1

الزوارق تمرّ، الرياح تمرّ، اللقالق تمرّ...
والآن،
الضفة وحيدة مع رجل وحيد
لا يعرف أن يكلّم المياه.

2

ذهبوا،
الواحد بعد الآخر
وتركوا أطيافهم في الحجرة المطلة على الأمس.
العجوز على كرسيه الهزاز،
يشعل غليونه ويبدأ أحاديث لا تنتهي
مع أطياف يقرضها السأم..
الواحدة بعد الأخرى

3

مضى المسافر محدودب الظهر
كمن يحمل على ظهره كومة من الرصاص
وكلما توقف ليستريح، مسح عرقه وتمتم:
كم هو ثقيل هذا الوطن.

4

الخريف يعرّي الشجرة
لا ثلج، لا أجنحة
لا شيء يستر العار.

5

شرّع الباب، شرّع النوافذ، شرّع قلبه
لزوار قالوا أنهم سيأتون
وها قد انتصف الليل وهو ينتظر
قائلاً لنفسه: ربما حال دون مجيئهم ظرف طارئ
هكذا يفعل، هكذا يقول..
منذ أن غابوا ولم يعودوا.

6

من بعيد يراقب المرأة الواقفة خلف النافذة
مأسوراً بوجهها الملائكي الذي لا يشوّه الحزن نقاوته
مأخوذاً بدموعها المهرولة بخفة في الفضاء، مثل رذاذ كوني.
من بعيد يراقب الحضور اللامرئي
لامرأةٍ تبكي خلف النافذة.

7

الأرض تمتد أمام عينيها، ساعة الغسق، مثل بساط رمادي يشطر المدى جهتين. نهار في جهة، وليل في جهة. يلتقيان في حدقة صافية كالنبع. وعلى ضفاف الحقول، هناك، تركض الأرواح الضالة باحثة عن مأوى.
صيفاً بعد صيف،
في مثل هذا الوقت، تمكث العجوز أمام بابها المفتوح، ترقب الطريق، وتُرضع الأفق كي يبشرها بقدوم الأبناء ما إن يشم شذى خطواتهم.
صيفاً بعد صيف،
تزركش شعرها الأبيض بالورد لئلا يمر الأبناء ولا يطرقوا باب نومها الطويل.

8

لم تكن قلعته محصنّة بدرجة كافية
بالأحرى، كانت هشة مثل غيمةٍ
أمام اختراقات المفاتيح المطرزة بالخيانة.

9

أشخاص كثيرون جاءوا وذهبوا
أحلام كثيرة جاءت وذهبت
والبيت القديم لا يزال يستضيف الغبار،
وفي غرفه الواسعة يتنزّه اللبلاب.
ها هنا، فوق الرخام، شظايا كلام
على العتبات بقايا روائح القهوة والبخور
وفي وسط الفناء شجرة تفاح واقفة منذ الأزل،
تحرس احتضارها الطويل.

10

مرّ الغريب الأبكم وعلى كتفيه طحالب وزبد بحر.
مضى صوب أشجار اللوز ليكتب وصيت الأخيرة:
خذوني، إن متُّ، إلى البحر..
ولا تدفنوني في هذه الأرض
الواثقة من موتها.

11

الرمان يتدلى فوق امرأة جالسة لصق الجذع،
ترفو قميصاً لابنها الغائب.
الرمان يتدلى فوق حاضر المرأة
التي تهبط سلالم الأمس
لتهدي ابنها قميصاً من حليب.

12

ليل الفضة
يتواطأ مع الرغبة المجنّحة
التي تطرق أهداب النائمة تحت عطر الغابة.

13

البحر في كل مكان
في الأزقة والبيوت والساحات
البحر في حلم النائم الذي يغطي الملح أهدابه.

14

العجوز تنسج الخرافة في أحداق أحفاد
يدخلون الحكاية بوجل من يدخل المتاهة
وقبل أن تصل الحكاية إلى عتبة النهاية
يمسّ النعاس أجفانهم بأجنحته المبللة بالحلم.

15

خفافاً يذرعون المساء
يبعثرون الفخاخ في الحقل، ويرهبون السنابل.
خفافاً يضرمون الدعابة المتوحشة..
أحداقهم كأحداق بنات آوى.

16

العاشقة الجالسة عند النبع
تمشط شعرها
وحين تغادر
يبقى وجهها رهين الماء.

17

(أ)

أفشى سّره للرمل
جاءت الريح وبعثرت الرمل ونثرت السر
ما من أحد لم يعرف قاتل أبيه.

(ب)

الريح لا تعرف أن تحفظ سراً
تقطف الأسرار المتدلية من الشبابيك، وتبعثرها مع الأوراق الجافة وذرّات الغبار، فتحتدم السرائر في الطرقات، ويعلم القاطن هنا أهواء القاطن هناك.

18

للمرة الأخيرة، أراد أن يتأكد
نظر إلى المرآة ورأى الضغينة في عينيّ من يراه
آنذاك، أدرك أن العدو يتربص به من الداخل.

19

بخطى واثقة يدخل جحيمه
غرفته
ليسلي وحدته بالبكاء.

20

انحدروا من التلال البعيدة،
نزلاء الخرافة،
مع حكاياتهم وأزيائهم الغريبة،
من معاصمهم تتدلى أوطان تتأرجح مثل سلالٍ فارغة.
جاءوا لينثروا بذور الحكاية في أحداق أطفال ما سمعوا بالحكاية من قبل. غير أن الأحداق كانت مطفأة والأطفال موتى.
عادوا خائبين إلى تلالهم الغابرة
التي تتساقط عليها شهب خفيفة كالريش.

21

شهقت في نومها حين مسّ النسيم ثديها
من النافذة المفتوحة على رذاذ الضوء
تدخل الحباحب لتوقظ جذر الشهوة.

22

يخرجون من خيمة الليل
الشاحبة وجوههم، الضامرة خواصرهم
يهرولون صوب سديم الفجر
بلا يقين، بلا كلام
مهيئين للمدينة الشائخة طعنة رحيمة.

23

يمد السجين ذراعه من خلال القضبان
على راحة يده تحط قطرة ندى
من القطرة تولد وردة
والوردة تأخذ شكل امرأة تهمس في حنان:
صباح الخير يا زوجي.

24

أربع طلقات تخترق أربعة أجساد فتيّة، تهوي قرب جدار بيت قرضته الحرب صباحاً بعد صباح، مساء بعد مساء، ولم تترك منه غير هذا الجدار الذي ينظر – بحياد – إلى انزلاق الأرواح من الشهقة الأخيرة في النزع الأخير.. أرواح بشرية لا تعرف سبباً لأن تموت شهيدة.

25

من أطرافهم يهطل السديم،
والهواء البارد يناوش خواصرهم النحيلة.
من معاطفهم القديمة ينهمر زفير المحن.
تائهون، بلا خبز ولا صداقة، في الشوارع الغريبة..
الشوارع التي تؤثث عراء المنفى.

26

يرتدي قناع طفل
وعندما يخرج من حجرته
تقتفيه رائحة الشيخوخة.

27

الهلال يشق سترة الليل بشفرته المضيئة
الذئب، فوق تلة، يعوي ماداً صوب المدى رئته الرهيفة
في الأسفل، قرب الحظيرة، تتسكع العتمة الممسوسة بالنميمة
وما من نافذة تُفتح لأشباح المأساة.

28

يستريح تحت ظل الشجرة
الأكثر شيخوخة من الشجرة
وفمه مترع بطعم المشمش.
يسترخي منصتاً إلى رفيف رفاق الأمس
وقلبه يغصّ بالحنين.

29

خمسون مرّة عبَر الصيفُ هذي الضواحي
خمسون مرّة نثر الصيف دعاباته ومضى
وذاك الطاعن في العزلة
المتكئ على ذاكرته المرهقة
يلملم، في خلوته، شتات عمره .. وينتحب.

30

طفلة تسرد لأعوامها السبعة فكاهات النهار،
بينما تنقر الرصيف بخطى صديقة،
ورجل يقتفي، مع ظله الأفعواني،
رفيف ضفائر لا تقرأ الغيب،
ومساء يحيك بحيادٍ ثوب المأساة
لطفلة لن تعود تسرد فكاهات النهار.

31

يتجرّع جنونه جرعة جرعة
هذا الذي كان يلمح في الشوارع
تواطؤ المنعطفات مع كمائن الصباح،
هذا الذي كان يركض، منذ الظهيرة،
خلف حلم رأى نفسه فيه صديقاً لخطاياه،
وها مساء يروي للمصباح الأصم آثامه الغامضة،
وفي نوبة ذعر مفاجئة، ينكر ما اقترف، ويكسر مراياه.

32

لم يعد البحر يقطن هنا
لم تعد القوارب تعبر من هنا
لم تعد النوارس تمرح هنا
منذ أن جاءت الشاحنات المحملة بالرمل
وبترت أطراف المياه.

33

الجرافات تدك البيت القديم
تقوضه حجراً حجراً
وفي المساء، عندما يذهب الضجيج
تهبّ رائحة اللوز
ويصعد أنين الحجر
من بين أنقاض البيت القديم.

34

في الفناء شجرة نبق ميتة،
وحوض غادرته المياه فاجتاحته الأتربة
درجات السلم المتصدع غارقة في السبات
حجرات واسعة غاصة بالغبار والعناكب
أروقة كئيبة تتطاير منها أصداء حكايات بعيدة
نوافذ مفتوحة أشبه بأفواه تتثاءب في العتمة
سطح فسيح يستوطنه فضاء موحش
من باب انكسر رتاجه
يخرج الشيخ حاملاً قنديله الذي لا يضيء وجهه
مغادراً ذاكرته.

35

البحر يلتحف بزرقته ويغفو
تاركاً الزوارق تتأرجح بحرية على سريره
واللقالق تنهب ما طاب لها من ودائع.
البحر في قيلولته يسهو
ناسياً مداه مفتوحاً أمام دبيب الأساطيل
التي ترمي مراسيها كالشباك
لتلتقط الجزر الصغيرة.

36

الجهات ليست صديقة المسافر
والهدهد دليل الملوك إلى المتاهة
أحضرت معي كتابين
كتاب البحر وكتاب الريح
يتعادلان في كفتيّ ميزان لا يغش
أنا ذاهب الآن لأوبخ الجهات وأؤرخ الغيب
(هكذا قال المخبول الذي لم يذهب معه أحد).

37

نظرتْ إليه وهو يغيب ثم أرخت حزنها
حتى أنها لم ترفع يدها مودعةً
حتى أنها لم تكلم عطرها
ومثل أي عاشقة جرحها الغدر وحطّم قلبها الهجر
تنتحل هذيان الفراغ وتنسل عبر بوابة من ثلج.

38

الملك المخلوع يذرع بهو منفاه بلا حاشية، وبين قدميه تتساقط فجيعته أنيناً أنيناً.
وإذ يرنو محتدماً إلى أطلال نهاره، يهيب بالحنين أن ينهض من سباته.. ليس ذاك الحنين إلى تاج منهوب وعرش مهتوك ومملكة معلقة على مشجب المؤامرات، لكن الحنين إلى سلالة ملكية تصعد، في احتشام ومهابة، أدراج المغيب الأخير.
وهو في آخر المسيرة يحمل محبرة الانقراض، ويرفع النشيج الأخير.

39

بخطى خفيفة يمضون جهة البحر
بعيون صافية كالأفق، وجباه مرشوشة بالملح والزبد
يخوضون في مخدع الجزْر، ويرجّون المياه موجة موجة.
يرمون شباكهم على مائدة المد ليستردوا ما أخذه المد:
أسماك
وقواقع
وغرقى لا يعرفون أنهم غرقى.

40

ما إن ينتصف الليل حتى تندلع السهرة
في الحجرة المضاءة
الحجرة التي تغصّ بالفكاهة حيناً، وتعج بالتأمل حيناً.
السهرة التي تضم أصدقاء جاءوا من بعيد
وعلى أكمامهم أوراق شجر ميتة
جاءوا بلا ظلال ولا يقين.

41

الكائن الوديع
لا يتفرّس، اليوم، في المارة بنظرة وديعة
فمنذ البارحة يظن نفسه مطرقة الله.

42

كلما مشى خطوة تعثّر بالغواية
كلما بكى شهوةً تبلل بالوشاية
في خلوته
ينفض وساوسه ويبعثر مخاوفه
ويجلد نفسه لذنوب لم يرتكبها ولشهوات لم يحتجزها.

43

كانت على فراشها تحتضر حين شعرت بأصابع حانية تلاطف جبينها، أصابع كأنها من ضوء، ففتحت عينيها بتثاقل وهمست معاتبة: لم تأخرت؟

44

لم تكن الرحلة شاقة أو مرشوشةً بالشراك
لكنه كان يبحث عن رفيق يبدد وحشة الطريق
ولما لم يجد
مضى وحده خلف آثار نثرها من قبل
رجل سلك الطريق نفسه بلا رفيق.

45

آن تهبّ العتمة في هذه الضاحية
تهبّ الجناية في الردهات الغافية
الموبوءة بلصوص يخرجون متسللين لصق الحيطان
وبأقنعتهم الهزلية يخيفون الطرائد الكامنة.
العتمة مغرمة بهؤلاء الذين تزوجوا المجازفة،
وفي أحداقهم تتأرجح سلال مليئة بالأسلاب.
غير أنهم يعودون، كل ليلة، بسلال فارغة وخطوات مرهقة.

46

حاملات الدلاء، المتواطئات مع القمر، يعبرن الطريق الريفي بين جهة تنبح فيها الكلاب، وجهة تسهر فيها الجداجد.
صوب الأكواخ، المضاءة بقناديل شاحبة، تمضي الأرامل مع دلائهن المترعة بالحليب والتي، في آخر الليل، يفيض منها الأنين.

47

من الشبابيك المفتوحة على الساحة
ساعة تتناثر حوافر السهر على حواف المساء
ساعة يشفّ المدى الفضي عن بلابل ذابلة
يمكن رؤية المحكومين بالموت
وظهورهم محنية في خشوع
يلثمون بوقار أصابع جلاديهم
لكن ليس التماساً للصفح.

48

انتزعوه من حضنها الوثير، وساروا به – حافياً – في طريق جبلية، على صخور مسنونة تدمي باطن قدميه، ابتعدوا كثيراً حتى ضاعوا في السديم.
جاء الثلج عشر مرات ومحا عويل الدم
جاء الخريف عشر مرات ونهب ودائع العمر
وهي لا تزال في حومة الانتظار، تشعل مصباحاً بعد مصباح.

49

أراد أن يقول: ما عاد القلب مجنحاً كما كان
أرادت أن تقول: ما عاد الحب شفافاً كما كان
لكنهما ظلا يراقبان في صمت موجع:
أطفالاً يمتشقون الهرج في أنحاء المنتزه
رجلاً ينثر فتات الخبز ويكلم الحمام همساً
شمساً تحبو على زغب الأفق الضارب إلى الحمرة
ورويداً يهبط الشفق ثقيلاً مثل درع مضرج بالحمّى
فينهضان ويمضيان.. دون أن تتشابك أيديهما.

50

الليل يعير قنديله الوحيد
إلى غيمة تعبر النافذة برزانة
لتلمس بالضوء حلم فتاة ميتة.

51

السفر نافذة مفتوحة على المتاهة
والذين سافروا، ضاعوا
وإذ يعبرون دهاليز المدن مع حقائبهم الشاحبة
تتقمص أرواحهم أشكال رياح
تهرّب الحنين إلى البيوت المتروكة.

52

لم تكن تشبه نفسها في المرآة
العجوز التي تغمس إصبعها في بئر المرآة
وتحرك الذاكرة لتوقظ وجه شبابها
ووجه زمن بلا تجاعيد.

53

على المنضدة بقايا خبز فقدَ شكله وطراوته
المروحة إذ تحرك الهواء برتابة تحرك أصداء الهباء
الثياب معلقة على المشجب مثل أرواح منسية
الكتب المتخمة بالأفكار نائمة على أرفف الغبار
في هذه الصَدَفة
يسهر الشاعر مع قلم صائم
وورقة خرساء
ومخيلة منطفئة.

54

ثمة شيخ يطرق بعكازه المساء الرخو
ثمة ضباب يذرع الساحة ويكنس أقنعة النهار
ثمة سفينة مهجورة، راسية عند المنعطف، تتقطر منها المياه.
بعد وقت:
الشيخ يدخل حصن المساء،
والضباب ينكسر على الرخام،
والسفينة تغرق في الريح ..
ثم لا شيء.

55

أولئك الذين يبحرون خائفين، على أهدابهم المالحة يتقافز الزبَد، وفوق رؤوسهم الحاسرة تهبّ أصداء المنافي. يمضون نحو ضفاف الشتات مع حقائبهم الموعودة بالتيه. مجاديفهم تبارز صلابة المياه، وما إن ترتخي السواعد برهةً حتى يرتجل الموج متاريسه ويكبّل أطراف القوارب بالهدير.
يمضون إلى حيث تأخذهم الريح، مع دعاباتها، تاركين وراءهم مدينة تستريح على فراء الجريمة، والمحن تقرضها جذراّ جذراً.
المدينة، مع مراياها المعتمة الحبلى بالمسوخ، تحبو على حافة الغسق، بلا شفاعةٍ، ومن أثدائها الجافة ترضع الثعالب المريضة.. بعدها، ترنو المدينة في ذعر إلى الخسوف الذي يتسلق الفراغ مثل اللبلاب.

56

الباب مغلق، كذلك النافذة
لا ضوء يدخل سهوا، ولا جلبة
والرجل الذي بلغ الستين يرتعد خائفاً
فالزمن يطرق الباب بإلحاح.

57

آن عبرت الريح على عجل
تأرجحت البرتقالة برهةً
أما مياه النهر فقد انحسرت عن وجه طفلةٍ
كانت مفقودة منذ ثلاثة أيام.

58

الذين كانوا في ذاك البيت لم يعودوا
مع ذلك، فثمة ظلال تذرع الأروقة
(ظلال منسية منذ النزوح الأخير)
وأصداء تقرع ذاكرة العتمة
(أصداء غير محكومة بالزوال، تفضح سرائرَ من باتوا هنا، أهواءَ من مروا هنا)
وروائح ترتاد، مع ياسمين الغياب، أحشاء الغرف المأهولة بالحنين
(روائح ليست زائرة، هي أشبه بندائف ثلج لا تشيخ)
وخطى تحرث صمت النوافذ التي لا ترى
(خطى لم تعد تنتسب إلا لذاتها)
فجأة,
يهدأ كل شيء، يصيخ كل شيء..
من يتطفل في هذا المساء،
إن لم يكن المساء نفسه؟

59

صرخة مدوية تجتاح المدى
صرخة امرأة في الليل
والقمر يرتج بعنف في مياه البحيرة.

60

الفتيات يرقصن حول النبع
الشبان يتسلقون في صخب قوس قزح
المسنون، بعد نزهة قصيرة، يستريحون على العشب..
لم يكن ذلك إلا حلماً
رآه شخصٌ يحتضر في الزقاق
مطعوناً في خاصرته
والذي يبتسم في امتنان لشبح متجهم يدنو منه على مهل، ويدثره بمعطفه.

61

برج بابل
حلم كل ملك يرنو إلى الشمس عند المغيب
الشمس التي تنتحل شكل الرمانة.

62

مع طلوع الفجر من فم الليل، احتشد العاطلون عن العمل عند مدخل الميناء..
سبعة رجالٍ بوجوه عابسة وأطراف ترتجف من البرد.
كان الموج يعدو في أحداقهم،
والنوارس اللاهية تشق بمناقيرها زرقة المدى،
والمراكب تطحن المياه لتخيف الأسماك.
قبل حلول الظهيرة،
عاد السبعة إلى بيوتهم صامتين، ولم يكلمهم أحد.. لأن أهدابهم كانت مضرجة بخشخاش النوم.

63

الباب موصد
لأن أحداً لم يطرقه.

64

غرفة مضاءة
سيجارة مشتعلة في المنفضة
حساء ساخن لم يُمسّ
وفي عمق المرآة رجل يمضي مبتعداً بخطى وئيدة.

65

فتح ذراعيه فاستقرت الريح على راحتيه، والضوء الحنون جاء ليحرس وجهه، والفضاء المؤثث بالريش انداح أمام خطواته، والفتيات الصغيرات فرشن دربه بالأزهار، والرفاق انبجسوا من ذاكرة الفصول ليدثروا تعبه..
لم يكن قديساً ولا أميرا،
كان مجرد سجين يحدّق في الجدار.. ويرى.

66

رنين حجر
ضجيج تماثيل تتنزه في ميدان اكتنفته العتمة فجأة
وخلف الشبابيك المطلة على الميدان:
مسنّ يشعل غليونه ثم يرنو في حياد إلى ظله الشاب/ عائلة جالسة في صمت حول المائدة، وعناكب الضغينة تنتقل من حدقة إلى أخرى/ امرأة هرمة تسهر مع ذاكرتها، بينهما مصباح يبلبل حضور الأشباح/ فتاة فاتنة تخلع قميص نومها وتنتظر زائراً لن يأتي/ مرآة ذائبة، وصياد يتربص بظباء السديم.. تلك التي لا تُرى..
في الميدان ذاته:
كان الرماة يصرعون التماثيل.. الواحد بعد الآخر.

67

غسلت بالمطر شعرها
ضمخت بالورد سريرها
رشّت بالعطر جسدها
ثم أشعلت شمعتين، وجلست قرب النافذة.. تنتظر.

68

نهارات لا تعد مرّت من هنا
رهنت ظلالها عند حوذي المساء، ومضت بلا رجعة.
الأشجار المحدودبة من فرط الحزن
تطل على خيّال يقود جنوداً صغاراً لم يمسهم الخوف بعد.
يوماً بعد يوم، يعبرون ولا يعودون
والحوذي يحصي أرواحهم المتروكة مع الظلال،
ويطلق آهة كالنشيج.

69

أنصت مسحوراً إلى حديث النهر والضفة
الشاعر الذي لا يعرف كيف يكتب قصيدته
والذي، بعد ساعة، نهض حاملاً مصباحه الذي لا يحتاجه، ومظلته التي لا يحتاجها.. فلا الوقت كان ليلاً، ولا النهار كان ماطراً،
خاض في المياه مع جنونه المتوهج
ومعاً دخلا حلم الماء.

70

العجائز اللواتي يطرقن بعكاكيزهن العتبات
بوجوههن المنسية كرماد المدن
بأحداقهن المطلة على غفوة المصائر
بأفواههن الذاهلة أمام شرفات الغيب
العجائز اللواتي يستطلعن بالحدس دم الحاضر
ويحرسن أبواباً لا تنفتح إلا بمفاتيح الخرافة.

71

في غرفته الصغيرة
الواقعة وسط الحلبة المحتدمة بعنف الدول
في قلب المحنة
يشعل سيجارته، يطل من النافذة، ويهمس:
طاب مساؤك أيتها الحرب.

72

بخطى محتضرة
يبتعد الجندي الشاب
عن المعركة المتخمة بالجثث،
والموت الجالس على تلةٍ
يدفن وجهه بين ركبتيه.. في خجل.

73

الفراشات تهوي على القرميد
ثمة رجل يقايض الأجنحة الملونة بحفنة من القمح،
وخلف النافذة امرأة تمسح دمعتها خفية.

74

خلسة يدخل الأيل غرفة الطفل المريض،
خلسة يخرج حاملاً على ظهره غبطة الطفل.
والأم، وقتذاك، كانت تعد الحساء
لطفل مريض.. يموت بعد قليل.

75

في الوادي حروب صغيرة
تندلع بين لحظة وأخرى،
والراعي يحصي قطيعه
الذي يتناقص كلما اندلعت حروب صغيرة
هنا وهناك.

76

حين يحل المساء
يعود إلى داره مثقلاً باليأس
وفي الداخل يسهر مع حلمه الأثير:
أن يتحدث مع شخص ما.

77

وقع حوافر على الإسفلت
العجوز الغافية على كرسيها تفتح عينيها
وتهمس في هدوء: جاء في موعده.
تفتح العجوز الباب وتخرج
الضباب يحتل الشرفات
فلا يلمح أحد مرور الجواد الشاحب
تتبعه عجوز تمشي بخفةٍ
كأنها ذاهبة إلى عرس.

78

الشجرة تنحني، لا لثقل ثمارها،
لكن لتسمع الريح تمرّ متذمرة.
قرب الشجرة، ظل فأس.

79

الرجل ينقر الطاولة بأصابع متوترة وهو يحدّق في فنجانه،
المرأة تنظر جانباً وهي ساهمة،
بينهما فراغ شاسع ينهش الماضي.
في الخارج،
الرجل ذاته يسير خافضاً رأسه
المرأة ذاتها تسير في الاتجاه المعاكس
بينهما مطر يترذرذ على مهل.

80

نهار ربيعي مشمس،
الكراكي تنقضّ على المياه في جذل،
النسيم يلاطف الثمار الخجولة،
وعلى الضفة امرأة ممزقة الثياب
تنتحب
وتحاول أن تستر عريها.

81

يزرّر معطفه
مخبئاً جرحاً لا يكفّ عن النزف،
ثم يجرجر ساقيه في دربٍ
يرشقه بالثلج.

82

في الرابعة صباحاً
يخرج الرجل الملتحي من الحانة
ويقتفي رائحة امرأة
كانت قد خرجت لتوها من ذاكرته.

83

قارب يتأرجح
نجمة تومض ثم تهوي
نوارس تعبر صائحةً
وفي المرفأ رجل يترنح
وقد اخترقت صدره مدية.

84

طيور سوداء تنقر الثلج
أطفال يتراشقون بكرات الثلج
وفي الغرفة المطلة على الساحة
جثة الخادمة الصغيرة تتدلى من السقف.

85

قال لها في حنان: لا تقلقي، سيعود.
قالت له في حنان: أعرف أنه سيعود.
منذ سنوات، يقولان ذلك لبعضهما قبل أن يخلدا إلى النوم.

86

عاد بعد غياب طويل
جلس على العتبة وذرف دمعتين
لأن أحداً لم يعرفه.

87

الأسير، المكتوف اليدين، خرّ على ركبتيه وتمتم:
أريد أن أصلي.
في الضفة الأخرى،
رأوا صلاة ناقصة
مثقوبة بطلقةٍ لا مبالية.

88

تحت ضوء القمر
تشهد البحيرة الشاحبة
النزال الأخير بين صياد وذئب
كل منهما رأى موته في عينيّ الآخر.

89

كل ليلة،
في باحة المنزل،
يرون كتلة من النار تدور حول نفسها
يقولون: أنها روح فتاة ترقص.

90

مظلات كثيرة في هذا اليوم الماطر
شعَر المطر بالكآبة
لأن أحدا لا يريد أن يلعب معه.

91

في الحقل،
تحط فراشة على جبين الصغيرة
فترفع رأسها نحو أبيها وتقول همساً:
أينبغي أن أموت في يوم جميل كهذا؟

92

لم يكن يدري أنها الزيارة الأخيرة
تترك الزوجة شبابها وجمالها على سرير المستشفى
وتخرج مع الموت، متشابكي الأيدي، مثل صديقين.

93

يسيّج حديقته
يسيّج بيته
يسيّج غرفته
ثم يجلس مع معطف قديم ورغيف ليّن
ليكتب قصيدته.

94

يوّبخ الثلج
لأنه مرّ ولم يطرق نافذته.

95

فجراً،
عندما يخرج عمال البلدية ليكنسوا آثام سهرات باذخة،
يطرق الشحاذ الأعرج، بساقه الخشبية، قلب المدينة المتحجر.

96

في الحانة،
بعد الكأس الخامسة،
عرّى روحه أمام دهشة الجميع
لكنهم لم يجدوا غير عراء ينهشه الهباء.

97

في داخله هاوية سحيقة
عليه أن يعبرها بقلب شجاع
إذا أراد أن يفهم شياطينه.

98

لم تعد الحباحب تقود الأعمى
بعد أن سمعته يقول متباهياً:
لست بحاجة إلى أحد.

99

الغيوم تخفي القمر
لا لتحجب ضوءه
لكن لتواري شهوته
حين يلمح امرأة تتعرى على ضفة النهر.

100

بقاربه العجول
يفتح النوتيّ
ثغرة في الليل
عابراً جحيمه الخاص
وعلى كتفيه أعباء الخطيئة.

101

الساهر مع الليل في غرفة عارية
يحلب الوقت نأمة نأمة
وهو يصيخ إلى:
حمحمة حصان،
سعال حوذي،
وهسيس سفر مؤجل.

102

العنادل لا تشدو هذا الصباح
بل ترنو، في حياء، إلى الريح التي تعدو
أمام بيتٍ يحترق على مهل.

103

عرف أن نهاية العالم وشيكة
مع ذلك رمى دلوه في البئر
ليسقي النبتة التي غرسها بالأمس.

104

على عجل يخرج من المقهى
تاركا الجريدة والقهوة الباردة على الطاولة.
النادل يقترب من الطاولة ذاتها
ما كانت هناك جريدة ولا قهوة باردة
ما كان هناك رجل غادر على عجل.

105

الطائرات الورقية الجميلة
التي تتهادى برشاقة في الفضاء المرح
يحركها أطفال بوجوه مغبرة وملابس رثة.

106

الطفل الذي رأى
بنظرة ملأى بالحسد
الإوزات وهي تحوم في الأعلى
تمنى حدوث معجزة صغيرة:
أن تنفلت كفه من قبضة أبيه الصارمة.

107

الأشباح تذرع الغرفة في وجوم
وفي الشرفة امرأة ساهمة تمشط شعرها
ترقب عودة زوجها الذي ذهب إلى حربٍ انتهت قبل عامين.

108

في فناء البيت
شجرة هرمة على أغصانها عصافير جاثمة بلا حراك
عندما جاءت الريح وحركت الأغصان برفقٍ
تساقطت العصافير على الأرض
عندئذ عرفوا أنها كانت ميتة منذ زمن.

109

وحدها الأحصنة
الأحصنة الراكضة في السهوب
بعيون مترعة بالرعب
رأت الحرب قبل اندلاعها بدقائق.

110

الجلاد يحدّق في عينيّ ضحيته
ليس بكراهية، لكن بفضول بالغ
فقد رأى في مقلتيه وجه مسخ.

111

الضوء الذي يشق جسد الليل
يفشي عن حضور رجل يسير مطأطئاً.
في ومضةٍ يسطع تاريخ الوجه المتجهم
ذاك الذي حسب أخاه لصاً فأرداه قتيلاً.
لكن ما إن يجتاز تخم الضوء
حتى تبتلعه الظلمة من جديد،
ويفقد تاريخه وهويته.

112

الهواء يؤرجح القنديل
الذي، بدوره، يؤرجح ظلال أصدقاء مرحين،
عائدين من السهرة.
يغادر الهواء
يغيب الأصدقاء
ويبقى القنديل وحده
ساهراً مع نفسه، حارساً عزلة الأشياء،
حتى يشتت النهار ضوءه.

113

ينام الناس
ينام البيت
تنام الأرصفة
وتبدأ سهرة الأرواح المنزلقة من النوافذ
في الميادين المصابة بحمّى الرغبات المكبوتة.

114

بأصابع حانية تلاطف شعر طفلها المحموم
ببكاء أخرس ترجو الموت أن يمهل طفلها سنوات.
مرتبكاً يهمس الموت:
ما جئت إليه، بل إليك.

115

من قلب شجرة الخوخ
يهبّ عطر المساء
والمساء ينشر أجنحته الشقراء على المدينة.
نافذة واحدة ظلت موصدة
تنادم الرجل الصامت الذي يرنو إلى يأسه.

116

وضع في شعرها بنفسجةً
فأرخت أهدابها
لئلا يبصر في مقلتيها
خيانةً محتملة.

117

زوج و زوجة جالسان متقابلين
وأمامهما، على الطاولة،
ذكرى طفل ميت، وحطام حب قديم.

118

في المدى البعيد من حقل الذرة
والشمس تغيب في وهن
يسوق رجال الميليشيا كهلاً يتعثّر من الرعب
نحو أنقاض بلدةٍ مأهولةٍ بالظلال.

119

ثمة سرير يطفو على المياه
محفوف بالزرقة
ينام عليه عاشق وعاشقة.
السرير ذاته يرسو في حلم السجين النائم.

120

الفراشات لم تعد تدخل هنا
في هذا البيت المترع بالضغينة
والذي يتبادل فيه الأفراد كؤوس السم
دون أن يُقدْم أحد على تجرعه قبل الآخر.

121

السناجب ترمق ذاهلةً
العرّافة وهي ترتقي سلالم الغيب
وفي الأسفل،
المدّ في الميادين، والغرقى يتنزهون.

122

البحارة ينشرون أعمارهم على الأشرعة،
ثم يسردون - بلغة الماء – سيرة الموج.
العاصفة الواهنة تتنزه في ملعب المدّ
العتالون الواقفون على أطراف المرفأ يترقبون، برهبة،
النزال الوشيك بين
بحارة يقرأون كتاب الموج
وعاصفة تمشط فرو البحر الخجول.

123

على بغال مضيئة، يمضون إلى الجهة الأخرى، إلى الأرض المتاخمة لسلالم المطر، حيث يستحم قوس قزح في ألوانه، وبمعاولهم الصقيلة يباغتون الذهب الكامن في مخدع الحجر.
واحدٌ فقط عاد ذاهلاً، مع بغله الذاهل، يهذي كالمخبول
والنار تقرض رداءه.

124

راقبها تخرج من دارها مثل النهار
جميلة، مشرقة، خجولة
تحمل سلة خالية، وباليد الأخرى تحرك الهواء برشاقة.
مشى خلفها، خفيفاً مثلها..
غير أن قدميها لم تعودا تلامسان الأرض
أخذت تطفو رويداً رويداً، صاعدة عتبات الفضاء،
بينما مكث هو في مكانه، شاخصاً في حزن.
كانت هناك تتنزه.. ولو يكن وشاحها غير قوس قزح.

125

كل شيء يطفو
في مجال انعدام الجاذبية
بين شرفة مأهولة بالأرامل
وشرفة مكتظة بالعساكر.

126

باكيةً تحمل جرّتها
باكيةً تنحني على النهر وتملأ جرتها
باكيةً تعود إلى كوخها بجرة مثقوبة
والحكاية لم ترو بعد.

127

المدينة الحبلى بالمسوخ
واقفة على شفا الهاوية
من الفراغ الأسود يطفر دمٌ طريّ
دم فرائس طرية.

128

لم تكن الجريمة قد وقعت
حين أزاحت الضحية خصلة شعرها
وبان وجهها الآسر تحت ضوء القمر
ثم همست في وداعة:
أضئني أيها الحلم.

129

الغزالة، فيما تحتضر، تلوي عنقها على الثلج في سكينة، وتلمح في الفضاء أجنحة تخفق.. الأجنحة ذاتها التي حلمت بها مراراً.

130

أنقاض
بيت يحترق
كلب يعدو وبين شدقيه يد آدمية
قرب الجدار المتهدم، يجلس الجندي الشاب، يشعل لفافته،
وينظر أمامه في شرود.

131

بلا دعوة،
دخل الزائر الغريب مجلس العائلة، واختار أن يجلس في الزاوية
بثباتٍ وحدّةٍ راح يتفرّس في الوجوه ويقرأها وجهاً وجهاً، مضرجاً أحداقهم بالحيرة والبلبلة
تحصّنوا بالصمت وتدرّعوا بالارتياب أمام هذا الدخول الغامض لزائر غامض يعرّي وجوههم بلا شفقة.
وكما جاء، غادر هادئاً وصامتاً، بعد أن نثر توابل التأويل في أرواحهم، ودكّ بيده أبراج اليقين.
أخيراً، تساءل أكبرهم سناً:
من يكون هذا الغريب الذي جعل النبتة تموت ما إن مرّ قربها؟

132

أحجار تتطاير
رصاص يبعثر القرى
والطفل الخائف يركض صوب الله.
من رآه، قال بعينين دامعتين:
خفيفاً كان يطفو بين ذراعيّ الريح.

*************************