسلحة باب الجنة.
ماذا كان يفعل الرجل العنيف، الموغل في بدائيته، لو لم تكن هناك ضحية تلهم القسوة وتفتتح المطاردة.. أو ربما المجزرة ؟
لو لم يكن هناك طاغية يتوسّد مصالحه ويخطط للمحنة.. أو ربما يرتجل الفتنة ؟
العقبان، التي دارت دورتين، غضّت ثم نأت، فقد كان الله - وقتذاك - يحتضن دموع القتلى. كان يحرس المعاصم التي يتناثر منها هتاف غامض. كما لو أن الضحية ترفض أن تغادر هذا العالم دون كلمة، دون أن تعلن للملأ أنها -منذ البدء- النموذج الذي يُحتذى والذي يتكرر كلما أسفر القتل عن وجهه.
كان الحجر - وقتذاك - يضحك. للبيوت محاجر وأفواه. في أجوافها تحتشد الأشلاء. لم تعد المساكن آهلة بالأحاديث الودية والوشوشات الحميمة والصياح الأليف. صارت الأجساد تتلاطم عند مداخل الملاجئ راغبة في الاحتماء من قبضة الحديد. أما الطيور المحظوظة فقد حطّت على التلال المجاورة مشرئبة إلى خشونة المشهد اليومي : معدن يحاصر الحجر.
حصار كالوأد.
ثمة ظلال تخرج من المرآة. عجائز حاسرات إلا من نمش الفجيعة، يحملن دلاء فارغة، ويرتقين السلالم الليفية المؤدية إلى أرياف سماوية. هناك كانت الينابيع المرحة، المحفوفة بأعشاب تشعّ كالذهب. ترش الساحرات الجميلات، الأكثر طراوة من بشرة الفجر، بمياه متلألئة بالغة العذوبة.
ماء لأولادنا !
آه لو نظرتم إلى تشققات الشفاه. كنا ننحني على أحداقهم الشاحبة فنلمح عنادل يابسة تتساقط وتنكسر. نلمح أجسامنا الهشة تعدو صارخة وفي أطراف ثيابنا يشبّ الظمأ.
بالله عليكم انحنوا لتروا ما نرى !
في أنحاء أزقة غير حصينة، مكسوة بالعويل، يتمدد أولادنا كالخرق بأعضاء مضمومة كأنها تصلي، أو كأنها تعود أجنّة بريئة لم يسكرها الضوء بعد. لا الحلم تآلف مع روحهم ولا النعيم. فقد تبرأت منهم الحياة وعصفت بهم المناجل.
ونحن، اللائي فقدن مصابيحهن في جمجمة مساء غارب، نتعلق بأذيال المأساة ومن آباطنا يتدحرج الالتماس، وحيناً نجسّ التربة بعكاكيزنا بحثاً عن ماء.
ماء لأولادنا الذين يموتون قبل أن يعيشوا !
العجائز المتوسلات، في مثولهن الخاشع أمام ينابيع منصتة بلا اكتراث، لم ينتبهن إلى صخب أطفال مجنحين كانوا ينطلقون في حبور خلف كرات مضيئة. صار الفضاء ملعباً، والغيوم حدائق. هنا، لا جوع ولا ظمأ. الملائكة أخذت تصغي باهتمام إلى فضاء يحتدم بالجلبة.
كان حصاراً كالوأد.
إيه يا الدم الفاخر،
كيف نكتبك - نحن المختارون للكتابة - وأنت تموّه مجراك ولا تترك لنا علامة أو أمارة ترشدنا إليك. تقوّض رصانة العالم وبجرأة تقتحم محفّة الطمأنينة. بك تتعرى الأرض وتكشف عن آثامها، بك يتجرد الوجه من قناعه ويسفر عن همجيته.
قل لنا، أيها الفاضح، أين ستكون في المرة المقبلة ؟
نعرف أنك صاهرت شعب الجهات، تقتفي آثارهم تارة وتسبقهم إلى المهالك تارة.. لكننا أيضاً نراك في ألف شكل، وفي كل مكان،
فمن أنت ؟

2

تجلسين في هدوء، مثل إعصار يعبث برعاياه،
بين يديك تتدرب الريح وتفقد الغيوم تيجانها.
مَنّ أنتِ حتى تكابري بكل هذه السكينة الفاتكة، تتخفين في صوتك، ترقبين المشهد، وتنتخبين الكارثة.
رعاياك في سلطة الزوبعة. تبذلين الدروب كلها لهاوية واحدة. ولما يسألك الضالون، تومئين بشالك الملطخ بضريبة التيه ناحية أرض تتناوشها عربات الرماة وتقرضها سناجب السوق.
لم يبق إلاّ أن تسمعي نحيب ليل يشغف بكائناته.
نساء ينتحبن بجلال
نساء رعاياك المغرمات بسراويل المطر وغبطة السلال
كأن عبثك الوحشي يدفعهن إلى هاوية الطرقات كلها.
استمعي
لعلك، آن يجتاحك النحيب ترأفين
وتكترثين
وتدورين بهيكلك المتخلّع نحو أقرب نهر للاغتسال
باحثة عن طهارتك المهدورة.
يأتيك قنصل الخراب كأنه
النواقيس، الخرافة، سلالة القصف، كلام الجنازة، جواز النهب، وهدة الشواهق، هزّة الشبق، مكتوم الوجع، هجوم الباشق، عندلة الأكباد، جنة الجرح، جبّانة العرس، تهويدة الوأد، فضيحة الكحول، سديم الضوء، خطيئة اللغة، اندحار الحواس، جلجلة الجرس.
يأتيك
يأتيك
يضع الصوت عليك

ها نحن النائحات نرجمك باللعنة
ترين إلينا من الأعالي
أعناقنا تحت مقصلة الوقت. وأنتِ صعيدٌ له رائحة الطلع. قيل لنا إنه لنا، يصل بنا الشك أننا لك. إذ لا أحد لنا سواك.
هل نحن أقل كفاءة من الريح وتيجان الغيم ؟
ها نحن الآن في حلٍّ من الانتظار
نحنو على جراح رجالنا ونغويهم لخطيئة ليست للمغفرة. نريهم مكامن اللذّة في أجسادنا. تلك الذخائر التي تحصنت بعفاف مكبوت. حتى أوشك التبتّل أن يفتك ببقايا تاريخ الأجساد.
لقد سئمنا موازاة الجنة بالجنازة
الجنة بالجحيم
الجنة بك
سندفع رجالنا المخذولين إلى هزيمة الأمل
سنجرعهم اليأس قدحاً قدحاً
ونذهب في خلاعة الماء
لنكون الفضيحة الباسلة

3

تقدمي
أيتها الفرس المصابة في كعبيها النحيلتين. تعالي نعجن أحقادنا بآلات حرب متروكة على حواف الشطآن. أحقادنا التي ورثناها من أسلافٍ كانوا يصنعون التوابيت من جلود القنافذ.
تجهشين منذ هواء الكهف. أيتها الكائنة المنسولة من تعب البروق وتهتّك المذنّبات. حبسوك في انتظار الخرافة. وأعطوا كاهلي طرقات محفوفة بآلات حرب تتفاقم كي تؤجل الهزيمة والنصر.
لأحقادنا نكهة احتقان الثمرة بعسلها. ما أن نزدردها حتى تصرخ جدران الحنجرة كمن يفرك الغرانيت بعظمة القلب.
سينال منا ذلك الماموث الهجين، الذي ظل يتولانا بعاجه الباطش فيما كنا نتدثر بذعر الرحيل الأول في ذلك الليل الذي لم تجد البراثن غرفاً غير أطرافنا المسحوبة مثل خرقة.
ليس للنسيان ذلك الرحيل.
جندٌ مهجنون يطاردون فتية خروا تواً من النص. سهام تعبث بنوارس تبغت المشهد بشغب يائس وتذهب إلى الجهات.
تقدمي
لترقبي مآل هؤلاء الفتية وهم يترنحون نشوة بنبيذ التجربة. يلقنون الذاكرة شهوة المخيلة حيث اللهب والشظايا ومعادن الفيزياء تقود حيوانات القرى لتفسد وليمة الليل.
معك
أيتها الفرس القرمزية الكاحلين، من فرط العراك، تقدر هذه الأحقاد على الذهاب عميقاً في ماء المعنى.
وإلاِ فكيف لهذا الجرح الفاغر
أن يسهو عن الدم الذي يشخب
ويمنح المشهد لونه وطبيعته
تحت أجراس خطواتك يوقظ الطين المذعور مخلوقاته. ويبدأ سدنة الخراج في مراجعة خرائطهم المرصودة لضريبة الكرّ والفرّ.
تقدمي
بفرس مثلك - مجبولة من نار الجهات - يمكن أن تنطلق الكمائن لتروي أساطيرها لجيلٍ أوشك على تبادل أنخابه مع الرماد والريح. جيل يترنح ويحلو له أن يهذي.
ليس أمامنا إلاّ أن نصدق خوفنا ونتماسك مثل الحلزونات الماكرة لنخدع أكثر الأسماك خبثاً وخبرة.
نتماسك مأخوذين :
أنت بوهم القدح
وأنا بحقيقة الخمر
ليست حروباً تلك التي تدافعنا في شباكها، مرة بالمناكب المطعونة ومرات كثيرة بحشيشة الوهم.
ليست إلاّ حيلة الحنين.
لم تكن إلاّ عفناً يتصاعد من فعل الحكّ المتحكم في أشلائنا المعطوبة بحوافر النحيب
تقدمي، تقدمي
لتري بنفسك كيف تقود البغال كوكبة المقاتلين في غيبة الفرس الشقراء ذات العرف الملكي. لتري الأتان وهي تسلك، مع أكثر الكائنات جمالاً، منعطفات الشراك نحو سكينة الحظائر، مسرعة لساعة الذبح، حيث
المجزرة
لستُ واهباً المباغتة لك .سوف أمسك بعرفك الطائش، سليل البروق والذهب، وأقودك إلى مكان فيه يفترّ ثغرك عن نشيد في مديح الفارس قبل أن ينسى عادة المجابهات :
جنون الهجم.
تقدمي هكذا،
منتورةٌ على كعبيك الرشيقتين
تلوّحين برقبتك الملكية
وتدفعين حليبة الدم في نسغ شعبٍ
آن له أن يخرج على حكمة
النص.

4

... وأيلول
كان له ثلج ينال زرقته من بهجة الجرح
نقف في منعطفات الأمم
لم نكن لنحصي سعة الهواء
عندنا رئات وأكباد وأفئدة
وعلينا حرس.

كان لأيلول
فتنة الأفعوان. يلهب الأحصنة مثل سائس نفد صبره في وادٍ لا يكفّ عن التماهي مع مرايا السراب
قيل لنا،
أيتها الضائعات في غيمة المسالك
قراصنة تكمن لكنَّ في همس المغازل
قيل لنا،
في كل قرميدة محطة تشفّ عن أدلاّء ومسافرين، والعربات تتدافع كما في وداع الموتى وهم يؤدون طقس الاستهانة بآخر الأسرّة ونهايات الطين.
كان لأيلول
موهبة الانتقال من زرقة الربيع إلى صفرة الشتاء، حتى الدرك الأخير من رماد الصيف.
ما إن يندفق رذاذ الأكباد على زجاج النوافذ
حتى تمطر الأشجار ثماراً في شكل قناديل سوداء.
قيل لنا،
أيتها البادئات في ليل الشهوة
أشفقن على بصيرة الفأل.
فها رجال في غيبوبة العطش ويستنشقون
بخور أجسادكن،
إسفحن الشعر الطويل،
الشعر الأسود الطويل كالعشاء
ليعبر الرجال فوقه إلى النهر.
قيل لنا،
يهتاج أيلول
له يد تحسن قرع الجرس في عرين الصمت
وعندما يفيض السبي
تركض النساء عاريات في أروقة الأمم
نهتف من بعيد :

تعالي أيتها الشاردات من الأسر
ادخلن إلى النص الذي سوف
يرأف بعزلة أحلامكن مثل حصن.
إدخلن
لأنين النهدين الشرفة والحديقة وبياض الشهيق
هناك حرية الزورق ونعمة النزهة
هناك مطر ينتظر ليضوّع أذرعكن بالزعفران

أيتها الخائفات من الهتك
الخارجات من غمد اللعنة
لسرير النهدين حرية تتمرّغن
في وحلها
تتوحّلن وتتحوّلن
مثل أيلول .. مثل أيلول .

5

صار لجسدي تاريخ يحرس الذاكرة .
تلك الإرهابية الفاتنة. أجمل الإرهابيات اللواتي صادفتهن في ثلج الظهيرة. لويت ذراعها الزبرجدية، ورحت أفكّ أزرار ثوبها التي هي مثل نجوم منسية على سديم الأفق. من الرقبة حتى القدمين. أكثر استحكامات شاهدتها على جسد امرأة.
تهتز بعنف تحت أنفاسي وأنا أفكّ زراً وأقطع آخر. نتوءات الجسد تطفر مثل أرانب مهتاجة، حتى أن الحلمة كادت أن تخترق صدغي وأنا أحاول السيطرة على اندفاع الشهيق المنبعث من بئر الروح مقتحماً هيكل الاشتباك. وعندما وضعت نصلي على بشرة الثمرة المرتعشة صاحت بي مثل نمرة ملتاعة أن لا أتوقف عن إرسال الحديد إلى حيث يندّ فم الوردة.
أية إرهابية فاتنة تلك التي :
مثل فضاءٍ وتحتدم في أفق الجسد
ولم يكن جسدي لينسى تاريخه الجميل.

6

لعلك أشبه بالهودج : حين يهتز، ينثر رسائل تعلن أن معسكراً في مكانٍ ما يفسد هيبة المنطق ويكسر القاعدة.
لعلك المنذور لرائحة فروٍ محروق، كانت التيوس تهبه لعريكة الجبال.
من أين لك هدأة الذاكرة،
وكل هذه الفوانيس التي تغرّر بالنهار وتدفع الليل نحو حدود الهلوسة ؟
هذه الوحشة التي تؤنس الغريب ؟
هذا الجرح المغرور الذي يمنح تاجه لصرخة الانتشاء ومجد اللعنة ؟
قلت لك : لنمح غفلة المشهد ونفتح البحيرة أمام أطفال محبوسين بين موتين.
قلت لك : والقتلى يذرعون البهو، وأنت في شرفة المشهد تهفو لعنقك النصال وتتبادل صورك المشانق :
توغلت، توغلت كثيراً في مجرى المؤامرة.
إلى أين أنت ذاهب ؟
الأشجار مرصودة لك، الأبواب تتلاطم أمام عينيك.
لا.. لم يكن ذلك هتافاً.
جريمةٌ أكثر، أملٌ أقل.
جرحك، قلت مرة، إنه واهب الحرائق لغزاة الجسد.
الآن، لم يعد الكلام كافياً ولا الليل.
ففي كل منعطف أسمع لجرحك صريخاً مثل شبق العناصر وشغف الراهب لئلا يموت قبل الحب.
يا لك
كلما وضعت يدي عليك غاصت كأنها في زئبق السديم.
تجهل الأفلاك جهاتك ولا تطالك جاذبية الماء.

آه ياللجرح :
مفتوح مثل أشداق المغفرة
مثل باب الجحيم الحميم
مفتوح على آخره.
وها أنا في برزخ الظن والاحتمال،
اكتب جرحك العاهل.

7

قيل له :
ابتعد عن هذا البراق
شكيمته الضارية ستفتك بك
ستصير أضلاعك مداساً لحوافره
اذهب إلى المكان الآمن
هذا البراق ليس لك
قيل له :
تميّز بحكمة الجبان
لست للقتال. سايسْ أمرك
قيل له : وفتحوا أمام مواطئه مسارب إلى التهلكة.
أنت المليك وهي الملكة
هامَ على هاوية
مترعاً بحداد الأقاصي. مثل صخور كثيرة تتساقط على مرآة الطريق، لتطير الشظايا مذعورة وتنغرس في أنحاء الجسد الماثل كقنفذ الشمس. مترعاً يترنّح. عبّ شراب قلبه

جسدٌ التقت عليه جيوش كساحة حرب مباحة.

قيل له : إنها حربك
عليك أن تحتمل.
لكن البراق.. لا،
من أين لهم كل هذه السطوة لنهبه،
من أين لهم كل هذا الجبروت لدفعه إلى الأقاصي.

8

اليد الحانية تقتل أحياناً
وأحياناً يفتحون لك الجغرافيا لتضيع
وأحياناً تبرد أطرافك بفعل الوحشة
وأحياناً يختلج قنديل المعنى، والمعنى يهيم في السديم.
وأنت .. وحدك في كهف،
تقرأ لئلا يستفرد بك كابوس الشرائع.
وأنت .. تتشبّح في المنعطفات
تتدافع في زفير رمل ينثال عن جدث
تنظر إلي جثتك في كيمياء المجزرة.
وأنت .. توأم الجرح
غريزة الفقد
نسل الطرائد
تنسى أحياناً
تنسى عدسة المعنى
وأحياناً تتبادلك مباحثات الوسطاء
وشورى القواميس. والرحيل اللانهائي.
.. وكلما فتحت شرفة على آنية المخيم تكاسرت حيوانات اللغة وتصاعدت في بكاء الكبد المهتوك.
هذا أنت،
ترى في كل نأمةٍ أملاً.
نرميك بالكارثة،
فتقاوم الأبجدية كاملة وتمعن في غواية حيوانات اللغة.
ذاكرة أم زجاجة دمع ؟
تحصّن تاريخك بنسيان الكتب.
هذا أنت،
تخرج على كل خروج
تضع جسدك في مواقع العجلات
وكل عربة تسميها صديقة التجربة.
يرمّمون آلة القصل بشحمك الجائع. تتقمص العاصفة البطيئة لتصدّ عطش الملجأ ربيع كل موسم، كأنك في الحقل الأخير. وكلما ترنّحت الهياكل الدامية سميتها السنابل وهي تشاغب الريح.
مكتشفون يكمنون لك في منعطف الظهيرة.
من رآك تيقّن أنك مصاب بالرحيل أيضاً وأيضاً.

9

هاكم آلهات تعطّر الوسطاء بالحكمة، والرائين بالأجنحة، لكنها تواري أقنعتها كي لا يلمح أحد جنوح النزوة بين خصلاتها. في ومضة تطلق مدائح نفيسة لرعايا مدججين بفطنة الوهم. في ومضة أيضاً، تسيّج المسالك بتقنية العنكبوت. تداري كتائبها لئلا تفقد تاج الحياد وهيبة القناع.
مبلّلات بالكآبة آلهات المحنة. يزخرفن الأهداب بوجع الخليقة. لا عجب أن سمعنا يوماً آهةً تصدر عن عين مفقوءة.
ياللرعب !
ألم يفوّض البحر جلاده ليجزّ بالسنان المائي أرواحاً تلهو في راحات آلهاتنا الزائلات ؟
عند سلالم البحيرة تجلس الشامخات وتمشط رؤاها غير مبالية بنشيد شعبٍ يتنزّه في حمم الوقيعة، ونشيج أرامل ينثرن الأرز ليلاً ليستدرجن المواطئ الميتة نحو مخابئ الحليب.
هاكم عبيداً يبالغون في الانحناء، وينكحون الأغلال في شبق لا يوصف.
سلالة الوثن /
مشورة السوط /
شهوانية الغياب /
أكثر الطغاة خنوعاً وفكاهة
من أين لهم كل هذا المرح الباطش ؟
هاكم تراثاً أوشك على نسيان عادة اللهو. يسلبنا المهد ويرضعنا اللحد. يؤرّخ لتعاقبات المعادن المطفأة. كلما اهترأ جلد سيدٍ ارتجل له جلداً سيداً وأسرف في شريعة القرابين.
هاكم الأرض الهابطة في هاوية السماء
خذوا التركة ذاتها
الميراث ذاته
هاكم طبيعة الأفعوان
قلنسوة المهرج
ضلالة النداء
أسمال العري.
هاكم حشيشة التمني
هاكم طينة مصابة بالسفر.
هاكم جنس الذبيحة الضارع، وما تشتهون من سلاسل.
وأعطوني أن أنقذ الإلهات من بلهنية العبيد.
أعطوني أن أكنس قبو الكنيسة من تفجع القهرمانات اللائي فقدن خطاياهن السريّة.
أعطوني هذيان العناصر، ذخيرة المخيّلة.
أعطوني بيتاً أبنيه، وأغادره عنوةً
لكني وحدي أذهب إلى الهدم
الهدم الهدم الهدم الهدم
ضد كل شيء، لست البريء. زعفران العافية لمسائي الأخير.
وكنت أهذي بزفير الكرسي
الكرسي : ليس خشباً. هلام يتماهى في حالة قفص، وحيناً يأخذ شكل سرطان برؤوس ليس لها عد. يبدو ظلاً لمقصلة أو شرفة لسقوط الحكمة. وكثيراً ما خلعت عليه السماء كسوتها. لكنه لم يكن يوماً مكانا للراحة. وله آية في الكتاب.

10

نحكي الحكاية التي بلا معنى :
رجل وامرأة يكتنفهما الدوار والشحوب والنسيان والحب المستحيل. يضيئهما مذنّب طائش يخترق سماء الكوخ بين لحظة وأخرى. ثمة حلم يندلق من المصباح الوحيد الذي يحصي شرائح الضوء ثم ينخرط في بكاء غامض. على الطاولة الصغيرة مقص وعنقود عنب وأزهار كاميليا ذابلة. ظلال تعبر. خطوات غير مرئية تكسر إيقاع الصيف الوابل. همسات تحتدم في الجدار. والليل النمّام يفشي للزواحف سرّ الكائن الأعزل.
هكذا.. هكذا يتجزأ الطريق، في الخارج ، كل حمحمةٍ .
هو : كان قد عاد لتوه من البحر بلا غيمة ولا خرافة. يرمي شبكته الخاوية جانبا، يخطو - عابساً، متعباً، خائباً - نحو السرير الذي يستقبل هيكله بأنين خافت.
هي : لم تُعدّ الحساء بعد، لم ترتّق السروال بعد. جالسة على الكرسي الهزّاز في سكون مرعب، كأنها لا ترى ولا تحس. مع حركة جسمها، الذي يميل إلى الأمام وإلى الوراء في إيقاع منتظم ورتيب، تتأرجح
الأشياء والأفكار والتداعيات.
من بعيد يصل ضجيج الخبز، ثغاء الماء، تثاؤب الحارس، صدى الليل، قهقهة الأعنّة، نشيج العجلات، دبيب المضاجعة، حفيف الدسائس، شخير الرواة، هبوب المراوح.. ثم فجأة، تخبو الأصوات ويجثم صمت مخيف، يأخذ شكل جرح أو شكل موت. صمت لا أحد يقدر على احتماله.
بعد قليل، تقول :
(تُرى ماذا يفعل الآن هناك ؟ أما يزال يطارد فراشات عمياء تنبجس من جبينه كلما شهق لمرآى أميرة تستحم في البحيرة ؟ أما يزال يغرّر بصبايا سمراوات يخضّبن نهودهن بالريحان ويدخلن مملكته الحريرية بلا خجل ؟ أما يزال يتأبط كتباً تبلبل وهو الذي لا ينبس إلا لماماً ؟ أما يزال يدشّن بمخيلته الجامحة مجتمعات في صفاء البلور ؟
أذكر كبرياءه واعتداده بنفسه. وكان يحب الأناقة. كان يغفو تحت الصفصاف ويشبك أحلامه على هيئة إكليل يضعه برفق على حلمة النهر ويتأمله بينما يطفو متجهاً صوب نوتيين كانوا حينذاك يحتسون الشاي.
آه، يالوسامة روحه آن يجسّ بأنامله أهداب حلمي وتغرورق عيناه بالضحك. وإذ ينحني ليشمّ رفقاء الطفولة، أراه الأجمل والأنقى)
بعد قليل، يقول :
(كلما رميت شباكي في أعماق أرخبيل، باغتني الأخطبوط الساخر وأطبق على جذعي بأذرعه الطويلة، أذرعه المائة الملساء والقوية، وفحّ في أذني هامساً : أينما رميت شباكك يدركك الموت.
حتى القواقع لا تسعفني في العثور على ملاّح مقدام يخلصني من هذه البليّة.
لكنني أحبه ذلك البحر، الواسع كشهقة امرأة تلمح لوهلةٍ عري رجل، الشفاف كعين طفل، الأزرق الأزرق، الساكن مثل سجادة. رغم كل هذا، يطعنني اليأس.
أيها المرشد، أيها الفنار المرشد، أينبغي أن أتوسل عالياً كي ترأف بي. دروب الأرض شائكة وليس من يألف خطاب غير البحر، فدلّني إلى رحم الخليج أو دعني أمرّ).
- ماذا يفعل هناك، لماذا لا يأتي ؟ عندما انتزعوه من أحضاني قالوا ساعةً ونعيده إلـيك. لكن مضت شهور ولم أره.
- أنا أيضاً لا أحتمل غيابه. أشعر بالخواء.
- إذن لماذا تركتهم يأخذونه ؟
- وماذا كان بوسعي أن أفعل ؟
- أن ترفض. أن تصرخ. لكنك آثرت السكوت، انتحيت جانباً وتركت الأمور تسير كما يشتهون.
- أنت جاهلة، لا تفهمين..
- نعم أنا لا أفهم، لا أفهم ما تفهمه. لكنني على الأقل فعلت شيئاً. بصقت في وجه أحدهم.
- وماذا كانت النتيجة، لطمك على صدغك وطرحك أرضاً.
- ليكن.. غير أنني عندما حدّقت في عينيه رأيت خوفاً. كان خائفاً مني. لم يلحظ أحد ذلك، حتى هو نفسه أعتقد بأنه غير خائف. أنا الوحيدة التي أدركت ذلك يكفي كي أشعر بشيء من الزهو.
- هكذا أنت دائماً، تنظرين إلى نفسك كمثال للشجاعة والبطولة، أما الآخرين فهم أقل شجاعة ونبالة. أحياناً أشعر أنك تكرهينني..
- لا، لا أستطيع أن أكرهك، لكنني أيضاً لا أستطيع أن أغفر لك.
- هل جننت ؟! كيف تعتبرينني مذنباً أو متواطئاً. هو ابني أيضاً، أم أنك نسيت ذلك ؟
- صحيح، لا يجب أن أفعل ذلك. لا يحق لي أن أوبّخك. فقد كنت تحبه مثلي. كنت تعرف مدى رهافة قلبه مثلي. عندما كان صغيراً، كنا نخرج معاً. تذكر ؟
- نعم، نعم.. كنت أحمله على كتفي، وكنت تحملين سلة التفاح والمشمش..
- نعم. كنا نلهو ونتسلى، نمشط المنتزه بضحكاتنا، كنت تحمله عالياً، فخوراً به. وكنت أنظر إليكما وأقول لنفسي : ها هما أحبّ الناس إلى قلبي..
- في أخر الليل التصق بالجدار وأناديه. تعال يا ولدنا. لا أحد غيرك يضيء روحينا. وعندما يثقل الحزن كاهلي، أميل صوبك وألثم جبينك.
- كنت تظن أني نائمة، لكني لكنت أستنشق أنفاسك وأنت تنحني فوقي، فترتعش أعصابي وأهمس في داخلي : أحبك.
- فأعرف أننا جسد واحد. لا أحد منا يقدر أن ينسلخ عن الآخر.
- وعندما تلتصق بي أنزلق في خدر لذيذ، وأشعر بالعرق المشعشع يصهر أعضاءنا الطريّة، آنذاك أهمس : خذني..
- فأغطيك بصاريتي وأشرعتي وآخذك إلى التيه، إلى جُزر دائخة من فرط اكتنازها بالرخويات، وهناك أدهن فخذيك بزبد الصيف ونرقب في جذل ولادة الأعياد فينا.
- غير أنه لم يأت بعد ؟
- من ؟
- ذلك الغريب الذي مرّ من هنا، والذي من أجله لطمني ذلك الوغد. مرّ كالخدْش، بذر في أحشائي لوعة العشق ثم مضى في لمحةٍ.. بلا علامة ولا ميعاد.
- أنسيه يا ابنتي. أحزن عندما أرى روحك مريضة.
- وقف أمامي شامخاً، بهياً، تطفر الإشراقة من أجفانه كلما شهقت عيناه. أومأ إليّ كي أقترب، فاقتربت. وضع راحتيه على صدغيّ وقبّل شفتيّ ثم تمتم : لن أكون لأحد سواك
- لا تذهبي بعيداً في الهذيان، إنه يحرق. عودي كما كنتِ كما كنتِ يا طفلتي المدلّلة، يا صديقة النسمة. أشفقي على شيخوختي أيتها المحمومة.
- عندما فتحت النافذة، أبصرت الثعالب الخضراء محتشدة، ممدودة الأعناق، وتعوي. أخبرني يا أبي، هل قتلته ؟
- لكي أحميك، كان ينبغي أن أقتله، لكنني لم أفعل، طلبت منه أن يرحل فحسب.
- آه، وتركني وحيدة مع أشباحي، أنبش الذاكرة بأحداقي، فلا أجد غير الهباء.
- كفى أيتها العجوز المسكينة، صراخك أيقظ البلابل المريضة.
- قريباً سوف تستيقظ كل البراكين الخاملة، وعندئذ لن يبق للبشر مجد.
- دعيني أقودك أيتها الضريرة عبر هذه الأدغال. رغم أنني لا أعرف من أنت ؟
- أنا العرّافة أيها الغرّ، يا دليلاً بلا وجه. خذني إلى مسقط المصابيح. ها شلالات تعدو لاهية. كهف يومض في أعين فهود تتعارك. نساء حبلى بحيوانات صغيرة. عساكر مريّشون يتدافعون في فم الموت. الغبار الحارس يخطّ على الصخرة وصاياه الكاذبة. هذا يكفي، هذا يكفي، لم أعد أر شيئاً!
(رجل وامرأة يجلسان هكذا كل ليلة، صامتين، لا يتبادلان أية إشارة.. مثل كائنين غريبين لا يجمع بينهم غير الحوار الأخرس ويبدآن في تقمّص الأدوار)

11

نحكي الحكاية الحافلة بالمعنى :
جند كانوا يحتلون المشهد. الآن تدخل غزالة لها نكهة الغيم. تحك قرنيها الصغيرتين بحدبة نيزك مجذوم اجترحته الليالي القديمة. يفرغ الجند تواً من غسل أسلحتهم العتيقة بعد حفلة قتل الصبايا ذوات التنانير الخضراء. إنهم عرضة للغفلة. يتجرعون الجعة المخلوطة بنخالة الخبز. على ستراتهم رذاذ نافر من أرجوان الأجساد الفتية.
هكذا كل مساء
تصير الغزالة، الطريدة الخالدة، المرشوشة بعنبر الغابات الفانية، جزءاً من الطقس. وحيدة إلا من رفقة نيزك شاحب يسلّم أطرافه الخجولة لنشوة الاحتكاك العذب، للرعشة المحمومة، للفيض المنوي.
وعندما يصاب صاحب الجند بفجيعة الرؤية، ينهر الحرس : ما هذا ؟ والجند لا يخرجون من بغتة المشهد، كمن يتخبط في غفلة القرون الساحقة. والنيزك ينمو كشجرة هائمة ويحكم سطوته على المداخل كأن المدينة له، له وحده. والغزالة ترى إليه يزدهر ويتألق. والجند لا يعثرون على جواب لسؤال قائدهم الذاهل.
لا أحد يعرف من أين جاءت الغزالة، من أين جاء النيزك. للمرة الأولى، ربما يرون إلى حجر يترعرع مثل الأطفال. ما كان ينبغي أن يخلدوا إلى الاستهانة :
غزالة هشة، وحجر متروك.
وسوف ينتاب الكائنات الحبيسة انتعاشة غامضة. الوجوه والأعين تسد المنافذ وفتحات القضبان مثل سلالة عباد الشمس. تلك الكائنات وجدت في الغزالة والنيزك حدثها الأثير. الحدث المبجّل.
يختلط المشهد.
للمدينة طبيعة الحبس الشاسع، ولها عادة الهذيان. مدينة تهذي بمخلوقاتها. الغزالة والنيزك يحتلان المشهد. ويصير للسجن بوابات لا تحصى، محاصرة بالمباغتات.
تأتي الصبايا القتيلات ويمرّغن أجسادهن الدامية في وحل البوابات، بين أنظار ساكني الزنازن، المصلوبين على النوافذ والأسوار، وبين الغزالة وهي ترمق السائل الأرجواني يرنّق الأجساد النحيلة التي في القتل، فيما هي تحك قرنيها بحنان في شفرة النيزك فيصدر رنين من شجن حنون ينتقل مثل الحب إلى شغاف المخلوقات المكبوتة، فتتصاعد التأوهات مثل أجراس مهملة.
الصبايا القتيلات يعفّرن أشلاءهن المدهونة بعسل البقاء فيصطخب المشهد. فيما يقف الجند نافري العضلات موتوري الأسلحة، يتفرّسون في تغضنات أشلاء في القتل ولا تموت، غير مصدقين أنها ذات الأجساد التي تعرضت لضراوة حرابهم في الليلة الأخيرة.
هكذا كل مساء
تتحول الساحة إلى عرس دموي تتبادل فيه كائنات الألم والقتل والغزالة والنيزك أنخاب الحوار الأخرس، الأكثر فصاحة، والذي لا يقدر الجند، بكافّة نبال الشراسة والحقد، أن يكتشفوا كنهه، ولا سبل التفاهم معه. حوار يعصف بأبجديات الكلام.
إنها الحكاية الحافلة بالمعنى
هكذا.. يتصاعد المشهد لينال أطراف الأفق.
وتتقاطر حيوانات الغابات المجاورة، وذوات الريش الداجنة التي طابت لها أسقف الأكواخ، وتتقافز أسماك الموانئ القريبة، وتطل الأمهات الثواكل اللواتي وزّعن أبناءهن بين الذبح والقيد والنأي، وعندما طال انتظارهن جئن يضمّدن صبرهن بعرس يُدشّن بحزن أليف.
وفي بعض الأحيان يُقبل المروّض العجوز وهو يقود عربة مكتظة بشظايا الأطفال الذين لم يذعنوا لتعنّت المربيات العوانس أو جلافة المدرسين الجهلة. يجيء بهم ليكلّل الحضور بأكثر المخلوقات جرأة. وما أن يشرف على الساحة حتى يطلق حصانه الصهيل المميز ليفسح الجمع الطريق كي يستدير بعربته دورة كاملة بحيث يتيح للأطفال رؤية الغزالة وهي تداعب النيزك، وملامسة الضوء الباهر الذي يرسله هذا الحجر الغريب الذي أصبح يحكم المدينة.
آنذاك،
صار لدى سكان الساحة والزنازين والقرى والغابات وعمال الموانئ ومشردي الآفاق وجوّابي الأبعاد، ما يشغلهم عن النوم. ففي كل مساء يتوجه الجميع، في جسارة، ناحية المداخل التي تتسع للجميع وتضيق على الجند.
هكذا،
تحك الغزالة قرنيها الذهبيتين بالنيزك الجهنمي.
ساكنو الزنازن يتبادلون الأنخاب كأنهم في الحانة العظيمة
المخلوقات تتألق في قفطاناتها الليلكية
الصبايا يغزلن بدمهن الصقيل طائرات ورقية
تلك حكاية ترفل بالمعنى
حكاية صادفتها الخريطة فيما كان المشهد يذهب إلى النسيان
غزالة رسولية وحجر يقدح الذهب.

12

آويت ساحرات الحقول، لأخدع بهنَّ النمر وذات الجرس وبنات آوى الجميلات.
آويتهن : مشرقات المحيّا، مضيئات الخُصل، حسيرات الصدور، شغوفات، شاخصات في التيه.
وعندما تبطش بهن الغفوة، تدخل الطيور الطنّانة مهبل أحلامهن، آويتهن، بعد أن ضاقت بهن الأقاصي.
يطارد الرعاة، بمزاميرهم المخيفة، أصداء عويلهن الليلي،
تحرق عواقر القرية الأغصان اليابسة وتحل وثاق الآبار كي يفتك بهن العطش،
يرشق الصبية المشاكسون شقرة أطيافهن بالضفادع كلما اقتربن من حدود الخمائل باحثات عن دفء أو أريج،
توصد في وجوههن الكوى وتُقطع عليهن السبل،
كل هذا يحدث
يقبلن به بلا تذمر ولا دفاع
ولا تخطر ببالهن المغادرة.
تُروى عنهن الحكايات : قيل من سلالة الوطاويط التي لعقت دم المسيح المسفوك على الصليب بعد إنزاله، ومع مرور الزمن تحوّلن إلى كائنات أكثر ألفة لمن يجهل الحكاية.
ساحرات صغيرات يخلبن أفئدة الأغرار وهواة المغامرة لسن من الجنّ ولا يرحّب بهن البشر مخافة عبوس الكاهن الكامن في دورق الخطايا، ومجون الراهب الراقص في لهب الممسوسين.
لكنني، ذات مرة، صادفت الساحرات في الغابة، صادقتهن وآويتهن مأخوذاً كالصباح الغريب.
في كوخي الموغل بين أشجار الجوْز، ذلك الذي ألجأ إليه أوان السيول واشتداد القصف، وهرباً من فروض الآحاد والجامع، هيأت الطقس الرائب والخلوة الفاخرة، ومعاً أسّسنا الراحة والطمأنينة، كنا نتبادل - أحياناً - الصمت الطاعن ونتمرن على ضروب العبث الماجن.. لكننا غنمنا الألفة.
وعندما أغيب في فرو الأودية، أسمع نحيب شقيقات العزلة ينبعث متشققاً من سبّابة الغابة، يناديني مثل وحش مثخن بالوجع يستغيث بمن سوف لن يسعفه. وما أن أعود حتى تترامى أنفاسهن على أنحائي، يلثمن ويلعقن جلدي المغبرّ.
في المرة الأخيرة، أخفقت في تفادي القصف، فاخترقت كتفي شظية راكضة في العويل، وفيما كنت أترنح دائخاً صوب الكوخ، مستدركاً نزيفي، امتلكني الوهن وخارت قواي، وإذا بالساحرات يهبطن من أعالي الأشجار، ويبسطن أجنحة الفراشات فراشاً لي ودفئاً.
داخل الكوخ ضمدن الجرح الغائر برضاب القُبل، ومن أرديتهن السوداء قصصن شرائح غطين بها الجرح، ثم شرعن في ترديد الأغاني الغريبة فيما كنت أخوض متثاقلاً بساط الوسن.
لما صحوت كنت وحيداً، وأنداء ضوضائهن كانت ما تزال عالقة في ثنايا الفضاء الصغير، رأيت بقربي دورق نبيذ وقطعة من خبز الشعير المحروق وبقايا من مزق أردية ربطن بها كتفي. وحين لمست موضع الجرح وجدته بارئاً كأنه لم يكن، وليس هناك غير بقع الدم المتخثرة على القميص، فأصابتني رجفة الذهول.
أمضيت أياماً في الرهبة والوسوسة، متردداً في إخبار أحد بما جرى لي. وعندما حكيت لأمي اتهمتني بالخبل وقلة الإيمان، قائلة : ألم نقل لك أنهن ساحرات من نسل الوطاويط؟ لقد لعقن دمك مثلما فعلن بالمسيح. ينبغي أن تطلب المغفرة.
أدركت يومها أن أحداً لن يفهم، ولم أهتم.
صرن ساحراتي الأثيرات
آويتهن : أليفات، حنونات، صائمات عن الأذى والاثم، أكثر رأفة من البشر.
أترك المدينة في قتالها والقرية في وجلها، وأجوب ممرات الغابة حتى ينهمر التعب من مسامّي، ثم أجلس أمام كوخي.. أغفو وأستسلم لسلطان السبات.
حين أصحو أستنشق بهاء الرموش المُحبّة فيما يتحلّقن حولي هادئات، باسمات في خجل، يسوّرن وجهي بالتأمل. عندئذ تبدأ واحدة بالحديث عن شكل أنفاسي وهي تتصاعد أثناء نومي مثل بخار الزئبق وكيف أنها أحياناً تلبس هيئة هداهد زرقاء. وتصف الأخرى الكائنات العجيبة التي تتخلق بفعل أنفاسي في فضاء الغابة.
قلن :
كيف تحتفظ بكل هذه الأشباح المخيفة في داخلك. مخلوقات أصابها المسخ. أشكال بشرية ترتدي رؤوس السعالي، وبعضها مختومة الأطراف بالطحالب والفُطر، وبعضها مثقوبة الصدر من كل ثغرة يطلق جرو شرس وهندباء سامة، وبعضها مجزورة بنصال لا تزال ترتعش في اللحم الطري. وثمة طيور مكسوّة بجلود تماسيح تتواثب ومن مناقيرها الخشبية تتدلى أمعاء طفل تقطر دماً يشبه القطران. وفي خلفية المنظر تحبو ضفائر الدخان الكث المشوبة بصفرة الكركم. أما أنت فينتابك فزع خفيّ وتبدو كمن يتقيأ أحشاءه بلا توقف.
كيف تقدر أن تحتفظ بكل هذا في داخلك ؟
وفي كل مرة لا أعرف كيف أخبرهن بأن ما يحكين عن ضرب من الجنون أو الهلوسة، وإنني مسكون بالوهن. يتضاحكن، ويأخذن في مداعبتي بأجراس الأزهار الجافة ليحرّرن روحي من الذنب.
صارت ساحرات تنتظر الزوادة التي اعتدت حملها إليها. هناك أفتح الكيس المصنوع من فرو دبٍ أردته قذيفة باذخة طاردتني ذات نهار فغرّرت بها في عتمة الدغل لتصطدم بدم أبيض لا تخطئه العين، أخرج محتويات الكيس، وأصفّ المائدة.
مؤونة أسبوع النبيذ - أفخاذ أرانب مقدّدة - حشوات من عجين الخبز - حبات البصل الأبيض.
ومعاً نستغرق في مأدبة تبدأ هادئة مشوبة بالخجل والتمنّع، وسرعان ما تصطخب بالمرح والمداعبات، ويتفشى بيننا سكر عابث. للساحرات طرق جذابة للاستمتاع بسهرة القصْف، سهرة قيامة الأشياء وتحوّلاتها. لذا أترك لهن قيادي يأخذنني إلى حيث يشأن.
ذات ليلة نفد النبيذ، وكنا في منتصف السهرة. بقيت رشفة واحدة في القصعة الخزفية. اقترحت إحداهن : يتعين على كل منا أن يروي أصل ومصدر النبيذ. والحكاية الأكثر سبكاً وإقناعاً وجمالاً ستؤهل صاحبها للفوز بتلك الرشفة المجيدة.
قالت الأولى :
إنه الكرز الذي نسيه نوح في أدراج سفينته طوال رحلته القديمة
قالت الثانية :
الثمرة التي أغوت بها حواء آدم لم تكن تفاحة، إنما هي نوع نادر من الرمان استطاعت حواء أن تخمّر منه قدحاً تجرّعه آدم ولم يفق منه أبداً.
قالت الثالثة :
إنه المطر الأول والمطر الآخر. فإن الله عندما غضب على آدم وأخرجه من الجنة، أسقطه إلى الأرض وصب عليه سائلاً أحمر اللون صارخاً به : اذهب أيها المنبوذ.
وكتب عليه أن تكون ساعة قيامته يوم تفيض الأرض بالدم الذي يهدره البشر من أجسادهم في اقتتال هائل. ومن يومها لم تتوقف الحروب. ولم يكفّ الإنسان عن النبيذ لئلا تغيب عنهم لعنة الله.
وأشارت الرابعة إلى أن أصل كلمة نبيذ عربية منذ البدء، مستشهدة بسورة مريم عندما انتبذت لها مكاناً قصيّاً، زاعمة أن لاستخدام كلمة النبذ بالذات دلالات رمزية تكاد تصبح ضرباً من خداع الرؤيا اللغوية. فمريم أخذت الرطب وذهبت به إلى مكان منعزل غير مكشوف، حيث بمقدورها أن تخرج من ذلك الرطب الناضج سائلاً جديداً هو أول ما جرى في فم عيسى قبل أن يجري الحليب في صدر مريم.
وتتالت الساحرات يتسابقن في ابتكار الحكايات، فيما كنت أصغي وأنا في دهشة لقدرتهن على محاصرتي. وربما تعمّدن منحي الامتياز بسرد الحكاية الأخيرة، الأمر الذي يشفّ عن رغبة حميمة في أن تكون الرشفة الأخيرة من نصيبي.
عندما فرغن من رواياتهن، تحلّقن حولي وهن في ذروة تألق النشوة، يمطرنني بالقبلات ويتناهبن القميص المبلل برحيق الحكايات، ويلثمن كتفي وشعري مردّدات في غنج :
- وأنت، ما هي حكايتك ؟
كان يجب أن أقول الحكاية التي أعرفها. اتخذت وضع من ينوي أن يبوح بالسر الأعظم، متيقناً أنها الحقيقة. تلك الحكاية التي سمعتها مئات المرات، والتي يتمثلها الجميع في آحاد عمرهم القديم، حيث أضحت نوعاً من الشعائر مثل حقيقة ينسخها الأحفاد عن الأسلاف.
رشفة النبيذ الأخيرة من نصيبي لا محالة.
هدأت الساحرات، ولبثن شاخصات الأبصار إلى الشفتين اللتين احمرتا بفعل النبيذ والقُبل.
قلت بصوت الحكمة :
هذا النبيذ الذي نتكاسر عليه الآن ليس سوى دم المسيح،
بغتةً انتفضت أجساد المتحلقات حولي كمن فُصل رأسه بضربة خاطفة. انتفاضة وحشية كأنها الموت. انتصبن منتورات على أطراف أصابعهن في حركة واحدة. شعرت أنني أهوي في قاع القبر لوطأة الصمت الذي أمسك كل الفضاء من حولنا. الغابة برمتها أجفلت مكتومة الأنفاس مخنوقة بجميع مخلوقاتها الراجفة، ولم يعد لأوراق الشجر حفيف يُسمع. اكتست الوجوه الفاتنة المرحة سحنة الجثث. وراحت كل جثة تتقهقر إلى الوراء ببطء شديد كأنها تمتثل لهيبة صمت لا ينبغي خدشه بأية إيماءة أو نأمة.
وعندما ابتعدن قليلاً، استدارت كل واحدة على عقبيها وبسطت ذراعيها بالرداء الأسود المرخي ثم طارت إلى أعالي الأشجار مختفية عن الأنظار، مخلّفة وراءها سياجاً من الغبار الرمادي أشبه بالنمش على صفحة الفضاء، وأنا في ذهولي عاجز عن الفهم.
ساحراتي الجميلات
أية خطيئة ارتكبت !
أنا الذي فديتهن بفتنة الحرب، بخشوع المحراب الذي يهدي القطيع إلى مثواه، بأشباحي المكبوتة حيث لا خلاص منها إلا بفتوى الكوخ وخلاعة الغابات.

أنا الذي لمست فيهن الحياة التي أفقدها..
أفقدهن أيضاً ؟!
ماذا أفعل إذن برشفة النبيذ الأخيرة
جميعنا قال حكايته
هنَّ صدرن عن المخيلة وأنا صدرت عن المعرفة
المعرفة !! آه، ماذا فعلت بهنَّ
ماذا فعلت بنفسي !
من جديد ستبدأ الانشقاقات في روحي.

13

وأخيراً، إلى مشارف البحر، تصل المسيرة العظيمة، المسيرة الدائمة المطعونة بوقع الغبار ونفحة اليأس.
وبطيئاً يرفع شعب الجهات بخار الحلبات لتشهد الجزُر الصفراء حركة الثواكل في اصطخاب الإثم الليلي.
يا بحر يا واهب الحضن الباطل، إيّاك نلوذ وإيّاك نبتهل !
حاذينا المساءات الألف وخواصرنا مزروعة بطحالب تنزلق كما الأفاعي لتسوّر جحيمنا.
جئنا إليك، ونحن نعرف أنك لست المطاف الأخير،
لترمينا بالإهانة الأخيرة.
جئنا لتشتت مسرحنا.
لنعلق مجازرنا كالأوبئة في نسغ العواصم.
لنقتل بعضنا ونعانق بعضنا،
جئنا ولا نملك غير الدم الدليل.

14

ها أنت تقف أمام الماء الهائل، تبصر دخاناً يتصاعد من مرآة الموج ويرتقي عتبات الريح الحجرية مثل كوكبة من الكهنة الذين يؤرجحون عباءاتهم فترتطم بذبال الشموع المصفوفة بإتقان على حواف المسالك التي تصل آخر دار مهدومة بأول شراع تزيّنه تخاريم الريح.
ها أنت ترى : لا ظل للبحر.
تذرع المشهد بمحاجر ملتهبة وتسأل :
هل هذا هو البهاء أم الهباء ؟
لكنك تسمع الحيتان تنتحب مثل الكراكي مستجيرة من وحشة اللّج، حيث الحبس العميق الذي منذ الأزل.
عندئذ يستبد بك رنين رتيب تحسبه أجراس النيلوفر، بينما هو أنين حشدٍ من الثواكل يرسلنه إلى مدرّجات الشفاعة لعل الذي في صحبة الصارية يسمع ويأتي به الحنين.

15

هذا هو البحر إذن :
فتى مراوغ، حقيبة ساحر، أقنعة صعلوك
ضمير أمّة تخون مراراً
نزهة في النوم
مَنْ يقدر أن يبصر مواقعه في زئبق النوم ؟
مَنْ يصدق حياد الماء ؟
نخرج من نار المدينة،
أصابعنا ملتهبة بليلة عرس أبدية،
كل هذا الماء الهائل لإطفاء جحيمنا ؟!
مرةً، كانت زجاجة الماء تتأرجح مثل ملاك مخذول، الملاك ارتعش حين أصاخ لبكاء الدلافين وأدرك أنه في مقبرة القواقع،
مرةً، أرخينا القياد لمزاج الموج فنالنا من السبي ما شئنا، وعرفنا أن الموجة تخطئ المرافئ كثيراً.
آه.
أعطيناهم كل يأسنا وزادنا ووحشة نسائنا وشهقة أعراسنا وساعات أدلائنا،
فماذا أعطونا ؟
حيل البحر وكابوس السواحل وأشباح المدى.
كنا عندما نضيء، بجسد واحدٍ منا، مشعل الفتنة،
تركض المدينة عاريةً نحو حتفها.
هذا هو البحر إذن،
ينتظر كالحاوي. الحاوي يقود السفينة من حيزومها ويدفعنا إلى متاهة الجهات.
ليس سفراً،
إنها ضحكة التيه تأسرنا،
تضلّل أحداقنا،
تموّه أحلام اليقظة.
حتى أننا لم نعد نسمع أنين تلك التي رفعت قميصها كغيمة ولوّحت لنا مستغيثة فيما كنا نحسب أنها تودّعنا مغتبطة، قيل لنا إن سفّاحاً باغتها في هدنة الهجم ومزّق وجهها الحلو.
هل تذكرونها تلك الفتاة العذبة التي كانت تمسح الكآبة عن جباهنا ثم تدخل أحلامنا بلا مشقة لطهّر الكراهية فينا ؟ تلك التي كانت تحتمي بنا كلما اعترض سبيلها وحش الخرافة ؟
عندما يرتفع الشراع تزدهر الوحشة،
الريح تحنو حيناً، تحقد حيناً
تكتب غزواً رغداً لفرسان العرس
واليأس يجهش في يأسه :
لا الصارية حدّ لا الشاطئ سدّ
لنا شفرة اللج
لنا مرارة الأضرحة
لنا مشيئة الهباء
"بذلنا لرؤوسكم المصابة أجمل أكتافنا "
قالت زوجاتنا الغريقات
"فرشنا صدورنا العامرة وسائد لزوبعة التعب فيكم "
قالت زوجاتنا الأسيرات
همسنا، قلن، وأنتم في قوس العطش
لا كل ماء يروي
ولا كل سفر يسعف
همسنا، قلن، وأنتم وتر الجوع
نطهو لكم نواة الورد
نسرج لكم لباس الضفّة
لكن بالله لا تتركونا وحيدات.
لم نصغ. عقدنا رباط الأحلاف حول أرساغنا وخضنا المراوغة. رفعنا الأعباء كالمظلات، وهدهدنا حدْس النسوة، دون أن ننتبه إلى انزلاق الجوقة المرتزقة نحو تلافيف الضاحية. ولكن النسوة أول ضحايا الحدس.

16

آنذاك خلعنا دروعنا
قلنا لابد أن نختم اللسان بوداعٍ لا تغسله مياه
وليس في البحر نجاة لنا.
سكبتُ لك الخمرة
انتخبت لي الضلالة
وتعاركنا بشفاه تترنح بفعلين :
الحرب والخمر
كنا كمن يرتاض بين الموت والأخر
تضمدين هزائمي وأرمّم لك العناصر المختلجة
جسدك كان متألقاً مثل بهجة الناسك
وهو يكتشف عذوبة الملامسة.

آنذاك،
والدروع تتحدّر من جسدينا
تتصاعد أنفاسك لتطلّي منها
على ما يشبه النوم وما يحاذي الحلم
وكنتُ هناك
في غابة الزغب الذهبية التي تكلّل جحيمك المكنون، حيث تضطرم الأفلاك وتحتدم مصبات القمر، والكواكب تلبس أشكالها مثلما تمنح المليكة ذهبها الأشهب للفرسان العائدين من المعارك مشوشي البال. لا هم في هزيمةٍ ولا هم في انتصار.
آنذاك،
لم نكن لنعرف من الفارس
من الفريسة
مَنْ الجرح ومَن الطعن
كلانا العراك
وكلانا يشحذ الصواري في الميناء
ليشحنوا بنا المراكب في صباح كئيب.
وكلما صهلت،
تسامقت رائحة فروك الأشقر مثل أحادي القرن
يصدّ نار الغابة عن أنثاه.
تتوغلين في جحيمك
تفركين ذخيرتك بزنادي
فأتفجر في براعم وفي رغوة فضيّة الريش والجناح.
تتفتحين مثل وردة الماء فأهوي أكثر وأكثر
صدرك في ريح الثلج
وفخذاك العظيمتان تدكان كسفّودين رماد الهيكل
مثل غجرية تضرب الرمل وهي في يقين الرؤيا
نبوءة الساحر
مغفرة الكاهن
وكلما غرزت مهاميزي في مكامن صهبائك، أنشبت براثنك في خاصرتي حتى يطفر الدم. وعندما تسمع كائنات الخندق رجع الصوت الذي من الشهق والهديل.
آنذاك،
يكون عراكنا قد بلغ شرفة المد
يكون علينا أن نتبادل الأسلحة :
تلملمين أقراطك
أجمع أوراق
أنت إلى البحر
وأنا إلى الصحراء
أراك تغادرين ملطخة بي
يدي في الحديد
تلوّحين بعرفك الأشقر الذي لي
قلتِ لي بأنه لن يكون لأحدٍ سواي.
ها أنت،
يذهبون بك
ويغيبك ماء لا نجاة منه.

17

لذّ لكَ الغياب
كأنك في جبّ الأساطير
نفيٌ أنت أم في المنفى ؟
سحر مبذول لديباجك المغادر. تتغضن أطرافك بفعل البرد والنوّ، تنبت الطحالب خلسة على عظامك الناشزة، تتماهى الحراشف في ثنايا الأصابع والآباط والأوداج وزغب المصادفات، تتناوش أسماك القرش جسمك الرهيف حتى تصير صديقة لك وتحميك من حيوانات الأعماق.
وكلما وضعت خاصرتك المنهوكة على شاطئ، باحثاً عن كوخ وشمس وكسرة خبز، لدغتك السواحل، ففي ليل النأي لا يعرفك المكان وليس لقدمك درب سالك، وعندما تتنكر في هيئة كروان وجلباب يحمور، وتسأل عن دفء مؤقت، يكتشفك الرماة ويتبارون لتتويج من يتقن الرمي.
ما من طينة للهجعة، لا وسادة للغريب.
يلذّ لك وأنت في فيزياء الجهات، في غيبوبة السفر.
يغيّبك الماء في الرمل، والرمل في شقوق مثل أشداق المساءلات :
من أين جئت إلى أين
حيث لا مكان لك سعة فيه
ولا يحتمل عبؤك حيزاً
في خرقة الجغرافيا
تضرب في نحاس الخرائط ذات الأجراس. قمصانك مختومة بثلج شرس. يدٌ على الجوع ويدٌ تسند رأساً مثقلة بإرثٍ رثٍ. تذكر. تتذكر. تطلق خيول المخيّلة تمتد مثل برزخ بين المكان والوقت.
قالت لي :
أيها الطفل الذي ولدته. كأن البيت الذي تخلّقت فيه وسكنته تسعةً هو المكان الأخير، ثم لا شيء. أيها الطفل. كأن الفجوة التي الآن أسمع أنين حجارتها، لن يطيب لك قرار فيها ولا سكن، ماذا أفعل لك. ها أنت غريب في مرابط الأغراب. وضعوا جباههم على جدار يذرف أكثر المياه خديعة وخبثاً. جدار تملّست صخوره لفرط ما تزاحموا على تصديق الوهم فيه. حتى إذا ما صحونا لكي نعلّق على تلك الصخور أسماءنا الأولى التي ندّخر ونباهي، انزلقت أعضاؤنا وصار للغة شكل السنانير. ماذا أفعل لك أيها الطفل الذي ولدته. ها أنت وحيد يتناوب عليك الأغراب ويتبادلون معك المكان والوقت. أرى إلى مهدك يصير مهوى الحافر والخفّ. وأطوي أيامك في حضانة دمي لعلك تتبرعم بلا شائبة.
قالوا لي :
كنا نراك. في قدميك الذعر وهما تقولان رعشتهما الأولى للزقاق. كان عليها أن تقفز إلى الركض مثل وحش الواحات. كنا نرقب لك الشكل ونستدرج المعنى. وما أن وضعت عناصرك خارج النص حتى أخذك الهباء بطقوسه وتضاريسه. بمغازلنا نسجنا لقدميك الوحيدتين أكياس الصوف لتصد عنك صلافة الثلج. نحن حائكي الحنطة، نحزم المدينة بالقرى الحنونة ونرأف بالمخلوقات الفارّة. لأصابعنا موهبة الكيمياء. نقيس حناجرنا بصوتك. وكنا نراك، كلما وضعت قدمك في حانة لكي تطلق لطفولتك حرية اللهو، نبتت تحتها عوسجة مسنونة. كلما تقمصت بهجة المناسبة. اجتاحك القنوط لهول حيطان تتناسل مثل السراطين. أظافرنا في النول ونراك، تهجهج في فضاء ضيق تهوي سماء الكلام على أرضٍ قيل إنها لك. وكنا نراك. نمنح جسدك الضئيل صوفة أيامنا، ونصبّرك بهدايا موهومة لئلا تيأس سريعاً، لئلا تأمن لخديعة تظنها الخلاص. وكنا نراك، تطوقك براثن الهجير كأنها الأذرع الرؤوم. تقول لك، بلثغتها الضحوك، ذخائر المستقبل فصلاً بعد فصل. تسمع إليها فينتابك ما يصيب الأطفال عندما تصعقهم رؤية الجثام في النوم. يوم جئتنا حاملاً عباءة أمك لنرفوها، بهرتنا الفتنة المنبعثة من أردان تلك العباءة. أجلسناك في أحضاننا نلاعبك بالخيط والمغزل. وعندما سألنا فهمنا أن من ولدتك قد أنهت حكاياتها في ألفٍ من الأيام والليالي، وراحت تجمع أشياءها الحميمة وتصلح الحاجيات لئلا تصاب بالبلى، وتتبادل مع ظلال الأشياء حديثاً مشحوناً بشجن خفي، وصارت تمضي معظم وقتها في ملامسة الجدران والأواني وتداعب تعرّجات الأثاث الذي ازدان به ألف من الأيام والليالي، تسهر طويلاً في بهو الحديقة المكشوفة الشجيرات، تنكش التربة تحت الشتائل، وتقوّم ما اعوجّ من سيقان النارنج، وتدفق ماءً رهيفاً تحت الخضرة الشاحبة، ترفع رأسها نحو البخار المتثاقل ربما لتسأله أن يغسل وحشة نباتاتها قبل موسم اللون. وعندما يأخذ منها التعب، تنظر اليك كأنها تبحث فيك عن شيء مفقود، وشيء عرضة للفقد. فتناديك فيما تتجه إلى المطبخ، تضع أكبر الأواني على الأرضية، وتسكب ماءً شفيقا يكفي لأن تشعر به مثل ريش يدغدغ حجابك الحاجز، وتبدأ في دعك جسدك الفتيّ مفتونة بلمعانه وبتوهجاته. كانت كمن يهيئ جسداً لعرسٍ. نصغي إليك، نفهم منك، فيما تختجل كلماتك في فمك المفترّ عن شقرةٍ في اللغة، فيما تتذكر الكلمات اللائقة، فيما تتخبط أصابعك في الشراك التي تبتكرها الخيوط الماجنة وهي تهتاج في مغازلنا. نراك ويأخذنا الذهول بينما تغادرنا متأبطاً العباءة ذات الأردان الموغلة في اللذّة. تبتعد عن مراصدنا لتحدق بك المحاجر وتتخطفك أقواس المنعطفات. وكلما ابتعدت صرت مزيجاً من الفراشات وغيمة الدقيق ورائحة الفراديس.
قالت لي :
أنت ذريعة الظلال التي تجهش محتضنة بكاءك كلما ركضت إليّ متفادياً الصخب الصادر عن سكنة الهيكل وهم يوبخونك حيناً ويعصفون بك حيناً لأنك وهبت قميصك الجديد لصديق وجدته أكثر عرياً منك. لا يفهمون، فترتاب في ملكيتك، تركض إليّ في احتقان الوجه ورعب الساقين. تسند ظلك المرتعش إلى صدري فألمس قلبك الواجف مثل قطرة طلّ، وعندما تهدأ تطلق تنهيدة عميقة تليق برجل لكي أعرف أنك تمالكت جأشك معلناً جرسك الخرافي كمن يقول تحية متأخرة، آه يا زيتونتي، لن يفهمني أحد. فأفهم أنك ستذهب إلى غيّك، تضيع عنهم وتضلّل كل من سيبحث عنك. وعندما تغادر ستفقد الظلال كل الذرائع لاحتضان جسد مثلك، وسيعبر تحت هذه الأغصان سرب من الكراكي المخبولة. وما أن يوشك مَنْ ينسى على النسيان، حتى تتصاعد من اسمك المحفور في الخشب القديم كوكبة من الملائكة الخائفة. وربما لن تعرف نوماً آمناً بعد ذلك، ففي مستقبل المكان والوقت تصاب بذاكرة الفريسة. وكلما صادفت زيتونة ستقع تحت وطأة هيمنة الخشب القديم والعري البدئي للروح.
قلن لي :
هتكتَ أسرارنا الحصينة، فقد كنت تعرف عشاقنا واحداً واحداً، وترش أهدابنا بالدمع كلما وضعت وردتك الذابلة على شفا أجسادنا. وما أن نشهق إليها لننعشها بشهوتنا المكبوتة، حتى تجلجل ضحكتك مثل جرس عابث وأنت تبتعد ناحية المنعطف المؤدي إلي الجنة الجانحة. لنعرف أنك تفضح رغباتنا في انتخاب هدية تليق بعشيق ماثل. نغتاظ لفتوتك المبكرة، فالأطفال لا يفعلون ذلك إذا كانوا من مبعوثي حوريات القطن، نغتاظ ونتوعّدك وسرعان ما نذعن لعبثك ونعتقد ببراءته. فأنت الوحيد المؤهل لأن تصير وسيطاً جميلاً نتبادل به كتابة العشق. عشاق تعرفهم واحداً واحداً، فنذهب لنخترع الأعذار أمام أمك من زجل السماح لك بالخروج معنا في نزهة اللبلاب مثل فارس يحمي كتيبة من الراهبات الشبقات. نلهو بفتوتك، نداعبك بكل هزّة عصب فينا، وكل منا ترى فيك صورة المعشوق النائي، كنت توأم العاشق، وكنا نتبادلك مثل سنجاب شقي. أما الآن فقد اختلج كيانك الباهر الذي تمرّغنا في رضابه. لقد غدرت بأجمل أوهامنا، في الرسائل الأخيرة التي حملتها إلينا، رأينا عشاقنا في أفق الهباء يلوّحون لنا مودّعين وعلى أطراف أصابعهم يتوهج عنف الغياب.

قال لي :
لعينيك بريق يخطف الروح. وجسدك الصغير تضيق به الأقاصي. كأنك كتاب مفتوح أمامي، أقلبك ورقة ورقة وأقرأ. فويلٌ لك إن صدقت وتهاونت وهادنت ومالأت وماريت وكاشفت وحاورت وأرخيت وسايست وساومت وسلّمت وغادرت ..
وويلٌ لك إن مُتّ.

18

ما الذي نصادفه في ليل الأغوار ؟
نحن الذين تركنا داراً لنا في ملتقى الأطياب
دافئة مثل إبط النسر
واستنشقنا في غوطة البيلسان رذاذ الشراك.. حموضة الاغتصاب
ونجونا من زهو المراصد المسلحة لتغيثنا نزوة العشيرة المجرمة
وكنا تميمة الفقراء، شغف الحواجز، غبطة الحرام
وكنا نخبة من أمراء النهار
لا. لا أحد يسهر في مصيرٍ شامخٍ مثلنا
لكن،
ما الذي يمكن أن نصادفه في شجرة الأغوار،
غير نشارة الثلج التي يرش بها الله كرته الثلجية، وذلك الكوخ الذاهل، المشجّر بزانيات طيّبات ومعمّرين لهم رائحة الضجر، الراكض في مهب الإعصار بحثاً عن تخومٍ صديقةٍ لا ترجم القابلات بالحقد والتشهير. وذلك القميص الراعش، المنسوج من ألياف بلدة رائبة يتقاذفها فرسان متجهمون لهم مذاق التوت، الهائم في حلم رجل عاصٍ إلتجأ إلى قلعة حلمه ولم يخرج بعد. وذلك المسافر السرمدي، المرقّش بالطلْع ولدغات الخفافيش، الحامل في جيبه حفنة من وطنٍ غامضٍ يمتدح مقابره ليلاً وينتحب - ليلاً أيضاً - في ظل الطاحونة المخبولة.
غير خنازير برية شبقة تتناسل من رمّانة مشدوخة يتناثر خيرها القرمزي فتزداد الفصيلة وتنمو. ينمو الناب المثلّم. ينمو الافتراس. وتحتشد مثل جيش من البرابرة عند ممرات المزرعة الوثنية التي تدحرج - آنذاك - أرتال البطيخ من فوق المنحدرات لتدهس القرى الزائغة، الطرية كوجه غيمة، وتهشّم جرار الشعائر. كل هذا التوحش، كل هذه الوشاية، من أجل فتى باسم يتدلى من فوق منكبيه نثار العُلّيق ورماد الحانات، ويمشي - في سهل غير مطروق - مع موته الفتيّ، متشابكي الأيدي، مثل توأمين لم يلتقيا منذ عهد بعيد، وها هما الآن يستحضران ذكريات مرنة ويتحدثان همساً.
غير كتائب الأسماك الانتحارية التي يقودها فرس البحر القانط، الخائن لميثاق الصحبة، الرافع شوائبه مثل صولجان، والذي يطمس بقوائمه آثار البشر المدهونة على سبائب الموج كي يبلبل الأهداف. وعندما لا تجد الأسماك، المأخوذة بالانتحار، موقعاً ثميناً تنسفه بحراشفها الملغومة، تتجه فوراً إلى الركائز الخشبية للمرفأ القريب، المهجور حتى من قبل مهرّبي الشاي، وتضرب برؤوسها المدبّبة المسامير الناتئة حتى تتفتت أدمغتها، حينئذٍ تسمع الشطآن الهتاف المخيف لكتيبة أخرى، مأخوذة بالانتحار، تطوّق العالم بحزام كبريتي وتبدأ العدّ التنازلي.
غير براميل القمامة الهائلة عامرة بنياشين جنرالات لم تزل متشبثة ببراثن الحكم وأردية الحكمة، متهيئة للوثب على صهوات المؤامرات الجديدة، فيما ينتفض الجسد الغضّ تحت وطأة الجماع الفاحش.

غير جنس الصيارفة وهم يرأفون بكسرة الخبز
لئلا تكسرها شفة يابسة
غير القتل الأقل رحمة من الموت
غير تشعبات الطرق اللانهائية دون أن يتاح للقدم
معرفة سر الحركة
غير الغيلان والسعالي وبنات البراكين
ما الذي يمكن أن نصادفه في جحيم الأغوار
غير كل هذا.. وأكثر.

19

لماذا دخلنا هذا النفق الجهنمي ؟.
ليس ثمة ضوء،
لا همس ولا محادثة
الأسطورة تنام هنا.

طوينا الأسلحة كالعباءات.
بعد مسافات من التمائم
خضنا أشداق الوهم
كمن أسكرتهم شهوة النهايات.
كان رحيلنا فاحشا

***

العاصمة الخامسة

1

من فوهة الكهف يخرج الرماد مخفوراً بالدخان محفوفاً بعصف الأحجار. عصف مزلزل لكن مهيب تخشع له معادن الأرض ومنابر الآبار، تخضع له كائنات استوحشت، وكل منحوتات الريح في هذا الموقع الأجرد تصيخ برهبة لهدير في طور التكون ينشد الانعتاق.
هناك، في الداخل، في قعر الكهف تتشكّل عناصر الخرافة الآسرة. أروقة مبلّلة بذهب لم يمسّه مغامر أو قرصان، أروقة تقوّست من فرط الوحشة والانتظار، هاهي تفتّت شذرات من هيكلها العاجيّ إنتشاءً بهذه اللحظة البهيجة : فبعد قليل ستشهد البعث الجليل، بعث الكائن الجميل الذي ظل زمناً بين أغشية النسيان.
(مهلاً، مهلاً، لا تسرعي يا ذرّات لئلا يفقد الرماد بعضاً من زغبه، أحيطي به مثلما تفعل الأمهات البشريات ووفّري له الحماية. وأنت يا فلزات، احذري من الهواء المتهور لئلا يخطف شيئاً من بهائه).
هناك، في الداخل، متخمة الأطراف بنداءات الخلق :
صيحات بدائية لا توصف، هتافات جهورية لا تحصى، عواء وعويل، فرح صاخب، حجرٌ يهدل، حديدٌ يصهل. وما من مخلوق بقادر على تمييز هذا التداخل غير الذي تآلفت روحه مع روح الأحجار وامتزجت أنفاسه بأنفاس الأسطورة.
يفتح الكهف كفه ليمشي بين ممراته الرماد المزهو بولادته وعرسه في آن، يصاحبه الدخان الفارد أبواقه ويجاوره العصف الذي يعلن جهاراً فرادة الحدث.
مأخوذةً، أرسلت السماء رسُلها : لبوءات مجنّحة تحمل الهدايا، نساء سماويات داخل مركبات من صنع الكواكب ينثرن قرنفلات الشمس، أقمار بشوشة تحملها غيوم حبلى بنبيذ الفردوس، وفي محفات أبنوسية مزدانة بالعقيق يمكن مشاهدة البروج التوائم وهي تطلسم طوالع المنجمين كي لا يعرف الإنس مجاهل الرحلة.
التربة أيضاً أوفدت سفراءها أسراباً أسراباً : زواحف تحمل سبائك الفُطر، جداول مرشوشة بالنعناع والزيزفون تقودها حيوانات مضيئة من مختلف الفصائل، أشجار متبرّجة فوق أفنانها تشرئب الطيور البرمائية، وفي مؤخرة الموكب تعود بنات عِرْس رافعة فراء السمامير كالبيارق.
حتى البحر المكابر بعث بوصيفاته، المتوّجات بعاج من اللازورد والمضمخات بعبير الموج، ليمجّدن الكائن الجميل وليهزجن بأناشيد سيدا البحر الذي بدأ - في تلك اللحظة - يأوي إلى برجه المنمنم بالأسماك الصغيرة متطلعاً بانبهار ناحية الصخور المرجانية المترامية عند شواطئه حيث سيبدأ الخلق.
الجميع جاء يحتفي
والجميع يهفو إلى المصاهرة.
انتصبت الأعمدة البرونزية حول الموقع الذي لم يطأه مغامر أو قرصان، وفي الأرجاء احتشدت الكائنات تنظر وتنتظر مخبئ قشعريرتها بين المقل. إنها تمد أبصارها في لهفة وفضول نحو الكهف والذي ينبعث منه الرماد الوابل متكوماً على الصخرة الهائلة. يتكاثر الرماد، يعلو حتى يكاد يخترق حجاب الفضاء، والأبصار ترتفع مع هذا النمو والتضخم الخارقين.
فجأة، ينطلق نفير صاخب، فتبدأ الهضاب المجاورة بقرع أجراسها الجامحة، ويهتز الموقع. عندئذ يجفل الحشد المتحلّق ويرتد قليلاً إلى الوراء، غير أنه لا يغادر المكان. فما حدث أمامهم قد خلب اللبّ وشلّ الأطراف، ولم يأبهوا للزلزلة والعصف.. إنهم الآن يشهدون النهوض العظيم، التحوّل الساحر.
من الرماد يتطاير شرر يرصّع الموقع بضوء مشعّ، ضوء حريري ينسج هيكلاً جباراً لكائن جميل يتشكل شيئاً فشيئاً، يتسربل بريش غزير لاهب مبقّع بشعل الشمس، وينقش في مقدمة رأسه الكبير منقاراً مقوّساً حاداً كسيف البرق، وعينين مستديرتين تخترقان المدى فتغور في البؤبؤ كل الشواطئ والحقول والمدن.
أخيراً، أخيراً ينبجس من جنبيه الجناحان : سرّ قوته، سرّ عظمته، جناحان مغسولان بالجرأة والهتك، يفردهما في شموخ وهو يدير بصره الثاقب هنا وهناك، متطلعاً في أنفة وكبرياء إلى الحشد الذي يهتف مبهوراً :
(ما أبهاه، ما أجمله..)
أنفاسه رياح فسفورية تلهب البقاع. خفقات جناحيه حكايات خرافية تتناسل في دهاليز القرون دون أن يكتشفها أحد.
يطلق الدويّ الفريد الذي به تكتمل الولادة، وفيه تدّخر الطبيعة خصوبة العناصر.
ويحلّق طاوياً تحت الريش سنوات حافلة بالتناسخات، مثقلة بالهجرة، وفي الرئة غبار المطاردة وطعنات الآلهة. يعبر المدائن والأنقاض والسهول والجسور والأبراج والمنارات. يعلو ويهبط، ملك عرشه الفضاء، صولجانه ذاكرة تحوم.. تسترجع جذور الأمس، تستقبل أبناء الريح الثرثارة.
يمد بسعة الأفق جناحيه، يتلفت حواليه، يحزم المرئيات جهةً جهةً ويكسوها بالومض الساطع.
لا يفشي سره لأحد
لا يفصح عن مساره لأحد
يهيم
مائدته المحيط
سريره أشكال الحجارة.

1998

****************