" حذار أن تنكسي رأسك
لئلا يقول الحارس الليلي:
هنالك امرأة
خجلى من الطريق الذي اختاره زوجها
(مبشري ـ شاعر إيراني)

هنالك امرأة تطل من الشرفة وترمق البحارة الذين يتزاحمون داخل وخارج الحانة..
(مبحر أنت بين ضفتيّ الغياب والحضور. حاضر
أبداً في أحداقي، فمتى تضيء صدغي
براحتيك يا زوجي؟)
مشبعين برائحة الأصداف، في جيوبهم ذرات السواحل الغريبة، وفي راحاتهم جدائل حبيبات عاشقات ينتظرن في المرافئ البعيدة، والذكرى درب مألوف ومأهول بالعصافير..
(للشوق لون مثل لون الومض في الأمسيات
الربيعية، مثل لون عيني طفلتك التي تسأل
عنك دائماً .. هل تذكر لون عيني طفلتك؟..
صارت شقية)
يتبعثر ضجيج البحارة هنا وهناك، يجهشون بالغناء، يتكئون على أكتاف بعضهم البعض.
يتراءى لها أنهم سرب من الطير المبلل بأريج الطل والضباب يجس نبض الليل الرطب. تنصت للصمت الذي يخيم للحظة، والذي يرحل بغتة بعد أن يجادله صخب الكؤوس والزجاجات الفارغة. تدير رأسها إلى الناحية الأخرى من الساحة العامة. هناك ما تزال تلك الصبيّة المجنونة، تركض في أرجاء الساحة دون أن تتوقف دقيقة أو تهدأ، يبدو أنها لا تتعب.. أو هكذا يخيل إليها.
(لقد حدثتك عنها في الرسالة السابقة. لا
أصدق أنها مجنونة. ذاك الذي يعمل نادلاً
في الحانة يصر على أنها مجنونة ومع هذا
فهو يجهل من تكون، ومن أين جاءت، وما
هو شكلها. أحياناً أتصورها شمساً. أعرف
أن خيالي جامح. لكن.. حقاً، لم لا تكون
شمساً متمردة؟.. يدهشني أن أراها في
مثل هذا الوقت فقط. لا أعرف أين تذهب
في النهار، لم يحدث أن رأيتها يوماً بوضوح.
أرغب في رؤية وجهها، قدميها، ذراعيها..)
شعرها يتناثر على أطراف الليل ويجمح، إنها تنطلق مثل بحر مضطرب، كأن أشباحاً مخيفة تطاردها. حركاتها عنيفة لا تستقر، نافرة كمخلب حيوان جريح في فخ. هذه الصبيّة تبتكر أبجدية نارية. أ وَهم هي أم رؤى تنبلج من السكون المصهور تحت عباءة الليل؟
(أبصر أصواتاً مبهمة تندلع من جوفها
الملتهب، تلامس الأحجار والنوافذ، لكن لا
أحد يصغي، وأنا أيضاً لا أصغي. أتوهم أشياء
كثيرة، بالذات حين أكتب إليك. في أحدى
المرات لم أستطع أن أمنع نفسي من
النزول ومعرفة سر هذه الصبية، لكنها
اختفت فجأة، وحين عدت إلى الشرفة رأيتها
ثانية، أليس هذا غريباً؟.. غداً سأطهو لك
طعاماً شهياً، لا تلتهم أصابعك مع الأكل..)
يغمرها الحزن دقائق، تسوق خيالات ذات أجنحة عبر دهاليز الوقت. تنفرج شفتاها حين تلمح زوجها مقبلاً نحوها بقميصه الأزرق، عاري الصدر، وهواء البحر يمرر نسماته بين خصلات شعره وعبر طيـــات قميصه.. فتجري أمامه وهي تضحك بعذوبة، تسرع حيناً وتتباطأ حيناً، وهو يصر على ملاحقتها والإمساك بها.. حين يحاذيها، يمسك بمعصمها فيختل توازنها وتسقط على الرمل الناعم، ويسقط فوقها وهما يضحكان، يقبلها وتقبله، ثم يتدحرجان على الرمل الأبيض الذي يشبه زغب الطير. تدنو منهـا موجـة عابثة، تلامس أطراف أصابعها برفق، فيرتبكان. يقترح عليها أن يبنيا بيوتاً من الرمل والزبَد، فتوافق، ويومض جسدها حين يحط النورس فوق هذه البيوت دونما حذر أو خوف.
(كنت تجلس على ذلك الكرسي وتقرأ حتى
ساعة متأخرة مـــن الليـل. أما زلت تقرأ؟
حاولت أن أبعث لك بالكتب التي طلبتها،
لكنهم رفضوا.. قالوا: هذه الكتب ممنوعة. لا
بأس، قراءة كتب من نوع (الوسادة الخالية)
لن تضرك على أية حال. أحياناً كنت تكتب
في الظلام، وأنت مضطجع على السرير،
خشية أن يوقظني ضوء المصباح، لكنني
كنت أشعر باهتزاز السرير.. لم تكن تتقن
كبت انفعالاتك أثناء الكتابة، ولهذا كنت
استيقظ دائماً وأضيء الغرفة.. وكنت تعتذر..
أمازلت تكتب في العتمة؟ في الشهر
الماضي استلمت قصيدتك وبكيت)
ينحدر بصرها نحو متسكع ينقب في براميل القمامة، يجد علبة سردين فارغة لكنه يمد أصابعه ليستخرج البقايا. يجد عقب سيجارة غير مطفأة، فيدخن بلذة ونظراته تكنس المكان، ثم يجلس مستنداً إلى الجدار ويغني بصوت أجش عن مدائن فردوسية، بواباتها من الرخام. لا يسمح فيها بدخول النائحات ومستهلكي المراثي، إذ أنها تخلو من الأرامل واليتامى والهائمين بالحب العذري والصوفيين والفقراء. في هذه المدائن، ثمة قروي يجلس القرفصاء وهو يرقب نضوج الثمرة في اعتزاز، ثم يجمع الثمار في سلة ذات ألوان زاهية ويحملها حيث تنتظره زوجته عند عتبة الدار لكي يقوما بتوزيعها. وثمة ميكانيكي يصلح العطب ويحيي رفاقه وهو يبتسم . ثمة نساء عاملات. ثمة أطفال ينقشون أسماءهم في جذوع الغابة. ثمة بلابل وأغنيات وسماء تتقلد أوسمة بحجم نجوم، وثلج وطقوس للبهجة وشموس للأعراس.
(هل تذكر أغنية الأصدقاء في نزهتنا
الجماعية الأولى؟ كانوا يتحلقون حول بركة
ماء، يبتكرون أهازيج طفولية مفعمة
بالطراوة، ويلاحظون تدرجاتها مخترقة دائرة
الصوت المعتاد.. أذكر أنك قلت ـ في حينها ـ
أن مثل هذه الأغنيات سوف تفيض يوماً من
خلايا الأعشاب وتدلف حدائق الجسد.
والآن.. اجلس في شرفتنا وأهفو إلى نزهة
جماعية جديدة.. يا الهي، ينبغي أن أحدثك
عن الأشياء السارة. تكفيك همومك.
حسناً. طفلتنا تزهو هذه الأيام لأنها تعلمت
كيف تقرأ وتكتب الجملة المفيدة. الفجر
على وشك المجيء، وأنا منهكة بعض
الشـيء. أحبك.)

يناير 1977

انفعالات طفل محاصر

-1 -

أتكئ على منضدة، بقربي كراسي وفناجين شاي وصخب الرواد وآيات قرآنية معلقة على الجدار وحكم وأمثال يعلوها الغبار ويغطيها الذباب، وليس بيني وبين البحر سوى جدار سميك. وأمامي تجلس فتاة ليس بينها وبين البحر سوى جدار سميك. وأنا أحبها وهي تحبني وهذا الحب سخي جداً ولكنه طريد، تلاحقه معاطف المخبرين بيتاً بيتاً، ركناً ركناً.. ولأنه خارج على القانون فإننا ـ أنا وهي ـ نخبئه في محاجر الفصول (كل الفصول حقول للفقراء) ونتظاهر بأننا زوجان شرعيان يمارسان الحب ـ دون حب ـ علانية أمام الرقباء وأولياء الأمور ومعاطف المخبرين، ونتظاهر بالإصغاء إلى ثرثرة المقهى، وحين نخرج من المقهى ندلف حديقة فقدت زهوها وكبرياءها منذ زمن، ونتنزه على مضض (كل حدائق هذا الوطن استحالت خرائب ومساكن للبوم والوطاويط) نستلهم الماضي والمستقبل ونصيخ السمع إلى آهات خافتة تأتي من بعيد، رنين أجراس تتوجع وتحترق ببطء، ضجيج أظافر تنتزع وهي في المهد. ثم خرجنا من الحديقة ودخلنا في فضاء مبهر ـ كان الباب مفتوحاً ـ وأبصرنا درباً طويلاً يفضي إلى الضوء ـ هكذا أيقنا ـ وتوغلنا.. تداعبنا النسائم والألوان وعرائس جميلة تتقدمنا.. وبين الفينة والفينة تلتفت إلينا العرائس وهي تبتسم، وكنا مأخوذين بهذا السحر المدهش. صار الدرب موجة نتهادى فوقها.
قالت حبيبتي: أسمع هديل البحر.
أومأت: وأنا كذلك..
لكن، بغتة اختفى الدرب والموجة والعرائس وانحسرت الألوان، فاكتشفنا مرة أخرى أنه ليس بيننا وبين البحر سوى جدار سميك.

-2 -

عين في الرأس وعين في الأرض.
هكذا ينحدر الذعر وينزوي في ركن غرفة موصدة الأبواب وخالية إلا من طائرات تقذف قنابلها في لحظات خاطفة ثم تختفي لكي تعود مرة أخرى وتشتعل، فتتناثر حشرجات الذعر وتقرع النافذة الوحيدة المطلة على بحر فسيح. لكن النافذة مغلقة، لذا ترتد الحشرجات وترتعش في أرجاء الغرفة وهي تتراخى رويداً رويداً ثم تشهق للمرة الأخيرة.
عين في الأرض.. العين طفل يحصى أصابعه، يفاجأ بأنها سبعة.. يغتم ويغفو في زاوية وهو يحلم بعشرة أصابع يغرزها في الأرض المالحة ليستخرج البرتقال. حين يصحو يتذكر أصابعه لكنه لا يجدها، فيفتح صدره للقذائف ثم يسدله وهو ساخط على تأويلات الأقارب الذين تنبأوا بأنه سوف يموت شيخاً بعد أن يعمر الأرض القاحلة، وها هو يموت الآن تحت وابل القذائف وعمره لم يتجاوز سبعة الأصابع.

-3 -

أعشق الريح والخليج والوقت الآتي والرمل والبحر والمراكب.
أمقت الجبن وفقد الذاكرة والحفلات الداعرة والزمان المعلب والغدارات والفنادق.
أعشق المرأة التي يهطل حزنها فوق ساعدي، وساعدها ثمرة شهية لها طلعة بهية يعشقها كل الأطفال وكل الأشجار وكل المدائن المغتصبة، وأجوب معها الطرقات التي أباحت صدرها لطعنة من الأمام وطعنة من الخلف، وأهمس لها أن نفترش العشب ونفتح الموائد والكتب والأسماء وكل الممنوعات، فتومئ موافقة، ونهمّ بأن ننفذ كل هذا، لكن يداهمنا الحرس ويفتح ثغرة في جبين المرأة وثغرة في صدري وثغرة في حنجرة الصمت.. ولا نموت.
أمقت الرقص الشرقي في العلب الليلية حيث تمتهن الأجساد ويصبح الفخذ والسرّة والذراع متاعاً مجانياً للزبائن الشاذين، ومدير الملهى يفتح زجاجة الشمبانيا في نخب زوجته التي تعاقر اللوطيين والمخصيين وأصحاب المصارف جهراً. ويضحك مدير الملهى ملء فمه، ولا يطبق فمه إلا حين تقتحم قطعة الفلين حلقه فيصمت مطرقاً رأسه خجلاً، لكنه لا يخجل حين يلمح أصابع عديدة تقرص نهدي زوجته العارية بل يضحك ثانية ببلادة ودون حرج.
وأمقت المبغى وأمقت السكون..
وأعشق فرحي الذي ضاع مني في اللحظة التي ولدتُ فيها.

- 4 -

الانتفاضة والسجن والأغنيات الحزينة التي تنحدر من السقف لكي تستقر على الأرض وتستند إلى الجدار بالقرب من أبي ذر الغفاري المتكئ على قميصه المبتل بالدم. وأبو ذر يرسم وجه وطن دامع العينين ثم يأخذه في راحتيه ويطلقه عبر الكوة البعيدة.. وأبو ذر يلتقط فرحه الصغير ويخبئه في ياقة قميصه لئلا يعثر عليه الحارس المهووس بالدم واللحم والصرخة. وأبو ذر يخاطب الباب ويكاتب الأحباب الذين ينتشرون في أروقة الحلم كاللبلاب، ويخاطب ترانيم الأزقة ويكاتب الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن في الغزوة الليلية المعتادة والزوجات اللواتي حملن أطفالهن وتناثرن في الضواحي الفقيرة. وأبو ذر يطبع قبلة على جبين فتاة كانت تزوره خلسة وتجلب له التمر والعشب والمطر المالح وتعتذر لأن المطر مالح، فيبتسم لها ويوشك أن يقول لهـا (هذا المطر أعرفه مثلما أعرف دمعات الوطن).. لكنها تختفي فجأة، فيبتسم ثانية.. وينتظر.

- 5 -

إنها مؤامرة.. هكذا صرخت.
إنها مؤامرة تنفذ بدقة.. هكذا صرخ الشاعر الذي اغتالوه وهو يكتب قصيدة جديدة.
إنها مؤامرة.. يحاولون أن يصوغوا عالماً لا مكان لنا فيه.. هكذا صرخ صديقي الذي أخذوه في ليلة من ليالي أغسطس لكي لا يفضح مناورتهم الجديدة.
........
وما زلت أصرخ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وصادفني قاطع الطريق وقال: أهلاً. أجلسني بقربه تحت جذع شجرة كبيرة، ودعاني لكي أقاسمه الطعام، كان الطعام قليلاً فخجلت، غير أني كنت جائعاً وكان هو جائعاً، فأكلنا ولم نشبع. أراد أن يتكلم لكنه لمح الحزن في وجهي، فصمت. بعد فترة.. قدم لي لفافة. شكرته بإيماءة من رأسي.
حينئذ انطلق في الحديث. قال أنه اختار هذه المهنة لأن هناك عصابات ترتدي قفازات مخملية قد احتكرت مياه الشرب ومنعتها عن الأهالي، ولهذا هو يحارب هذه العصابات ويسلب مواشيها وعرباتها المحملة ببراميل الماء ثم يقوم بتوزيعها على الأهالي. سألته عن اسمه فلم يخبرني. بل راوغ وراح يتحدث عن أشياء أخرى.. تحدث طويلاً عن الحصاد والأمطار وأعراس القرويين وأغاني الراعيات في السهوب ورؤيا الأنبياء.

حين ودعته.. اكتشفت أن وجهه ليس غريباً.. وجزمت بأني رأيته في مكان ما، ربما في كل مكان.. في النيل والفرات والأوراس وتل الزعتر و.. رجعت ولم أجده.

-6 -

في وطن ما اضطر شخص ما أن يبيع ذراعه الوحيدة بعشرة قروش، وذلك بعد مساومة فاشلة.
لم يكن في وسع هذا الشخص أن يفعل شيئاً آخر سوى أن يبيع ذراعه، فهناك.. تنتظره أفواه جائعة وحلوق جافة تقتات البرسيم وقصاصات الورق، خلسة، في الحظائر، وهو يدرك جيداً أن القانون يعاقب من يعتدي على الملكية الخاصة.
أثناء رجوعه، فكر الشخص في أن يشتري ـ بالقروش العشرة ـ خمسة أرغفة وطبقاً من الفول. ثم انتبه إلى أنه بدون ذراعين، فاكتأب وجلس على الرصيف وهو يفكر في طريقة يستطيع بها أن يحمل الفول والأرغفة إلى زوجته وأطفاله.

-7 -

تعالي أيتها المرأة المطهمة بالنار والماء. خذيني بين ذراعيك البيضاوين وامسحي على شعري برفق. اقرأي سري الغامض. قبلي جرحي الناهض. (هذا الساحل لا يعرف الاستغاثة، لا يسمع الاستغاثة). خذيني وضعيني في أتون الحب ولا تغادريني. تأقلمت مع الصبر زمناً. تكورت حتى أحدودب حلمي. حاورت القتل والإرهاب، فقتلتني الجريمة وشردني الإرهاب، وما عدت أطيق التأقلم والتكور. هذه أصابعي أمدها حيث تتقاطع الأنهار في عينيك وتنتشر كالمدى، كالأفق. خذيني يا أمي، يا أختي، يا حبي، يا وطني، يا مطري، يا مواكب الفقراء.
وذئاب الصحراء زمجرت في وجهي، وكنت ممدداً على الأرض. في كل رسغ قيد وفي كل قدم قيد، وكان صدري عارياً تحت وهج الشمس وزمجرة الذئاب، وكانت دمائي تغادر جسمي وترحل.. أراها تعبر حدود البصر. وبدأت الذئاب تلحس ما تبقى من قطرات الدم وتزمجر.
دب الخدر في أطرافي، والرعب. حاذيت الموت، حاذرت، تجاسرت، تجاوزت.. وكان الموت يبتسم في قسوة، وكانت الذئاب وكانت الغفوة، وكانت الصحوة، وفاجأني وقت بين الصحوة والغفوة.. أمسكني من يدي، هبطنا معاً في ردهات الزمن الفاتح ساقيه مثل عذراء مغتصبة. اجتزنا التلال البرية ووجدنا أمامنا مناجم مهجورة نبتت فيها جماجم بشرية. قلت في نفسي: هذا كابوس حقيقي. وطفقت ـ بعد أن تركني الوقت ـ أبحث عن بدوى متفرد، يفرد صدره للريح ويتجنب السراب، وما وجدني البدوى وما وجدت تلك المرأة التي تتقمص الاسطورة، دنوت بوجهي من التراب، أشم التراب، فأيقنت أنني في مكان يدعى الربذة.

-8 -

أبوذر يرسم على الجدار فاكهة ونهراً، ثم يتخيل شمساً رائعة تقتحم عزلته وتسرى في نسغه، فيغتبط، ويلهو مع أغنية شقية تتراقص وتتراكض في أرجاء المكان. يركض خلفها وهو يضحك. يمسكها بنعومة ويدخل فيها وتدخل فيه ويتمرغان في اللحظة المدهشة. تقدم له نبيذاً عذباً، فيقول لها: "اشهدي تحولات عالم جن في أمسية ضبابية".. ثم يطلب منها أن تصغي إلى وصاياه العديدة، وأن تكون ملهمته في السويعات التي تغفو فيها المدائن.
تنتهي الأمسية الساهرة دونما جلبة.. وحين يشعر بالتعب، يفترش الأرض ويبدأ في كتابة رسالة ـ يعرف أنها لن تصل ـ إلى زوجته.

-9 -

وصلت إلى موقع لا ماء فيه ولا شجر. قابلت الضغينة والنجاسة، فهربت إلى موقع آخر ذي زغب منتشر بإتقان ـ هكذا حلمت ـ أقرأ فيه سفر الرؤيا وأتأمل بانبهار القديس مار جرجس وهو يطعن التنين برمحه الذهبي ـ هكذا تخيلت ـ ولكنني ألفيت نفسي أمام موقع يقطع فيه الملك أصابع الأطفال لكي لا يكبروا ويشهروا السلاح ضده، وكان الملك يهتف بين الحين والحين: "هذا ما نصحني به كبير الكهنة". وهتفت بدوري: "سوف أبتكر مهنة ذات آفاق لا تخبو ولا تكبو عند أول صدام مع تناقضات الأرض".
غرست سهم الجنون في قلب الصحراء ومشيت.

- 10 -

أبا ذر.. خذ جسدي وتدثر به، وامنحني تلك النجمة التي تضيء جبينك.

يناير 1977

اللافتـة

الشرطي: هل تعتقد أنك وحدك ستغير العالم؟
الكهـل: لا.. لكن لا أريد أن يغيرني العالم..

من يطرق الباب ـ في هذه الساعة ـ غير كهل يرضع الطبيعة ويفاخر "أنا ابن الطبيعة" ويغلف جسده الشائخ بخيوط من الحكمة ولا يكذب حين يرفع سبابته ويكابر "أنا الطاهر في زمن الدعارة والمؤسسات النجسة".
من يطرق الباب غير كهل أعرفه، يأتيني في هذه الساعة، فأفتح له الباب، وقبل أن يدخل يرمقني بنظرة غامضة وبهدوء يتجه نحو فراشه وينام دون أن ينبس بحرف. أشعل لفافة وأظل أتأمل هذا الوجه وهذه الكهولة الحية وتلك النظرة الغامضة حتى ساعة متأخرة. في الصباح، حين يفيق من نومه، أسأله: "ماذا فعلت؟"، فيهز كتفيه ويزم شفتيه ولا يجيبني، ثم يغادرني حاملاً لافتته.
أذهب إلى العمل متأخراً كالعادة وأتبادل مع الموظفين أحاديث أليفة وأشرب الشاي وأفتح السجلات والملفات وينتابني الضيق والملل وأسأل نفسي: ماذا يحدث لو تحولت إلى مسخ يقرض المقاعد والسجلات بشراهة؟
ألوذ بالنافذة وأشتهي أن أكون طائراً مسحوراً ببراءة الفضاء، يتناغم مع جنون الحركة وشفافية الضوء. أنتقل مع الصوت والصدى، والمدى مسافة بين الموت والماء، وهذه الحشائش التي تلامس أطرافي تسري في جذعي الهائج أنا الطائر الشبق أتوق إلى نصل حاد يمرق عبر عنقي الطري لكي أعلن موسم الإنفجارات القرمزية. أعرف جيداً أن الحلم أصل الولادة، لذا ابتعد عن النافذة لأني على يقين بأنني لم أولد بعد.
من يطرق الباب غير كهل رأيته يوماً طريحاً على الرصيف، فاقد الوعي، دامي الوجه، والمارة ينظرون إليه بلا مبالاة ثم يمضون في سبيلهم.. دنوت منه وأخذت أحدق في الكدمات والتجاعيد وقميصه الممزق وقدميه الحافيتين. حدقت فترة ليست قصيرة، كنت مأخوذاً بهذا الوجه الطفولي الملوث بالغبار والدم. حملته بين ذراعي وذهبت به إلى غرفتي.. حين استرد وعيه، جال ببصره في أنحاء الغرفة ثم تمتم بكلمات لم أفهمها. همّ بالنهوض فطلبت منه أن يظل في فراشه ويستريح، لكنه أزاح يدي ثم خرج دون أن يغلق الباب، قلت: لعله تذكر زوجته أو أولاده أو عمله.

في الليل عاد حاملاً شيئاً يشبه اللافتة، توقعت أن يشرح لي الأمر، لكنه لم يفعل، بل اتجه في هدوء نحو فراشه ونام. دنوت من اللافتة وقرأت: "لتكن الأشياء كما هي.. لكن ليس هذا سبباً من أجله تظل كما هي. إن كل شيء في حركة" (1)
كان يحمل اللافتة، مع اندلاق قطرات الندى المنمقة التي تتدحرج على الوجه والنوافذ والطرقات في رفق وزهو. يجوب ردهات النهار معتمراً احتفالات ممنوعة. يسير بين مدّ الحلم وجزْر النوم مع ظله المنفرج.. يضع اللافتة أمام واجهة المحلات التجارية والمحاكم والبنوك ومكاتب التجنيد والحدائق المسيّجة والملاجيء والأقفاص والتلفزيون والأحياء الفقيرة.. وفي آخر الليل يطرق بابي.
من يطــ .. ..
لا أحد. ربما وجد مكاناً أفضل ينام فيه .
في الصباح، وجدته مرتمياً عند الباب، في ظهره تنتصب حربة ضارية، وعلى مقربة منه ترقد اللافتة ملطخة بالدم، فاغرة في تساؤل مرعب.

يناير 77

(1) العبارة لغاليليو ـ مسرحية بريشت.

ارتجافات عناقيد الماء في الهواء

"أسماء" تنشر الغسيل فوق سطح منزلها.
(يا ولدي.. أبوك بنى هذا المنزل هدية
عرسنا، فلا تهجره)
ولم يهجره. ظل يجوس بأصابعه الصغيرة داخل أنسجة ميلاده المنقوشة حول حواف الشقوق، وكان يحلو له أن يستسلم لخدر الوهم الذي يسطع كالسهم في شريان أفقه: ها هي أنهاري تتبع خطواتي التي تتقدم مثل كواكب متزاوجة صوب تلال شاهقة ينزوي خلفها حقل يحتفل بأعراس أبدية. هنا أرخبيلي. وتلك جزيرتي التي تمشط شعرها ضاحكة. أنظري...
( آه.. لم تهجر ولكن أخذوك. أين أنت الآن؟
هل تأكل طعامهم؟ سمعت أن حساءهم
قليل وعسير الهضم.. هل تلتحف هودج
أحلامك اتقاء البرد؟)
"أسماء" تهبط السلم على مهل مثلما تتدحرج الشمس وقت الغروب وتتثاءب بانكسار. "أسماء" تقف عند الباب وترنو، تدنو منها أصداء أصداف تغزل حوافها حول رسغي ولدها، تدنو منها روابي وأفراس وملاءات تحوك وجهاً حبيباً يصهل في ممرات الليل وينثر أسمدة زمن آت لا اعتقال فيه ولا اشتهاء ثدي بعيد. "أسماء" تضطجع على السرير، تصيخ إلى هسهسة متعبة تقترب، ثم تلمح أنفاساً يستدرجها الدفء المنبلج من أبطيها، يتهادى صوتها: "أهذا أنت يا عبدالله.. تعال".
تغشاه الغبطة، فينسل بخفة إلى حيث تضطجع، ويتمدد بقربها، كمجرى نهر يتداخل في مجرى نهر، تلقمه ثديها، فيتشبث بالثدي مثل طفل مشتاق إلى نكهة قمر في ليلة شتائية، أو مثل غريب اكتشف عاصمته بعد قرن من الجوع في قفص الغربة والنفي.
"أسماء" تغادر بيتها في الصباح، تشتري رغيفاً وفولاً، ثم تدلف دكاناً. يحاول صاحب الدكان أن يتفادى نظراتها الخجولة ويعطيها ما تريد، ويودعهـا قائلاً: لا بأس.. سيسدد ابنك الديون، فلا تهتمي.
(كيف؟ وأنا أرقب الفصول أسراباً تتحلق فوق
فخذي وتمضي ثم تأتي، ولا يأتي ابني
ليشق رداء اليأس الملتف فوق دهري. يا
نجمة البحر خذيني أو بعثري شعرك حتى
نهايات مواطىء أصابع حبيبي).
"أسماء" تأكل على مضض. "أسماء" تغسل ملابسها. بعد أن تنتهي تتكوم في غرفتها الضيقة ولا يسعها أن تأكل الحنين ولكن تتخيل أن لها حراشف، يعومان في محيط البهجة ويلتحمان مع زنابق البحر، يبيضان، كل بيضة عالم من السنابل تقف فوقها جماهير تشبه حبيبهما.. وحيدهما.
(آه يا حلم جرفتني كقشة حائرة في دهاليز
الفرح المجنون، فاتركني)
حيث توجد "أسماء" لا توجد حدائق أو أطفال يمرحون مع بالوناتهم وطائراتهم الورقية. أينما تذهب تجد مصرفياً أو تاجر أعمال أو شرطياً يجذب أجفان الهواء بقسوة، فيجفل الهواء ويركض هائماً تحت مظلات القمع. أينما تذهب تجد عاملاً مسرّحاً بعد بتر عضو من جسده، أو عاشقاً يحمل جسده الذي يغص باللهفة لمرأى أنثى تهفو إلى العشق المحرم في ردهات زمان جميل.
هذا هو الوطن: .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..

-أمي...
تحسست وجهه، عنقه، ذراعيه. لثمت كل أجزاء وجهه، عنقـــه، ذراعيه.. ثم بكت. أجلسها بقربه، وحدثها طويلاً عن فتاة قمحية اللون كانت تنتصب أمامه ـ بغتة ـ كالوقت، تمسد شعره وتقبله، وغالباً ما كانت تستحضر في مخيلته صورة حوريات يخرجن من البحر ـ مرة كل عام ـ فرادى، ويخترن زوجاً من أشجار الغابة، وحين ينجبن طيوراً تفرد ريشها حول أطراف عوالم تجهل معنى الاستغلال، يرجعن إلى البحر فرادى.
- ماذا فعلوا بك؟
- منحتهم أعضائي يعيثون فيها كما يشاءون، وتوسدت أحلامي المائية مقتحماً معها هياكل مدائني.. هل تذكرين؟ أنهاري، أرخبيلي، جزيرتي التي تمشط شعرها ضاحكة. أنظري كفي.. جوفي يتوهج مثل فراشة تحترق ولا تموت.

عبد الله ذهب يبحث عن عمل، غزته البطالة فترة من الزمن/ "أسماء" تنشر الغسيل وتغزل بشفتيها لحناً/ عبد الله يقرأ الجريدة/ "أسماء" تشوي بعض السمك وتحيي جارتها، جارتها سعيدة لأن أسماء تضحك/ عبد الله يتمكن من الحصول على عمل.. الأجر ضئيل/ "أسماء" تحدث ضوضاء مرحة ـ كان فرحها وقتئذ طاغياً ـ بدأت العصافير تطعن ذيلها برقة ونشوة، ها هي تسرق القش من الدكان لتصنع به عشاً. لا شيء أكثر فرحاً من الثلج المنهمر بعذوبة فــي فـم قرنفلة/ عبد الله مستاء لأن أجره لا يكفي لسد الديون المتراكمة. الكثيرون مستاءون لكن الخوف الشرس يترصد ويقتنص اللحم النابت في الشفاه شيئاً فشيئاً/ "أسماء" تطهو وترغب في أن يعزف الموسيقيّ عل آلتـه/ عبد الله يشـــــرح. يعلنون الإضراب. تتدخل الشرطة لفك الإضراب بالقوة. اصطدام. خروج إلى الشارع. اصطدام/ "أسماء" تسأل ابنها: ماذا حدث؟

(مونولوج عبد الله تحت سقف الحانة ـ فصل الخيبة)

نخب الانتفاضة المطعونة في الظهر، نخب النتائــــج، نخب الشــواطىء التي استهلكت بكارتها فعربدت ثم نامت مفتوحة الساقين. أضحت البنادق خنادق وفنادق نعاقر فيها خيبتنا ونضحك ملء أفواهنا رمل، ولم نعرف هل كانت الخطوة شفرة مرهفة تشج باطن القدم بعذوبة، أم كانت الخطوة جرحاً يضيء المرافىء القادمة؟ عرفنا أننا أخفقنا. نخب استحالة البراءة في زمن المراثي واختلاق المبررات الرخيصة. نخب جسدي الذي وهبته للرصاص الملون والتطلع الوهمــي. اسقني يا سيد الحانة، فأنا ألمح في قعر كأسي يأسي الممغنط يجرني من أنفي ويلبسني. سوداء أرضي وسمائي نسر ينقر مقلتي نقرة فنقرة.. يا رب الماء لم أعد أرَ شيئاً، فالرؤى تترنح أمامي من شدة السكر. يا سيد الحانة قبلني وداعب ذاكرتي بالملعقة واصرخ معي: المجد للهزيمة.

(النصل لا يخترق الماء ـ فصل الاختيار)

تعلو هامة "أسماء". تتقدم بثبات، بعد أن أخفت أمومتها تحت جلدها الحريري، نحو ابنها الذي كان يحدّق في كأسه تائهاً في أدغالها. تنتزع "أسماء" الكأس وتقذفها من النافذة.
- أمي..
- جبنت يا عبد الله.
- أمي.. لا جدوى. أرهقتنا منحدرات الفضاء الملغومة. نتحلق ثم نسقط، فما الفائدة.
- هل رأيت مرة عندليباً يشق بمنقاره تلاً من الغبار؟ .. أنا رأيت، لقد كان على يقين من أن خلف التلة ثمة نبع يشع نقاوة. وأنا رأيتك في صورة عندليب، فلماذا هشمت المرآة؟
- عند كل التفاتة أبصر شخصاً تتدلى أحشاؤه بفعل الرصاص. لقد أدركت بأننا نهب أنفسنا للموت بمجانية.
- موتكم ابتداء. أجسادكم النازفة بارتخاء تصبح جسوراً تصل الإنتهاء بالبدء، أما تعلمون.. أما تعلم؟

-يا لتعاستي.. أنكرت وجهي فلا تنكريني. أذكريني حتى مشارف شعرك، أذكريني عند مضائق خاصرتك السماوية، أذكريني حين يسمو ظل الغابة في جفني أرملة تدعى الثورة.

( أما آن لهذا الفارس أن يترجل ـ فصل المخاض)

مجزرة أم احتفال غجري؟ تتوزع الجثث على مائدة الجريمة مثل عصافير فاجأتها طعنات ضارية فتهاوت وهامت في أقبية الموت البدوي. مأدبة؟ هكذا تغفو الينابيع فترة ريثما تفيض ثانية في قارورة زجاجية يحملها أطفال، عمال، بزغوا للتو من رئة رحم جميل كالثلج.
تتمتم "أسماء" أمام كل جثة: "هيا أنهض، فاليوم هو عرس النهار السري".
تقف قبالة ابنها، يطالعها الدم المبثوث في شكل وريقات شجرة يانعة، ترفع الذقن المنحني "ارفع رأسك يا ولدي.. موتك ابتداء.. ها قد تعلمت".
"أسماء" ترفع راية فوق سطح منزلها. "أسماء" تتحول إلى برق يهطل على متاريس الفقراء قطرة فقطرة.

فبراير 1976

الأشجار تزهو في الحي الهادىء

رسمت الطفلة وردة في جوفها شمس تضحك.
ضحكت الأم وسألتها: لماذا ترسمين دائماً وردة؟
رفعت الطفلة رأسها ونظرت إلى أمها طويلاً. عند الباب، وهي تتأهب للخروج، أجابت: لأن أبي داخل الوردة.
في الحي الهادىء تزهو الأشجار.
في الحي الهادىء تتناسل المحاكم.
في الحي الهادىء كل شيء هادىء.
في الحي الهادىء مشت الطفل، تتأبط الورقة التي رسمت داخلها وردة وشمساً تضحك، اتجهت صوب المحطة. في المحطة قطار ومسافرون يفقدون ذاكرتهم ـ عادة ـ عند شباك التذاكر، وحارس محطة ينتهرها في معظم الأحيان، وفي معظم الأحيان تلوح له بالورقة.. "هذه لأبي، هل يسـتطيع أحد أن يسـلمها له؟" وفي معظم الأحيان يتفرس حارس المحطة في الورقة ويمزقها، فتطير القصاصات ثم تتناثر تحت عجلات القطار الذي يهتاج في صخب مفزع ويدهس القصاصات، وفي داخل القطار مسافرون فقدوا ذاكرتهم فخلعوا ملابسهم ملوحين بها.. وداعاً.
قالت الأم : سأروي لك حكاية.
لكن الطفلة نامت قبل أن تسمع الحكاية. الأب نظر إليها في وداعة وحنو ثم داعب أهدابها: سأروي لك حكاية. وبدأ يحكي وهي ترنو إلى أفق وردي يميل إلى الصفرة، وفي الأرجاء تتوزع ساريات عالية، تحيطها مجموعات من الناس الذين يسكنون الحي الهادىء. تنفرج شفاههم وتترنم بأناشيد غير مألوفة، ثم يبدأون في الدوران حول كل سارية في ايقاع راقص ومتناسق.
تساءلت الطفلة: ماذا سوف يفعلون بالرجل؟
لكن أحداً لم يسمعها ، فقد كانوا يحدقون في جزع ممزوج بالشفقة.. الرجل كان مقيداً بسلاسل غليظة والدماء تغطي وجهه وجزءاً كبيراً من ثيابه، وأمام بصره كان بضعة رجال يرتدون ملابس عسكرية غريبة، منهمكين في صنع صليب خشبي. وفي ركن بعيد عن الجموع المحتشدة، كان شخص ضخم الجثة يقف مع اتباعه ويتطلع في قسوة نحو الرجل والصليب والناس.. بغتة اخترقت الصفوف امرأة تشبه الحزن أو الفجيعة، تجر وراءها أطفالاً، بدت التجاعيد في وجوههم واضحة. ارتمت المرأة تحت قدمي الشخص ذي الجثة الضخمة وصاحت:
"من أجلنا فعل هذا، كان جائعاً وكنا كذلك".
رفسها الشخص في صدرها وارتعــد قائلاً: "من يجرؤ على سرقة بيتي لا بد وأن يتوقع العقاب".
لم يكن الصليب الأول في هذا الحي الهادىء.. وفي الحي الهادىء تمتمت الطفلة: "إنه يشـــبه أبي..". لذا بكت الأم ، وفقد اللعب براءته، وشاخت الطرقات، وظل طائر البحر وحده يسير بتمهل حيناً، ويجهش بالبكاء معظم الوقت.
الطفلة كانت تشعر برهبة امام العمارات. وفي مرة حاولت أن ترسم مصعداً، فرسمت عجلات سيارات متراكمة فوق بعضها. وفي الحي الهادىء تسامق الغضب المكبوت كقبضة يد يطوقها قيد حديدي.
هذا ما حدث في يوم غائم :
رجل يترنح واضعاً كفه على قلبه، وفي الجهة المقابلة امرأة يجرها كلب جميل يرتدي فرواً فاخراً.. قبل أن يلتقيا، يسقط الرجل ميتاً، يتوقف الكلب فتتوقف المرأة.. يصعد الكلب فوق صدر الرجل ويبول عليه، تدير المرأة رأسها إلى الجهة الأخرى باشمئزاز وتهمهم وهي تضغط على الحروف: ألم تجد مكاناً أنظف تبول فيه؟
هذا ما حدث، والطفلة رأت ما حدث، وما حدث أفزعها كثيراً. انحنت على ركبتيها وراحت ترمق الرجل ثم مدت يديها ومسحت القذارة، تمتمت: "إنه يشبه أبي". لذا بكت الأم، وفقد رذاذ المطر نقاءه، وخرجت الطفلة تجري خلف مالك البيت الذي هدر في وجه أمها. لمحته يهرول صوب البحر حاملاً حقيبة جلدية، وعند الشاطىء سرق ماء البحر ثم اختفى، وسمعت الطفلة طائر البحر ينتحب ولكن الطفلة لم تعره انتباهاً، بل واصلت سيرها على الرمل الناعم والعشب والأصداف، وسمعت خلفها نداء فالتفتت ورأت راهباً، قال لها حين جاورها: "أيتها الشاة التائهة، من الواجب أن أخلصك من روح الثورة الشريرة".. فصاحت الطفلة: "أغرب عن وجهي يا نجس".
رسمت الطفلة وردة في جوفها شمس تضحك.
سارية تحاذي سارية، الرجل يحاذي المرأة، الطفل يحاذي الطفلة. الطفلة دارت حول سارية، وكتبت فوقها.. ثم شعرت بغبطة عندما ضحكت أمها ولم تبك بعد أن تمتمت "إنها تشبه أبي"، ثم جاء أبوها وداعب صدغيها فنزعت خصلة من شعرها ووضعتها في راحة يده التي صارت واحة فسيحة على حوافها تنمو أشجار، والأشجار تزهو في الحي الهادىء الذي لم يعد هادئاً منذ أن خرج الأهالي من بيوتهم محتجين وأحرقوا جلودهم، ثم التفوا حول السارية، وأعلنوا موت الصبر والخوف وقالوا: نريد قمحاً.
استعان أصحاب الأراضي بالجنود، والجنود جاءوا بعد أن أمروهم باستعمال القوة عند الضرورة، واستعملوا القوة، وسقط رجل ثم نهض، وسقطت امرأة ثم نهضت، وسقطت الطفلة ثم نهضت ورسمت على السارية شمساً تضحك داخل وردة، واخبرت أمها أنها رسمت وردة أخرى.

يناير 1976

النافـــذة

ويأمرها السيد بأن تكنس الغرفة مرة أخرى، فتحتج صامتة لأن الغرفة نظيفة ولأن هذا مجرد عذر لكي يتطلع إلى جسمها الجميل.
تفتح النافذة ـ بعد أن يخرج السيد ـ تصافح الهواء الذي يستقبلها بضحكة عذبة.

-تطيرين ؟

-أطيـــر.
يأخذها إلى مكان تزهو فيه الألوان وتومض، تحدث انعكاسات في الجدول حيث الماء نقي وشفاف. النساء تستحم والرجال يقطفون ثمار الأشجار والأطفال يمرحون على العشب.
تسأل طفلاً: تلهو منذ وقت طويل، ألا تشعر بجوع؟
يضحك الطفل: عم تتحدثين؟
فتقول له: سوف تمرض إذا لم تأكل..
يهز الطفل رأسه: لست جائعاً ولم أمرض قط..
تقول: ولكن الموت..
يضحك عالياً..
تسأله: لماذا تفتح فكيك هكذا وتطلق هذا الصوت الغريب؟
يجيبها بدهشة: أنا أضحك.
ثم يجري بعيداً عنها.
تحاول أن تفعل مثله. تفتح فكيها، وتدفع صوتاً ممزقاً من صدرها.

-ماذا تفعلين؟
تغلق النافذة بسرعة. كان السيد يتأمل ظهرها.
- تنبحين كالكلبة.
يقترب منها. تلتصق بالنافذة. يقترب أكثر.
في المساء، بعد أن تأكدت من أن السيد نائم، خرجت من القصر حافية. مشت صوب النهر القريب. وهناك تعرت وهمست في أذن النهر وهي تعانقه: "كن رفيقاً بي هذه الليلة". يحتضنها النهر: "لاتزالين نقية".
كان الجوع يرمقها بنظرات وحشية. وكانت هي تحدق في السيد الذي يلتهم اللحم بشراهة. يعض الجوع جنبها وهو يقول: "أريد طعاماً".. يقهقه السيد: "أنت جميلة هكذا".
تغسل الأطباق الخالية بعد أن تلعق البقايا.
تفتح النافذة.

يأخذها الهواء. يلوح بيديه صوب: الفجر الأبيض الذي يلثم جبين الأفق. اللعب. رجل يخيط قميصاً ويرتديه. الحب. المرأة ترش الأرض ماء وبذورا. الشجرة تثمر تفاحاً بلون المطر. قطة نائمة على صدر فضاء يرسل بين الحين والحين نجمة أو قمراً.. للإضاءة. الدفء.
تمشي. فجأة يقف أمامها السيد: "انزعي حذائي. قبّلي أظافر رجلي. العقي أصابعي. أدخليه في جوفك.. جوفك كهف لا أفهمه ولا أريد أن أفهمه. هاك أسناني. نظفيها جيداً. دائماً أراك تصلين. لماذا؟ لمن تتوجهين؟.. آه. الخوف. تخافين.. هذا أفضل".
يتحسس النهر يدها، يتمتم: أحياناً أفكر في أن أرثى لحالك، لكنني لا أفعل لأنني أدرك أن في إمكانك تغيير ما يحدث. هل فكرت يوماً في تسلق جسدي، لكي تصلي إلى الضفة الأخرى؟
تجيب: فكرت كثيراً، وفي كل مرة أقول.. هل هو الوقت المسافر الذي لم يعلن عن موعد رجوعه، أم أنه الوقت الذي ينتظر بين الأهداب؟
تنظر في عينيّ السيد. تخبره بأنها تنوي ترك العمل.
يصرخ السيد بعد أن أطلق قهقهة صاخبة:
- أنت غبية يا سيدتي الجميلة، غبية تماماً. ألا تدركين أن خروجك يعني موتي. أنا لا أريد أن أموت. هل تفهمين؟ امسحي حذائي يا قذرة. العقي جسدي كله. شمّي رائحتي لئلا تموتي تحت الغبار والطين. وجودك يعني أني سيد هذا القصر.. سيد العالم.. بدونك لا أكون سيداً. هل تفهمين؟
تقف أمام النافذة، لكنها لا تفتح النافذة.

مارس 1975

ولم ينته هذا الحلم البلوري

وفي نهاية السهرة تمنوا له أحلاماً سعيدة فنام مطمئناً.
في الصباح، ينظر إلى المرأة. لم يتعرف على وجهه في المرة الأولى. يحدق ثانية ـ عينا الرجل الجاحظتان تنظران إليه، تقتربان ببطء، يحاول أن ينهض عن كرسيه لكنه لا يستطيع، عينا الرجل مشدودتان إلى عينيه، وتقتربان أكثر، تكادان أن تلتصقا بعينيه، فجأة تسقطان بين قدميه ـ يطلق صرخة عنيفة.
تقف الخادمة أمامه.
يهتز صوته: تأملي وجهي، ماذا ترين؟
عادي صوتها: لا شيء يا سيدي.
يدفعها خارج الغرفة، يقفل الباب ثم يعود إلى المرآة. هناك شرخ في جبينه، يبدو واضحاً جداً. يتحسس الشرخ.. إنه عميق. شخص ما ضربه بشيء حاد وهــو نائم.. ربما الخادمة. لم تكن تنظر في وجهه حين قالت "لا شيء".. هل هذا ممكن؟ أن يضرب بشيء ما دون أن يشعر ودون أن تنبثق نقطة دم واحدة؟
يفتح النافذة .

• فضاء أسود معتم.
• إضاءة قوية تسطع فجأة على رجل صريع وعشرات السيوف مغروزة في أنحاء جسده.
• صرخات وحشية تنطلق من الخارج.
• قدم المصارع تضغط على عنق الرجل.
• هتاف وتصفيق من الخارج.
• عينا الرجل الجاحظتان تنظران إليه وتقتربان....

يقفل التلفزيون بعصبية واضحة، ويعتذر لأصحابه طالباً منهم أن يلعبوا الورق، فيلعبون ويضحكون لنكتة يحكيها أحدهم:
"ذهب رجل ـ يبدو عليه الفقر الشديد بسبب ثيابه الممزقة القذرة، ولأن الذباب لا يفارقه لحظة واحدة، فقد ذهب معه ـ إلى عيادة طبيب. بعد الكشف نصحه الطبيب بأن يأكل ديكاً رومياً وتفاحاً ويشرب حليباً كل يوم وأن يمتنع عن أكل التمر والرغيف. في اليوم التالي وجد الرجل ميتــاً وكذلك الذباب".
وبعد أن ينهكهم اللعب والربح والخسارة والضحك. يقترح هو أن يتجولوا قليلاً. يعتذر البعض لأن الوقت متأخر. يتجول هو وصديقه وزوجة صديقه. يطوفون الشوارع المضاءة بالنيون. يشمون الهواء الصناعي. يدخلون مسجداً كان بابه مفتوحاً.. ثم يغادرون.
الغرفة خالية، بدون أثاث أو لوحات عصرية أو تماثيل افريقية أو مرايا أو نوافذ أو باب.. وهو محاصر في الغرفة، يتلمس الجدران ذات الألوان الداكنة، ينتقل من ركن إلى آخر لاهثاً، لا يستطيع أن يخرج. يدور. تهاجمه ـ فجأة ـ أصوات غامضة لا يعرف مصدرها، وقهقهات. يتطلع إلى السقف، يجد وجوهاً زيتية شاحبة تحدق فيه وتطلق صفيراً حاداً. يلتصق بركن ساداً أذنيه بيديه، ويتكوم هناك وهو ينتفض، عاجزاً عن تمييز ملامح الوجوه. أسنانه تصطك والعرق يبلل ثيابه، ورويداً تتلاشى الأصوات ويحل سكون مفزع، فينظر إلى السقف ثانية ويجد أن الوجوه ما زالت في مكانها، ويكتشف أن الملامح هي نفس ملامح الخادمة، فقط الأوضاع تختلف. يشعر بتيار من الهواء خلفه، يمد يده فتصطدم بثقب صغير. يستلقى على الأرض ويزحف متسللاً من الثقب. يجد نفسه عند بوابة مصنع ضخم.
يجري نحوه صديقه ويسأله : أين كنت؟
يبتسم بصعوبة: كنت أقضي حاجتي.
يسحبه صديقه: هيا، زوجتي في الداخل تنتظر.

-هذا المصنع ينتج مليون طن في السنة، ويوزع بشكل جيد في الداخل، وأحياناً في خارج البلاد، الكوابيس عنصر أساسي في حياة الناس، لذا فكرنا في صنع أحلام جميلة تجلب السعادة والغبطة.
لقطة قريبة لممثل شاب، وسيم جداً، واقف على حافة
جدول ناظراً مباشرة إلى الكاميرا، يتحدث الشاب،الصوت
يخبرنا:
"يقول الشاب أن هذا المكان جميل، الشمس مشرقة
والأشجار الخضراء تحيط بالمكان، وكثيرون من الناس
السعداء يستمتعون بوقتهم. يقول الشاب، إذا كنتم لا
تصدقون ما يقوله، فانظروا..".
في هذه اللحظة تتحرك الكاميرا فجأة إلى الخلف وإلى
أعلى، تاركة الشاب في الزاوية اليمنى من الكادر، في
حين يبدو في الجهة اليسرى مشهد رائع جداً لشــــلال
يتدفق فـــي بركة طبيعية فــي واد صغيــر ظليل، حيث
الشـــبان يغوصون ويسبحون في ماء رائق. (*)

يمرر أنامله بين طيات شعر الزوجة، وحول أذنها وجيدها الناصع البياض. ينزلق ثوبها، الزوج يخفي وجهه بين أصابعه ولكن بطريقة يستطيع بها أن يرى جيداً ما يفعله الاثنان. يمرر هو شفتيه على ظهرها الذي بدأ يشتعل. يعرّيها، تعريه، ثم يستلقيان كحيوانين مسعورين ينهشان بعضهما، تنتاب الزوج نوبة من الضحك المفاجىء. يلتفتان إليه، ولكنه يستمر في الضحك.. "تضاجع زوجتي أمامي يا ابن العاهرة".. التراب يشتعل والأنفاس تشتعل. تنتصب الشهوة في جسد الزوج فينزع ثيابه ويرتمي على احدى الآلات. يمتزج العرق بالزيت، بالأنفاس، باللهاث، بالأجساد، بالمصنع. ويسقط ظل. تقف الخادمة، تمسك سوطاً بيد وكتاباً بيد، وتقرأ.
دوائر الشهوة ما زالت تلف الأجساد الغائبة وتقيد اللهاث الساخن المتداخل في العروق النافرة. تهوي الخادمة بالسوط على هذه الأجساد، وتقرأ.
يرتدون ثيابهم وكأن شيئاً لم يحدث. يغادرون المصنع. وعند بيته يودعهم قائلاً: كانت سهرة ممتعة. يدخل البيت ويشعر بجوع. ينادي الخادمة النائمة، فتنهض على عجل، وتعد له طعاماً يلتهمه بطريقة بدائية. بعد أن ينتهي، يبدأ في مراقبة الخادمة التي تنهمك في جمع الصحون وبقايا الأكل، فتنفجر الشهوة مرة أخرى في جوفه. يمسك معصمها بقوة ولكنها تفلت منه، يلاحقها، يمسكها من الخلف فتستدير بغتة وتصفعه على وجهه ثم تجري إلى غرفتها. يقف مبهوتاً، لا يصدق أنها تتجرأ ـ يوماً ـ وتصفعه. لكن هذا ما حدث، وهذا الفعل قد شلّ حركته ولسانه تماماً. يصعد السلم المؤدي إلى غرفته بخطوات ثقيلة، يتحسس وجهه فيلاحظ بفزع حدوث تشققات في خديه وذقنه. يندفع إلى المرآة وينظر.
دقات مطرقة عنيفة. القاضي يلتفت إلى المدعي العام ويقول: لقد صفعتني على وجهي. المدعي العام يلتفت إلى المحلفين ويقول: أقسم أنها صفعتني على وجهي. المحلفون يلتفتون إلى الشاهد ويقولون: قانونياً لا يجوز أن تصفعنا على وجوهنا. الشاهد يلتفت إلى القاضي ويقول: لقد رأيتها وهي تصفعني على وجهي. القاضي يدق بالمطرقة على المنصة عدة طرقات صاخبة: حكمت المحكمة..
تقف الخادمة وتخرج بثبات من القاعة. يتحرك خلفها جنود مدججون بالأسلحة. تمشي والجنود يتعقبون أثرها. تقف حمامة على كتفها وتهدل، تأخذها برفق وتمسح على ريشها وتقبل منقارها ثم تطلقها عالياً. يصوب أحد الجنود بندقيته، فتسقط الحمامة. ثم يسحقونها بعقب بنادقهم وأحذيتهم ويتابعون السير. تغني الخادمة للحب والريح والقمح والفرح، فيهرع الجنود للقبض على الحب والريح والقمح والفرح. تصل الخادمة إلى حقل فسـيح الأرجاء. يحاصرها الجنود. لا يبدو عليها الخوف أو الحزن، تتحرك في شكل دائري وهي تحدق في الوجوه المتربصة بها. بعد ذلك تجلس على العشب وتخط بأصبعها:

ذاب الوجه في الماء ، في الصمت
ثقل هائل على النهد
ماء كثير في الجرة
ظلال كثيرة مراقة
دم كثير على السلالم
ولم ينته هذا الحلم البلوري (2)

يتقدم جندي ويرفسها بعيداً، ثم ينحني ويأكل العشب والحروف. عندئذ، يصوب الجنود بنادقهم نحو الخادمة.
تعكس المرآة وجهاً متشققاً يتسرب منه الدود، فيشهق السيد فاغراً فمه في رعب شرس. يرتطم بأشياء الغرفة، بالنافذة.
• فضاء أسود معتم
• اضاءة قوية تسطع فجأة على رجل صريع وعشرات السيوف مغروزة في أنحاء جسده
• صرخات وحشية تنطلق من الخارج
• قدم المصارع تضغط على عنق الرجل
• هتاف وتصفيق من الخارج
• عينا الرجل الجاحظتان تنظران إليه، وتقتربان....

وتقترب الخادمة، تحتضن العينين الجاحظتين، ثم تجلس على العشـب واضعة رأس القتيل على فخذها:
هنا، في هذا الحقل، تزوجنا أنا والنهر. كان يوماً دافئاً، وكان أطفال الحقل يتسابقون مثل طيور جميلة. هنا، في هذا الحقل، تناسلنا. كان نهراً وكنت شجرة مشتاقة.

(1) مشهد من فيلم "ريح من الشرق" للمخرج الفرنسي جان لوك جودار.
(2) من قصيدة " قوس قزح " للشاعر الفرنسي بيير ريفردي.

مارس 1975

العــــواء

توقفنا عند حدود الكلمات المنطوقة والمهربة، فوجدنا أنه لا توجد همسة أو صرخة أو صدى في كل قواميس اللغات إلا ومارسناها.. عندئذ صمتنا. كنا في مقهى، نتبادل النظرات والأبجديات المألوفة وقرع الكؤوس.
أردت أن أقول: "لنكتشف لغة أخرى بلون أحداق الشمس".. لكنني لم أقل. فتش أحد الأصدقاء تحت الطاولة وفي أحداق الجرسون، عن مخبر أو آلة تسجيل. ثم قال بعد تردد: "سوف أقرأ لكم منشوراً سرياً".. وقرأ: كانت هناك غيمة مشطورة نصفين. نصف ماء ونصف برق. جاء السلطان، شرب الماء واعتقل البرق.
صمت الصديق ثم أردف: "ألا تسمعون عواء الغيمة في ليالي الفصول الساكنة؟".. فجأة قفز كهل لا أعرفه فوق طاولتنا وأخذ يتلوى ويئن ويقفز بكل ما يملك من عنف وحقد وألم، وحين تعب توقف وقال: هذه رقصة بدوي أنهكه البحث عن خيمة وعشب.
خرجت وحدي. كان ليل وبرد وصمت و.. صوت. صوت يأتي. يأتي مترنحاً. يقترب. يتضح الصوت. كان عواء، اخترق طبلة الأذن ولم يغادر. فزعت وركضت والعواء ما زال يسكن الأذن. ثم، بقوة مجهولة، أغلقت الأذن. أغلقت الباب، فمات الصوت. بين اللهاث واللهاث مسافة بحجم عصر من الهزيمة والهروب.
في الغرفة، في الجدار، في المرآة.. امرأة. أشتهيك يا امرأة كانت في الماضي تدعى الحبيبة. ها هي عروقي تنتصب. أدخل فيك، في المرآة، في الجدار، في الغرفة. ماذا يدعونك الآن؟ .. تعالي، لنعزف تقاسيم الخيبة والضجر والموت المشترك، نفترش الرمل المتوهج بالشهوة والدم، نقتل بعضنا، نأكل بعضنا، ولتكن هياكلنا طعماً للأطفال الذين يأكلون احذية آبائهم. تعالي يا حبيبة كانت، وحبيبة ما زالت.

***

باب كبير ينفتح، أدخل، اللون الأبيض يغمر كل شيء: الأشجار، التراب، الهواء. ضباب شفاف يدور حولي. امرأة بيضاء قادمة نحوي، يغمرني فرح أبيض. إنها هي.. قادمة، لا تمشي ولا تطير، تقف قبالتي. نمشي. هناك أرجوحة، تبتسم فابتسم، نتأرجح.. وفجأة تصرخ.
أتشبث بالجدار وأبكي لأنني وجدت نفسي وحيداً.

***

كان ليل وبرد وعواء.
أنا المتعب والخائف أسألك يا جرح أن تأخذني إلى مدن لا يسكنها حبل مشنقة، فالصديق الذي قرأ المنشور كان مرمياً بالقرب من سرداب قذر، ممزقاً بالطعنات وعلى صدره التواقيع والأختام.
قالت الغيمة: أنظر البيوت يلتهمها الوباء مرة في اليوم أو أكثر.
قالت الغيمة: أنظر كيف أعين الأطفال صارت مصابيح تزين القصر.
قالت الغيمة: أنظر كيف يسرق الأعيان والجند ملح الأرض.
قالت الغيمة: ليفقأ كل جبان عينيه أو يرحل.
كان ليل وبرد وملصقات وخطوات سريعة وصفارات حادة.
كان نهار وناس وأغنيات حب.
بغتة، زحف الجنود من كل جانب وصوبوا البنادق.

البيوت الهزيلة تتقاذفني ببطء، لا أستطيع أن أقاوم، لا أستطيع أن أقف على قدميّ. وهذا الدم النازف من الصدر والذراع ما زال يتدفق. جثث في كل مكان. وصدى صوت.. صوت يأتي من بعيد. يتضح الصوت. أغنية حب. عواء، يتزاوجان. يشكل العواء بعداً آخر. استمد من الأغنية ـ العواء قوة غريبة تجعلني أتحمل التحديق في الأعين الميتة. أتجاوز الجثث، أجد نفسي في مساحة صغيرة خالية. أجد صعوبة في فتح أجفاني. أشعر برغبة في النوم، في أن أستريح.
أصابع خشنة تتجول في أنحاء جسدي، بدءاً من الخاصرة حتى الجبهة. وأسمعه يعدّ الجروح.

-أهذا أنت يا أبي؟
- نعم..
- كنا نغني فحسب.

-أعرف، سوف أتركك تموت بهدوء، وداعاً.
أشتهيك يا امرأة.. تعالي، هكذا. اخلعي الرداء، أحب ابتسامتك، أحب عريك الجميل، جسدك النابض بالحلم. هكذا.. استلقي بجانبي، خذيني في حضنك الدافىء، رائعة أنت. والآن دعيني اكتشف بذورك.. جذرك الطالع الذي يشق الخراب ويعلن أن العالم جميل.. لم ننته بعد، إلى أين أنت ذاهبة؟

-سوف أتركك تموت بهدوء، وداعاً.
لون أبيض بدأ يظهر تدريجياً حتى غمر المكان.

اكتوبر 1974

نجنسكي.. حنجرة الرعد

(نجنسكي.. نجنسكي.. أين أنت؟
أما زلت تقيم في الفندق المهجور الذي يدعى الجنون؟
أنا الرعد، فقدت حنجرتي.. أناديك نجنسكي.
من يرقص في حفلة عرسي الأول؟)

إنها الحرب:
]سأرقص لكم رقصة الحرب.. بشقائها وموتها.
الحرب التي لم تفعلوا شيئاً لمنعها والتي أنتم
مسؤولون عنها[

نجنسكي يركض وينزف ملحاً. الرعب في العيون الهاربة والصحراء غطاء للجثث. هذه يد مبتورة كانت تعمل، تتحسس، تداعب شَعراً. الجثث تقوم وتُقتل ثانية. يغادر نجنسكي خندقاً ـ قبراً إلى خندق ـ قبر آخر. جندي يرتعش. ماذا تفعل هنا؟.. طابور طويل من الجنود، والقادة يخطبون بحماس: "إنه الوطن.. إنها الحرب".
طابور طويل من القتلى، والقادة في الشقق الفخمة يعقدون صفقة الصلح وفك الحرب. نجنسكي يسأل الجندي: لماذا؟ فيجيب: "إنه الوطن.. إنها الحرب".
يصرخ نجنسكي. يقفز إلى أعلى.. أعلى. تخترقه رصاصة فيهبط يهبط.. الحركة بطيئة جداً. تنفقىء عيناه، تصطدم بالأرض، تتدحرج وتسقط في الخندق. العين كرة أرضية تحترق.
( نحنسكي.. نحنسكي
يا عالماً فقَد عذريته واحترق،
أين أنت؟)

أمسية الحيوان الخرافي:
الليل موحش وكئيب، تمر نسمة رطبة تقبّل صدر نجنسكي، لكنه لا يكترث بها.
]أريد أن يفهمني الناس وأن تستمع إليّ زوجتي. إن رؤى مفزعة تسكن جسدي، وهذا يعني أن العالم ليس طبيعياً. وأظل أقاوم هذه الرؤى بالرقص حتى أنهار وأنزف. ويظل العالم كما هو، معسكراً لقتل البراءة. نظراتي لا تستقر على شيء، تلتقط ما يدور حولي وأتعذب أكثر. ثمة خطأ في التكوين. أين؟ اعتقدت دائماً أنني أخلق شيئاً عندما أرقص، لكنني اكتشفت أن كل ما فعلته هو مجرد إعادة خلق حدث سابقاً[
يتقدم خادم متعهد الحفلات نحوه بخطوات سريعة، ويهمس في أذنه، ثم يعود مسرعاً.
]ماذا يريد مني. أن يلحس أعضائي ويمضغني كسحابة ميتة؟ إني أشمئز من رؤية أصابعه التي تدب في أنحاء جسدي. أشعر بأنها تخنق تخيلاتي التي لا أملك سواها. يا مصاص الدماء.. لست وتداً في خيمتك الجاهلية]

ـ نجنسكي

-من أنت ؟

-الليلة عرسي الأول.. هل ترقص؟

-إذهب.. أنا لا أعرفك

] أنا موجة ترفضها السواحل، فتدور حول نفسها ثم تستقر في رأس سمكة تطفو على سطح الماء فاغرة خياشيمها ومقتولة بالسم.. أيها الكلب.. تريد قتلي لأني أرفض نزواتك وتطلعاتك الدنيئة. لأني ماء.. هل شممت رائحة الماء؟[

إن كل شيء ليس رعباً بل غبطة:
الصالة غاصة بالجمهور. ينظرون إليه وهو ينظر إلى اللا شيء.. ثلاثون دقيقة وهو واقف كتمثال إغريقي.. كل شيء فيه ساكن ما عدا عينيه المضيئتين، تشعان ببريق غريب. تحركت يداه، نزع ثيابه قطعة فقطعة. لم يأبه لصيحات الاستنكار والآهات الذاهلة التي تصدر من الصالة. أصبح عارياً تماماً. رفع جسده البرونزي وبدأ يرقص، يرسم لوحة العرى النقي في مواجهة الصراعات والتناقضات. بضعة أشخاص يغادرون الصالة مستائين ]أقنعة.. ترتدون الأقنعة، فوق الوجوه وفوق القلوب وفوق الأعضاء[ الكثيرون يغادرون الصالة. ]انزعوا أرديتكم وأقنعتكم. كونوا حقيقيين، الحقيقة تكمن في العرى مثلما يكمن الخلق في الجنون] لم يبق في الصالة سوى الكراسي، ونجنسكي مستمر في الرقص.
زوجة نجنسكي تبكي: لقد جنّ الحبيب.

-أعشقك حتى الفناء.

-وأطفالك يا نجنسكي؟

-أنثريهم في الريح ليكونوا الصلة بيني وبين هذا العالم.

-وأنا؟

-انزعي ثيابك وتعالي. كوني امرأة لم أعرفها قط. كوني جزيرة نائية اكتشفها وتكتشفني. عرفتك عارية على الفراش في لحظة الحب فقط. الآن أريد أن أعرفك في لحظات الألم والصدق والفجيعة. أدخل فيك وتدخلين في مخابئي السرية.

يحمل نجنسكى طفلته، يقفز معها في الهواء. يدور وتدور.
]أفهمك يا طفلتي. أفهم جيداً ما تقولين: أن كل شيء ليس رعباً بل غبطة. أتمنى أن يظل الأطفال أطفالاً حتى الممات، فكلما كبر المرء يجد في جسده متسعاً للحقد والكذب والنفاق].

(نجنسكي.. نجنسكي.. أين أنت؟)

الله نار في الرأس:
يقف نجنسكى في الشارع عارياً، يحمل على كتفه صليباً.
]جاءني الله: أمنحك نفسي. فصرخت: أنا الله والله أنا. يعلمني
الحكمة فوق جبال الألب. ثم يأمرني: انحدر.
مثل الشلال أنحدر إلى المدن[

ـ هل ذهبت إلى الكنيسة أيها الرجل؟
يبتعد الناس، يضربون كفاً بكف، لقد جنّ الحبيب.
]أنا الله في جسد. اعشقوني.
في قلبي الخلاص، أفتح قلبي للذين يريدون الخلاص.
أملك الحكمة، أفتح عقلي للذين يريدون الحكمة[

(نجنسكي.. نجنسكي.. أين أنت؟)

]هذا الصوت الذي يطاردني في كل مكان، في حلمي وفي
تجوالي، ماذا يريد؟]
(من يرقص في حفلة عرسي الأول؟)
[نبذني الناس، يا لشقائي.. ذنب من؟ لا أعرف.. لا أعرف[

الرعد يلتقي بحنجرته:

-يا صوتاً ينفذ في مسام حلمي، يأتيني في أمسيات الحزن. من أنت؟

-أريدك أن ترقص في حفلة عرسي الأول.
الصالة غاصة بالجمهور، ونجنسكي يرقص.. عارياً مرة أخرى، والرعد يضحك. نهض شخص وتعرى. الآخرون فعلوا مثله. نزل نجنسكي إلى الصالة ورقص معهم حتى أول النهار.

أغسطس 1974

إيزادورا.. دعوة للمشاركة

[في نهاية رقصتها كنت أبكي، وكان الجميع يبكون حولي، وانقضت سنوات طويلة قبل أن أعرف ماذا كانت إيزادورا تفعل.. كانت تعيش حالة داخلية عميقة، وكنا نعيشها معها]

-من أقوال راقصة عاصرت إيزادورا -

المشهد الأول
أوشك أن يقول: "علينا أن نعيد النظر في جميع الأشياء"
أوشكت أن تقول: "يا نبتاً برياً طالعاً من شجيرات الفرح خذني"
لكنهما لاحظا أن السماء شاحبة والشمس تدفن نفسها رويداً
رويداً، فظلا صامتين حتى غادرا المكان.
في الطريق، وأضواء المصابيح راقدة على الأسفلت، شـــــعرا بقطرات من الماء تنساب برفق على وجهيهما، رفعا رأسيهما.. كان رذاذ مطر. ابتهجت هي، غسلت وجهها المتعب.. رفعت يديها، ساقيها، رفعت كل أعضائها. ملابسها تضايقها، فبدأت تتعرى. عارية ورذاذ المطر يداعبها ويعانقها.
(إيزادورا.. معاً سوف نخلق أطفالاً أسطوريين، ينتشرون في الأحياء، ويبشرون بإعادة تكوين هذا العالم.. ها.. ومعاً سوف نضحك.. إيزادورا.. نذرت نفسك للحب والفرح فكان نفيك، وأنا رفعت قامتي احتجاجاً فكان نفيي.. ها أنا، ها أنت.. صرنا حلماً ومنفى، فتعالي)
عارية ترقص، وهو منزو في ركن، لم يغسل وجهه المتعب، ظل جامداً يراقبها.. (الهزيمة، من هنا نبدأ. تغيرت المفاهيم، الشمس تعني الكآبة والمطر يعني الجفاف والهزيمة تعني أن يسكن الكثيرون في قبو، والآخرون تزداد شهيتهم للأكل ولا يموتون من التخمة. وعندما تتوقف هي لسبب ما، أظل وحيداً لا أعرف طريقي)
شعر برغبة في أن يشاركها انفعالاتها، في أن يعيش اللحظة التي تعيشها ويفهم لغتها، ربما.. وفي اللحظة التي أراد أن يندفع إليها ويحضنها، كانت هناك قبضات تمسكها بعنف، وتلبسها رداءً أبيض ثم تقذفها داخل سيارة اسعاف سرعان ما تختفي. ويظل هو. بعد فترة طويلة يدير رأسه فيجد أن ظله قد بدأ ينسلخ عنه تدريجياً ويفر هارباً. ويكتشف للوهلة الأولى أنه قد أضاع طريقه تماماً.

المشهد الثاني

-مساء الخير إيزادورا

-مساء الخير
مساء معتم، وإيزادورا من الأشخاص غير المرغوب فيهم.

-هل أنت مستعدة للحفلة الليلة؟
بثوب شفاف للغاية ترقص، تمارس الحب والغربة.. كيف يتفقان؟ هذا ما تعبّر عنه ايزادورا. تقذف نفسها في الهواء وعندما تهبط يبدأ جسدها في الارتعاش والاشتعال، تصبح هي الرعشة والفجيعة. والحضور.. (إيزادورا أنت ضيفة ثقيلة)

المشهد الأول

قالت له: لم تفعل شيئاً..
قال: فعلت أشياء كثيرة.
لم تسأله عن الأشياء الكثيرة. سمعا طرقاً خفيفاً على زجاج النافذة، كان رذاذ مطر.. تعانقت نظراتهما. أمسك يدها وخرجا.. غسلت وجهها المتعب، غسل وجهه المتعب.

أكتوبر 1973

الشجرة

(شهقت الشجرة عندما رأت الفأس قادماً نحوها
ليشق جبينها نصفين)

في المساء أخبر أمه أنه حصل على عمل في المصنع، وإنه سوف يدفع الإيجار المتأخر، ويجلب لها ما شاءت من خبز وفواكه.. فرحت أمه وقبّلت الجرح المحفور في جبينه. عندما غفا على صدرها حلم أن طيوراً ناصعة البياض تتدفق من جرحه وتتجه نحو شموس كثيرة تتألق بين الأقواس القزحية، وهناك كان هو وحبيبته يحلّقان، تتبعهما الشموس والطيور والسحب. توقظه أمه، فيذهب إلى المصنع مغتبطاً، وينكب على الآلة الضخمة، يحاول أن يروّضها، وعندما تفلت من يديه يدرك أنها أخذت بعضاً من دمه. يفكر في الإيجار والخبز وأمه، فيصمت. يذهب إلى المقهى، يرتشف الشاي الساخن وهو يتطلع إلى نافذة قريبة تطل على المقهي. النافذة صامتة. يرتمي في حضن أمه طالباً منها أن تداعب شعره.. يمسك بيد حبيبته ويسيران في غابة خضراء، يستلقيان فوق العشب، تكشف الحبيبة راحتي يديها فيجد طفلاً، يقترح عليها: نسميه عشباً.. فتضحك.
يسمع طرقات على الباب.. تهرب حبيبته.. أمه عند الباب تخاطب شخصاً، ثم تقفــل الباب.. إنه مالك البيت يطلب ايجاره المتأخر. يدنو من المرآة فيبصر شخصاً ذابلاً، مرتعش الشفتين.. ويلمح عند قدميه تلك الآلة الضخمة وهي ترمقه في حقد واحتقار.. يتخيل كنزاً مخبوءاً بين أسنانها الحادة، فيمد يده.

(تشهق الشجرة مرة أخرى، وينفصل الجذع عن الجسد)
تسلمه أمه إشعاراً من المصنع بفصله عن العمل، وتقول: ربما بسبب ذراعك المبتورة. يمزق الورقة بأسنانه ويندفع خارجاً، بينما تقف الأم عند الباب وهي ترتعش هلعاً ورعباً.

مايو 1974

هذا فرحي.. اغتالوه وهو طائر

بيني وبين الماء صحراء.
وأنا في المهد، حلمت أنني طائر أقطف نهود جنيات البحر وأمضغها ثم أقذف الحلمة.. حلمة الثدي، فتكون غيمة. أصعد الغيمة هاتفاً: هذه سماء بلورية لم تلوثها الجريمة. وحدث أن سمعت طلقة، فصحوت مذعوراً وقلت: أخشى أن يغتالوا فرحي.
بيني وبين الماء صحراء وامرأة.
مجزرة كانت:
بين المقهى والمقهى قتيل جائع
مقصلة تمضغ رأس طفلة
حشرجة يخنقها طمى وروث.
وأيقنت ـ حينئذ ـ أنني نهر عاجز، فنزعت رداء الطفولة، وأخذت أرقص على ايقاعات الأناشيد الوطنية.
يا امرأة أخاف صمتها، قولي ماذا كنت تفعلين في ذلك اليوم الممطر، وأنت عارية؟
لقطة قريبة : وجه امرأة.
لقطة متوسطة: قطرات مطر عنيفة تنهمر على حمامة ميتة.
لقطة متوسطة: أشخاص عديدون يعبثون بجسد المرأة.
لقطة قريبة: نهد ملوث بوحل ودم.
بيني وبين الماء صحراء وامرأة مقتولة.

يا صحراء تحتضن الأعداء والسجون والكلاب ومؤسسات الإبادة
يا صحراء تمتد كعانة مومس تستقبل زائراً آخر.
ها أنذا قد عدت، وها هي بندقيتي، أنتظر الرفاق لنعلن الغزو..
قولي ماذا كنت تفعلين أيتها المرأة؟

-قال طفلي إما أن ترضعيني لبناً أو ألتهم ثديك الذابل، فخرجت أبحث..

-أنا أيضاً خرجت أبحث..

-لم أجد لبناً. وجدت ملصقات واعلانات.

-كانت مسجونة في قفص، وأحياناً يعرضونها في السيرك وفي البرلمانات.

-قال الصغير: سوف أموت.. ثم تأوه..

-قال الصديق: العنف باب الأبجدية.

بيني وبين الماء صحراء وامرأة مقتولة ينبغي دفنها. وأنا ظمآن، والرفاق، وهذه الصحراء.. لا تشعريني بالوحدة. قولي ماذا كنت تفعلين في ذلك اليوم الممطر وأنت عارية.. هل تذكرين؟ رأيتك متكئة على الجدار المشرف على الإنهيار. ظننتك نائمة لكنك كنت مطعونة في الخاصرة، ونهدك الأيمن في الوحل.

حملتك برفق يا أمي .

مارس 1974