مواكب لساكنات التلال
في تلك الساعة من الليل، حين تهدأ الدواجن وتكف النواعير عن نسج حشرجاتها وتخلو الطرقات من أبناء السبيل والكلاب الضالة، يخرج الرجال فرداً فرداً تاركين أمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وأبنائهم في الأكواخ والبيوت الواطئة والعلب الصفيحية، حاملين مصابيح يتموج لهبها ولا يستقر، تحملهم خطوات مزدحمة بالتعب والهمّ . وفوق سرة التربة يلتقون، جماعات جماعات يتقدمون. المصابيح تؤرجح ظلالهم وهم يشحذون بؤرة الحدقة لتبصر بصفاء أكثر كائنات هذا الليل التي يعجّ بها الرمل الشاسع الممتد بلا أفق أو تخوم .
ها هي التربة تتناسل : غزلان، زرافات، سناجب، بنات آوى، أشجار صبار، سحالي، عرّافات ، نمل، هسهسات .
وتكاد اللهفة لمرأى ساكنات التلال البعيدة تشقّق الأفئدة القاطنة في صدور رجال يحق لهم أن يشتاقوا ويرتاحوا ويحلموا بعد أن أفرزت أجسادهم - في أيامهم الشاقة - سيلاً من العرق والقلق والمذلّة .
شائك هذا الطريق، وعورته تدمي الأصابع وتحفر باطن القدم، أما من ينتعل خُفّاً فهو مثقل بالهجس والتوجس، غير أنهم لا يكترثون إلى حد التراجع.
أخيراً يبصرون من بعيد تلك التلال الفضيّة، مثل أميرات مكسوات بالثلج، مغروسات حتى الخاصرة، جذورهن في باطن الأرض، أذرعهن غيوم لا يقدر هودج الريح الفاخر المطهّم بالنرجس والياسمين وعطور حدائق السماء أن يغريها بالإمتطاء والسفر، وعلى قمم التلال لمحوا أشكالاً سوداء صغيرة، متكوّمة، تبدو كالوشم أو مثل أفواه فاغرة شاخصة نحو الأعلى .
تعوم نظراتهم - للحظات - في عمق هذا المشهد الآسر . إنبهارهم لا يوصف وحبورهم يوشك أن يتقمص جسد فتاة تجيد الرقص، ولكن لا رغبة لديهم في انتهاك قدسيّة المشهد، لذا يواصلون المسير، تقودهم مصابيحهم بمحاذاة رؤى معبأة بالغرابة والسحر .
قافلة من البجع تنبثق من جوف التربة وتهيئ كرنفالاً مكتظاً بالألعاب النارية والفكاهة والحلوى . زوجان عاريان يستحمان في ضوء جسديهما المبهر، منتشيين باتحادهما الأبدي، يلجان الثغور المتفتحة شهوة دون خجل أو وجل، فليس ثمة قانون أو رقيب غير صحراء ضريرة ونجمتين شقيّتين تهتفان للجنس المكتنز وهجاً وطراوة . رجل ملثم واقف، مبتور الساق، يحمل رشاشاً ويلوّح به محيّيا.ً على مقربة منه قهوة ساخنة وخرائط وذخيرة .
دجاجة هائلة الحجم، تسير بتوءدة ، وفي كل موقع تقف فيه تضع بيضة . يفقس البيض فتخرج قبائل من البدو، ينصبون الخيام ويشعلون النار ويتسامرون في ابتهاج .
قوارب عديدة تغزو رقعة صغيرة من الصحراء وتعسكر، أو بالأحرى تخلد للنوم . هي سيدة نفسها .
لا رُبّان ولا أمواج .
أخيراً وصلوا .
بهيّة هذه التلال بهياكلها الشامخة وأرديتها المشعّة .
رفعوا أنظارهم . هناك .. هناك الأرامل المجللات بالسواد . رؤوفات، حنونات، غادرهن الحزن منذ زمن بعيد، وما ملابس الحداد إلا جذوة تهدي التائه والمنبوذ والمنفي . أناملهن كالحرير تهيّج الأهداب المثقلة بالغبار أثناء التلامس . عذب هديلها . يعرف هذا من تنفس معهن نفس الهواء . أليفات، جميلات، يتضوعن حباً.
هناك .. هناك الأرامل . على قمة كل تلة تجلس أرملة . ساكنة، صامتة، كأنها تصلي . كأنها تعشق .
يتوزعون، كل فرد يتسلق تلة بإصرار . كيان ملفوح بلهب، مغمور بوجع، لذا يلجأ إلى فيء وبإصرار . وفي اللحظة التي يصل فيها، تلتفت الأرملة نحوه وتمنحه ابتسامة التجدد والخصوبة . هنا يندفع الرجل تجاهها ويدفن رأسه في حجرها، كالجنين الجائع للحليب والدفء والنوم يتكوّر في حضنها .
وتبدأ الأرامل - معاً - في غزل الترانيم . عندئذ تخرس الكائنات وتستكين الأشياء مصغية إلى الأصوات النافرة عصيراً، رحيقاً، دماً .
إلى هؤلاء الأرامل اللواتي اغتصبنني - تلك الليلة - واغتصبتهن، أهدي هذه الحكايات .
***
1 - في مكان ما، بيت مهجور ومسيّج
ثمة حارس ليلي يختلس النظر من فجوة في جدار . ضمن إطار البصر لحم فخذ مكشوف مكتنز بالنضارة والأنوثة، إنحسر عنه ثوب قديم يوشك أن يهتريء من كثرة الإستعمال، رغم هذا فهو يستر الأجزاء الأخرى من جسم المرأة النائمة على الحصير .
النظرات ملغومة بالشبق، تطأ - بابتذال ودون احتشام - الجسد الغافل الشارد وراء حلم ما . لا يكترث الحارس باللعاب المتقطر من زاويتي فمه، ولا بأظافره الناشبة في الجدار مسبّبة تشنج الأصابع وتخثر الدم تحت الأظافر، فقد أضحى عبداً لفحولة بدائية انفلتت من الأسر وهيمنت .
وحده سيد المنطقة وصديق الليل، لا يجرؤ فرد - في حضوره - على التسكع في هذه الساعات المتأخرة . يصدر قرار منع التجول متى يشاء وإذا صادف شخصاً فإنه ينهره بحزم ويأمره بأن يهرول إلى بيته فوراً دون إبطاء، حتى البراغيث كان يسحقها بعقب حذائه عندما يسير بفخر . أما الكلاب فقد هجرت المنطقة نهائياً، إذ قبل شهر كان ينصب الفخاخ للكلاب التي تغيّرت أشكالها وصارت طينية من فرط احتكاكها بالطمي، والتي كانت تنبح كلما سمعت وقع حذائه، والكلب الذي يقع أسيراً في يده كان ينال ركلات عنيفة على مؤخرته حتى ينفث عواء حاداً صاخباً . بهذه الطريقة أنفرد بالسيطرة وأمسى السيد بلا منازع . ومنذ ذلك الوقت أدمن الوقوف عند هذا البيت واستراق النظر من خلال الفتحة الصغيرة .
سَيُجّن إن لم يمتلكها هذه الليلة . مرات عديدة جامع طيفها في أحلام اليقظة حتى تصدّعت أنسجته وكادت أن تتلف، فلجأ إلى بائعة حلويات عانس يغمس فيها رغباته المحظورة بسادية رهيبة جعلتها تتهرب منه وتتحاشى الالتقاء به، إلى أن أصابه الضجر وكفّ عن محاولة الاتصال بها .
كيف يمكن أن يستدرجها إلى معطفه دون إكراه ؟ يلبس بشرة طفل ؟ يتأبط صولجاناً ؟ يرشّها بعصير الأناناس ؟ عجز عن ابتكار وسيلةٍ مجدية، وأسف لأنه لم يتعلم من الدببة حيلها في مثل هذه الأحوال .
الشهوة تدمدم في رأسه، تضجّ، تقرع طبلة الأذن . لا كابح يمنعها، تغترف سوائله، تشطره وتفتّت خلاياه . سوف يجنح إلى العنف لا محالة ما لم تُقَدّم إليه مثل سبيّة مشاعة تسبحّ بالشكر . حقده على زوجها يفوق التصور . لو كان الأمر بيده لنصب له فخاً لن يخلصه منه سوى خالقه .
في النهار كان يراقبها، يتبعها ظلاً آخر أينما ذهبت، في السوق في الطريق في انتقالاتها بين بيوت الجيران . كان يرصد تحركاتها ويرصد أكثر ارتجاجات جسدها المثير . حتى العباءة كانت عاجزة عن صد غارات عينيه المتقدتين . وفي الليل، بعد أن يخرج زوجها إلى العمل، يهرول إلى هذه الفجوة ويتوجع شهوة .
أديري وجهك ناحيتي، ذلك الأنف المتنفس نكهة الذكر، والشفتين اللاهثتين وراء عصارة المروّض الأبدي، والذقن المْرتعش تحت ملامسات لسان مدموغ بالجرأة . افتحي عينيك وانظري إليّ، مدي ذراعيك وامنحيني تلك اللحظة المسعورة يا عاهرتي.
تحلم ؟ بماذا تحلم امرأة فقيرة و وحيدة في فراشها ؟
سادرة في نومها لا تدري أنها مكشوفة ومنتَهَكة . تغور مع مخلوقاتها المجنّحة في ماء السماء وتطفو بين الأجمة، سعيدة، ولا ترغب في مُغادرة مملكتها هذه .
يتجانس الكون في رئة النائم، يتآلف الذهب والرغيف، وكل شيء يصير معجوناً طيّعاً قابلاً للتشكل والسفر . غير أن الملكة لا تعرف أنّ حصنها هش وبابها لا يؤتَمَن .
تتدثر بالبنفسج وترسو على حقل يصاهر الشمس مستعيراً منها إشعاعاتها. ترتجل لغة تخاطب بها النباتات وتدخل بها شقوق الكون من الجهات الثمان . تأخذ بيدها الكواكب وتنزّهها عبر المحيطات، وتطلب منها أن تطالع نفسها في سطح الماء، فتغضّ الطرف وتعضّ شفتها السفلى خجلاً، لأنها رأت نفسها عروساً حقيقية بفستانها الأبيض الموشى بالزبرجد والعقيق واللازورد، ولأنها كانت أجمل من الأقحوان .
ترافقها الكواكب بين طوابير عظيمة من الأسماك التي خرجت تتقافز وتنثر كنوز البحر تحت قدميها . تتجه إلى مدائن تحكمها شعوب تحارب الحرب ولا تستغل بعضها بعضاً . تستقبلها الرايات وسعف النخيل، تصافحها الأيدي، يباركون زفافها، يبلّطون مسيرتها بالأكاليل . تشكرهم وتودعهم . تجتاز جزيرة معزولة، موحشة، تحرسها خفافيش عمياء، نزلاؤها كهّان حفاة يطاردون صلواتهم فوق الصخور الوعرة أناء الليل والنهار، ولكن عبثاً فالصلوات فقاعات تتلاشى بمجرّد تحليقها . أثرياء يتقاتلون ويلتهمون جثث موتاهم . آلات تعذيب تفرّخ جلادين عاطلين عن العمل يتفسخون تدريجياً . تصل القطب الشرقي فتفرح الحيوانات لأنها لم تتأخر، وتتسابق فيما بينها بمرح من أجل أن تحظى بملاطفة أو إطراء . ترضي الجميع حين تمتطي صهوات كل فصائلها . تستعجلها الكواكب وتُذكّرها بممالك الطيور . جذلى ... .. ...
أفيقي أيتها النائمة، كلما تحرك زندك استيقظت شياطين ذلك الغازي . ومن يقدر أن يحميها ليس هنا، إنه هناك .
هناك - في المصنع - كان الزوج . بعد يومين سيلتحق بعمل آخر، لا يختلف عن عمله الحالي . نفس الآلات والزيت والراتب الضئيل والإصابات الجسيمة والطفيفة، مع فارق أنه لن يضطر إلى المناوبة ليلاً .
لأجلها - تلك الحبيبة - يفعل هذا . لأجلها يود أن ينسج عروقه أسرّة وبيتاً وحديقة، لو يستطيع ... (( لماذا أنت حزينة ؟ )) سألها مرة - ولم ترد . أدرك سخافة السؤال فاعتذر بالصمت وارتشاف الشاي . نسي أنه لا يليق أن تُسْألَ امرأة فقيرة و وحيدة - في الليل - لماذا هي حزينة ؟ . بعد يومين سيتوسد صدرها - في الليل - ويبتكر معها مركبة تعرف درب الغبطة وإقليم الفصول .. ولن تكون وحيدة .
زملاؤه العمال أحبوه لطيبته ووفائه، وحزنوا عندما أنبأهم بقراره . (( سنظل أصدقاء، لن أنساكم )) قال لهم . فهموا وضعه وتمنوا له التوفيق . كان كثير المزاح، مخلصاً، و شهماً، إعجابهم به ازداد بعد أن علموا بما فعله من أجل زميلهم (( سعيد )) . حدث هذا قبل خمسة شهور، حين اعتقلوا (( سعيداً )) إثر اعتصام قام به العمال مطالبين بزيادة الأجور . كان يتبّرع لأهله - سراً - مبلغاً من المال طوال مدة الاعتقال التي استغرقت ثلاثة شهور، وذلك بالرغم من أن راتبه يعادل الراتب الذي يتقاضونه .
لم يكن قط خارج دائرتهم . كان يشاركهم أفراحهم ومطاليبهم وهمومهم . يوقّع العرائض، يعتصم، يُضرب .. مثلهم تماماً، ولم يفكر يوماً في أن يتبوأ مركزاً قيادياً في صفوفهم . هو يحترم قدراته المتواضعة التي لا تؤهله لأن يكون خطيباً بارعاً أو محرضاً لبقاً .
في أوقات الراحة يجلس بينهم، يتبادلون الأحاديث والنكات ويتناولون طعاماً أو يشربون الشاي، وتمرْ لحظات ينفردون فيها بأحلامهم . القاسم المشترك لأحلامهم هو التحرر من وضع لا معقول : جموع يغص بها الشارع، متعَبَة، موحلة، جائعة، ترى الشمس رغيفاً والقمر تمراً . وزمرة تسترخي هانئة بعد وجبة دسمة وتفكر في رحلة سياحية حول العالم .
هو ينتحي جانباً مع خيالها ويوشوش في أذنها .. أحبك .
ينزّ العرق من مسامات وجه الحارس، ويشهق دمه الفائر حين يرتفع الثوب إلى أعلى، أثناء تحركها . مباحة هي ولا يفصله عنها سوى خيوط عناكب، عليه - كي يُخرِس العواء المستعر في الداخل - أن يقضمها خيطاً خيطاً .
(( اغتنم الفرصة الآن، كل ما فيها يدعوك أن تتقدم وأن تدخل . إنها ترجّك بفخذيها فالجم سعارها بجذعك النافر )) .
ينزّ العرق من مسامات وجه الزوج . يزّيت تروس آلة ويحكم إغلاق بعض الصمامات . يدير الآلة فيتأكد من سلامتها، يتجه إلى الأخرى ويفحصها .
نائمة لا تعلم بما يجري حولها . أخذتها الغفوة بعيداً بعيداً إلى حيث ضفاف النهر المزدحم بالقوارب الراسية وطيور البحر، ترقب الموج الملتحم بالأفق، تحاكي الدلفين الذي يشاغب الموج . تقرّر أن تغسل جسدها ولكنها تكتشف مفزوعة أنها نسيت جسدها في مكان ما، فتعدو راجعة ...
بدون تردد يتسلق الحارس الجدار، السطح منخفض وسهل ارتقاؤه . من فوق يستكشف الطريق ليتأكد من أنّ أحداً لم يَرَه . لا أحد . بخفة يهبط إلى فناء الدار محاذراً أن يصدر صوتاً .
الزوج يقف أمام رافعة تحمل أطناناً من الحديد، يؤشر بيديه مرشداً سائق الرافعة إلى الموقع الذي ينبغي أن يوضع فيه الحديد .
نائمة .. تعدو .
الحارس يدنو من الغرفة التي تنام فيها المرأة، يشعر باضطراب خفيف ولكنه لا يمنعه من التقدم . يراها راقدة على ظهرها، مغرية جذّابة، ولحمها البضّ القريب يتحد ببؤرته .
يدير الزوج رأسه عند سماعه صوتاً يناديه . هو مشرف العمال يتجه نحوه .
نائمة .. تعدو .
يقترب الحارس أكثر وهو متأهب للانقضاض . نكهة الفريسة تخدّر الأعصاب والدماغ، ينحني فوقها .
الحديد أثقل مما ينبغي والرافعة لا تقدر على حمل هذا الثقل الهائل لفترة أطول . المشرف يلحظ ذلك فيصيح في رعب .. إحذر يا (( محمد )) الحديد ينزلق فجأة ويهوي ساحقاً جسمه .
المرأة تفتح عينيها بغتة . ترى وجهاً غريباً محروثاً بالضراوة والدمامة يحوّم فوقها . مذعورة تهمّ بالصراخ ألاّ أنه يطبق بكفه على فمها، حابساً صرخة رهيبة تتشظى داخل الحلق .
2 - الفارس يعبر.. و يدخل من النافذة خلسة
شاهدوه - الجنرال والمأذون والمقاول - في العرض الأخير . لاعب سيرك ممتاز . أذهلهم طيشه وخفة روحه، أعجبتهم رشاقته وسرعته، حركاته البهلوانية الخطيرة والمسلّية في آن .
اتفقوا . هذا خير من يرفّه عنا . سيكون نسناس مجالسنا وخمر سهراتنا، به نسكر وعليه نضحك .
ولم يكن فارس السيرك يعلم - وهو يمارس مهنته المعهودة - أن ثمة مقاعد تتآمر ضده وتهيئ له قميص البهلول، وربما ما هو أخطر من ذلك . شخص مثل هذا - يمتلئ زهواً وفرحاً حين يسمع ضحكات الصبية وتصفيق الكبار في الصالة - يقيناً لا يبطن سوء النية والريبة، ولم يفكر يوماً أنه سيدافع عن نفسه ضد شيء .
لقد اعتاد أن يُعرّج على المطعم المجاور، بعد أن ينتهي من تقديم فقرته، ويشتري عشاء له ولزوجته، وفي البيت كان يسلّيها بنوادره المضحكة ويحكي لها عن حوادث يومه، بينما يتفقد طفلته النائمة بين الفينة والفينة، وفي كل مرة يطبع قبلة على وجنتها .
زوجته قانعة، راضية، وتحبه كثيراً، قبل النوم تحدّثه عن رغباتها المتجددة في إصلاح البيت أو تعديل وضع بعض قطع الأثاث، أو في السفر . وتسرد له ما فعلته الصغيرة في المدرسة ومقالبها التي لا تنتهي (( ابنتك شقية )) . يستدير إلى حيث تنام الصغيرة (( انظري إليها، هي الآن تحيك أيامنا المقبلة )) . عندئذ يستسلمان لخدر النوم الساهر، تاركين روحيهما لأصابع ابنتهما العابثة تبعثهما وتصوغهما حسب مشيئتها .
كان طيباً و ودوداً، لهذا لم ينتبه، لهذا مشى على القش دون أن يدرك، ودون أن يحذره أحد، أنّ تحت القش أنشوطة ليس يسيراً الفكاك منها .
استدعاه مدير السيرك وأخبره أن بعض الوجهاء سيقيمون حفلة خاصة ويرغبون في مشاركته بتقديم عروضه أمام مدعويهم المعجبين به، وذلك مقابل أجر سخي .
سريعاً أقنع نفسه بأن الإتفاق عادل وبأنه لن يخسر شيئاً . المكان ؟ لا يهم أن يكون العرض هنا أو هناك .
تلك هي فاتحة كل التراجيديات : أن تدخل أو تخرج من غير أن تسأل .
لو أُتيح له أن يشهد عيون الأطفال المأهولة بالخيبة وقت غيابه ؟ لو تريث قليلاً وسأل .. ؟
الجنرال :
في الصباح الباكر خنق سبّاكاً لأنه تباطأ في إصلاح الحنفية. يقول (( النظام أساس العالم، من لا يحترم هذه الحقيقة، لا يحترم أوسمتي . إذاً هو نفاية يجب كنسها )) .
الجنرال منظم جداً . حماقة السبّاك وتهاونه تسبّبا في تأخير موعد دخوله الحمام نصف ساعة . بعد دقائق يستعيد وقاره ويجلس إلى المائدة . بعد أن ينتهي
من تناول فطوره يتوجه إلى غرفة ابنه - كعادته - كي يطمئن عليه . يجده على السرير - كعادته - يلهو بمسدساته البلاستيكية ويقلد أزيز الرصاص . يرمقه بإعجاب لفترة ثم يخرج موارباً الباب خلفه (( ابني ولد أعجوبة، بعد شهرين سنحتفل بعيد ميلاده السادس والثلاثين . كم أنا فخور به )) .
الجنرال يغادر المنزل راكباً دبابته، قاصداً مكتبه . في سيره يدهس سهواً - كعادته - واحداً أو اثنين من المارة .
المأذون .
يتعطر بالمسك والعنبر متهيئاً للقاء حسناء ساهم بدور كبير في تطليقها من زوجها . هو لا يحتفظ بمرآة في جيبه لأنه لا يحب أن يتذكر أن له وجهاً مشطوراً نصفين. حين يتحسس وجهه يعرف مقدار تعفّنه، لذا يلجأ إلى المساحيق (( هكذا أكون جديراً بقلبِ مؤمنٍ وبثدي مطَلّقةٍ خبيرة في الجنس )) .
يمقت قوم المستنقعات والقرى النائية، وعندما يضطر للذهاب إلى هناك كي يعظهم ويهبهم بركاته، فإنه يمتطي بغلة سريعة، مهووسة بالتوابل، تنطلق مثل برق مجنون . هكذا لا يلمح الأهالي، الواقفين صفاً واحداً على طول الطريق، سوى عاصفة من الغبار وآثار حوافر رشيقة، فيعودون إلى ديارهم ضاربين كفاً بكف .
(( هذا التقيّ صار خيالاً غير ملجوم أو ظلاً مائياً لا يطفو إلا في المساء حيث لا يمكن لأحد أن يلمسه بوضوح . حتى بغلته صارت تنافس الريح بمهارة . من أجل أن نراه نضحي بديك أو عنزة . في المرة القادمة سنسد دربه بالجذوع، وإذا لم نفلح في الإمساك به سنرجو المسؤولين أن يبعثوا لنا واعظاً أقل جموحاً ورعونة )) .
أما هو فيعود مغتبطاً لأنه أدى مهمته وقطع مسافة طويلة وشاقة لكي يصل إليهم . لا أحد منهم ينكر ذلك .
بعد منتصف الليل يمارس عملاً إضافياً : نادِل في حانة رخيصة .
المقاول :
مُغْرَم بالخزانات الحديدية . عدد كبير منها - بأحجام وأشكال متنوعة - تتزاحم
في بيته، إلى درجة أنه استغنى عن معظم قطع الأثاث لكي يفسح مكاناً للخزانات الموجودة والأخرى التي ينوي أن يقتنيها .
وزوجته لم تحتمل البقاء في مكان كهذا، لذلك فقد غادرت البيت ولجأت إلى أبيها . حاول أن يسترضيها ويعيدها معه . إلا أنها عاندت وطلبت منه أن يختار : إما هي أو تلك القاذورات - على حد تعبيرها - ازدرد الإهانة ولكنها أصرت، فلم يخترها .
في اليوم التالي تزوجت البستاني نكاية به ولمجرد إغاظته . غضب في بادئ الأمر وزمجر (( ساقطة، سافلة، منحطّة )) . وعندما فكر فيما بعد أن بإمكانه استغلال المساحات الفارغة - نتيجة غياب تلك التي كانت زوجته - فرح كثيراً وسارع إلى شراء المزيد من الخزانات، ولكن زوجته عادت إليه - بعد أيام - مبررة ذلك بأنها لا زالت تحبه . سألها عن البستاني . أجابت . (( عاد لقصّ ضفائر الأزهار وكأن شيئاً لم يكن )) . عندئذ اشترط عليها أن لا تُبدي استياءً أو تذمراً من أفعاله وتصرفاته . وافقت .
كان يترك الخزانات مفتوحة، خاوية تماماً، ويظل يتأملها ساعة كل يوم . خزانة واحدة فقط يحرص على إغلاقها بإحكام، وهي تلك التي يكنز فيها أرباح شركته . وولعه الشديد بهذه الأشياء أدّى به إلى أن يصمم غرفة خاصة تشبه تماماً الخزانة، بدون أثاث ولا شبابيك، بداخلها يمكث ساعات، صامتاً لا يفعل شيئاً، لا يفكر في شيء على الإطلاق .
في الآونة الأخيرة كان يستدرج زوجته للجلوس أمامه ويدعها تثرثر طويلاً بينما هو يتأمل شكلها برويّة وتأنٍ مأخوذاً بفكرة عظيمة، أن يعيد خلقها على صورة خزانة .
***
لو سأل فارس السيرك عن هوية أصحاب الدعوة وعن سر رغبتهم في أن يكون شمعة الحفلة، لما قدّم نفسه وجبة مجانية على مائدة محفوفة بالسكاكين والشوك .
لم يسأل، بل تدحرج واندلق في الشرك .
بالداخل ألفى نفسه كأنما في حلم، مناخ خرافي، مضمخ بالبخور وماء الورد والنبيذ، يلفّه ويخدّره .. يغريه بالتقدم، فتقدم ولم يلحظ الباب وهو يوصد خلفه بالقفل والمزلاج .
رأى ما يراه المسحور في أدغال الأسطورة :
مارداً أسود منتصباً في منتصف القاعة، عاقداً ذراعيه على صدره العاري، يطوّقه لهاث نسوة شبقات، ورعشات أنامل بيضاء تجوس عبر نتوءاته النافرة .. ولا يرفّ له هدب . من خياشيمه تتسرب الفحولة وتعدو نحو جسد راقصة تتلوى كالأفعى على مقربة منه، ترشح عرقاً مهيّجاً، وتنفخ لذة تتناثر، بعضها يجري في نسغ المرايا المبثوثة في أرجاء القاعة، والتي تتخلى - للمرة الأولى - عن حيادها المعتاد وتشهد عربدة الحواس بسرور . تتمنى - المرايا - أن تشارك صورها في القصف، لكنها لا تقدر، فتلبث في مواقعها، مفتونة بمنظر عناقيد الرمّان والعنب والقرنفل، التي تتدلى من سقف مزخرف بالثريات .
ظن فارس السيرك أنه أخطأ العنوان، وهمّ بالتراجع لولا أنه سمع صوتاً يناديه، إلتفت صوب المصدر، فأبصر نافورة بديعة الشكل، يجلس على قاعدتها الرخامية ثلاثة أشخاص، عرفهم فيما بعد : جنرال، مأذون، مقاول، أحدهم كان يشير له بيده لكي يقترب منهم، ففعل .
***
أعدّت الفطور لابنتها، مشّطت شعرها، قبّلتها على خدّيها، وعند الباب نصحتها بأن تتوجه إلى المدرسة رأساً دون تلكؤ، وأن تأخذ حذرها من السيارات .
وحدها في البيت، قلقة، مرهقة، ظلت ساهرة طوال الليل تنتظر عودة زوجها، ولكنه لم يعد . لم يحدث هذا من قبل، لقد اعتاد أن يأتي بعد انتهائه من عمله مباشرة، حاملاً العشاء والحكايات والنوادر . لم يكن يسهر في الخارج إلا نادراً، وكان يحرص على ألاّ يتأخر كثيراً . (( لماذا تأخّرتَ اليوم يا زوجي ؟ )) .
***
عندما استيقظ فارس السيرك وجد نفسه في غرفة تحتوي على خزانة ثياب ومرآة ومنضدة صغيرة، غير أنها بلا نوافذ، عصر رأسه بشدة كي يخرس ضجيج الصداع و لم يستطع . غادر الفراش بتثاقل واتجه إلى الباب . حاول أن يفتحه ولكنه كان مقفلاً من الخارج . طرق الباب مرات، وفي كل مرة كان يعلو الطرق ويشتد ويعلو صوته ويحتد : (( افتحوا الباب )) . اختنق صوته وارتخت قبضته، وما سمعه أحد .
إذاً هذه زنزانة وهو مسجون . والأسئلة تحضر وتحتضر . استغاث بذاكرة البارحة لعلها تبدد حيرته وتمحو الغموض المستبد .
طلبوا منه أن يسليهم، فأسرع بارتداء زيه المعروف واحتلّ مكاناً خالياً في القاعة، وبدأ يتواثب برشاقة، مبدعاً ألعاباً تُبهر وحركات تضحك، ممتعضاً بعض الشيء من العرض الآخر الذي يُقدّم إلى جواره حيث الأجساد العارية تُفرط في الكشف عن مواهبها بفجاجة، وترصف لجمهورها - الجنرال والمأذون والمقاول - ما ابتكرته من تأوهات وارتعاشات والتواءات وأفعال يخجل من تذكرها . وخجل أكثر من نفسه لأنه أباحها للرجم أمام جمهور - جنرال ومأذون ومقاول - كان يمارس جنونه ومجونه مثل الغوريلات . وتذكر أيضاً أن يداً مجهولة كانت تسقيه خمراً بإلحاح رغم اعتراضاته التي لم تكن تصمد أمام غزوات هذه اليد، بعدئذٍ انسلخت الذاكرة عن ذهنه ولم يلمح سوى الضباب .
***
ماذا بوسع امرأة مكللة بالفجيعة أن تفعل غير أن تسائل الجدران والنخيل والنمل و(( يا بنات الحي هل رأيتن حبيبي ؟ إذا وجدتموه أخبروه أني وحيدة بدونه وحزينة ؟ . وبنات الحي كن يغضضن الطرف ويتشبثن بالأحباب - عند الالتقاء - خوفاً من الفقد . (( قلبي على زينب، راح زوجها ولم يعد )) .
مضى أسبوع ولم تسمع رنين وداعته ومرحه، بحثت عنه في كل مكان . بدأت بالسيرك، أخبروها عن الحفلة التي دُعي إليها وأعطوها العنوان . ذهبت إلى هناك . خذلها البواب العجوز حين ادّعى أن زوجها غادر مبكراً بعد أن انتهى من مهمته . بعد ذلك استنجدت بالمخافر، المستشفيات، بيوت أصحابه، المقاهي، المطعم الذي يشتري منه العشاء .. خذلوها وضاعفوا جزعها .عبثاً تبحث وترجو،
وأمام استفسارات ابنتها، تداعت وأوشكت أن تفقد النطق .
***
ظلّ فارس السيرك يقدم عروضه - كل ليلة - مرغماً ومهدّداً بالإقامة في غرفته مدى الحياة إذا هو امتنع و رفض تلبية رغباتهم . أيضاً حذروه من تكرار عروضه، لذا كان يتعين عليه دوماً أن يفتّق عصارة ذهنه ويبتكر حيلاً جديدة. أحياناً يخفق فيرتجل حركات بذيئة تصادف استحساناً وتهليلاً فائقين .
في النهار يحاور نفسه، يندم لأنه لم يخبر زوجته - تلك الليلة - عن الحفلة بل أرجأ ذلك لحين عودته، مثلما يفعل في كل مرة عندما يسهران على السرير ويروي لها تفاصيل يومه .
(( حتماً سألت عني في السيرك، ولا بد أنهم دلوها على المكان، هل جاءت إلى هنا ؟ ماذا قالوا لها ؟ كذبوا عليها )) .
كان يظن أن اعتقاله لن يستمر طويلاً .
(( بالتأكيد هي نزوة عابرة، الكبار يلعبون أيضاً ولكن بشكل يختلف عن الصغار .. إنهم أكثر خشونة وبدائية، وبالذات الوجهاء و الأعيان، أنا أعرف ذلك )) .
كان يجهل أنها ليلته الأخيرة .
اقتادوه إلى القاعة ذاتها، وهناك راح يستعرض مهاراته . لم يسمع - أثناء استغراقه في الأداء - صوت الجنرال وهو يهمس لصاحبيه بتأفف : (( أشتهي أن أخنق هذا الرجل .. لقد بدأ يضجرني )) .
عندما صار الجنرال قريباً منه، توقف و رأى في وجهه عينين ضاريتين طافحتين بشهوة الفتك . إرتد إلى الوراء، غير أن أصابع قوية انقضّت على عنقه وطوّقته بإحكام . حاول أن يخلص عنقه من الأصابع الصلبة الضاغطة بشدة ولكن دون جدوى . إشتد الضغط، طفر اللعاب من فمه، جحظت عيناه، تقلص وجهه، إختلج جسده، و مع النَفَس الأخير لفظ أحرفاً ممزقة و مبعثرة .
***
زينب استوطنت الحزن، صارت خارج البحث، خارج السؤال . أنهكها الإنتظار والتوقع . كم مضى ؟ شهر .. شهران ؟ فسرت الغياب بالسفر . الصغيرة صدّقت رغم بوادر الشك، وهي أيضاً تمنّت أن تصدّق ذلك . أحياناً يساورها هاجس أنه هرب مع امرأة أكثر جمالاً وثراء منها، إلا أنها تستعيذ بالذكريات الحلوة وبثقتها من حبه لها .
ويأتي اليقين - يوما ً- مطموراً بين تجاعيد وجه مسنٍ معذﱠب بالإثم، جاء ينشد الصفح . عرفته - البوّاب - وأدخلته بيتها . قبل أن يجلس أخرج من جيبه حزمة من الأوراق النقدية ووضعها بهدوء على الطاولة وقال بصوت مفعم بالأسى والندم :
(( هذا ثمن سكوتي )) . ثم جلس وأخذ يحكي .
***
- ماذا تفعلين يا زينب ؟
تتحصن بالصمت والعزم ولا تُفصح . تصغي للخشب تخترقه مسامير حادة . من الحديد استعارت ساعداً أقسم أن يثأر . والصغيرة تتفرج ولا تعلم شيئاً .
- لمن هذه الصناديق الثلاثة التي تشبه التوابيت ؟
يزعجهم الطَرق، يضايقهم أنهم يجهلون ما تفكر فيه . ها هي تشمّر عن ساعديها وتتأهب لولوج اللحظة المجبولة بالمجازفة .
حين جاءها النبأ رفضت دورها المرسوم بدقة في مثل هذه الحالات المألوفة . خلعت صوت الحداد، غمّست راحتيها في ماء الموقد، ولم تفتح ذراعيها لاستقبال النائحات . لقد احتفظت بالأمر سراً .
***
ثلاثة كانوا ينتفضون خوفاً كلما اخترق مسامعهم صخب مسمار يطرّز هيكل تابوت :
الأول : يتمترس داخل دبّابة .
الثاني : يتوارى خلف المساحيق .
الثالث : يقرفص في جوف خزانة .
وفي المسافة الفاصلة يتدلى جسم كهلٍ، كان يعمل بوّاباً، شنقوه لأنه غدر بهم و أفشى السر .
3 - بين الوتر والشفرة،
تنتصب الأنثى وتكشف صدرها
- هي -
بعد ستة شهور، منحها رب العائلة خمسة دنانير علاوة على راتبها . إذاً، لقد أثبتت جدارتها كخادمة . يتسنى لها الآن أن تتباهى بثوب جديد، وتتبّرج بالكحل والعطر، وتتظاهر باللامبالاة تجاه مغازلات الشبان، وتتوهم أنها الأجمل، وتتخيل ذلك الباسل الوسيم وهو يلوّح لها بمنديله ويدعوها، فتذهب إليه ملهوفة، عذراء، وبلا إرادة . عندما تعبت تخيلاتها تذكرت أمها، فقررت أن تشتري الثوب لها .
تعلم جيداً أن السيد يشتعل رغبة كي تثبت جدارتها كامرأة، تفضحه إيماءاته، نظراته، ارتجافة شفتيه حين يخاطبها . حرصه على مراقبتها سراً، بينما تكنس أو تمسح البلاط أو تلمّع زجاج النوافذ، يضاهي حرصه على المظاهر والأصول والروابط العائلية، لذا يلجم نفسه ويمنعها من الوصول إليها، لذا يقيّدها من رسغيها - حدث ذات مرة - ويجلدها بالسوط لأنها نسيت أن تضع له جريدة الصباح على المائدة .
تهدر السيدة باسمها، فتهرول نحوها . تقف قبالتها منكّسة الرأس، مصغية إلى هديرها . تأمر، تنهى، تزجر .. ثم تعود إلى غرفتها يرافقها كلبها . كلب نشيط، قوي، يحوم حول سيدته ويهز ذنبه باستمرار . بعد أيام سوف يخرج من البيت هزيلاً، خائر القوى، معقوف الذنب ليحل محله كلب آخر . مسألة عادية لا تلفت نظر سكان البيت ولا معارفهم .
ما إن يحين وقت تنظيف وترتيب غرفة الابن المدلل حتى يقشعر بدنها وتسري في أوردتها رجفة يستعصي عليها إخفاءها . بعد تردد تخطو إلى الداخل وتؤدي واجبها . هنا تفرز المراهقة مكبوتاتها وتفحش بحرية مطلقة . حالما يعود من مدرسته يتجه إلى غرفته مباشرة . بعد دقائق تكون هي واقفة بالقرب من السرير . فِعْل يومي حفظته غيباً وتنفذه بدقة . يجثو على السرير ويسوّرها بنظراته بينما تفك أزرار ثوبها ببطء، لتكشف عن صدرها . ليس مطلوباً منها سوى أن تقف هكذا : مكشوفة، مفتوحة، مباحة . ومع ذلك لا ينال منها الفاتح غير نهديها المكتنزين بالنداوة والبكورة، يرشقهما بوابل من حمم المقل التي لا تطيش، ولا يمد أصابعه لجسّ نعومة التكوّر، بل يدع يده تنزلق إلى الجزء الناتئ، تدريجياً، في وسطه .. ويستمني . هذه هي رغبته، يغذّيها بالصور حتى تشبع، عندئذ ينسلّ خائراً، جائعاً، ويغادر دون كلمة، تبقى هي لتسترَ عُرْيها، ولتغير الملاءات وتستبدلها بأخرى نظيفة .
في اليوم الثاني استأذنت لزيارة أمها .
- هو -
الطبيعة تبدع منحوتاتها بإتقان لا يُبارى . ها هي تنفخ النفس الحيّ الخالق في نبض كائناتها وتذري ذُرّيّتها : جبال تتمخض فتنبثق أشجار معبأة بالليمون والتفاح والبرتقال، تحتك بالمطر وترضع جذوعها بالبَرَد . سهول وسهوب تستوطنها الحمام، وبين الفينة والفينة، تطفح بالديَكَة الرومية والأفراس والنعاج. روابٍ تحرس آبارها وهي غافية، تسفح كرمها وتحنو بما لديها بسخاء على العابرين من إنس ودواجن وماشية . غابات تلقّن كواسرها كيف تقتات الحشائش وتجتر مثل النوق في الضراء . حقول قمح وقطن وصنوبرات وبتولا . أعشاب تتمرّى في مرآة النهر الأزرق وتطالع رونقها بانتشاء ؛ مثل آلهة حكيمة وعادلة تتجلى الطبيعة وتدعو الأزواج لقضاء بعض الوقت في مخادعها .
من أنامل هذه الآلهة تسرّب الراعي مخفوراً بأنغام مزمار . متوجاً برفيف ملاكين توأمين يرشدانه، والمزمار ينثر أصداءه كي تنتبه البقاع وتفرش أحواضها الفسفورية بساطاً للقادم . على العشب يسير وئيداً تاركاً قطيعه يرعى في طمأنينة وسلام، وعند الحدود ينعطف نحو المدينة ويهبط أعزل إلا من مزمار يصدح .
- هي -
جالسة قبالة أمها سعيدة بفرحها بالثوب .
- بودي أن أقيم معك يا أمي، وأخدمك .
- ومن أين سنأكل يا ابنتي ؟ .. على أية حال أنا لست كبيرة إلى هذا الحد . وحيدة منذ أن هجرها زوجها . هي في الأربعين ولكنها تبدو في الستين .
تجاعيد الوجه ونتوء العروق تنبئ عن ذلك بوضوح . تعمل خادمة أيضاً، نسل
مدموغ بالطاعة والذل، ملعون بالرق، محكوم بغسل بقايا الأسياد . حرام يا رب
العالمين، بسبب سكوتك نوشك أن نكفر .
- في كل صلاة أبتهل إلى ربي أن يحقق لي أمنيتي، وأشهد عرسك وأرى بيتك وأولادك .
- سوف تعيشين يا أمي، وستكونين معي .
من يرضى أن يتزوج خادمة غير فقير، مأواه الرصيف وخبزه مغمس بالزيت
والعرق . تعلم أن لا جدوى من انتظار أمير الحكايات الخرافية، الذي سيمرق تحت
شرفتها ممتطياً حصاناً مطهماً بالنبل والفروسية، والذي ما إن يلمح نضارتها
حتى يرشقها بمنديل أرق من النسيم . تعلم أن الزمن يسلبها في كل خطوة تخطوها-
أثناء اجتيازها عتباته - بعضاً من دمها أو حفنة من أحلامها . تعلم أن من واجب
الفقراء أن يدفعوا الضرائب طوعاً و إلاّ فقسراً .
- أخبريني يا ابنتي، هل أنت سعيدة في عملك هناك ؟
تنكمش لا شعورياً وتشيح بوجهها خشية أن تكشف تعابيرها كذبها . بصوت
خافت متهدج أجابت (( نعم )) .
في سجن النساء مكثت أسبوعاً بتهمة سرقة قلادة مخدومتها السابقة . بين
المومسات والنشالات والمشوهات والمنحرفات والمخبولات رقدت خائفة، يوقظها
كابوس وينهكها كابوس . حشد من الكتل الآدمية ذات الروائح المقززة متراصة
ومحشورة في زنزانة ضيقة لا تسع نصف العدد، ولأنها لم تستسلم لمشرفة
السجن السحاقية فقد كابدت عذاباً مضاعفاً واضطهاداً استثنائياً من السجانات
والسجينات على حد سواء، حيث تعرّضت لشتى أنواع القسوة : مضايقات أثناء
النوم، منعها من مغادرة الزنزانة للإختلاط بالسجينات في ساحة السجن في
الساعات اليومية المخصصة، حرمانها من وجبة أو أكثر في اليوم، حبس
انفرادي .
في آخر الأسبوع أطلقوا سراحها بعد أن ثبتت براءتها وعثرت مخدومتها
على القلادة المفقودة .
نهضت وقبّلت أمها . آن لها أن تعود الآن .
- هو -
صادفها في حانوت ما . رآها تعبر المقهى . راقبها عن كثب حتى سكنت في
عينيه، عندئذ هتف (( هذا هو الحب إذاً )) . وذات مرة ابتسمت له بحياء، فرفرف
قلبه وطفر الوله من جميع مساماته، وأيقن (( هي تحبني أيضاً )) .
جنّد مزماره للعشق وحده، به قادر أن يفشي عن الهوى المتأجج المستتر .
بلا هندام مزركش ولا عربة، يذرع الممر الفاصل بينه وبينها .. ويتقرّب . أشياء
صغيرة يقدّمها، أثمنها ريش قلب، عند التجربة، يثبت سخاءه وإخلاصه .
لقد تألّه الحب ولم يعد يعلوه برج أو سحاب . حتى الرئة امتلأت بالرعشة
وصارت تهذي تنشد الوصال . بالمزمار خاطب أقفالها لعلها تنفتح دون شرط
فيدخلها مطمئناً وفخوراً . لغة ليست مستعارة. سوف يصغي إن تكلمت . سوف يتكلم إن أصغت . اناشيد لا تُعد تترادف في خلاياه هذه اللحظة، و ثمة آفاق لا تُحد تجوب مقلتيه .
- هي -
حول المائدة جلست العائلة . من مكان ما في الخارج تصل أنغام عذبة يبعثها مزمار محب . السيد يتكىء على مرفقيه ناظراً أمامه، سارحاً، يقطب جبينه حيناً، ويزمّ شفتيه حيناً . في الواقع هو لا يفكر بل يتظاهر بذلك، أو بالأحرى يوهم نفسه أنه يفكر . هذا يضاعف احترام المحيطين له، ويجعلهم يتهامسون فيما بينهم قائلين : يا له من حكيم هذا الرجل .
السيدة تلاطف كلبها الوافد حديثاً والقابع باستسلام في حضنها . الابن يطالع كتاباً مصوّراً . والأكل لم يُمس منذ عشر دقائق . بعد فترة يصحو السيد من سرحانه وينفض رأسه مثل قطة مبللة ويصفق، فيدخل السائق، يقف بمحاذاته . يلتفت إليه السيد .
السيد : ( بصرامة ) هل ارتكبت خطأ اليوم ؟
إشارة :
يقصد السيد بالخطأ هنا ما يلي : التأخر عن مواعيد الحضور - ترك العمل أو الانصراف قبل الميعاد - النوم أثناء العمل - التسكع - عدم
إطاعة الأوامر - التحريض على مخالفة الأوامر - الإهمال أوالتهاون في العمل - كتابة عبارات على الجدران - الإسراف في استهلاك المواد الأولية - الادعاء كذباً على الرؤساء - رفض التفتيش عند الإنصراف - استعمال الأدوات أو الآلات لأغراض خاصة - إحداث مشاغبات - التمارض الخ .
السائق : ( بصوت منخفض ) لا يا سيدي .
السيد : ( بارتياح ) عظيم .. هات السوط .
يتجه السائق بخطوات ثابته إلى السوط المعلق على الجدار ويحضره إلى السيد الذي ينهض بوقار ويتناوله . الزوجة والابن يراقبان في حياد تام، وكأنهما يتفرجان على مشهد مسرحي، رغم أن هذا المشهد يتكرر كل مساء .
السيد ( بِرِقّةٍ ) إنحنِ يا بني .
] السائق ينحني واهباً ظهره لجلدات لا تُحصى . ظََهْرٌ أليف يشتهي السوط ولوج لحمه . كفّ السوط عن التأوه - نشوةٌ - حين ارتخت عضلات صاحبه [ .
] الزوجة والابن يصفقان تقديراً وإعجاباً بالمشهد، ثم يعودان إلى ما كانا عليه من قبل [ .
السيد : أطربني يا بني بإجابتك المعهودة على هذا السؤال : ما الحكمة من
جلدك؟
السائق : ( بصوت ضعيف ) كي أتذكر دائماً أنه لا يجب عليّ أن أرتكب خطأ .
السيد : ( جذلاً ) أحسنت .. لقد أطرَبتني، تستطيع الآن أن تذهب .
يتناول السوط فيعيده إلى مكانه ويخرج . يعود السيد إلى مكانه عند المائده. الأكل لم يًمس منذ نصف ساعة .
تصل الزوجة إلى حالة عنيفة من الإهتياج الجنسي إثر مداعباتها الشهوانية للكلب، لذلك ترتمي على الطعام، تلتهمه بشراهة مقززة، بينما تصدر أصواتاً حيوانية مبهمة .
يسأل السيد ابنه : ماذا تقرأ ؟
يجيب الابن بهدوء وهو يمد له الكتاب : (( كتاب تاريخ )) .
يتفحصه . مليء بالصور الإباحية الفاضحة . يعيده إليه ويربت على كتفه مشجعاً : (( كتاب مفيد )) .
طوال الوقت كانت الخادمة تقف بعيداً وتتفرج راسمة على شفتيها ابتسامة غامضة، غير أن صوتاً جهورياً انطلق فجأة، جعلها تتقهقر مبهوتة، خائفة .
كان السيد واقفاً، يرتعد من الإنفعال ويزعق :
- (( هذا المزمار يزعجني . الأصابع التي تعزفه يجب أن تًقطع فوراً )) .
- هو -
رجع إلى الحقل باكياً، مقهوراً، دون مزمار ولا حبيبة . أحاطت به الحيوانات من كل حدب تستطلع الأمر، والطيور حامت فوقه تظلله وتلطّف طقسه، والنباتات فرشت راحاتها لكي يضطجع عليها ويهدأ .
- (( ماذا فعلوا بك يا حبيبنا ؟ ))
- (( لم يكن بمقدوري أن أقاوم شراستهم . كانوا أقوى مني . سحبوني عنوة إلى البيت الكبير، وهناك كسروا مزماري وبتروا أصابعي )) .
- (( وأين .. أين تلك الأنثى التي وعدتنا بإحضارها كي ترث عرش مملكتنا؟ ))
- (( هددوني بالقتل إن عدت ثانية . تركتها وجئتكم لاجئاً )) .
- (( أيها التعيس . يحزننا أن نقسو عليك . نم الآن فأنت مُتعب )) .
- هي -
قابلتك في الحلم، كنتَ شهاباً يتأرجح في العتمة ويسكب شعلاً باردة فوق رأسي، وحين حاذيتني همست في أذني قائلاً :(( إحذري الثعالب في الشتاء)) ومرة طلعت في صورة قديس شاطرني خبزه ثم مسح شعري ومضى، ومن فرط ابتهاجي ألقيت بنفسي في البحيرة فتلقفتني الأسماك غير متذمرة من تطفلي . ولكن أجمل الصور تلك التي كنتَ فيها راعياً يتشَح بالأغنيات، ويعبر المسافات في غمضة عين، وفي كل خطوة يحث مزماره أن يصون ذاكرة الرمل كالحكاية، وأن يرصد وعورة الليل كالقنديل . قلت في نفسي : هذا من اختاره قلبي، فلأتبعه أينما ذهب وأينما يستقر . سأرافقه - دون تعثَر - حتى عصب المدى .. بلا ثوب ولا مرآة، وسأحتمي بساعديه . رأيتك في الحلم تنداح مثل ضوء، تأخذني بين ذراعيك كأبهى ما تكون، كأنقى ما أكون، بينما يبلّلنا الهواء بعناصره .
تزوجتك في الحلم، وحين صحوتُ ترمّلت .
- هي -
لم يبالِ أهل البيت بحزنها وشحوبها . طلبوا منها أن تستعير جهداً اضافياً من أجل ضيوف الليلة . مسحت، كنست، غسلت، نظفت .. حتى آن موعد قدوم الضيوف، وعندما وفدوا ابتدأ عمل شاق آخر. تحمل الأطباق والكحول هنا وهناك، تلبي الأوامر، تنصاع لكل إشارة وإيماءة، وليس من يرحم تعاستها .
بدورها قررت أن لا ترحم . تسللت إلى الخارج من غير أن يشعر بها أحد، وأغلقت الأبواب بإحكام . الصخب واللهو والفحش لا يزال يصل إلى مسامعها فيلتهب حقدها أكثر . على عجل أحضرت البنزين وبدأت تسكبه حول الغرف وعلى الأثاث الفاخر والأجهزة، ثم أشعلت عود ثقاب (( جيف متعفنة لا بد أن تًحرق )) .. واشتعل البيت الكبير .
إنفتح أمامها درب طويل، غير مأهول، مشت فيه دون تعثر .
4 - دادا .. هذا ثدي هائل
ولكنه مكتظ بالدم
دار دورتين حول خصمه الصريع على الأرض مضرجاً بدمائه، وعندما أيقن أن الحربة قد قضت عليه أخيرا ًبعد أن اخترقت صدره ونفذت من ظهره، شعر بألم حاد في خاصرته، نظر فرأى دماً غزيراً يتدفق من جرح عميق أحدثه سيف الخصم، عندئذ أخذ يسير مترنحاً، لا يكاد يبصر من فرط كثافة الغشاوة المنسوجة حول عينيه .
المرئيات تتموّج أمامه ثم تتداعى . بصعوبة شق طريقه وسط هتافات لا يسمعها لجمهور مسعور يملأ مدرجات الحلبة ويهلل ويصفق ويصرخ بحماسة بدائية، منتشياً بالدم .
تكسر الصوت تحت مواطئه، هوت شهقاته الواحدة بعد الآخرى، كل ما يملكه من حواس اندحر أمام سطوة الألم الرهيب الذي يفترسه بلا شفقة . تراءى له أن الساحة جلد أفعى كبيرة تلهو به ولا تدعه يخرج . مع ذلك واصل سيره حتى ألفى نفسه - بعد حين - خارج الساحة . وفي تلك اللحظة امتدت أمامه صحراء لا متناهية يجب أن يعبرها كي يصل إلى مأواه المنشود .
يا بلاداً تشتت أبناؤها في الداخل والخارج، هيئي سريراً دافئاً لهذا المحارب المتعب، أو إفسحي له مكاناً بين زغبك المائي . لقد عاد من أجل أن يقبلّك القبلة الأخيرة، ويموت على رملك الأخضر . لا يرجو أكثر من هذا . ملعونة أنتِ إن أشحت بوجهك وأبيتِ أن تضميه إلى صدرك .
أصداء متشابكة تطرق أذنيه، تتضح تدريجياً، إلى أن يميز من بينها : جوقة من الأطفال يرتلون - ضجيج حارات ضاجة بالبؤس - بلابل تشدو - أعراس - صخب عكازات تعدو لكي تنتسب لقبضات هرمة .
ضمن البعد اللانهائي، المنفرج أمامه، فقط الذاكرة تطفو مجاناً وتتلوّن حسب البيئة والمناخات والفصول، وأيضاً لا تجيد المراوغة رغم طيشها، تظل أمينة .. هذا إذا أُحسن استحضار محتوياتها . ساعتها تتوارد الصور، كأنها منبلجة لتوّها من بئر عميقة لا ماء فيها .
قديماً كانت ثلاثون قطعة من الفضة تكفي ليخون المرء صديقه، أما الآن فإن مجرد صفعة من رجل يلبس قناع المحقق تكفي .. وربما دون حاجة إلى ندم أو لجوء إلى حبل معلق في جذع شجرة .. وفي جميع الأحوال، دائماً ثمة عشاء أخير.
بعد أن شوهوا أطراف جسده واحتجزوه شهوراً، قالوا له نحن لا نرغب في وجودك هنا . أنت مخرب . يجب أن تغادر البلاد .
فرانسواز .. لماذا أنت قاسية هكذا ؟
تنأى حين يهفو إلى قبلة أو لمسة، وتدنو حين يتقوس من اليأس . فَطِن متأخراً أن فريسته التي اصطادها بكتاب (( ألف ليلة وليلة )) في إحدى المكتبات العامة لم تكن سوى صياد ماكر، وصار هو أعجز من أن يقرض الدانتيلا. ذات يوم خرجا معاً إلى السوق، كانت متأبطة ذراعه، يتحدثان ويضحكان بحبور، ويتفرجان على المعروضات، وعندما وصلا إلى متجر كبير، يبيع الألبسة الجاهزة، توقفت غير مكترثة بالمناكب التي تصطدم بها . حاول أن يسحبها من يدها لكنها انفلتت بسرعة ودلفت إلى المحل . وقف ينتظرها وهو يهز رأسه كمن اعتاد على تصرفاتها العابثة والشاذة، بعد برهة لمحها في واجهة المحل، بجانب الموديلات، وهي تقلد أوضاعها المختلفة . أشار لها، وهو يضحك من جنونها بأن تخرج خشية أن يضبطها أحد العاملين في المتجر، ولكنها لم تأبه له . فجأة بدأت تنزع ثيابها، قطعة فقطعة، وببطء شديد، مثل راقصة محترفة في ملهى . صعقه المنظر فتلفت حواليه مبهوتاً، خائفاً من أن يثور المارة ويؤذوها، غير أن المارة - أثناء سيرهم - لم يكونوا يعيرونها اهتماماً خاصاً، بل يلقون عليها نظرة خاطفة وهم يبتسمون. أصبحت عارية تماماً وبدأت تثيره بحركات خليعة . لم يستطع أن يقاوم، فتقدم ممغنطاً إلى العري النابض باللذة والسحر، ووضع يديه على السطح الزجاجي البارد مقتفياً خطوط جسدها المتمايل المتعرج، وشيئاً فشيئاً بدأت أصابعه تلتهب . حينئذ ألصق شفتيه على الزجاج وراح يلثم صاعداً وهابطاً مع التواءات الجسد، بينما أنفاسه تلفح السطح . لم يعد هناك ما يحول بين أنسجته وبين التكوين العاري المتواري . ذاب الزجاج تحت تشنجات العروق وصلابة الجلد وانتصاب اللحم . ذابت البصريات . وفي غمرة وُلوجه في التكوين، شعر بأشياء صلبة تنهال على جسمه من كل صوب . قبضات، ركلات، وربما أدوات حادة .. حينذاك غاب عن الوعي .
بعد وقت، لم يعرف أمده، فتح عينيه ووجد نفسه طريحاً على الرصيف، مضرجاًً بالدم، وهي جالسة بالقرب منه تنظر إليه . إبتسمت له بوداعة وقالت بنبرة حنونة عذبة :
(( يا لك من طفل مجنون، أنظر ماذا فعلت بنفسك )) .
أغمض عينيه وتمتم :
(( فرانسواز .. لماذا تفعلين هذا بي ؟ )) .
(( ... منذ فترة لم نستلم منك رسالة تطمئننا عليك . أبوك مريض جداً . إذا احتجت إلى شيء لا تتردد في إعلامنا )) .
باع كتبه وبعض حاجياته التي تستحق أن تُشتَرى . بحث عن عمل، بعد لأيٍٍ حصل على وظيفة كنّاس ... يا أجنبي .. إصقل عاصمتنا واجعلها تتألق بين المدائن كل صباح )) .
(( ... أبوك مات . حالتنا المالية تسوء يوماً بعد يوم . إشتقنا إليك كثيراً )) .
ينتحون به جانباً ويحاولون إقناعه . عضلاتك الشرقية هذه مكانها حلبة المصارعة . هناك تستطيع أن تحصل على ماتريد . إسمع كلامنا . لديك موهبة فلا تدعها تموت في صدرك .
مرة أخرى يقع في خطأ ويقبل أن يكون مصارعاً يقتات بسفك دماء الآخرين.
ها هو يعود، عابراً الصحراء، مخبئاً جرحه تحت راحته، لقد دفن أخطاءه
في تلك العاصمة، وجاء مكسوّاً بالنقاء كما كان قبل النفي . لم يغتسل بنبع، ولم
يلتمس الصفح من أحد، إذ لا نبع هناك ولا أحد . تطهّر بالدم وحده .
للمدينة بوابات، وللبوابات أقفال، وللأقفال مفاتيح، والمفاتيح عند
الحراس، والحراس يلعبون الشطرنج فوق شجرة ضخمة، وتارة يراقبون الطريق
بالمنظار المكبّر، إذا كانت الجيوش، وأحياناً البواخر، تنفذ من ثقوب البوابات
في وضح النهار، وتنهب محاصيل المدينة ثم تغادر دون أن يشعر بها الحراس
( أو على الأرجح يشعرون ولكن يغضون البصر )، فكيف لا يمكن لجرح أن يدخل
من غير أن يكتشفوه، وهو الذي يتسرب من أهداب الليل كهرّ أسود ؟
زحف إلى أن أيقن أنه بمنأى عن منظار الحراس وصفاراتهم . وقف وحاول
أن يمنع جسمه من الاهتزاز فلم يفلح . أدار بصره في الموقع الذي وجد نفسه فيه .
مكان وحيد ومتشح بالعتمة، فارقه الناس بعد أن لملم النهار أشياءه ومضى .
تنفس الهواء البارد الممتزج بالندى، وشعر بالانتعاش قليلاً . بيته لا يبتعد كثيراً . يلزمه قدر من الشجاعة والإحتمال حتى يصل . مشى وهو يفكر في وقع المفاجأة على أسرته، وكيف سيستقبلون حضوره .
بعد عدة خطوات بدأ جرحه يؤلمه أكثر ويهدّ بدنه . لم يقدر أن يصطحب جرحه إلى مسافة أبعد، لذلك انعطف نحو زقاق تنبعث منه روائح كريهة، وبالقرب من برميل قمامة، أسند ظهره إلى الجدار ثم انزلق جالساً . حدّق أمامه لثوانٍ ثم غفا .
مع طلوع الفجر بزغت امرأة من البرميل، وجهها دميم ومتسخ، ولثيابها رائحة طعام متعفن، تثاءبت بصوت عال، وعندما لمحت الشاب النائم وهو متكئ على الجدار، لم يبد عليها الاستغراب . أمرٌ مألوف وشائع أن ينام قطاع كبير من أهالي البلدة في أماكن أخرى غير الأسرة والغرف الصحية .
خرجت من البرميل بخفّة ويسر، ودنت منه وهي تتفحصه بفضول، ولكن بصرها اصطدم بمنظر جعلها تجفل وتجمد في مكانها . دم غزير كان يفيض من بطنه ويندلق على الأرض . ناشدت جسارتها بأن لا تخذلها في هذه اللحظة وتقدمت. جلست بقربه . وجهه شاحب وشفتاه ترتجفان . (( نائم أم ميت ... يا إلهي ساعدني )) . مدّت يدها كي تتلمس الجرح، فانتفض جسمه . سحبت يدها بسرعة وتطلعت إليه . كانت عيناه مفتوحتين، مصوّبتين نحوها في تساؤل وريبة . قالت له وهي تطمئنه : (( لا تخف، سأساعدك )) .
نهضت على عجل وأخذت تبحث في الزقاق عن شيء ما، لم تعثر على هذا الشيء . إنحنت ومزقت ذيل ثوبها ثم لفّت القماش حول الجرح محاولة أن توقف النزيف .
- هذا لن ينفع، يجب أن آخذك إلى المستشفى .
ردّ بصوت واهن ومبحوح ..
- لا حاجة بي إلى المستشفى . أفضل الجلوس هنا . لن أمكث طويلاً .
- ولكنك ستموت .
- أعرف .
لم يتحرك من مكانه بل أغمض عينيه، وشيئاً فشيئاً بدأت شفتاه تنفرجان كأنه يبتسم . هو يبتسم الآن . ما أحلى ابتسامته، حتى وهو يموت .
(( مَنْ هذا الغريب الذي جاء ليموت هنا تحت بصري وبين ذراعي، أنا العاهرة التي تسكن هذا الوكر ولا تجد لقمة سائغة لمجرد أن ابن كلب أشاع في وسط البلدة بأني مريضة بالسل ؟ لو قُدّر لهذا الرجل أن يعرف من أنا هل كان سيظل هكذا، في هذا المكان الكئيب، جالساً أمامي منتظراً موته كأنه ينتظر حبيبته ؟
لا بد أن يكون عنيفاً وأعمى ذلك الذي شقّ بطن هذا البائس . تلك حكاية طويلة لا يقدر أن يسردها الآن . يقولون إن الحكايات مجنّحة، لهذا لا يستطيع أحد أن يصطادها ويدفنها، لهذا تظل تعبر الفصول متقمصة روح فراشة، أو تتجسّد في شكل طفل . يوماً ما سأسمعها تناديني، أما الآن فينبغي أن أفعل شيئاً لأجله )) .
تنهض بغتة وتتحرك مبتعدة بضع خطوات، ولكن يوقفها صوت ضعيف هش ..
- لا تذهبي .
تستدير وتعود لكي تجلس قبالته وتغطيه بنظراتها الحانية، خائفة وحائرة .
- إذا أخذتك إلى المستشفى، أو إلى أي مكان آخر، فسوف تشفى . جرحك ليس عميقاً إلى هذا الحد . أنت تقتل نفسك بهذه الطريقة، وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً هنا . أرجوك . قم معي .
أغمض عينيه ثانية ولم ينطق بكلمة . بعد ثوان أخرج لسانه ببطء ورطّب شفتيه .
ظمآن والجرح عميق وغائر . أعيروني قطرة ماء . ليس لأجلي ولكن لشاب لا أعرف اسمه، اصطفاني كي يهبني طيفه وسرّه . هل لديكم مطهر أو يود و ضمادات؟ جرحه يستغيث بي، أنا العاجزة الفقيرة إلا من جسد لا يرضى به أحد، لا تمعنوا في رجمي بقسوتكم . تعالوا لتروا ما أراه . إن كان هو يمنعني من الذهاب إليكم، حتى لا يتشوّه موته ولا تضطرب روحه، فبإمكانكم المجيء . قنعوا حضوركم بالمصادفة إذا شئتم ولكن تعالوا على عجل . لن يمنحني الوقت المستعجل أكثر مما منحني .
تزداد اقتراباً منه إلى أن تلتصق به . تضع ذراعها خلف رأسه وتسنده إلى صدرها. بأصابع مرتعشة تخرج نهدها وتقحم حلمة الثدي بين أسنانه . يشعر هو بنعومة اللحم وطراوته فيفتح فمه ويبدأ في مصّ الحليب بشراهة لا حد لها .
من عينيها تنحدر الدموع دون توقف، ورويداً تبدأ في النشيج .
خاتمة الحكايات . .
في ذلك الطريق الذي يفضي إلى التلال الفضية نشاهد :
- امرأة تنتضي سكيناً حادة يتقطر من نصلها دماء حارس ليلي همّ باغتصابها ذات ليلة .
- امرأة تمشي مرفوعة الرأس، تجر خلفها ثلاثة توابيت .
- امرأة تحمل القنابل وتفجر المناطق الموبوءة .
- امرأة تسقي بحليب ثدييها من تصادفه من التائهين والمنبوذين والمنفيين .
ابريل 1980
بابا نويل لا يحب الدمى
يا نجم،
أرفق بهذا السائر ليلاً ..
بدون صديق،
بدون مظلة،
وبدون حب .
هناك رجل ممدّد على ظهره في الحظيرة، أشبه بالميت، أو ربما هو ميت . إنه ساكن تماماً . وفوق صدره يجثم ديك وينقر عينيه على مهلٍ . يرتفع المنقار فيتقطر الدم قطرات قطرات على وجه الرجل وبين الفينة والفينة يحرك الديك رأسه يميناً ويساراً متباهياً بانتصاره وسطوته، غير أنه لا ينتبه لوجود صبي في العاشرة من عمره يقف خلف السياج واضعاً يديه في جيبي بنطلونه وينظر إليهما دونما اكتراث . يستمر الديك في التهام المقلتين والجفنين ويبدأ في محو الأهداب، ولا يكفّ إلا بعد أن يصير موضع العينين مجرد حفرتين صغيرتين عميقتين يفور منهما الدم بغزارة، عندئذ يشعر بحضور شخص ما، فيلتفت نحو الصبي الذي لا يبدو عليه أي انفعال . يرمقان بعضهما لفترة ثم يغمز الديك بعينه فيبتسم الصبي ويغمز له بدوره، بعد ذلك يستدير مُتّجهاً صوب البيت وهو يصفّر مغتبطاً ومنتشياً .
صرخ الأب بقسوة : لماذا لا تأكل ؟
رفع الصبي بصره عن الأطباق الموضوعة أمامه على المائدة وهمس بصوت مرتعش : شبعت يا أبي .
همّ بأن يقول له بثبات ودون وجل (( لقد رأيتك يا أبي ميتاً والدّيك يأكل عينيك ))، ولكنه آثر أن يصمت خوفاً من أن ينال صفعة أو يتلقى شيئاً حاداً في مكان ما من جسمه .
قال الأب وهو يرمقه بحدة : إذاً ماذا تنتظر، قم واغسل فمك .
نهض الصبي على عجل، وقبل أن يمضي إلى الحمام ألقى نظرة سريعة على أخته التي تصغره بخمسة أعوام، فلاحظ أنها منهمكة في الأكل . ربما اعتادت الأمر أو أنها تتظاهر بعدم الاهتمام خوفاً من غضب الأب الذي قد تتعرض له هي الأخرى .
في غرفته كان مضطجعاً على السرير يتأمل السقف (( لو يأتي أبي الآن ويأخذني معه للتنزه ؟ لو يحبني ؟ جميل التنزه في الحدائق قبل المغيب . جميل أن يحب الأب ابنه . ولكنه يكرهني من غير سبب )) .
سمع حركة مقبض الباب وانفتاحه فأدار رأسه سريعاً ناحية الباب راجياً أن يكون القادم أباه، وأنه جاء ليدعوه للمضي معه، إلا أنه شعر بالخيبة عندما لمح أخته تجرجر ألعابها خلفها، فعاد إلى وضعه السابق وهو يعضّ على شفتيه مانعا نفسه من البكاء .
نادته أخته بوداعة :
- محمد
أجاب دون أن يلتفت :
- ماذا ؟
دنت من السرير :
- إلعب معي .
- إلعبي وحدك . أريد أن أنام .
حدّق في مروحة السقف طويلاً لعلها تجفف دموعه التي بدأت تطفر .
وأخذ يسير في الوحل بتثاقل ومشقة بَيّنين، على طول جانبي الطريق الطويل الممتد، اصطف رجال ونساء بملابس غريبة منمّقة ذات ألوانٍ صارخة، يسيّجونه بنظرات محايدة ترعبه وتضاعف من عزلته . قدماه تغوصان في الوحل ولا أحد يغيثه . صامتون، ساكنون، أشبه بالمومياءات . يوشك على البكاء أو على الصراخ ولكنه يكبح انفعالاته ويواصل المسير . سيصل إن تشبث بجذر الهواء، هكذا يفكر . يرسم بأنفاسه صورة طائر سرعان ما يتجسد ويحلق فوق رأسه . سيكون دليلي، هكذا يقول . فجأة ينبثق من بين الجموع وجه يشطر السكون بعنفه وشراسته، إنه وجه أبيه : مُتفصّد، مُتقلّص، مخيف، يتحرك الفم بتشنج، وببطء - بلا صوت - كأنه يتوعّد ويهدد . يزداد ذعر الصبي ولكنه لا يتوقف، وعندما يوقن أن الوجه عاجز عن اللحاق به، يحس بفرح عجيب يغمره وينعش خلاياه . يرنو إلى الطائر بسعادة بالغة . ولكن هذا لا يدوم طويلاً، إذ يباغته منظر يجعله ينتفض هلعاً، فمن الوحل تتصاعد فقاعات وبخار لافح، ويصير كأنه يتحرك في مرجل يغلي . يشعر بالعرق يتدفق من جسمه وبسائل ساخن يلهب شفتيه. يكتشف بأن أنفه ينزف دماً، وأذنيه ترشحان دماً، يهمّ باللجوء إلى إحدى الضفتين حيث لا وحل ولا دم، ولكنه لا يفعل لأنه يدرك أن الناس المزروعين على الضفتين سيمنعونه بالرغم من حيادهم المكشوف، لذا لا يجد أمامه غير الإستمرار فيمشي مغمض العينين، ويبدأ رويداً في الإنحدار نحو الغيبوبة مستسلماً لأصوات مبهمة وصفارات وحفيف أوراق - لا يعرف مصدرها - تتزاوج في ذهنه وتختلط بعضها ببعض، ومن بين هذا المزيج الشاذ يتشكل صوت عميق واضح النبرات : (( ها قد دخلت جذري وانتسبت إلى مملكتي )) . فيفتح عينيه لأنه عرف أن الهواء يخاطبه، وحينئذ يلفي نفسه في مرجٍ، محاطاً بالحشائش والعصافير، يستنشق رائحة أوراق الشجر النديّة ويصغي إلى ضجيج الحشرات . يجد أمامه باباً كبيراً مفتوحاً على حديقة فسيحة ملأى بالثمار والزهور والجداول . يرفرف الطائر بجناحيه ويقول : (( لقد وصلت . ادخل رحم الأمومة )) ثم يختفي . يتقدم ويدخل ويخطو على الحشائش مبهوراً بما حوله إلى أن يصل إلى قبّة خضراء مغروسة في منتصف الحديقة، يتأملها للحظات جاهلاً كُنْهَ هذا الكيان المهيب . وفجأة يسمع صوتاً آتياً من خلفه : (( هذا ضريح )) . يستدير فيرى شيخاً جليلاً له لحية بيضاء ويرتدي ثوباً أبيض، وقبل أن يستقر يبادره الشيخ المتوكىء على عكاز قائلاً : (( هذا ضريح أمك يا ولدي )) .
نهار بديع، شمس مشرقة، عصافير تغرد .. ولكن من يبصر نفس هذا الصبي سيلمح كسوفاً وضباباً وحزناً ثقيلاً، فهذا المتوجه إلى مدرسته القريبة من البيت، حاملاً حقيبة مكتظة بالكراريس التي لا يطيقها، يستقبل يوماً مألوفاً يدرك سلفاً مجرياته وتفاصيله الصغيرة : سيدخل الفصل ويصغي إلى أستاذه من غير انتباه وتركيز، وسيحاول أن يخاطب زملاءه دونما جدوى فمعظمهم يتحاشون الحديث معه رغم أنه لا يكنّ لهم بغضاً، وفي فترات الاستراحة سينزوي في ركن بعيد يراقب منه التلاميذ وهم يلهون ويتمازحون في الساحة، وسيأتي هشام - صديقه الوحيد - ويجلس بجانبه ويقدم له سندويشاً يعتذر عن قبوله، وسيحاول أن يسأله، لماذا يتجنبونني ؟ ولكنه يحجم عن ذلك، لأنه سأله مراراً، وفي كل مرة كان يتلقى إجابة ثابتة لا تتغير : بسبب أبيك .
(( أبوك ضابط . قتل رجلاً أعرج لم يستطع الهرب أثناء مظاهرة سلمية . أطلق عليه من الخلف، وعندما سقط الأعرج دنا منه وانحنى فوقه، لم يكن قد مات بعد، ولكي يُخرسَ توسلاته أدخل المسدس في فمه وأطلق . انفجرت جمجمة الأعرج )) .
بعد الظهر، اتجه إلى غرفة (( شريفة )) الخادمة، وجدها ترتّق ثوباً، رفعت بصرها نحوه وابتسمت له ثم واصلت عملها . اقترب منها وجلس بقربها على السرير، أخذ يراقب ما تفعله ويتأمل وجهها . لقد اعتاد أن يجلس معها ويحدثها، لذا لم تسأله عن سبب مجيئه . بعد حين :
- أنت جميلة،
ضحكت وقالت دون أن تترك ما بيدها :
- أعرف .
- لماذا لم تتزوجي بعد ؟
نظرت إليه وتنهدت، ثم أجابت مازحة :
- لأنني لم ألتق بالشخص الذي يحبني .
- أنا أحبك .
ضحكت ثانية . لضحكتها رنين مدغدغ يحلو له الإصغاء إليه .
- حبك يختلف .
- وأبي .. هل يحبكِ ؟
ارتجفت شفتاها، وتظاهرت بأنها لم تسمع، وعادت إلى رتق الثوب . يبدو أنه يلحظ ارتباكها، إذ استدرك قائلاً بصوت خافت مسموع :
- لا .. أبي لا يحب أحداً .
- إنه يحبك .
- لماذا يكرهني ؟
- قلت إنه يحبك ولم أقل إنه يكرهك .
- إذاً لماذا يقسو عليّ، ولماذا لا يدعني أرى أمي ؟
- لأنها تعيش مع رجل آخر .
( أذكر كيف جرّها تلك الليلة من شعرها حتى عتبة البيت وركلها في بطنها ورأسها بلا شفقة . لم يرحم ضعفها ولم يرقّ قلبه لصرختها وتوسلاتها، وتركها دامية الوجه شبه عارية ولم يسترها بغطاء . كنت صغيراً آنذاك وأنا خشيتُ أن تشهد هذا المنظر البشع فأقفلت عليك الغرفة . طلّقها تلك الليلة، وما عدت أراها . لن أحكي لك هذا . اذهب والعب خارجاً، فلا جدوى من الأسئلة ) .
فرشت الثوب بعد أن انتهت من رتق موضع منه :
- ما رأيك فيه الآن ؟
- عندما أكبر سأشتري لكِ ثوباً جديداً .
في المساء، أمام إلحاح أخته لم يجد بدّاً من الانصياع لطلبها ومشاركتها اللعب بالدمى والألعاب العديدة المبثوثة في الأرجاء .
(( محمد أنظر، بابا نويل أحضر هذه الدمية الحلوة . جاء من الشباك . لا، كان في الدولاب مختبئاً، كنت نائماً، أنا رأيته . كان يحمل على ظهره صرة كبيرة مليئة بالألعاب . كل ليلة يأتي ويعطيني لعبة . يقول لي يا أميرة . محمد، أنا أميرة )). .
لم يكن ينصت باهتمام، كان منهمكاً في تركيب لعبة معقّدة، وعندما انتهى من ذلك راح يساعدها في تشغيلها ويراقبها وهي تضحك جذلى . بعد مضي ساعة أو أكثر بدأت الصغيرة تتثاءب، فطلب منها أن تنام وأخذ هو يلملم الأشياء ويرتّب المكان، بعد ذلك اضطجع على فراشه ولكنه بات يقظاً ولم يراوده النعاس . ( يجب أن أحصل على عنوان أمي . شريفة لا تريد إخباري، دائماً تتهرّب من الإجابة . الآن سأجعلها تبوح لي بذلك . سأخبرها بأنني مشتاق كثيراً إلى أمي وأنني أحتاجها. ستشفق عليّ شريفة ) .
وبهدوء تسلل من غرفته . كانت ساعة الحائط تشير إلى العاشرة والربع، وكانت الإضاءة خافتة، غير أنه يعرف جيداً الطريق إلى شريفة . طرق بابها فلم يسمع رداً، فتح الباب، الغرفة مظلمة وهي لم تكن هناك . إستغرب من عدم وجودها في هذه الساعة، بحث عنها في المطبخ وفي المخزن، أيضاً لم تكن هناك . وفي أثناء عبوره أمام حجرة أبيه سمع همسات وتأوهات وشيئاً أشبه بالفحيح . لم يستطع مقاومة فضوله، رغم الخوف والرهبة والحذر، إلا أن ثمة رغبة عنيفة أخذت تستدرجه وتجذبه نحو مصدر الأصوات . دفع الباب قليلاً، لم يكن مغلقاً، والأصوات ازدادت وضوحاً. دفع أكثر، تسمّر في مكانه مذهولاً، فاغر الفم، فاتحاً عينيه على سعتيهما . لقد رأى أباه مستلقياً فوق شريفة، عاريين تماماً و يقومان بحركات مخجلة، بعد لحظات انتزع نفسه من مكانه وركض صوب الحمام وهو يكبت بكاءً يصطخب في داخله، وفي الحمام بدأ يجهش مقهوراً ويائساً . بعد حين هرع إلى غرفة شريفة . هدأ بكاؤه ولكن هياجه كان يستعر ويتجاوز حده . أخذ يفتش عن شيء ما، وجد الثوب الذي كانت ترتقه ظهر اليوم وراح يمزقه بيديه وأسنانه ثم يقذف به على الأرض ويدوسه .
في رقعة جرداء مقفرة تحفها شجيرات صبّار وعلب صدئة وقناني فارغة، يجلس الأب منكس الرأس موثوق اليدين من الخلف على كرسي من حجر يتسرب منه الغبار وينسكب على الأرض من جميع الجوانب . ثمة غراب أمام الكرسي يحفر بمنقاره قبراً . أما الصبي فيدور حول الأب ويقف أمامه، مشيراً ناحيته بسبابته وهو يصيح - دون صوت - كأنما يتهمه . برفع الأب رأسه ويتكلم - دون صوت - كأنما يدافع . ملامح وجهه تعبّر عن المذلة وتوحي بالاستجداء . بغتة تنبت الأرض نساءً عاريات، شاحبات، معصوبات الأعين . شعورهن أغصان غير مورقة، ومن جروحهن العديدة يتدفق الماء . يحلّقن في الهواء ثم يتلاشين . والأرض لا تتوقف عن الإنجاب، مزيداً من النسوة الشجرات، النسوة المائرات، النسوة النسائم، تصحبهن رغوات ملونة وترانيم ملائكية . مهزومات مهجورات مؤودات كأن التربة تنفث مزاميرها، تنثر مراثيها، لعل قافلة الرياح الرحيمة ترأف بها وتسكنها هوادجها . والصبي يذرف الدمع بينما الأب يحملق مفزوعاً، ويزداد فزعه حين يلمح حبلاً دائرياً يتدلى ببطء من فوق، من مكان مجهول، ويلتفّ حول عنقه، فتتغير سحنته وينسلخ جلده . يحل محله جلد أخضر . يصبح بشعاً ومخيفاً . تنمو أنيابه وتكبر أذناه، ومن فروة الرأس ينبثق قرنان حادان يلمعان . حدقتاه تقدحان شرراً، ومن شدقيه الواسعين يخرج ثعبان هائل يفحّ ويقطر لعاباً ساماً، يتحرك نحو الصبي الذي يقف رابط الجأش غير خائف . فجأة يتقهقر الثعبان عائداً إلى المكان الذي خرج منه . يلتفت الصبي فيرى قطيعاً من الأيائل يدنو، يتقدم أيل ويجثو أمامه فيمتطيه .. عندئذ ينطلق القطيع .
في اليوم التالي حاول أن يتجنب التقاء نظراته بنظرات شريفة . لقد انتصب حاجز كبير بينه وبينها منذ أن خانته . الخيانة هي تلك الكلمة التي وجدها تعبّر تماماً عن فعلتها البارحة . هي الآن تبدو في نظره ساقطة ومقرفة ومتواطئة ضده . كل حركة منها تولّد في صدره بغضاً لا حدود له .
( أردت أن ألجأ إليك لتخبريني عن مكان أمي . كنت مستعداً لأن ألثم أصابع قدميك لو طلبت مني ذلك، ولكنك انحزت ضدي وارتميت على الفراش الذي حرمت منه أمي .
صرت لا أشتهي أن أكلمك ولا أن أراك . صرت أشتهي موتك ولن أغفر لك).
حزن شريفة كبر حجمه، تسلل قبل أن يسدل الجفن غطاءه على المقلة . شاحبة ضامرة بدت . تتكئ على جدارٍ رخو وتتخيّل نفسها كهفاً تستوطنها الخفافيش . لماذا يحدث لها كل هذا ؟ حين أبصرت الثوب الممزق فهمت المسألة، وحين سقط الطبق من يدها وانكسر أدركت أن الشرخ يغزو نسغ كل شيء لا محالة، وأنها أول من ستتعرّض للرجم بالطين أو بالسكاكين .
( كيف أشرح لك وأنت صغير ؟ لقد رأيتَ ولم تر . ما أصعب أن يكون الطفل قاضياً . تتحاشى أن يقع ظلك على ظلي ؟ إذاً أدر وجهك شطر أي بئر تصادفها واغمس راحتك في مائها، سترى ما لم تره . يوماً ستفهم ما معنى أن تكون المرأة خادمة، وأخشى أن تصبح مرآة لأبيك قبل أن يصل ذلك اليوم، وقتئذ ستفهم بشكل آخر . يبدو أن المطر سينهمر بعد قليل . كم أنا حزينة اليوم ) .
وقف أمام النافذة يرنو إلى الخارج عبر الزجاج وعبر قطرات المطر التي تطرق الزجاج برفق، وشيئاً فشيئاً تكسو سطحه أو تمحوه . هناك الحيوانات تغسل جلودها مغتبطة، وزمرة من الصبيان على دراجاتهم يتنزهون، وبلابل مبلّلة تبحث عن أعشاش دافئة . وكان يمكن أن يستغرق في تخيلاته لولا نداء أخته طالبة منه أن يلعب معها .
صاح في وجهها بحدة : أصمتي .
انكمشت قليلاً ثم عادت إلى اللعب بمفردها واستأنف هو مراقبة هطول المطر الذي بدأ يشتد . للمطر حوافر، لخطواته على الإسفلت وقع صاخب . الغيمة وحدها لها الحق في ترويض هذا الوحش الأليف الذي يأكل اللجام كما يأكل الجزرة .. بهدوء وتأنٍ . يتغلغل في كل مكان، يغور في التراب، يمازح المظلات والقبعات، يتحد بعناصر الهواء . وعندما يكفّ عن عبثه ويتعب، تحمله الغيمة بين ذراعيها وترسو به في فضاء آخر .
مرة أخرى سمع نداء أخته وأحس بها تقترب منه .
- أنظر يا محمد إلى هذا الدب . أحضره لي بابا نويل وأنت نائم .
قال لي ..
استدار فجأة وضرب ذراعيها الممدودتين فوقع الدب على الأرض، صرخ :
- أنت غبية، بابا نويل يخدعك .. بابا نويل لا يحبك .
انفجرت الصغيرة في البكاء، استفزه صياحها ولم يدر ماذا يفعل . كان الغضب يتأجج داخله ويستنفر أعصابه المتوترة . لبث في مكانه برهة ثم اندفع راكضاً، وكاد أن يتعثر على السلّم لكنه تماسك وانطلق خارجاً بأقصى سرعته . المطر كان ينهمر وهو يعدو، لم يحدد جهة معينة يقصدها بل راح يعدو كما لو أنه يهرب من شيء أو كائن مرعب . اتسخ حذاؤه بالوحل، تبللت ثيابه، تموّجت المرئيات أمام بصره ولكنه لم يتوقف بل ظل يجري، يسبقه لهاثه وتتبعه آثار أقدامه . ساقاه ازدادتا عزماً وتصميماً ولم يصبهما الوهن . تكسرت الأعشاب تحت قدميه، تفتت الحجر . أنسحق الطين ..
يعدو، حوافر تعدو، جواد يعدو . على ظهر الجواد يستقر الصبي ممسكاً باللجام ويطلق صيحات عالية ومبهمة . يعبر السهوب، يقتحم مشارف الغابة ويتوغّل في أحشائها . تحيد عنه المستنقعات وتفسح له الفروع طريقاً ويسمع همس التمساح للبومة (( إلى أين يمضي هذا الفارس المستعجل ؟ )). يجتاز الصحراء وصخور الجبال، يمرق تحت الشلالات وفي عمق المغارات . وكل الكائنات تخرج رؤوسها وترمق بإعجاب هذا الخيّال الذي تولّه بالسفر وعلّم حصانه قراءة الخرائط . في أقصى الوادي يلمح شجرة تفاح يكبر حجمها كلما تدنو منه . يطلق صرخة مزلزلة إيذاناً بوصوله . هائلة هذه الشجرة مكتظة بالثمار، تنتصب بمفردها في العراء كأنها ملكة لم تتوّج بعد . على غصن تقف غزالة وتنجب وليداً بشرياً، على غصن آخر أطفال عراة يقوزحون الضوء ويرشقون الحوذيين - الذين يمرون في صمت - بالأكاليل والقش . وتحت الشجرة امرأة فاتحة ذراعيها ترقب القادم وتبتسم . يترجّل الصبي ويهرع إلى حضنها فتحتويه بذراعيها وتقبّل رأسه .
- لماذا تأخرت يا حبيبي ؟
- جئت في الموعد يا أمي .
- جميع الفصول جاءت ثم ملّت الانتظار وذهبت، أنا نفسي كدت أيأس .
- أمي .. أنا وحيد . أبي أخذ شريفة، بابا نويل خطف أختي .. ليس حباً فيها ولكن كرهاً لي .
- لا تخف يا حبيبي، أنا هنا .
تضع أناملها الرقيقة تحت ذقنه وترفع وجهه . تلمح دموعاً، فتقول بحنان دون أن تفارقها ابتسامتها العذبة :
- أنت تبكي ؟
- أريد أن أبقى معك .
تقبّل وجنتيه .
- ليس الأمر بيدي .. سأمضي الآن .
يقول مستغرباً غير مصدق ما يسمع
- إلى أين ؟
- سأمضي .
تبتعد عنه . حوذي كان ينتظرها . لم يتبين وجهه فقد كان يغطي نفسه برداء أسود . ولما صعدت إلى العربة، صاح بخشونة :
- عودي .. عودي .
تحركت العربة .
- أنا أكرهكِ .. أكرهكم جميعاً .
حين مرّت العربة أمامه استطاع أن يرى الحوذي جيداً . لقد كان هيكلاً عظمياً .
توقف المطر الذي استمر ساعات . تزحزحت الغيوم . تمتم الصبي : (( أخّمن أن السماء ستمطر قبل غروب الشمس )) .
توجه إلى دار صديقه هشام وهو يحمل حقيبة جلدية صغيرة . دعاه للتجوّل . مشيا معاً وتحدثا عن المدرسة والمذاكرة والكلاب والأشياء التي يصادفانها . سأله هشام عن الحقيبة، فأجاب بأنه جلب معه طعاماً . اقتنع هشام بالإجابة . وصلا إلى مكانٍ ناءٍ ومنعزل . جلسا على العشب وتحدثا قليلاً، وعندما اضطجع هشام على ظهره فتح محمد حقيبته وأخرج مسدساً راح يتأمله برهة ثم أدناه من وجه صديقه الذي ما إن رأى المسدس حتى نهض مفزوعاً .
- حقيقي ؟
- نعم، ومحشو أيضاً .
- من أين لك هذا ؟
- أنه مسدس أبي، أخذته من دون أن يعلم .
كان هشام مذهولاً، ينظر إليه باستغراب .
- أنت مجنون، سيمزق جلدك إذا عرف بالأمر .
- لن يعرف . سأعيده قبل رجوعه .
- ولماذا تحمله معك ؟
- أتسلى به فحسب .
أثارته أكثر رباطة جأشه وهو يربت على المسدس ويمسح عليه كأنه يلاطف هرّة، وأفزعته أكثر تلك الابتسامة الغامضة التي ارتسمت على شفتيه .
- إذا لم تُرجع هذا الشيء الآن، سأذهب ولن أكلمك مرة أخرى .
نهض محمد متململاً :
- لا تكن غبياً . ليس الأمر خطيراً إلى هذا الحد .
- هذا الشيء ليس للتسلية، وأنت تعرف ذلك .
- بهذا نستطيع أن نصطاد الأرانب من هنا، هل تريد أن نجرب ؟
- سأذهب .
تحرك هشام . ازدادت ابتسامة الصبي غموضاً . صوّب المسدس نحو ظهره.
- عد .
لم يلتفت هشام ولم يتوقف . ظهره كان قريباً . تسلل الإصبع إلى الزناد . الفوهة مصوّبة نحو منتصف الظهر . لحم طريّ . هدف كهذا لن يخفق في إصابته . لامس الإصبع الزناد . الظهر مكتنز بالدم . الإصبع . الزناد . الظهر . الأم . الغزالة . شريفة . هشام . الطفل . الرجل . الكهل . الدم . اللحم . القلم . العالم . وضغط على الزناد، ومع الطلقة المدوّية التي انفجرت بغتة، خرج هتاف صارخ عنيف من جوف الصبي : يحيا الأب .
يا نجم،
آن لك أن تخبو،
فما عاد الوحيد وحيداً .
أغسطس 1980
للشهادة أيضاً مدارات
تقدموا مثل موكب تزهو فيه الفوضى . هذا هو طقسهم اليومي . بأصابعهم العارية يوسمون الرمل الناعم بشعارات تنبئ عن حضورهم . جاءوا ممشوقين، يمتشقون صناراتهم وحرابهم و شباكهم . جاءوا من الغرف الضيقة، مدفوعين بالصلوات الجائعة ونظرات الأولاد المتكوّرة . لقد انحدروا من أطراف البلدة تسبقهم خيالات جامحة يعرفون أنها لن تتجسد، غير أنهم لا يحاولون ترويضها، أو على الأرجح، لا يريدون .. فالذاكرة الشقية تنفلت عادة من هودج الرأس الساكن، لتنطلق في أقاليم باهرة تبتكرها اللحظة التي لها أجنحة متعددة، لذا يتخيلون أثداء زوجاتهم وقد اكتظّت بالحليب، ووجنات أطفالهم وقد اكتنزت بالضحك، عندئذ يبتهجون، ولكن البهجة تغادرهم، حين يلمحون مواطئهم تنغرز أعمق فأعمق في الرمل الناعم، ويدركون أنهم وصلوا أخيراً .
نزلوا، دنا منهم الماء . دخلوا، دخل فيهم الماء . ودون تردد انتهكوا طمأنينة الماء وأسروا في نسغه ..
(( أيها البحر الرحيم كُنْ سخيّاً هذا اليوم . أيها البحر الرحيم أرأف بنا )) .
نداءات لم تكن تستجاب في الأيام الماضية إلا نادراً، أما اليوم فيبدو أن البحر لم ينزعج من فضولهم ووقاحتهم، إذ ظلّ مسترخياً بكيانه الهائل، لا يأبه لمضايقتهم الطفولية، وربما يضحك سراً من تخبطهم وهم يبحثون عن مخلوقاته الصغيرة . بأصابعه داعب موجاته وطلب منها أن تكون وديعة، لأن ثمة خدَراً لذيذاً يناوشه . لا ريب أنه يستسلم لنوم عميق . هكذا تتوقف طواحين الماء عن العمل، هكذا تهدأ أجراس الأعماق ولا يُسمع منها سوى أصداء رنين يخبو شيئاً فشيئاً، هكذا تستكين الكائنات المائية وتحترم رغبة سيدها في النوم .. ولكن لا شيء يمنع الأسماك العابثة من مواصلة لهوها والتسابق فيما بينها حتى مشارف تخوم مملكتها .
رموا الشباك والصنارات، وغرزوا الحراب في الماء . أفواجاً أفواجاً أقبلت الأسماك دونما حذر، فخورة بألوانها وطراوتها، لا تدري أن الماء صار فخاً، لذلك وقعت في الفخ . أسماك كبيرة وصغيرة، أسماك زاهية الألوان، أصداف وأعشاب ومعادن .. كلّها وقعت، فأطلق الصيادون صيحات بدائية تعبّر عن أشياء كبيرة، السعادة إحداها بالتأكيد . ثانية رموا شباكهم وانتظروا فترة ريثما تمتلئ .
كم هو سخيّ هذا البحر . أجل . دعوا النسوة يهزجْنَ بالأغنيات الحلوة وينقرْنَ الأوعية النحاسية تلك النقرات الأليفة ويرقصن على إيقاعات الغبطة . ستأكل اليوم سمكاً كثيراً يا ولدي . وأنت يا مصطفى بوسعك أن تبيع نصف حصتك بمبلغ يكفيك شهراً . من يعرف أن يرقص في الماء ؟ احتفظوا بطريقة تليق بالفرح الذي يغمر قلوبكم . أيها الشاب، خذ هذه الإسفنجة وامحُ بؤس الأمس . يتسنى لكم الآن أن تتفحصوا مواقعكم وتدوزنوا خطواتكم لتكون جديرة بالمناسبة .
تتدحرج الأسماك جاحظة أعينها . بخفة تتواثب الأقدام الحافية غير مكترثة بالحصى المدبب وبشظايا الزجاج التي تنغرز في باطن القدم . ويلتقطون الأسماك . إنهم يسحبون الشباك ثم يرمونها دون كلل، لا ترتخي العضلات لحظة، بل تظل نافرة، لا تتعب . والبحر، هذا الهائل، يغفو محتوياً عناصره في عناق طويل .
فجأة .
اعتدل واحد منهم في وقفته، وقد اعترته رجفة لم يقوَ على إخفائها، وراح يحدق أمامه فاتحاً عينيه على سعتيهما في فزع جلي . هذه الحركة أربكت الآخرين، نظروا إليه برهة ثم التفتوا إلى حيث كان يحدّق . فجحظوا وتمتم أحدهم (( يا إلهي، ما هذا ؟ )) .
انفلتت الشباك الحبلى من القبضات بشكل لا إرادي، واحتل التوتر والرهبة مواقعهم . لبثوا في أماكنهم ساكنين فترة، لا يجرؤ أحد على خدش الهدوء الذي هبط عليهم بغتة . لماذا يحدث هذا الآن ؟
شعروا أن الدم قد بدأ يتجمد في عروقهم، هجسوا أن الرعب سيغتصب مُقَلَهم إذا لم يبادروا لفك الحصار قبل فوات الأوان، أيقنوا أن الأعصاب لا يمكن أن تكون محايدة في مثل هذا الموقف .. لذلك أطلق أحدهم صيحة فشلت في أن تحافظ على توازنها (( اسحبوا يا رجال )) .
***
إسمي يونس .
كنت واقفاً هناك أرتجف مثل الآخرين . لا أدري . أعتقد أنهم كانوا يرتجفون مثلي لأنهم ظلوا واقفين فترة، ولم يكن الموقف يسمح بأن يتفحص كل منا الآخر . كنا مشدودين للمنظر الذي استحوذ على أبصارنا، وحين تحركنا نحو .. نحو الجثة، اكتشفت أنني كنت أخنق سمكة كبيرة دون أن أشعر، أرخيت أصابعي فسقطتْ في الماء وكانت ميتة .
توجهنا نحو الجثة ببطء . البطن منتفخ، الوجه منتفخ ومشوّه تقريباً بحيث يصعب التعرف عليه . كان رجلاً، هذا ما أدركناه للوهلة الأولى، ولكننا لم نعرفه، كيف يمكن أن نميّز وجهاً محفوراً بالطعنات ؟
في مدار هذا الوجه دارت أبصارنا لعدة دقائق . ثم تبادلنا النظرات لعل أحداً منا قد صادفه ذات مرة في حانة أو مرفأ أو مخفر، غير أن شحوب النظرات وانكسارها برهنا على إخفاقنا . دنونا أكثر، انحنينا فوق المقتول بحركة موحدة وانتشلناه من الماء .. وعلى الرمل تركناه ممدداً، شاخصاً في أعيننا، وكان حزيناً جداً .
لمحت شفتيه المتشققتين تنفرجان قليلاً ثم تتحركان كأنه يتكلم . لم أسمع جيداً، فجثوت على ركبتي ووضعت أذني بالقرب من أنفاسه، سمعته يقول بصوت ضعيف (( ساعدني على النهوض )) أنهضته برفق حتى وقف قبالتي . كان هشاً، وكانت الندوب غائرة بشكل مخيف . هممت بأن أمدّ يدي لأجوس في أخاديد وجهه ولكنني لم أفعل . أشفقت عليه وخشيت أن يسقط ويتهشم، إلاّ أنه ظل واقفاً يرمقني، وظِلُ ابتسامة غامقة توشك أن تذوب بين فكيه .
سألته : مَنْ أنت ؟
أجاب مستغرباً : ألا تعرفني ؟
هززت رأسي نفياً، فمال برأسه إلى الناحية الأخرى وقال في أسى : (( هذا مؤلم )) .
كدت أكرر السؤال الأليف، غير أني تراجعت أمام تحصُنه بالصمت المفجع، وقاومت أسئلة عديدة بدأت تستفزني . بعد حين التفت صوبي وكان الأسى قد غادره، وفي عينيه لمحت شيئاً من التهور والشقاوة .
قال : (( أود أن أركض في هذه الأنحاء . هل تلعب معي ؟ )) .
باغتني هذا الطلب ولم أعرف الإجابة، وهو لم يمهلني كي أخترع ما يقنعنا معاً، بل راح يجري مثل أيل حر، يختصر المسافات ويتحد مع الكائنات النباتية، يجرد امتدادات الظلال من أصلها ويطلق سراحها . أبصره يهرّب أسرار الجذور لأسراب الطيور، ولا يكف عن غزو ميادين الريح بروحه المستقلة .
ركضت وراءه لا لألعب معه وإنما لأستفسر : مَنْ هو، ومَنْ قتله، ولماذا قُتِلَ، وكيف قُتِل ؟
وعندما توقف أشار إلى رابية بعيدة :
(( أنظر، هناك زوجتي تنتظرني، سأذهب إليها الآن )) .
مرة أخرى لم يمنحني الفرصة كي أتحدث معه، و إنما واصل ركضه، فركضت ولكنه كان سريعاً جداً ولم أتمكن من اللحاق به، لذا توقفت و أنا ألهث متقطّع الأنفاس، أرقبه وهو يبتعد ويصغر تدريجياًَ حتى اختفى، عندئذ استدرت وعدت .
البطن منتفخ، الوجه منتفخ ومشوّه تقريباً، وكان نظري مسمّراً على هذه الكتلة الممدّدة أمامي . أدرت رأسي بعد حين فلم أجد أحداً من الصيادين، و ألفيت
نفسي وحيداً مع الجثة .
***
جلس يونس على سطح داره مطرق الرأس يفكر .. سمع وَقْع خطواتٍ رشيقة قادمة نحوه، عرف أنها زوجته . بعد برهة شعر بأنامل رقيقة تحط على كتفه . إلتفت نحوها، كانت منحنية فوقه تتطلع إليه بنظرات حانية . جلست بجانبه .
- ما زلت تفكر فيه ؟
نظر أمامه وأومأ: نعم .
- ألن تحاول أن تنساه ؟
- لا أقدر .
- ليس في إمكانك عمل شيء من أجله .
- يجب أن أعرف السبب .
- ما الذي ستجنيه من ذلك ؟
- أريد أن أعرف .
- دع الأمر للمحققين . لقد دفنته وانتهى دورك .
- بل ابتدأ يا سكينة . ابتدأ منذ أن رأيته في البحر . مضى أسبوعان ولم يكتشفوا
الجاني، ومن يدري، ربما سجلوا القضية ضد مجهول .
***
البحر كبير - قالوا - يسع كل صياد، فرداً كان أم باخرة . لا بأس - قالوا - بإمكان الصيادين أن يصطادوا مع شركة صيد الأسماك جنباً إلى جنب . ولكن الصيادين كانوا يدركون جيداً أن هذا غير ممكن، وأنها صفقة غير عادلة . إذاً، ماذا نفعل ؟
انسحب أبناء البحر مزوّدين بحكايات لا تنتهي عن العواصف و آثام الموج . بحثوا عن جمهور يصغي وعن قانون يحكم . بعد يأس، استقروا على الشاطئ يَرْنون إلى مواويل، فقدت أصواتها، ترتطم بالصواري الحديدية وتهوي ممزقة - يعذبهم ضجيج البواخر التي تحمل زادهم وتعبهم .. وديونهم أيضاً . يعذبهم أكثر أن يعودوا كل مساء إلى ديارهم فارغي الأيدي وبلا أعذار معقولة .
عجبوا للبحر، هذا الجبار، كيف يرضى أن تستغلّه باخرة وتحتكر ما يملك . حسناً، لن يجدي شتم البحر، المسالم غالباً، ويتعين عليهم الآن أن يغادروا أماكنهم وينقّبوا في دوائر البر لعلهم يعثرون على رزق مختلف . حقاً ليس سهلاً الصيد في الإسمنت، غير أن البدائل ليست معروضة كالسلع . حل آخر، أن ينتشروا في الموانئ مثل القراصنة ويقتنصوا المؤن المخزونة في صناديق الجمارك . حل ثالث أكثر سحرأ وطيشاً، أن يشكلوا جيشاً مدججاً بالجرأة يقتحم دخان البواخر ويهاجم . حل رابع أن يحمل كلٌ قدرَه على كفه، فمواجهة أسماك القرش ومزاج البحر المتقلب أيسر من مواجهة باخرة من حديد . حل خامس .. صمتاً، لا مجال للرعونة والغضب، ينبغي أن نتأمل، لكن - أردف أحدهم - لا تنسوا أن في التأمل يكمن الألم، خاصة في مثل هذه الأحوال .
إستدرجت شرانق التفكير أبناء البحر . حبال ثخينة لم يجدوا مفراً من قرضها . قريباً سيصبحون أبناء سبيل، وهذا ما لا يرضونه لأنفسهم . ومع ذلك يلجأون في النهاية إلى السؤال القديم : ما العمل ؟ رغم أن عديداً من الآراء تتواكب ثم تذوب كالشمع .
تختال الباخرة مزهوة مثل ملكة تجهل لغة شعبها، لأنها تعلم أن إشهار إصبع يعني أمراً لا بد أن ينفّذ، ولأن لديها وسيلة تستطيع بها أن تُنْطقَ البحر بلغتها . مكائن لترويض الموج ومكائد لسلب محاصيل الأعماق . هي تظن أن احتجاجات الصيادين حيوانات منزوعة الأنياب، لذا تتمادى في الاختيال والإبتزاز.
بالأمس دنا قارب صيد أعزل من منطقة مزروعة بالأسماك فدهسته الباخرة وأغرقت مَنْ فيه، وطفا الحطام شاهداً على هذه المأساة الروتينية .
الصيادون يمتلكون آذاناً رهيفة، وهم عادة ينصتون في الأمسيات الدامسة لمآسي شتى ترويها مرساة تائهة بصوت ساخر تارة ومرير تارة .
***
يونس طرق باباً فتحته امرأة لم يُخرّب الزمن جمالها، يونس لمح في مقلتيها المتسائلتين حزناً ثقيلاً . كيف يمكن للكلمات الموزونة أن تنفذ، في هذه اللحظة، دون أن تعرج ؟ نسي يونس - لشدة حرجه - كيف يبدأ الحديث فقال بصوت منخفض ومرتبك : (( حدثيني عن زوجك )) فتحت فمها ونظرت إليه مندهشة . ظن أنها لم تسمعه جيداً فكرر طلبه بصوت مرتفع بعض الشيء : (( حدثيني عن زوجك )) . تصلّب وجهها واتخذ شكلاً صارماً (( لماذا ومن تكون ؟)) .
قال لها برجاء : (( هل تسمحين لي بالدخول ؟ )) .
ردت بقسوة : (( اذهب من هنا )) .
ثم أغلقت الباب .
في اليوم التالي طرق يونس الباب ذاته، فتحته امرأة لم يُخرب الزمن جمالها، لمح في مقلتيها غضباً يكاد ينفجر .
صاحت بحدة : (( أنت ثانية ؟ )) .
أسرع يونس قائلاً قبل أن تغلق الباب .
(( رأيت وجهي في الماء . العينان مغمضتان . بغتة انغرزت حربة في الحدقة اليمنى، فانبثق الدم . انغرزت حربة أخرى في الحدقة اليسرى، فانبثق الدم. صار الماء سائلاً أحمر . ورأيت وجهي ينشج )) .
خفّت حدة صوتها : (( وما علاقتي بالأمر ؟ )) .
قال لها : (( لزوجك علاقة )) .
ترددت في بادئ الأمر، ثم رويداً اطمأنت إليه وأدخلته دارها، وفي الداخل شرح لها المسألة، وبعد أن انتهى، أحضرت له شاياً ارتشف شيئاً منه ثم جال ببصره في أنحاء الدار : آلة خياطة، ملابس رجالية معلقة على مسامير مغروزة في الحائط، خزانة قديمة، أوانٍ نحاسية، مجموعة من الكتب موضوعة على رف مليء بالغبار .
لاحظت توقفه عند الكتب . قالت بصوت دافئ عذب :
- لم يكن يعرف القراءة ولكنه كان يحب الكتب . يوماً ما سأتعلم القراءة، هذا ما كان يقوله مراراً .
- تسكنين وحدك ؟
أومأت برأسها ثم أضافت : (( أعلم أنه لن يعود ))
وقفت عند النافذة :
(( - كانوا يتناوبون على مراقبة البيت باستمرار . ثمة سيارة زرقاء كانت
تقف هناك . عند تلك النقطة، في داخلها ثلاثة أشخاص . في بعض الأحيان يترجل
أحدهم ويعلن عن نفسه بحركة مكشوفة . بعد ساعتين تأتي سيارة أخرى، بيضاء،
تؤدي نفس الوظيفة. ثم انقطعوا فجأة عن هذه العادة قبل يومين من مقتل.. زوجي.
أحياناً كان يخاف، لم يكن يصرّح بهذا الخوف ولكنني كنت ألمسه وأشمّه من خلال
نقرات أصابعه على الطاولة . أعتقد أنه كان يخشى أن يمسني سوء أو يسبب لي
عذاباً و ألماً كما في المرة السابقة . تعرف، ذات مرة غاب عني شهوراً طويلة
وعندما عاد لم أرحم شحوبه وتعبه بل ارتميت على صدره أشكو له عزلتي
وهمومي وما عانيته في غيابه . أخطأت . فيما بعد أدركت خطأي . هل أحكي لك
عن تسكعه حول المصانع والمرافئ، أم أحكي عن تجواله في أحلام مجنونة
يبتكرها كلّ ليلة ؟ كان يحتوي أصابعي بين كفيه ويضغط عليها برفق وحنو وهو
يحدثني عن الأخطاء والتناقضات، وكلما نظرت إلى الومض المنبلج من عينيه
أحسست بأن حبي له يزداد وبأني فخورة به . لم أعد أخشى على عناده ومحاربته
لأي نوع من المصالحة، وأنا كنت أشجعه سراً . في ذلك اليوم وشم شفتي بنبؤة
موته وخرج، ليس من عادته أن يقبلني كلما همّ بالخروج من البيت، إلا أنه
قبّلني حينذاك وكأنه كان يهجس بما سيحدث له في ذلك اليوم . هل تظن حقاً أنك
دفنت زوجي في التراب ؟ لقد دفن نفسه في فمي قبل ساعات من موته، وما زلت
أشعر بنكهته وعذوبته هنا .. في هذا الثغر .
***
التفاوض أسفر عن مهادنة وقحة لصالح الباخرة . مسؤولون من مؤسسات متعددة جاءوا مع خُطَبِِِهم ومواعظهم المبهَمة، صرحوا بأن الأدوات البدائية لن تصمد أمام التكنولوجيا، وأن البر مكتنز بالثروات لمن يسعى، ثم رجعوا بحقائب ملأى بالتصريحات الصحفية والابتسامات المصنوعة خصيصاً لعدسات الكاميرا، بينما ظل الصيادون في أماكنهم فاغري الأفواه وهم في ريبة من ذكائهم وقدرتهم على الاستيعاب . بعد ذلك تحركوا جميعاً إلى ملاذهم الوحيد : صخور الشاطئ .
فهموا أنه حتى الطقس يتواطأ مع الأقوى . هاهم بين احتمالين : تذوّق أملاح تلسع اللسان، تنمية عضلات قادرة على الهدم . اختاروا الاحتمال الأكثر جاذبية .. ومشوا في مسيرة يسترها هتاف جماعي .
أمام انتفاضة تلوّن شفافيتها بألوان قزحية وتلمع قبضتها بنيران الأفران، راحت المدرعات تستعرض شراستها وتحصي ضحاياها بإتقان ودقة .
أخذوا يصيخون السمع للحجارة التي يفتّتها الرصاص أينما كانت ومن أي جهة تأتي، عزّل إلا من وعد بتحطيم عمارات شيدت طوابقها بكومة هائلة من عظام بشرية . على أية حال، إنتهى اليوم وقد أثبتت المدرعات قدرتها على المراوغة والتسديد في القلب .
مرة أخرى ينحاز النصر لطبقة تدرك أنها في خطر ما دامت هناك طبقة تتربص بها وتهيئ لها قبراً لائقاً .
***
سكينة اسمها، خلدت للنوم ساعة الغسق بعد نهار شاق، نسجت فيه شبكة لزوجها يونس الذي لم يرجع حتى الآن . في آخر الليل نهضت من نومها، إلا أنها لم تجد زوجها بقربها فازداد قلقها وجزعت عندما راودتها فكرة حدوث مكروه له . استعاذت بالله من شر الوسواس الخناس، وفي الوقت ذاته لم يكفّ ذهنها عن التوجس .
مسكينة سكينة لأن زوجها ذهب ولم يترك لها عنوانه . كم محطة عليها ارتيادها حتى تصل إليه . هل تذكر يوم زفافها ؟ وقفت أمام المرآة طويلاً وحين اطمأنت على حسنها وأناقة ثوبها وافقت أن تزّف إليه .. يونس طيب ولكنه يمارس مهنة خطرة . تتذكر الآن جارتها التي ترملت ليلة زفافها وجُنت .. كان صياداً أيضاً.
أضاءت سكينة النور . الفراشة تنجذب للضوء . قد ينجذب يونس أيضاً ويأتي .
(( لقد تأخر حبيبي كثيراً وأنا وحيدة وخائفة . لا أحد يسامرني ولا ذراع تحويني . عفريت هذا الليل، يسكب على روحي أفكاراً سيئة )) .
سكينة تحسست الفراش، وجدته بارداً يهفو لجسد ملتهب بالشبق كي يدفئه. رقدت على بطنها فمسّ عريها الحرير البارد، وبدأ السرير يهتز . والليل المتألق نشوة يهتز، وتأرجحت الظلال وتشابكت، ومن بين هذا التمازج العجيب انتصب ظل عملاق يعلن عن حضور رجل له تقاطيع يونس وقامته . إنحنى يونس، وكان عارياً، لمس الجسد المتقمص شهوة المراهقات ومرر أصابعه بين ثنايا الكائن الجميل منتشياً بالليونة والطراوة، حيناً يعتصر ثماراً نافرة وحيناً ينحدر مغموراً ببياض مشع، وعلى حدود الجسد ينتشر زغب حريري ممزوج بندف تنهمر من المسامات .. وأخيراً انسل الزبد حراً بلا رقيب .
أطفأت سكينة النور وحاولت أن تمنع دموعها من فضح وحدتها فلم تستطع.
***
- يونس .. يونس
حوت هائل الحجم يحرس ما في جوفه بحرص شديد، يشق الماء نصفين متجهاً إلى الساحل حيث الأمان وغفلة الأعداء . حتى الحوت يمكن أن يكون صديقاً وفياً للقاطن في البطن والمليء بالجراح، والذي يحتضر، حتى الحوت يمكن أن يبكي من فرط اللوعة على هذا الفارس المثخن بالطعنات . على الأعداء أن يخجلوا من جبنهم ويقدّموا أنفسهم وليمة لأولئك الذين يطاردونهم في الظهيرة تعويضاً عن جرائمهم .
- يونس .. يونس .
رفقاً بهذا اللاجئ إلى الحوت بعد أن حاصرته خوذ النبلاء وأتباعهم من المشاة والخيالة . اتركوا ضوضاءكم وصدى نداءاتكم عند الباب وادخلوا بهدوء لتروا المحارب في أبهى صوره يعانق الشهادة . إحذروا أن تسدلوا جفنيه، عندئذ لن تبصروا ملامح قاتله، وإذا كان يبدو لكم نزقاً ومجنوناً فلا أقل من احترام هذا الجنون . إنّ صلاة واحدة تكفي .
الحوت وحده يدرك مدى شجاعته ويعرف القصة كاملة :
جاءني - يحكي الحوت - يخبئ جراحه تحت سترته، والعرق ينضح بغزارة من جلده، وهمس :
(( أغثني، دعهم يكفون عن ملاحقتي )) . ربطّت جبينه بقماش مبلل ومسحت على أنفاسه لئلا تجهده الحمى، بعد قليل غاب عن الوعي واستسلم لعربدة الهذيان، تراءى لي أنه بلا بيت ولا أصدقاء، إلا أنه ليس كذلك، فقد أخذ لسانه يدون أسماء وتواريخ وطرقات سمعت عنها . خلته سيموت في حضرتي : غريقاً، نائياً عن كل شيء، محروماً من صلاة يتيمة أو دمعتين حبيبتين . من يكون مثلي لا يخذل لا جئاً، أنا الرابض خارج التناقض والصراع، أتفرج دائماً و أتدخل أحياناً، وبالذات في مثل هذه الظروف، أجزم : هذا رجل لم يضلّ طريقه ولكن ضلّه النصر . سأحمله إلى الجانب الآخر كي يحتفي به معارفه ويشاطروه لحظاته الأخيرة .
***
على الرمل وبين أطراف الحصى المتناثر، يرقد يونس ميتاً . وسامته لا تُقارن، وموته ينبض كنبع نادر لا ينضب . الصيادون جالسون حوله، معتصمين بصمت وحزن عميقين . واحد ينبش التراب بعود رفيع، واحد يستحضر أحداث الأمس، واحد يرنو إلى ما لفظه البحر من بقايا، والبقية تتأمل موت يونس وكأنها تتوقع انبعاثه في أية لحظة .
حشد يوقد ناراً للصبر الطويل ويأمر اللهب أن يسرع قبل أن تعج البلدة بخراطيم المياه . غداً لن يكون يوماً آخر . ينتفض الجمع وينفضّ من حول يونس، تاركينه للرمل يرعاه ويحرسه .
على مهل تنحدر الشمس، تنحسر الموجة، وتبزغ امرأة لم يخرّب الزمن جمالها .. تتقدم بخطى واثقة نحو يونس، وعندما تدنو منه تجثو وتقرّب وجهها المضيء من وجهه الدامي وتهمس (( تعال إليّ، إفعل مثلما فعل زوجي، إدفن نفسك في فمي )) .
يفتح يونس عينيه وينظر إليها مثل طفل وديع ويهمس (( خذيني )) .
تلصق المرأة شفتيها على شفتيه . وتدمغهما بقبلة طويلة .
يونية 1979
المصهر
منحني مفتاحه، ففتحت الباب ودخلت .
الغرفة مكتظة بصور مأهولة بشعب مخذول . بشعب يزيح رداءه عن حافات الوقت ويبتهل . بحمام يلملم أجنحته ويستنفر ريشه مستفزاً الطقس المتواطئ مع الشظايا . بفتيات جميلات يستحممنَ تحت شلال رائق ويتراشقن بالماء . بطفل يرتدي هيكلاً عظميّاً ناتئاً يحمل في يده وعاءً فارغاً ويحمل في عينيه دموعاً مالحة غير صالحة للشرب . بضوء يبث فلوله لتقتحم الحقول والبراري رغماً عن الأسلاك الشائكة والفزاعات . بغلام ينحني تحت حنفية ويشرب . بمولودة تبكي . بمؤودة تأكل الرمل . بقروية تتأبط جرة وتحاول عبثاً أن تستر رتوق الثوب في أعلى الكتف. بحدّاد يطرق الفلز . بثلج يكسو تلاً بزغبه الأبيض .
تتكاثر الصور، أينما أدير رأسي أراها أمامي تباغتني من الخلف ومن فوق:
أبصرُ شارلي شابلن بلباسه المألوف يرفع قبعته محيياً راسماً بشفتيه ابتسامة مرهقة، أبصرُ رياضياً يحتسي الشمبانيا أبصرُ الصور نافرة على تخوم الغرفة تناوشني فأتراجع، أُجْفِلُ لمرأى زنجي تحاصره كلاب بوليسية تمزّق أطرافه في حضرة جمهور ساكن، أعتصم بأرض استباحها الجفاف وهتك أنوثتها، كيف أستنجد بصلصال؟ يسخر مني ضعفي . أجمع أنفاسي المبعثرة وأقف أمام أرجوحة شاخت وتهدلت بعد أن غادرها اللعب . أسمع مسيرة عسكرية ونفير حذاء عسكري يبحث عن موطئه فلا يعثر إلاّ على عشب مسالم، لذا يدوسه بالعقب ويمضي مترنماً . أصيخ لنشيج الصور، لنشيج وجه مسنّ يتفصّد دماً بينما العينان مغمضتان مثقلتان بالألم الضاري، لنشيج البحر الميت والنيل والفولتا والأمازون . والقمر المتخم بالأسى ينسحب خلف ناطحة سحاب في خسوف تدريجي .
لماذا ليست الصور مبهجة مثل الحدائق ؟
***
أمسكته من ذراعه ولكنه انفلت غاضباً وابتعد عني . هرولت وراءه حتى حاذيته ثم تجاوزته ووقفت أمامه سادّاً طريقه .
- أخبرني ماذا حدث ؟
توقف . غير أن أنفاسه كانت تتدفق وتلفحني، وجهه محتقن مسكون بالإنفعال الممزوج بالحنق .
- أرجوك دعني وحدي .
- ماذا فعلت ؟ لماذا أنت غاضب مني ؟
ملأ رئتيه بالزفير ومسح شعره بعصبية واضحة . تجاهل إلحاحي برهة بدّدها في مراقبة الطريق المزدحم بالسيارات والمارة ونداءات الباعة المتجولين التي تندلق على الرصيف في صخب . بعد ذلك نظر إليّ متحاشياً أن يشوب صوته نبرة انفعال .
- لست غاضباً منك ولا علاقة لك بالأمر .
إرتجافة شفتيه لم تسعفه في التظاهر بالهدوء وضبط النفس، لذلك لم أتجاهل الموضوع .
ارتشف الشاي بينما كنت أرمقه منتظراً أن يبدأ في الحديث . مدّ بصره نحو الزبائن وهم يتحدثون بصوت منخفض لا يكاد يُسمع . تمتم :
- واضح جداً انهم خائفون .
- مَنْ ؟
- الذين حطموا آلتي .
- مَنْ ؟
تناول رشفة أخرى .
- كنت واقفاً عند بوابة المصنع ألتقط صوراً للعمال وهم يغادرون المصنع، وفجأة انقضّ عليّ اثنان من حراس المصنع وانتزعا الكاميرا من يدي عنوة وحطماها بعد أن أخرجا الفيلم . هممت بالمقاومة، بَيْدَ أنّ بعض العمال حالوا بيني وبينها، وقد اكتشفت السبب حينما لمحت يد أحد الحراس تنزلق بسرعة خاطفة نحو مسدسه المعلق في حزامه بينما الآخر يتجه نحو سيارة فارهة ويسلم الفيلم إلى رجل سمين يجلس في المقعد الخلفي .
- أتنوي تقديم شكوى ضدهم ؟
- شكوى ؟
ضحك بغتة بصوتٍ عالٍ . ابتسمت في ارتباك .
(( أهفو إلى أرملة مجنونة - تجمّد الحسّيات وتتقمص المأساة - كي أقتنيها : أضاجعها فجراً، أكشف لها رؤياي فتبلّلني بالحزن ظهراً، وفي الليل أتمترس خلفها مذعوراً - كان يحلم - ))
أشعر بالإرهاق فأضطجع على السرير لعل التعب ينزلق ويغادر، لعلي أنام . لكن كيف، وطيفه يطوف بي ويقتادني عبر دغل يفضي إلى واحات محرمة محفوفة بالشفرات ؟
فكّرتُ، سأشطر سنواتي نصفين وأرتقي النصف الأول بحذاء من مطاط لئلا أوقظ دقائق النصف الثاني . تهيأت . شاهدت نفسي غلاماً في الرابعة عشرة يستمني أثناء المذاكرة ويؤدي واجبات البيت والمدرسة والشارع بطاعة مذّلة . يسكن عاصمة مدجّنة وضمن علاقات مهجنة، فروّعني ما شاهدت وعدت مخموراً بالخيبة والضجر .
للذاكرة أجنحة فراشة، أقصد أن الطيف طفق يلازمني ويلاطفني طوال الهجرة .
أدرت رأسي، رأيتها قبالتي . لها - في الصورة - نفس الحضور المتألق . مجبولة بالحب، تجيد مخاطبة الكائنات وتمنح نفسها للغبطة وللحزن معاً بحرية مطلقة . كم أود أن أكون معها في هذه اللحظة، ليس لغرض المؤاساة أو المساهمة في تحمُل العبء، ولكن خوفاً من الوحدة .
***
مشينا على الجسر معبئين بالبهجة، أنا أثرثر وهما يصغيان متخاصرين . انحدرنا إلى أسفل الجسر حيث الشاطئ الشاسع يرنو إلى أفق فضي يفصلهما بحر يرقد باسترخاء متلذذاً بنعومة أنامل الشمس وهي تجسّ بدنه .
هتفت هي : اسمعا، ما رأيكما في نزهة بحرية ؟
تطلّعتُ إلى الساعة، قلتُ : لديّ موعد، أخشى أن أتأخر .
ألحّت : لن نأخذ من وقتك أكثر من نصف ساعة .
لم أجرؤ على إفساد تلك اللحظات الجميلة . هي تتقن اقتناصها وتعرف كيف تستغلها، وليس من اللائق أن نخذلها .
إستأجرنا قارباً راح يتهادى على الماء بتمهل، يسوقه مجدافان .
هو : يلتقط صوراً عديدة لطيور البحر، للموج، للزوارق الشراعية، لي، لها، لنا، وينحني ويلثم وجنتها .
هي : تضحك، تتحدث، تلهو بالماء، تعبث بخصلات شعرها المتطايرة، ترمقه في وَلَهٍ .
أنا : أجذّف مغتبطاً بهذه الدقائق المخلوقة من بلور ونرجس وشهب، أشهد تناغم الكون وطهارة العلاقات، أتخيل أننا من نسل الثلج : نُدَفٌ يسترها الغيم ويأويها الزجاج . ننضو عنّا الغبار ونتنزه، تارة يسفحنا الماء برفق نحو مائدة البحر، وتارة يحملنا الغصن إلى جوار ثمار شهية تتهجى أسماءنا وتغازل عذوبة بشرتنا .
أنقل خطواتي في محيط الغرفة مثقلاً بالتعب مكبلاً بأوتار الذكرى، تعزفني فأرتعش، تعزفني فأنكمش، تعزفني . . رفقاً بي يا مستقبل أيامي . ماذا يدّخر لي هذا الومض المنبعث من بين أهدابي ؟
هناك خزانة ثياب . أجازف بأعصابي المتوترة وأتجه إليها : ملا بس معلقة، ملابس مرتبة فوق بعضها، بضعة أشرطة، حزمة من الأوراق ملفوفة بعناية .. أخرجتها .. أنها رسائل مكتوبة بخط يدها : حبيبي ...
( مفزوعاً أكتشف أن الذاكرة لم تعد تتجوّل حسب مشيئتي، بل صرت أنا الخاضع لطيشها )
***
- اتفقنا على الزواج .
- لنحتفل إذاً .
أسرينا في لغات الفرح بغير إبطاء . عندئذ انداحت الشوارع فاسحة مكاناً لتهورنا اللذيذ، والمارة ينظرون في استغراب . عرجنا على الضواحي والقرى ومن حولنا أسراب من الأطفال يَشدون . نحطّ على أرض نسجت أعشابها تواً ونشم رائحة أشجار . ها هي تدنو تُتوجها عصافير توقع بأجنحتها إيقاعات العرس، وعصير الثمار يهطل فوقنا رذاذاً والحشائش تتأرجح، تحفّ بنا قوافل النمل والسناجب والأرانب، تفيض البذور تورق أهازيج تراقص نشوتنا، تغمر حناجرنا مفردات الغزل فنتخاطب بالقبل .
حين نأيْتُ عن الحشد المحتفِل كانا لا يزالان مضطجعين على العشب .
***
قال : لا يا صديقي .. سأشتري كاميرا جديدة .
صاحب المقهى كان يعبث بمؤشر الراديو، استساغ محطة كانت تناجي الأطلال بصوت أم كلثوم .
- ما الذي يجذبك في منظر عمال يخرجون من مصنع ؟
حدّق للحظات في الفنجان، لحظت ارتعاشه طارئة وسريعة تسري في أصابعه . أجاب :
- العرق، التجاعيد، الخطوات الثقيلة، عروق الأيدي المتشنجة، النظرات المتهشمة . هل أدركت الآن ؟
- أدركت ماذا ؟
- أنه لا علاقة لك بالموضوع .
***
ممغنط إلى الصور، أهيب بإرادتي أن تنشلني من شَرَك هذه الأنسجة، أن أتوارى أو تتوارى الصور، أن أخرج أو تخرج .
أنظر، نظرت مثل تلميذ تعلم فن التلقين، عاماً بعد عام أتحرك في مدى التعاليم أعرف أن الفصول أربعة والفرائض خمس والوصايا عشر، وأعرف أن بين الولادة والموت صراطاً مستقيماً وأن المنبر وحي يوحي بالمباح والممنوع، لا أعرف . أعترف الآن فهذه الغرفة تختزل الفصول وتبتكر فصلاً طائشاً يهز أوردتي.
أتماسك . خفيفاً أتحرك - لقد أرخت الصور قبضتها وأخلت سبيلي - أحاذر أن أصطدم بظلالها المتأرجحة .
أشعار مايا كوفسكي مبثوثة على البساط بالقرب من السرير . فان جوغ، هاملت، رامبو، الأوديسة . على الطاولة مجموعة كتب : في الاقتصاد، في علم الإجتماع، في التاريخ . على طرف الطاولة مظروف كبير بداخله صور فوتوغرافية عديدة، تفحصتها :
شحاذ مبتور اليدين، مطبق العينين، يستند إلى جدار متهدم .
***
- أنظر جيداً .
- أنا أنظر .
- ماذا ترى ؟
- شحاذاً .
- ماذا أيضاً ؟
- لا شيء . مجرد شحاذ .
- أنظر جيداً .
- أنا أنظر .
- ماذا ترى ؟
- هو نائم .
- لا، هو ميّت .
***
ثمة مظروف آخر : حشد من الصور .
أنبأني ذات مرة أنه ينوي طبع كتاب مصّور. مشروعات لا تُحصى تتناسل في تلك المخيلة الجامحة . عندما تتكاثر تنبجس أفواجاً مزهوة بتنافرها وشذوذها، غير أنها لا تجد موضعاً لم تحتله بعد حوافر النواميس وأعراف الأسلاف، ولذا تتخثر الواحدة بعد الأخرى .
( (( أرحل إلى نجد، أتجرد فيه من ملابسي وأقف عارياً فارداً ذراعيّ مرصّعاً بالجسد المفعم نداوة . أرقب روحي وهي تمضي خبباً تسري في شعاب شعبٍ يجهل القراءة ويتعاطى الفقر، أطالبهم بالمبايعة فيبايعونني مواطناً يقاسمهم الشعير ويموت غيلة ثلاث مرات في اليوم )) - كان يحلم - ) .
يكتئب ساعات ويستسلم لهواجس تهذي أن لا جدوى فانتسب، حينئذ يستدرجه القنوط إلى إقليمه .. هناك لا يكلم أحداً، لا يلمس أحداً، لا يشتهي شيئاً . لكن سريعاً تصحو الذاكرة وتستعر مثل غجرية راقصة لا تستقر ولا تهفو إلى الإنتساب .
أعيد الرسائل إلى مكانها . أحسّ بسخونة شديدة تلهب صدغي . حّمى ؟ لا ريب إني محموم . أتنفس البخار الحار الطالع من شدقي الغرفة و أوشك على الإغماء.
يراودني الفرار ولكنني أحجم . هذا مأوى صديقي أكتشفه حسب رغبته وليس من الشهامة أن أخيّب ظنه . أمكث دقيقة أقاوم الحمّى والدوار، بعدها أمد يدي وأفتش بين الثياب، أجد دفتراً صغيراً .. هنا كان يدون يومياته . أقرأ :
10 يوليو :
هزني المشهد بعنف إلى درجة أنني لم أحتمل رؤيته، فهرعت إلى غرفتي وبكيت . ظللت فترة أبكي وأرتجف . كان الوقت مساء عندما لمحت ذلك الصبي وهو يجر هزاله ويلوذ بركن في الطريق . دنوت منه . كان منزوياً يعتصر بطنه بشدة والدموع تنذرف بغزارة، لم يقو على رفع يده طلباً للصدقة بل ظل يتضور جوعاً . يقيناً لو أن بمقدوره أن يرفع سبابته إلى صدر الكون لأخترقه وأحدث ثقباً تنهمر منه كل الأسس والمثل المعلّبة .
4 أغسطس :
التقيت بها . لاحَظَتْ شرودي فسألتني : ما بك ؟ . هممت بأن ...
3 ديسمبر :
في المبنى المقابل رأيت :
- مقاولاً عِنّيناً يجثو أمام مومس عجوز، يتضرع حيناً ويتوعد حيناً .
- مراهقة تقطع بسكين حادة شرايين رسغيها وهي واجمة . الحاضرون - من كهنة وأطباء ورياضيين ونساء محافظات ومهرجين وشعراء بلاط ورجال
أعمال ورجال درك - يهللون بهستيرية لدى مشاهدتهم فوران الدم وشحوب الجسد الذي يهمد بعد ثوان .
- زوجين يتشاجران . الزوج يفقد أعصابه ويحطم الأثاث . الزوجة تجلب البنزين وتضرم النار في محتويات الشقة . يتواجهان وكل منهما يتفرس في الآخر بحقد واشمئزاز، الاثنان متحفزان، الاثنان يشهران آلة حادة، وقبل أن ينقضّا على بعضهما، يحاصرهما اللهب ويلتهمهما .
- مصارعاً يشنق ثوراً بحبل يتدلّى من المروحة ويندفع نحوه مراراً طاعناً إيّاه بسيف رهيف، بعد كل طعنة كان المصارع يهتف : هللويا .
- بنكاً يقايض مسلولاً : بأن يشتري منه قنينة دم مقابل حفنة دواء .
- فتاة ترتدي ثوباً أبيض، تخرج من المبنى بتؤدة، ماضية نحو أفق مخضب بلون الشفق، بينما المبنى يحترق بمن فيه .
16 فبراير :
أذكر يوم كنت صغيراً طلبت مني أمي - كالعادة - أن أحمل الطعام إلى أبي الذي كان يعمل وقتئذ بواباً في إحدى العوامات . وصلت هناك . أبصرت رجلاً مطموراً في الوحل، يحيط به رجال ونساء في ملابس زاهية وهم يضحكون ملء أشداقهم وينخسون جنبيه بعصا طويلة . كان الرجل أبي، وقد اكتشفت فيما بعد انهم كانوا يمارسون ذلك مع أبي مرة كل أسبوع .. على سبيل التسلية .
تنتهي اليوميات في 30 إبريل . في اليوم التالي مات مقتولاً .
***
رنّ التلفون . جاءني صوتها خافتاً مرتعشاً . على عجل توجهت إلى المستشفى .
اليوم الأول من مايو كان موعد عرسه . تأخر الموعد قليلاً فسبقه موعد موته .
كان في الساحة العامة يصوّر سكان الصفائح المنبجسين من الجحور والجبال والمقابر في مدّ يهدر، يفيض، يزلزل . آنئذٍ هجس أن الصدّع سيتحقق وأن الأركان ستتهاوى . بآلته كان يرصد التصدّع ويرقب الانهيار . يتحرك في كل اتجاه ويلتقط : قبضة، فماً، قدماً، وجهاً مُضرّجاً بالغضب، أذرعاً صلدة ممدودة إلى أعلى، عجوزاً تلوّح بكسرة خبز .
أدار آلته نحو الجهة الأخرى من الساحة والتقط : مفرزة متأهبة للهجوم .
بغتة حدث التصادم وكان مروعاً . سيول تنجرف هنا وهنا، أجساد ترتطم بالأرض، قطيع من العويل يهوى على الإسفلت متناثر الأشلاء . وهو في عمق ما يجري يصوّر في إصرار ودون خوف غير آبه للسواعد التي تصطدم به، وبالكتل التي تكاد أن تسحقه . في هذه الأثناء لاحظ شيئاً ما، ركز آلته على هذا الشيء، من خلال العدسة رأى خوذة .
حرّك الآلة إلى أسفل : وجه يكمن خلف قناع واق .
إلى أسفل : بندقية مصوبة نحوه، فوهتها فاغرة تحدق فيه .
لم يحاول أن يتفادى الفوهة، ظل ثابتاً في مكانه يرقب من خلال عدسته، وكانت الفوهة قريبة جداً . فجأة ...
رن التلفون . جاءني صوتها خافتاً مرتعشاً . على عجل توجّهت إلى المستشفى .
كانت واقفة مستندة إلى الجدار، عيناها مغرورقتان بالدموع . دنوت منها، فالتَفَتَت صوبي ومسحت دموعها . مكثنا فترة صامتين، كل منا ينظر في عيني الآخر، يفصلنا حزن ثقيل احتل المسافة دون مقاومة، مَنْ منا يستغيث بالآخر ؟
أخيراً، كسرتْ هي السكون القاسي بحركة ذراعها . لمحتُ مفتاحاً في راحتها . تناولته . قالت بصوت متهدج :
- إفحص كل ما تجده هناك .. هذا ما أوصاني به .
- هل أستطيع أن أراه ؟
دخلت ورأيت .
***
ها أنا أغيب في المرئيات ترجمني بجوهرها فأهوي، تفضّ بلادة سنواتي فأهذي . لا شيء يعصمني . بخار دخان يغشى بؤرتي وينيخ على صدري.إنصهر، يأمرني الصوت . هي ؟ محموماً أتحسس طريقي السائل، موطئي الذائب . أصل إلى الباب . الباب مقفل - المفتاح معي - لا ينفتح، لا مقبض ولا مزلاج، أكسره لا ينكسر . إنصهر، يأمرني الصوت . أرتجف هلعاً . كيف أخرج . هذه السخونة تسلخ جلدي، ليست حُمّى هي مفازة تتلظى . أتحسس الحائط يلهب أصابعي، لا منفذ لا نوافذ . لوهلة ألاحظ أنّ الغرفة لا نوافذ لها . ينفذ الجمر فيّ . أخرّ . كيف أنجو ؟ إنصهر، يأمرني . غامت عيناي، تدور الصور تدور الأشياء تدخلني . يدخلني القارب - العرس - الموت، كيف أنجو ؟ تدخلني الجمرات - الأكسيد - الكبريت - العدسة - المرأة، ويغادرني الوعي، لا ذاكرة للعناصر ولا ذاكرة لي . أعود . تعود أيامي، تواريخ تتقهقر، تتقلص أطرافي . إنصهر، يأمرني . يتلوى بدني، هشاً أصير وتصير غضاريفي، يتضاءل أفق الحدقة لا تستوعب البؤرة ما يكون وما يحدث، فضاء هُلامي ّ، ألوان تتلاشى شيئاً فشيئاً . أتوق إلى ثمرة، من يلقمني ثدياً؟ إنصهر، يأمرني . امرأة حبلى انبثقت، من أين ؟ أرى صورتها بوضوح، لا تنظر إليّ، راقدة على ظهرها مفتوحة العينين ترنو إلى فوق، أرنو إلى بطنها، مأخوذاً بهذا الإنتفاخ، كوخ، بيت، خيمة، ممغنطاً أحبو، يستحوذني البطن يأخذني مأسوراً مسحوراً . أقترب - هائل الحجم، اقترب - طرياً ناعماً كالزغب، يفتح شقاً لا يسعني، أتقلص يتعملق البطن، اقترب أكثر ينفرج الشق لا يسعني، أنزع الجلد واللحم لا يسعني، أفتّت العظم، سائلاً أصير، أنزلق، أنسكب في الشق يسعني الآن . . أنا نطفة .
نوفمبر 79
ذات مساء .. صهلت الوعول،
دخل الغجر
نقش ابن العبدة على الجدار صورة امرأة سماها (( وشام )) .. ثم طفق يتأملها.
تعرج وشام صوب الغابة مثل موجة شهوانية، تسوق قطيعاً من الوعول روضتها بأناملها الممرغة بومض البرق والمبللة بالطهارة التي تزهو بنفسها . تغزل بخطواتها ممراً شائك الجهات لمن لا يتقن العزف على الحنجرة، ناعم الزغب لمن يلغي تقاويم الهدوء والقبول بما هو كائن ويتقدم . شعر وشام أهداب نهار لا يغفو، خيوط سحب تمتد إلى مشارف الأفق، تغري مواسم الحصاد كي تمارس طقوس بعثها دون تباطوء، وتسري في شريان المحيطات والمدن الجميلة . الثديان رابيتان تفيضان بالخضرة، تسرح فوقهما طيور ملونة مع أمطار وأجراس لا تهدأ. يخفق قلب الغابة وهي تلحظ انتساب أقدام وشام الحافية لروحها الخلاقة . وعلى مقربة يعدو ابن العبدة مُحاطاً بالنشوة والحبور والرغبة في الانضواء في نسغ القطيع الهائج الذي يعشق الفوضى ويهب نفسه لثورة الأشياء والأمكنة .
لدقائق تتوقف وشام في الغابة، فيهدأ القطيع، وتتهيأ المخلوقات البرمائية للإنجاب، ويلتقط ابن العبدة ثمار الأرض وينثرها في ذرات الهواء .
ها هنا تعلن الأعراس بدء مواسمها . يتعلم الهدهد لغة الأشجار ويعلّم . تجري الوعول في منعطفات الغابة وفي أطراف مدّ البحر المنفرج، تصهل وتمتشق قمحاً موعوداً لتربة جافة بعيدة . ها هنا تعرض السناجب بضائعها المجانية، فلا أحد يُنهبَ أو يُسْتَغَل أو يموت انتحاراً أو يموت دفاعاً عن النفس . ها هنا تضطجع وشام على الحشائش المزدهرة، ترقب السواحل وتهمس (( غداً سننشر الفوضى في المدن )) . وابن العبدة يرمقها بين الحين والحين، مفكراً في ابتكار أبجديات متجددة وملغومة يمكن أن يخاطب بها وشام .
وشام تنحدر في غابة أخرى تتوهج غبطة .
***
خرج ابن العبدة، ومضى - ترشده الكآبة وغبار التعب - يتسكع في الطرقات والحواري .
أراد أن يتجنب اليتامى وأبناء السبيل المبثوثين في الأرجاء وفي الزوايا، فهو لا يملك شيئاً وهم لا يملكون غير السؤال، ولكنهم كانوا يتكاثرون وينتشرون كالطقس . لقد تسامقت الأذرع وتحدّبت الظهور رغم منع التسول والحضور في مظهر غير لائق أمام أبناء البلاجات والفنادق، لذا لم تُجدِ المراوغة، واستسلم للأيدي الممدودة حوله ومشى .
قطن إقليم البؤس، وصارت رئته هدفاً لطعنات الهواء الفاسد . طرق باباً . لمح بين ضفتي الباب وجه أبيه الذي أضحى بلا ملامح والذي لم يسأله عن سبب مجيئه بل أغلق الباب بعنف قبل أن يسمع هذا الهمس (( أبي .. أمي مريضة )) .
ليست هي الخيبة الأولى، مرات عديدة لجأ فيها إلى ذلك الباب، لكن أباه كان دوماً منهمكاً في رتق ملابسه الداخلية بينما زوجته الشابة تتمدد على الفراش مانحة ساقيها لنظراته في شبق وتستعجله، وذات مرة ألقى به في الوحل صائحاً ((هذا مكانك فاستقر فيه، لا أريد أن أراك ثانية )) .
ورأى ابن العبدة ما يجري حوله في وهن :
- ثمة شحاذ يقطع ذراعه بالموسى ويلتهمه بنَهَمَ .
- مواطن صالح يلقي نكتة بذيئة في القمامة ثم يصعد إلى سطح مبنى مشيّد حديثاً ويرمي بنفسه أرضاً فينفجر رأسه . تتجمع حوله الكلاب المسعورة والنسور التي ضلت طريقها، وتظل فترة تضحك للنكتة البذيئة التي رواها، ثم تفترس أشلاءه .
- بغل يمتطيه بقّال مسالم ويلكز جنبه لكي يسرع في السير .
- صبي مقهى، تخلّف عقلياً من شدة الضرب على الرأس، اعتاد ألاّ ينصاع لأمر إلاّ بعد أن يتلقى صفعة على قفاه . كان يوهم الرواد والمارة أنه إنسان طبيعي مع فارق أنه يتدحرج بدلاً من أن يهرول .
- قطة تتشاجر مع رجل ضرير وكل منهما يدّعي أن البرميل مسكنه . القطة كانت ترتدي سروال امرأة عاهرة نزحت من المنطقة لأن رجالها يتعاملون بالدَينْ دون أمل في التسديد .
- أرملة عجوز، أدمنت الخمر، تكشف عن فخذها وتدعو المارة، بصوت مبحوح، لقضاء ليلة معها مقابل كأس من الخمر أو شيء من النفط، ولكن أحداً لا يعيرها انتباهاً .
***
إتجه ابن العبدة نحو الشوارع المتشحة بالنيون وهوائيات التلفزيون، يحمل على كتفه غراباً ميتاً، ويتقلد كفناً بداخله بقايا حلم خمدت جذوته، لقد سطع الهم وسقط الوهم، فالأب رحل في ذاته وليس ثمة أمل في بعث الجسد الأمومي عن طريقه .
التقى بكهل ذاهل كان يجلس على عتبة داره، ويرنو صوب طائرة ورقية تتهادى في الفضاء . ناداه الكهل :
- تعال العب معي .
- نلعب ؟
أشار الكهل إلى الطائرة الورقية .
- مثلما يلعبون .
ثم استدرك، وأشاح بيده :
- آه نسيت، أمي حذرتني من اللعب مع الغرباء .
- لست غريباً .
- إذاً، لماذا تحمل غراباً ميتاً على كتفك ؟
- وجدته تحت جذع شجرة .. أردت أن أدفنه ولكني فكّرت، إذا لم أعثر على طعام فسيكون عشائي .
- هذه قسوة منك . دعه جانباً وتعال العب معي .
فلما وافق ابن العبدة، نهض الكهل بحيوية وهلل فرحاً .
- أنا الطائرة، وأنت تقودني بالخيط .. إتفقنا ؟
قبل أن يومئ ابن العبدة بالإيجاب، أضاف الكهل في ارتياب :
- لن تقطع الخيط وتتركني معلّقاً هناك .. هه ؟ فأنا لا أجيد العوم في الفضاء .
ضحك ابن العبدة .
- لا تضحك أنا لا أمزح . هل تقسم ؟
- أقسم .
عندئذ هرول الكهل، مفرداً ذراعيه، يتقافز كشحرور . ورويداً بدأ يرتفع
عن الأرض، ويحلق، إرتفع عالياً . ومن بعيد، لمح ابن العبدة سرباً من الحمام دحرجته الريح ناحية الكهل . ظل السرب يحوم حول الكهل كأنما يدعوه للانضمام . بعد قليل استجاب الكهل للدعوة . حينئذٍ أخذ السرب يبتعد شيئاً فشيئاً عن حدود البصر حتى اختفى تماماً . لوح ابن العبدة مودّعاً (( الآن ستتقن العوم في الفضاء )) . ثم استدار مواصلاً سيره . وعندما حل الليل، استنفر عذاباته، وبدأ يحصي (( يوم آخر من عمري يحتضر أمامي )) .
***
من إبطه اندلق عشب يابس ارتطم بالإسمنت وأحدث صخباً . لا تصمد النواميس أمام طيش الأزمنة الجائعة، فالفقر يفسح مكاناً للكفر في الأظافر وأحياناً في المقلتين . والصرخة مدوية (( ليسقط الجميع في أتون الغضب )) .
ويتفصد عصب الإنتقام هائجاً في ضلع ابن العبدة : دُمّر . ( سأضطهد فلول هذا النهار، وأقوّض كلّ سدٍ يمنع عني الماء . سأشهر عروقي وأزعق في وجه قافلة الطوفان أن تُقْبل برعونة وتتجسد فيّ . تموت كل دابة وكل مخلوق . تنسحق الحقول والمداخن . تتهشم المباني وتحترق الهياكل، ولا شيء يبقى غير قداس الموتى تصدح في الخراب الشامل ) .
***
رجع ابن العبدة إلى داره مرهقاً، متراخي الأنفاس . لا يستطيع أن يواري خجله ستدرك أمه المريضة - حين يجادلها وجهه الصامت -
إن الأمور سيئة، وأن الصلاة ملجأ لا يخذل أحداً . أصغى إلى سُعالها النازف من صدرها الضامر، لا حظ هزالها المخيف، فأغمض عينيه وتمتم (( يا إلهي.. إنها تموت، فأغثني )) .
دنا منها . طوّق ظلّها بدمعتين . إنحنى بقربها .
- أبي طردني .
امتثل الألم بين تجاعيد وجهها الشاحب، تخثّر الأمل .
- استجديتُ العمل، ولكن أحداً لم يهتم .
همت برفع ذراعها، عجزت، همهمت بكلمات غير واضحة .
- أكلت رغوة الوحل فأزداد ظمأي . قلت في نفسي، هذا عام الجدب، سيأتي عام الخصب والشبع . اطمئني يا أمي .. سأجلس بقربكِ وأحميكِ .
***
استدرجه هيكل أمه وجوعه إلى مخبز وقف قبالته متردداً .
رائحة الخبز .
أمه تترنح في غيبوبتها وتهذي .
خبز يرقب نفسه في مرآة الدكان (( كم أنا شهي )) .
أمه تذوي، يبدأ الجلد في الانسلاخ عن الجذع، يبرز الضلع . خبز آخر أناخ، في خبث، على طبق بلوري الشكل .
يختلج جسد الأم، شهقة تتلوها انتفاضة .
خبز ..
وفي ذلك المساء اقتيد ابن العبدة إلى المخفر متّهماً بسرقة رغيف . أمضى شهراً في السجن يسائل الجدار والنمل وبصاق الحارس وهموم المسجونين عن حالة أمه .
( إسمعيني يا أمي .. لم أرتكب ذنباً . خطاياهم احتلت مواقع أعضائي حتى صرت أنا الخاطئ . لا تغفري لأحد، بل انهضي وهيئي لهم موقداً ) .
يُقال : إن نُدَف الثلج تذوب عند التقائها بالأرض و تتخذ شكل كائنات تتزاوج بالسماد و تنجب نباتات لها أذرع بشرية ترث الحقل ومن عليها من مواشٍ و طواحين .
يُقال : إن قوم المطر يهلعون حين يجسّون ثدي الغيمة ويجوسون في خلاياها ولا يجدون حليباً أو ماءً . فيقايضون البخار الذي لا يستجيب عادة إلا في فصل الشتاء، لذا يعانون العزلة، بينما يُرجمون بالإهانات والشتائم من شتى التخوم و أبراج المراقبة .
وابن العبدة يحرس ذاكرته لئلا تتهوّر و تستحضر ماضي الأيام و حاضرها، فَيُفجَع لدى رؤيته المآسي تنهمر في حوضه، و يُفجع في مصير أمه (( كيف حال أمي ؟ )) .
***
خرج من السجن، لكنه لم يجد أمه في الدار . وجدها في القبر . صمد أمام الدموع - للحظة - و لم يسمح أن يتجسد . و تدريجياً، تشققت قنوات جرحه و نزف الوجع قطرات . و حين نقش على الجدار صورة امرأة سماها وشام .. أجهش بالبكاء .
تدنو منه وشام و تتمتم بحنان (( عندما يبكي الرجل يتوقف نبض الطرقات وتنفتح فوهة الحشرجات )) يسترسل بالبكاء، ثم يغفو على صدرها، و تغفو هي بين جناحي حمامة تنطبق عبر تلال رمادية لتهبط في واحة . تترجل وشام و يترجل ابن العبدة، في راحتي كل منهما مياه شلالات عذبة و رائقة . يستقران في ظل هضبة اندحر عنها الغبار، و يزرعان صارية تعتمر راية منقوشة بالأصداف و القواقع . تعلن وشام قيامة المخلوقات و بعث الأشياء، بينما يعد ابن العبدة الولائم و اللبن و البهجة . و من شقوق الرمل تتدفق المراكب محملة بالمؤن و الشعوب، و تأتي المواكب زرافات زرافات، حبلى بأجنة ذات أجنحة زاهية الأشكال و الألوان.
***
هذه الغرفة - منذ أن فارقت أمه - باتت تثير الفزع في نفسه . في زاوية يقعد مالك البيت فاغراً فمه يطلب إيجار شهور الإقامة أو إخلاء البيت . في زاوية يشحذ رجل ضخم الجثة أنيابه و يعوي في شراسة . من شق السقف تزحف العقارب، تحدق فيه طويلاً و تتنفس بصوت رهيب . في زاوية توجد نافذة، يخرج منها ابن العبدة .. وفي المرفأ يلمح قارباً خاوياً .
منذ اليوم سيصبح هذا القارب مأواه، يلتحف النجمة و يتوسد الموجة و (( يا بحر احمل سلامي إلى تلك النخلة التي رصّعت جبينها بوشم الطفولة . لقد باعَدَت بيني و بينها المسافات منذ أن ضاعت طفولتي في حظيرة النبلاء وملاّك الحقل )) .
حراً يضطجع، حراً يستعير المواويل من ذاكرة البحر . يصنع مملكة من فرو الثعالب و الدببة . يرعى أسماكه متى شاء، و ينسج شباكه لصيد الحشرات الفضولية حين يرغب . و يوماً فوجئ بالقارب تغمره المياه .. (( من أغرق قاربي ؟ )) .
***
ماذا تريد يا ابن العبدة ؟
أمي ماتت، أبي نبذني، كل المنافذ سدّت أمامي، ففكرت أن أنضّم إليكم .
دربنا محفوف بالزنازن و حراس الليل .
أغامر .
نحن لصوص .
أنظروا هذا الجرح الغائر في الرسغ .. ناب كلب حراسة منعني يوماً من اكتشاف مذاق العنب .
سمعنا أنك دخلت السجن مرة .
ثلاثون يوماً . عرفت نكهة الحجر، تآلفت مع العتمة، و لم تعد غارات السلاسل تخيفني .
اجلس .
و عندما جلس ابن العبدة، احترف السرقة و وقع في فخ السجن دونما حذر. بعد ذلك أضحى، كلما حدثت سرقة، في قائمة المشبوهين، سواء تلك التي ارتكبها أو التي لم يرتكبها . ينام في الحانة ليلة و في الزنزانة ليلة . عاشَرَ أغنيات الصعاليك و نكات السكارى . إبتكر مفاتيح عديدة للشرفات و موعداً للخروج .
( آه يا نبع الحزن، هل حُلّت المسألة ؟ .. هذا السرداب محجوز لمنبوذ جديد
أكمل عامه العاشر تواً، و هذا المزراب لجثة عصفور احترق منقاره و ريشه،
وهذا المرآب لجمهور محتل استطالت أعناقه و أوشكت أن تلامس شفرة المقصلة.
هل حلت المسألة ؟ )
أردف ابن العبدة السؤال الممنوع بصرخة وحيدة أبحرت مع الريح و
الصدى . ثملة هذه البقاع، تشرب عصير المشنوقين بحبل الفقر و لا ترتوي. وقعت الحنجرة من الإعياء .
هنالك، في بهو الفندق، حاشية يلبس أفرادها سترةَ وطواط، وجوقة تعرق على أشلاء أغنية زنجية و أخرى هندية . و المدعوات يتسربلن بالفساتين المكشوفة تخاصر عريهن أنامل جنسية .
يبدأ الحفل بشرب الأنخاب - كالعادة - ثم يعلو صوت أنثوي (( إنتبهوا رجاءً .. حان وقت التسلية )) . يخلعون أحذيتهم - رجالاً ونساءً - ويملأونها بالويسكي، ثم يغرون النادل بشربها مقابل مبلغ من المال، و لأن الكمية هائلة فإن
النادل لا يستطيع الصمود فترة أطول، فيخرّ على البساط ميتاً . يتنهد واحد منهم
بتهكم (( مات المسكين، لقد خسر الجائزة )) . يضحك الموجودون في حين يهرع
زملاء الميت لحمله خارجاً .
و الفقرة التالية عبارة عن مزاد علني حول قروي يحاول جاهداً أن يخفي
البلهارسيا تحت جلده لئلاّ ينكشف أمره و يُلقى خارجاً .
***
النواميس ترتكب الحماقات جهراً، تستبدل جلودها حسب المناسبات، مثلما يستبدل المرابي ربطات العنق عندما يحتفل بالشعوذة .
ثمة قروي يسكن كوخاً يسمونه بلاداً، ثمة غجري يسكن خيمة يسمونها عاصمة . ( نظرت في المرآة، أبصرت وجهاً بدوياً يقتحم شرفات المدينة ويشيع الرعب في دهاليزها ظناً منه أنه ينتقم . نظرتُ في الماء، أبصرتُ قلباً يهفو لتقويم جديد، يدعو لوليمة يجلس حولها الفقراء . أنا من يدعى ابن العبدة، أخطأت . هذه حبالي أعلقها على السطوح و أهبط السلّم لأنني أدركت أن السرقة غير مجدية، و أن عذرية الرمل منتهكة ) .
***
ماذا تريد يا ابن العبدة ؟
علميني القراءة يا وشام .
إقرأ .
علميني أن أحبَ الغجر .
تعلّم .
يهمّ ابن العبدة بالمغادرة .
إلى أين يا ابن العبدة ؟
ذاهب لأغيّر اسمي .
ابريل 1978
كل شيء ليس على ما يرام
ما حدث أربكني، وَقْعُ حذائي على الإسفلت أربكني أكثر .
عندما وصلت إلى مسكني لمحت جاري يطل من الشرفة - كعادته - ويحدق في العتمة .
يا جاري، سمعت نحيباً عند ذلك المنعطف و لكنني لم أرَ أحداً .
أدار رأسه صوبي . أضفت :
أعتقد أنها فتاة صغيرة .. هكذا بدا الصوت الشفاف، هكذا تهيأ لي، و لكنني لم أرَ أحداً .
هز كتفيه وأشاح بوجهه ترشده العتمة و السكينة مرة أخرى .
ليس لائقاً اقتحام عالم شخص آخر دون مفتاح .
دخلت غرفتي، ثمة بقايا طعام : نصف رغيف و شرائح من اللحم . أكلت ثم
استلقيت على الفراش . بعد دقائق قفزت ضفدعة على صدري و راحت ترمقني،
ربما تستفزني . كيف أبدو في عدستي عينيها المنفرجتين ؟ مهرّجاً ؟ مسافراً
أعمى ؟
سأحدثك يا ضفدعة :
قبل سبعة شهور، قلت لصديق، تعرّفت عليه في مكان ما، إنني أفتش عن مأوى . فقادني إلى هنا، إلى هذه الغرفة، ثم تركني مع المالك الذي لم يُخفِ جشعه بين أسنانه كما يفعل المرابون، بل قايض حاجتي الشديدة إلى مأوى و أخذ أكثر مما يستحق . رجل آخر يستغلني دون حياء .. لماذا يا ضفدعة ؟ إذا كنت تعرفين الإجابة فسأمنحك إبهامي وجبة للعشاء . هس .. أسمع صوتاً . اختبئي في الوسادة و تظاهري بالنوم . كان المالك يتسلل خلسة من النافذة . متى يُقلع عن هذه العادة السخيفة و يكف عن استباحة حرمات غيره ؟ ها قد بدأ يجس الحائط و المحتويات على مهل . إطمئن أيها المالك، أشياؤك سليمة و كل شيء على ما يرام . مباغتاتك لم تعد تزعجني كثيراً، غير أني لا أريد أن أرى وجهك في المرآة المحدبة عندما أحلق ذقني صباحاً .
ها هو يغادر . رفعت رأسي و أبرزت الضفدعة رأسها . قلت لها :
(( لا شأن لي بما يحدث و بما يفعله الآخرون، إذا شاهدتيني أرنو إلى الضوء، فلأنني أهفو إلى زوجة تقدّس أفعالي )) .
***
عد إلى بيتك، أنت مفصول .
لماذا ؟
هكذا . أنت و هؤلاء .. زائدون عن الحاجة .
حسناً، سأتنزه اليوم و غداً أبحث عن عمل آخر .
مشيت، محاطاً بنسوة كفيفات يناوشن المرئيات بضحكاتهن المتواثبة . أخاصرهن و أغازل شعورهن الطائشة، و أبتهج لأن أجسادهن تتسامق مثل ملكات لا يجدن غضاضة في كشف النقاب عن الوجه أمام الجماهير المحتشدة تحت الأسوار .
تنقر اليمامة في راحة يدي نقرتين، فنعرف أنها صارت دليلاً لنا . تدخل حديقة، ندخل وراءها . إحداهن تنحني على الجدول و تجس الماء بأناملها و أخرى تفرد ذراعيها لتحتضن شجرة حبلى بالفاكهة، و ثالثة أقودها عبر ممرات الحديقة المكتظة برائحة الياسمين .
ولكن خذلنا حارس الحديقة الذي جاء ناحيتنا مهرولاً، ملوحاً بعصاه، فجزعت النسوة وتراكضن، تناثرن، انتشرن في الأرجاء . أما أنا فقد راوغت الحارس واختبأت في جذع شجرة، وحين طال اختبائي نمت في موضعي مذعوراً .
فجأة .. إندلق نحيب و انسل فيّ، فباغتني الارتعاش و انتفضت (( يا فتاتي، لا تفزعيني . تقدّمي و انزعي السواد عن صوتك . ها أنا خارج من زند أنثى تنجب الثمر لكي أرى وجهك )) . لم أرَ غير ظل الوحشة الممتد . عبرت الظل، عبرت الصوت .. و كنت خائفاً .
***
مستلقياً على السرير أرقب السفن وهي تمرق، مختصرة المسافات، متجهة إلى محيطات ممتلئة بالأسماك والجزر الجميلة . أرقب قوافل من النورس، غيوماً تطعن المساحات بحوافرها النافرة و أشتهي أن أكون ملاحاً تنبعث من أصابعه إشارات ضوئية، يقرأ المنارات و لا يحاذر الأرصفة و الموانئ، غير أني صحت :
(( وداعاً أيها الرّبان، لا أستطيع أن آتي معك )) .
تذكرت سنواتي و ندمت لأني لم أصغ إلى نصيحة أمي بالزواج و الإنجاب، و حزنت لأني لا أستطيع السفر .
(( وداعاً أيها الربان، إعتن بالدفة و النجوم . صفير باخرتك يبعث في نفسي الأسى )) .
***
يا نادل، هل أجد عملاً في هذه الحانة ؟
لا .
هل تسمح لي أن أتفرج على الزبائن ؟
تفضل .
هذه مهنة أجيدها . سأفتح عدستي و أقتحم الوجوه :
زبون يتأمل علبة البيرة فترة طويلة ثم يدخل فيها و يصيح (( إشربوني )) . زبون يغني بصوت حاد . آخر يستعرض عضلاته الصلبة ثم ينهار فجأة على الكرسي و يجهش في البكاء . كسيح يفرط في الشرب و يتشاجر مع المنضدة . المروحة تترنح . المطر في الخارج يحبو و ضجيج السكارى يعلو ..
حين تعرّى الرجل في وسط الشارع أدركوا أنه مجنون فعلاً
إذهب و نم .
تأرجح لاعب السيرك بين الحبال ثم ارتطم بالزجاج و سقط في البحر .. البحر كان بارداً .
أستطيع أن أُحطّم هذه الزجاجة على رأسك، تراهن ؟
لا تفعل . سأريك شيئاً، هذه صورة زوجتي .
إنها جميلة .
حقاً ؟ لم أكن أعرف . ماتت في العام الماضي .
لا شيء غير مألوف يحدث في هذه البقاع . سأعود إلى غرفتي و أتأمل الدخان المتسرب من أذني .
***
ماذا يفعل هذا الجواد في غرفتي ؟
(( أخرج، لا عشب لدي و لا سرج )) .
دنوت منه، بدا شاحباً و حزيناً . أغمض عينيه و أرخى رأسه فأيقنت أنه
على وشك الاحتضار . لو ينطق لعرفت ما به . سأدغدغه لكي يضحك .
(( أنظر إلى هذه الحركة، أليست مضحكة ؟ أنظر .. يمكنني أن أخرج ديكاً
من ياقتي )) . لا جدوى، لم أر قط جواداً هشاً كهذا . سيموت حتماً و لن أستطيع
إنقاذه، من الأفضل أن أضعه في الخزانة لئلا أُتّهم بسرقته .
(( أيها الجواد، هل تحلم ؟ .. سأخبرك شيئاً، يوماً التقيت بحاوٍ، إقرأ كفي
أيها المنجم، قلت له . فتأمل كفي برهة ثم نظر في وجهي طويلاً وهو فاغر الفم .
استغربت من ذهوله و انتظرت أن يفسر لي الأمر، و أخيراً سألني : ألم تحلم
قط ؟ .. لم ينتظر مني الإجابة بل واصل طريقه وهو يهمهم )) .
(( أيها الجواد، سأضعك في الخزانة و أنا حزين من أجلك، أين صاحبك ؟
لكل جواد فارس، فأين فارسك ؟ هل مرّ من هنا ؟ إذاً إمض ِ خلفه . لا تريد ؟
إذاً أدخل هذه الخزانة .. إنها تابوت يليق بالنبلاء )) .
و بينما كنت منهمكاً في إقناع الجواد بدخول الخزانة، انهمر النحيب من
السقف و غزا موقعي مرة أخرى .
(( من أنت ؟ أين أنتِ ؟ لدي حلوى و مشمش إن كنتِ ترغبين، فقط تجسّدي أمامي و دعيني أراك )) .
نحيب متقطع .. تارة يتصاعد، يصبح حاداً و عنيفاً، و تارة يخفت، يبدو
كحشرجة مكتومة . و بدأت أشعر بالرعب . ليس هذا وهماً :
(( من أنتِ ؟ جنية بحر تشتهي اختطافي ؟ نجمة مسحورة ؟ )) .
هرعت إلى الخارج .
سكون مخيف يغمر الساحات . جاري كان ظلاً ينظر في المرآة، هممت بالإقتراب منه و محادثته، و لكنه تغلغل في المرآة بسرعة خاطفة و اختفى، عندئذ وقعت المرآة على الأرض و تهشمت شظايا تئن بتوجع .
أصغيت إلى صرخات تأتي من بعيد، انجذبت إليها . كان جمع من الأهالي يقفون في صف طويل و المالك يفتش ثيابهم و يسلب ما عندهم . لمحني المالك فركض صوبي، أمسكني من ياقتي، و قال بشراسة :
لم تدفع الجزية بعد ؟ ستعاقَب .
أنا متعب، اتركني .
دفعني، فهرولت بعيداً إلى موضع غير مأهول . خفّفت من سيري، و حين
التفتُ ورائي، أبصرت الجواد يسير خلفي منكس الرأس، شاحباً و حزيناً ما يزال.
تمتمت : (( لا عشب لدي و لا سرج )) .
المصابيح مطفأة، و القمر المستوحش يغفو في كآبة، و أنا متعب .
صحت في وجهه : (( عد إلى الغابة )) .
و دون أن ننتبه وقعنا في الأسر . أحاطت بنا كتيبة من العسكر انبثقت من
كل جهة، بدأوا برشقنا بالصرخات المخيفة ثم سيجوا المكان بأحذيتهم . شهق
الجواد حين وجد النظرات الحاقدة تلتف حوله، و لم يحاول أن يتجنب الطلقات
الهائلة التي أخذت تمزق جلده .
زعق قائدهم : (( أخيراً وقع في أيدينا )) .
ثم استدار ناحيتي : (( أين صاحبه ؟ )) .
جثوت على ركبتي منتفضاً من الهلع .
(( أقسم أني لا أعرف )) .
وخزني بنصل الحربة في صدري، فأيقنت بأن مشارف الغيبوبة قريبة مني. غبت . أخرست كل التوقعات و غبت . سمعت صوتاً .
(( هذا يكفي، لقد نال ما يستحقه )) .
أ فقت، كان فمي محشواً بالرمل و الدم، و بدأت أسير قاصداً غرفتي، و حين فتحت الباب رأيت فتاة صغيرة، في العاشرة من عمرها، مشنوقة بحبل غليظ يتدلى من السقف .
أغسطس 1978
ترانيم
الطفولة :
ثم دلفت إلى إقليم الطفولة متوّجاً بالدم، أبحث عن الشجرة المُلتحفة
بالعصافير و البهجة و المطر، تلك الشجرة التي كنت أتفيأ في ظلها بينما الثمار
تهطل في جحري، و الندى يتدحرج في فمي و يصير نبيذاً . أبحث عن الموجات
التي تزهر زبداً حين تسري في عروق الرمل و تتناسل، و لكنني ما وجدت غير
الرمل و الينابيع التي نضب ماؤها، و المخافر التي تتساحق في شهوة داعرة، و
الأمومة أنكرتني و صاحت (( هذا الوجه الملوث بالدم ليس وجه طفلي )) . فرجمني الطين، و امتلأت عيناي رعباً و غباراً .
و عدت يافعاً كما كنت .
الغيبوبة :
بدأت أركض في ممرات البلدة و أنا أعوي، و قافلة من الصدى تركض خلفي و تعوي، و ألفيت جسدي يهوي على شيء صلب بعد أن غادرتني الأنفاس و استوطن اللهاث في أعصابي، و غبت في الغيبوبة . حين فتحت عيني رأيت السقف و الجدران و صورة عائلية محجّبة بالغبار و خُفّين متآكلين و صفحات صفراء من جرائد قديمة و جرة مهشمة .. و لم تكن لدي الرغبة في رفع رأسي عن الأرض و استكشاف المكان أكثر . شعرت بسخونة الأرض فجأة لكنني لم أنهض، بل استدعيت ذاكرتي التي لم تستجب، لذا ظللت راقداً في مكاني واهباً عنقي للسخونة، مستسلماً للألم الذي لا يفتأ ينسكب في صدري و داخل سرتي .
سيعرف الصرخة كل طفل صودرت طفولته قبل أن يتكون في الرحم،
سيتعرف على الغربة والغرابة النافرة في الأوردة، سيعرفني . و ها أنا ممدّد طافح
بالنعاسة، استعير حفنة من حنان الهواء البخيل .
كيف أنجو من الحزن الساكن فيّ، كيف أنضو عن جسدي التعب المتكلس ؟
سأسدل أهدابي ثانية و أفغر فمي كالدهشة لأجسّ نعومة ثدي أنثى يشتهي الإحتكاك بشفتيّ .
الغربة :
إنهض أيها الغريب، فهذه الدار ليست دارك، و هذه الأرض ليست أرضك،
إنهض أيها الغريب، فأنا أشم فيك رائحة الطيور البحرية، و أشم فيك الماء و
العشب و الساحل .
إنهض أيها الغريب، و أخبرني من أين أتيت، و ماذا أتيت تفعل ؟ و لماذا
تحمل هذا الجرح الممتد من العنق حتى الخاصرة ؟
أخاطبك أيها الغريب و أنا أعرف أنك نائم، لأنني أخجل من دموعي . صعب
أن ترى شيخاً يبكي .. هل أبصرت، في أسفارك، نهراً متفرّداً يجوب التلال؟ هل
ذقت ملوحة هذا النهر ؟ هكذا أتلمّس مجرى الدمع وانسلال الملوحة في شعيرات
لحيتي المسنة .
نائم أيها الغريب ؟ النوم واحة موشّاة بالحلم . دعني أتحسس هذه الطعنة
الضارية . آه يا ولدي عرفتك، وما زلت أذكر طفولتك . هذه دارك، وهذه أرضك ..
أبوك مات، و أمك مذ صارت ضريرة، أخذت تشحذ في السوق، وقبل أن تموت راحت تستجدي تمراً من البحر . عرفتك أيها الجرح .. توضأت بالنفي، و أسريت في ملفات السجون دونما حذر . أنا الشيخ الهرم أعرف كل شيء عنك، ولكني أجهل سبب مجيئك إلى هنا .
هل أنت مطارد ؟ .. هذه طعنة ملكية لا أحد ينكرها .
كنت أرقب نضوجك و أنت على كتفي . ما زلت أذكر تلك الأيام، حين كانت
بذور العنب تنقش عصارتها في التربة الخصبة، و الدار تزهو بسكانها و بمواسم الحصاد، و الطيور الممغنطة بعبق الساحل تهزج و تتغامز مغتبطة .. و الوطن كان وطناً، أو ربما كان حلماً .
بدأت الفصول تتفصد، و الأسماء تخرج من ثقب الباب، لأن الحراسة
أصبحت مشددة . و الطفل خرج عند الأصيل فداهمه الضباب .. و ضاع . و أنا
أتكأت على طاحونة هوائية، كانت تجتر الذكريات، و رحت أتمرّى في الرجولة
الناهضة في ضلوعك و أنت تجوب برفقة الفقراء أسمدة الأرض الموحشة .
إنهض أيها الغريب .. بلا خبز تدخل كرنفال العالم، و بلا أنثى تعبر جسر
الولادة . مدان دوماً بالجوع و الحلم و اللغة الجامحة .
ما أصعب أن تمشي بلا أنثى، و جرحك الممتد من العنق حتى الخاصرة
يشهد على ذلك . إنهض أيها المسافر في ظل المشنقة، فأنت موعود بفصول
المرأة، المد، امتلاك العالم .
البحث :
الألم يفترسني، و يتعين عليّ أن أنهض . لا أعلم كم من الوقت مضى عليّ
وأنا راقد في هذه الدار . هنا كانت أمي تعجن، و هنا كنت ألهو مع الصبية، وهناك
كانت السلحفاة تتأوّد وتتغنج، و القمر مثقل بالضوء، و البحيرة القريبة تحكي
أسرارها دونما خجل و تسامر عازف الناي و ما من إنس إلا و يتألق بالبهجة
الشفافة .
هنا كنت أعيش قبل الهجرة الملعونة، و اليوم قد عدت متشحاً بالوجع،
تطاردني نبابيت الحراس و البنادق المعبأة، و تلاحقني حوافر القمح .
خرجت من الدار أكتشف قارتي من جديد، و قارتي لم تعد قادرة على
التنفس، فقد جثم فوق مسرّتها العدو منذ أن تلقحتُ بالتشرد و تلحفتُ السجون . و
ابتكر العدو راياته النجسة : القيود، الأوراق النقدية، اللغة المدجنة، الملاهي
المفروشة بالبغايا و الموسيقى الصاخبة . و أخذت أبحث عن امرأة نقية تكون ملهمتي للكشف عن البكارة . ننقش وجه البراءة في المخيلة المتوترة، و نبدأ في التنقيب . هذا وجه الشمس يتوجع من الحمّى، و نافذة البحر تلمع و تخبو، و أنا أتيه في المنعطفات الضيقة النائحة .. لا تخوم للكشف و لا خروج .
الرؤية :
و رأيت الصياد يفقد ذراعاً مقابل سمكة كبيرة، و مع ذلك لا يهتم التاجر و
لا ينصحه بالحذر في المرة القادمة، بل يخاطبه بجفاء قائلاً : (( ما زلت مديوناً لي
بالكثير )) . عن كثب يرمق الصياد ذراعه المبتورة ثم يحملها و يدفنها في جوف
الساحل .
رأيت لاعب الأكروبات يتلبسه الفزع و هو يجابه الدائرة المسيّجة بالنار و
السكاكين الحادة . يتردد و يلتفت حوله . يسمع صوت متعهد الحفلات - من خلف
الكواليس - يهدّد : (( هذه فرصتك الأخيرة، الجمهور يريد عرضاً مثيراً و مشوقاً،
امنحهم الإثارة )) . و يقذف اللاعب بنفسه في الدائرة، فتخترقه السكاكين،
و يشتعل جسده .
رأيت القروي ينحني و يهب ظهره للسوط ذي الشفرات المرهفة، لأن
محصول السنة قليل .
رأيت العامل يهوي بين مخلب الآلة و نابها .
رأيت المرأة يغتصبها الأسياد لأنها امرأة .
التوحد :
وإذا المؤودة سُئلت : بأي ذنب قُتلت ؟ لانحنت على التربة الصلدة و غرزت
إصبعها في التربة و تمتمت : المؤسسات فَسدت، و الشاحنات نهبت، و العاهرات
هتكت، و كل من على الكرسي المخملي متوحد مع القاتل .
تشعل المؤودة دمها، بخوراً و نذوراً، لمن يأخذ بثأرها . رائحة الإبط
تضوع أنفاس الفارس العاشق، و العاشقة تشهر ثدييها البريين المفتوحين لرمح المغامر و تحلم حتى يتم لقاء الوهج بالدم عندئذ تضطجع العاشقة على شفرة سيف الفارس و ترتحل معه إلى وادي الطيور البنفسجية .
مبارك هذا التزاوج . مضاء هذا العري الجميل المتآلف مع العشق الدموي . لا بناء بدون هدم، و لا فعل بدون تخريب، سيكون حضوراً مشعاً ذلك التناسل المتوحد مع الدم .
المغامرة :
و طفقت أسير دون قناديل أو قمر يضيء دربي، أستفز غضبي المتواري بعيداً عن ملاحقات البنادق .
اختبأت في غرفة رجل أعمى دون أن يشعر، و في الصباح اختبأت في حقل مليء بالجراد، و جلست بين أعواد الذرة .. لا أحد يراني، و لا أحد يقرأ اسمي . أصغيت إلى نداءات الفزاعات المنتشرة بكثرة، و لكن الطيور لشدة ذكائها، راحت تسخر منها و تتباهى بجرأتها بالوقوف على أكتافها .
يا بحر أتوغل في لجتك غير خائف فلا تغضب مني . معك أتجدد كما الجنس، أنسلخ عن الجسد المألوف و أدخل في الجسد الغامض، و بنا يتحقق الخلق . كل الأسماء تقف عند حدودها و تجفل، و كل العلاقات الموسومة بالأختام تتهدل و تتقيح نتيجة العقم، و لا يبق سوى جسدينا و من يشاركنا في خبزنا و في إبداع الكائنات الجديدة .
الهدم :
و أصغيت إلى صرخات طلق حادة صادرة من الجانب الأخر، فانسللت من الحقل و اتجهت إلى المصدر، و في مساحة صغيرة من الأرض الجرداء المحفوفة بالحصى و الشوك و الزجاج المتناثر، شاهدت امرأة مستلقية رافعة ركبتيها، كاشفة عن النصف الأسفل من جسدها، و العرق يترذرذ من جسدها، تصرخ في وجع .
إنها لحظة المخاض، الولادة المتأججة في رجفة الجسد، المطهرة بالصرخة و الدم . التفتُ إلى أصابعها المتشنجة الدامية، نزعت الشوك و الزجاج المغروز في راحتيها و في أجزاء من جسدها، و هتفت :
هيا يا امرأة، لا أستطيع أن أساعدك، و لكن في مقدوري أن أرقب انحدار البرعم المكتنز بالحياة . توضأي بالدم يا امرأة و سأجلب لك الياسمين و النرجس . إفتحي بوابتك أمام هذا العبور العظيم، هذه النداوة العذراء، لا أعرف من فجّر هذه البذور في أحشائك، و لكنني أشهد أن الرحم كالثلج المخضب بالدم الشرس المفترس .
و أنت أيها الجنين، ذكراً كنتَ أم أنثى، أرسم خطوتك الأولى على هذه الأرض الوعرة، متقمصاً شفافية الجرأة و المجازفة، و مجسداً لغة الدم . ستكون خراباً و فتحاً . مزًق نسيج التكوّن و تسلّق لهب الرحم . كل القرى، أمام قامتك المتسامقة، تهتف باسمك .
هذا الطلق يا امرأة طلق ناري، منه تنطلق البشارة عبر ألف باب و منفذ، و فيه تجدين نفسك . ستنهار الهياكل و الردهات الثرية، و من كل حدب ستأتي فلول الأنهار المغمسة بالحمم البركانية . هيا اصرخي و مرّغي عروقك في جذور الأرض و فجّري ينبوع الدم .. لكن ابتكري الولادة النارية .
الطفولة :
كجياد غير مروّضة، اتجهنا - أنا و المرأة والجنين - صوب البحر . غمرنا أقدامنا الحافية في الماء، و مشينا في البحر .. دخلنا .
سبتمبر 1977