- 1 -
سماء المقهى رمادية تلتف حولها غيوم فقدت ألوانها في الفضاء المقْفر، تُشْبه تنيناً وديعاً يغفو مادّاً أطرافه على الجدران ومخبّئاً رأسه بين كتفيه.
ثمة مقاعد شاغرة تتراهن في حلبة الشطرنج وصبي المقهى يرهن ما ادخره في سنواته العشرين، لكن لا أحد يربح، إذ سرعان ما يتشاجر اللاعبان وتنقلب المقاعد. صبي المقهى يفرش الأباريق والأكواب ويُعيد المقاعد إلى مكانها.
رجل يجلس وحده لاصقاً وجهه في الحائط ساعات طويلة. مجموعة من الطلبة الجامعيين يناقشون بعصبية وانفعال لمدة خمس دقائق: الثورة الجنسية، انحسار نشاط التوباماروس، الأوضاع الاقتصادية في الهند، أسعار تذاكر السفر المرتفعة، واقع الثورة الفلسطينية.
شحّاذ يجلس ويلعب النرْد مع نفسه، بعد أن يخسر عدّة جولات يغمغم وينهض مستاءً، ثم يمضي ناسياً مواطئ أقدامه. شابٌ يرسم الزبائن في أوضاع عارية مخلّة.. يلمحه أحدهم فيثور ويقذفه بالشتائم واللعنات، ينتبه الآخرون ويُمسكون بتلابيبه ويشبعونه ضرباً وركلاً حتى يخرّ مغشياً عليه. شرطي مرور يدخل بين الفينة والفينة وهو يهدد: "إياكم والشغب".
أحتمي بالمراقبة والإصغاء. كل شيء هنا يدعو إلى الارتياب في صيغة العالم: الماء، التراب، النار، الهواء.. لو استطعتُ لمزجتُ العناصر وصغت عالَماً مغايراً. آنذاك سوف أهتف: هذا عالم آخر قابل للتغيير في أي وقت، لا التفاحة إثم ولا السفينة طوق نجاة، كل شيء مُباح حتى اقتناء الجنرالات للزينة.
تُقال النكتة، لا يضحك الضحك، للنكتة طعم مسمار قديم. ويضحك المقهى لنكتة لم تُقَلْ، ثم تفاجئه الكآبة المنزوية في ياقة قميصه وتجرُه إلى ليل قمر حزين يجهش في البكاء حين يكتشف عرْيه.
كل بداية تأخذ شكل موت، والنهايات تأخذ شكل مربعات واقفة أو راكعة. المدى شراع يصهل في البريّة، تحتشـد في مداراته الولائم البدوية وفنادق هيلتون. يسقط الشراع مرة وينهض مرة ويسقط، فتُسرع الأصابع المغناطيسية لتمزيق أضلاعه، لأنّ كلاب العشيرة لا تشبع. المدى وقت مقفل بختم الجاريات العاقرات.
سمّيت دمي ماءً فتهافت القوم يشربون دمي ثم مضوا. صار دمهم ماءً تغتسل به الجيوش وكانوا يدرون، لكنهم لم يدروا أن المقهى مُحارب أنهكته الهزائم فجلس على قارعة الطريق يتسوّل ورق الشاي والثرثرة، وجلسوا فيه.
ــ هل كان يؤمن بالله؟
ــ من؟
ــ مدرّس الفيزياء..
لا أعرف مدرس الفيزياء هذا. حاولت أن ألهي نفسي بالتحديق في ذاكرتي القابعة في قعر الفنجان، والتي تغمز لي بين وقت وآخر لكي نغادر هذا المكان الصاخب، وأنا أقول لها كفى إلحاحاً فأنا أحب الضجيج وعمال الميناء. آه.. عمال الميناء، يموتون في سن العاشرة وبأعضاء ناقصة أيضاً. لقد تعلموا كيف ـ حين يداهمهم الموت ـ يسابقون الريح البطيئة في أروقة مغلقة، وتعلموا كيف يصادقون الموت الذي يرتاد عادة صالونات التجميل في ردهات القصور، وتعلموا كيف لا يموتون، ومع ذلك يموتون لأسباب وجيهة، وأخرى غير وجيهة.
المقهى يُشبه ثقب جمجمة ترتاح على ضريح مبتلّ والأعشاب البحرية تُخرج رؤوسها، ترمقنا فترة ثم تختفي في أعين ضفادع لا تكفّ عن النقيق. لم أطلب شاياً فقد نفد ما معي من نقود، ورحت أحدّق في لوحة لم تكن موجودة: نوح يروّض الطوفان، يحمله من فروته ويفرغه في وعاء نحاسي. نوح يرمق مخلوقاته بوداعة وحنان، لقد أحسّ بدنو الأجل وها هو يحيط المخلوقات بذراعيه ويقول لهم بلهجة حكيمة "أسكنوا الغابة في سلام، وعمّروا الأرض القاحلة كل زوجين اثنين.. لا تسفكوا دماً ولا تقتلعوا عشبة ولا تقمعوا وادياً. اذهبوا وعيشوا في سلام".. ثم تركهم مبهورين بالأثمار الوفيرة ومندهشين بينابيع المياه المتناثرة في أرجاء الغابة وأطرافها. تسلّق نوح الجبل حاملاً الوعاء النحاسي. وضع الوعاء في مغارة وهو يهمس للطوفان "لن يحتاجك القوم منذ اليوم"، ثم التفت إلى الربّ وقال بخشوع ورهبة "خذني".
ــ هل مارست الجنس؟
ــ كثيراً.
ــ مع المومسات؟
ــ نعم.
ثم أردفتُ: أنا لا أطيق أسئلتك، وأنت لا تعرفني.
ــ أنا أحبُ أسئلتي.. أحياناً أضعها بين فخذيّ و أتدحرج معها.
ــ ليس هذا من شأني.
(هل أُتيحَ لعمال الميناء أن يتقاسموا نكهة امرأة شبقة تتعاطى معهم الحب في صناديق الجمارك؟ تضمّد تورّمات معداتهم وتضطجع معهم الواحد تلو الآخر، تجلب لهم النبيذ المعتّق وتفرش جسدها اللدن. يبايعونها نبيّة بتولاً تقرأ الليل وتكشف طلاسم الغد، تقرأ: أنتم نقيض الحالات الراكدة، وكل نقيض فيضان. لكن أضحيتم مع سريان الوقت فيضاناً دجنته الخرافة والخوف في قنينة غائصة في قاع شرايينكم.. عبثاً تلتمسون الغواية، يا رئة الرعد، استأصلوا الأحجية الرابضة بحجم سراب في محاجركم.
هل أتيح لعمال الميناء أن يختاروا صيغة موتهم أو صيغة هذا العالم؟)
كانت شرفتها مقابلة لنافذتي، وكنت أقضي معظم الليل في مراقبتها.. أدركتْ هي أنني أراقبها، فأخذت تطيل من الوقوف في الشرفة، تكشف عن جزء من جسمها وأحياناً تتعرّى كلياً. طرقتُ بابها يوماً، وكانت تسكن وحدها، أردت أن أضاجعها لكنها رفضت، فتزوجتها.. امرأة ناضجة، عمرها ستون عاماً.
"ستون عاماً.. يا إلهي"..
همستُ في ضجر وأنا أتمنى أن يصمت فترة أستطيع خلالها أن أتسلل هارباً. أجزم أن أعضائي التي تمتّ بصلة إلى هذا الكون الغائم، وفي معظم الأحيان لا تمت بصلة، ستطلب مني أن نخرج لنحاذي السراب ونسامره، وحين تأخذنا الغفوة إلى مدن ليست محاصرة بشيوخ القبائل وسياج القواعد العسكرية سنهتف معاً: فلتشهق الأرض أطفالاً مطمورين في الملاجئ والمخيمات، لكي تخرس صخب الغارات الجوية ونزرع فتيات جميلات يزيّن الشوارع رياحين وبنفسجاً، ونطلب من طواحين الهواء التي شهدت المجازر وقمع الانتفاضات الشعبية، أن تخلد لليقظة اللذيذة عند الظهيرة، لحظة تبدأ العجائز في الإنشاد أمام نافورة تغرّد حولها العذارى والسعف يرتّق جروح المدينة المجاورة التي ما زالت محتلة.
أخذت ذاكرتي ـ كما يأخذ البورجوازي قبعته في نهاية السهرة ـ وغادرت المكان الصاخب.
بين حوافي الأزقة كانوا يلتفون حول النار، للدفء. البعض كان مضجعاً على الأرض، جسده سرير وغطاء، والحلم يرتعد من البرد ويبحث عن مكان آخر. البعض كان يأكل قشور بطيخ وبرتقال متفسّخ على مهل. يلوّح أحدهم بقشرة. أجلس بينهم. هؤلاء خارج القانون، خارج طوابع البريد، خارج البيوت. أجلس معهم كل ليلة في هذه المواقع المكشوفة عرضة للبرد والموت المفاجئ ورصاص القناصة.
ــ أنا أحب الليلك.
ــ أنا أحب البدْر لأنه يشبه فرخة مشوية.
ــ أنا أحب المرأة عندما تكون ساقية في حانة.
ــ أنا أحب الجاذبية في كل شيء.
هزج أحدهم بأغنية شعبية.
قال آخر: سلاماً أيها المعطف، غداً سأخطفك من واجهة المحل.
ــ كاتيوشا تأخرت.
ــ سوف تأتي، لقد وعدتنا بالحضور.
أشعلُ لفافة. هؤلاء نقيض الحضــارة، نقيض الحدائق، نقيض ما هــو كائن.. أصلُ معهم بؤرة الفجيعة بدائرة الفجيعة.
ــ سلاماً يا مخلوقات الأرض التعيسة.
ــ سلاماً كاتيوشا.. تأخرتِ؟
ــ أقدّم اعتذاري.. هل نبدأ؟
ــ انتبهوا يا رجال، سوف نبدأ.
تصفق كاتيوشا في إيقاع خافت وبطيء. نتماسك بالأيدي ونكوّن ثلاث حلقات صغيرة، نصفق معها بالإيقاع نفسه ونحن ندور، يتصاعد الإيقاع شيئاً فشيئاً مع تزايد التصفيق وارتطام الأرجل بالأرض. يصبح الإيقاع سريعاً وحاداً. تتداخل الحلقات الثلاث. فتقفز كاتيوشا بحركة رشيقة وتتوسط الحلقة الكبيرة، نستمر في الدوران حولها متشابكي الأيدي. نمزج الأصوات فيختلط الهديل بالهدير وصوت السماء بالماء، لكن في إيقاع متناسق يتصاعد وينحدر، في حين تفرد كاتيوشا ذراعيها وتتمايل بجذعها الحليبي المتسامق ثم تضع يديها على خاصرتيها وتتقافز على رؤوس أصابع قدميها مثل العصفور، تتراقص قطرات العرق حول عنقها وإبطيها، وحالما تتوقف كاتيوشا نفترش الأرض في الدائرة نفسها. تختارني لكي أمثل دور الصياد. أنهض في حركة راقصة، مصوباً بندقيتي نحو كاتيوشا في خطوات انسيابية أؤديها بالبانتوميم. كاتيوشا تختبئ.. أفتش عنها في جميع الجهات وعندما أعثر عليها تفرُ هاربة بحركة بطيئة جداً، ألاحقها فتقع في فخّ منصوب تحت الحشائش. أطلق قهقهات صاخبة ثم أرميها برصاصات عديدة فيتمزق جسدها ويتناثر لحمها. كاتيوشا تنهض في صورة طائر خرافي يردّد بصوت حزين "تيا.. تيا" وتعني: "لقد رأيت ما حدث". أطاردُ الطائر خوفاً من أن يكشف أمري، أرديه قتيلاً فيسقط ثم يُبعث وهو ما يزال يـردد "تيا.. تيا" في آذان الجالسين واحداً إثر الآخر، حتى ينهضوا جميعهم ويحاصروا الصياد ثم يشنقونه.
تجفف كاتيوشا العرق والتعب، وينفض الجميع..
سوف أذهب الآن، وداعاً.
وداعاً كاتيوشا.
تذهب كاتيوشا.
ــ سيأتي القناصة بعد قليل.
مضغتُ القشرة، لم تكن لذيذة، مضغت القشرة.. هل يوجد ماء؟
ــ علينا أن نذهب قبل مجيئهم.
أطفأوا النار على عجل، وساهمت معهم في إيقاظ النائمين، وقبل أن نذهب، صرعت رصاصة القناصة واحداً منا، فركضنا بأقصى سرعة ونحن نحذّر الآخرين عند نهايات الأزقة. قذفتُ بنفسي داخل بيتٍ مخلوع الأبواب والنوافذ، وقفت مختبئاً في زاوية مظلمة. أصغيتُ إلى أصوات أحذية تركض في الشارع، ثم أصغيت إلى الصمت وأيقنت أني وحيد والمكان ليس دافئاً. اضطجعت في مكاني وحلمت بأنني أصنع نوافذ وأبواباً فشعرت بالدفء لفترة قصيرة، بعدها تحطم الباب تحت وقع أحذية القناصة. رفسني واحد منهم في خاصرتي فتدحرجت. أمسكني اثنان من منكبيّ وألصقا وجهي على الجدار. صار ظهري واحة مكشوفة، بعدها غادرت العالم وسكنتُ الغيبوبة.
ــ أ. ص..
ــ هذا هو اسمي.
ــ نعم، هذا هو اسمك. ستغني لك
أمك الآن، فلا تنم.
_ أنا أصغي..
أصغيتُ إليهم وهم يتدفأون حول النار. مضغتُ قشرة ولم نحلم، فقد كان الصقيع متوحشاً تلك الليلة.
ــ هل جاء القناصة مرة أخرى؟
جاءوا ومات واحد منا. حينذاك اغتبطوا وازدادت شهيتهم لاقتناص مدينة عارية يتدفأون بين وركيها.
احتج الرجال لأن الأغنية ليست مغذّية كما ينبغي، وقالوا "لتكن مثل التين الشوكي". تمددوا على حافات البراعم المرّة وأخذوا يتنشقون أريج التين الشوكي حتى هدأتْ معداتهم اللولبية.
. . . . . .
الأرض حبلى برجال يسألون، قبل أن يولدوا، متى نموت وكيف؟
ــ أنظروا الصفحة الأخيرة في سجلات: البنتاغون، وول ستريت، البورصة، يونايتد ارتستس، الإيكونوميست، الحواة، الكلية العسكرية، الشقق المفروشة، المصارف، صالونات الحلاقة، ميكي ماوس، حفلات عروض الأزياء، شركات التأمين، التلفزيون الملون، البطاقة الشخصية.
قال شخص يستبيح افتضاض النهار في ليل الفصول الباردة:
"تجاسرتُ، ألغيتُ كل مواعيد قتلي، واخترتُ صيغة موتي".
ثم استلقى على أحزانٍ ترسو على نهر من الغيوم. واستباح الجنود موته، ولم يدركوا أن موته سيكون ريفاً للحطابين وفيئاً لعمال الميناء. أسفتُ عندما تذكرت أنني كنت جافاً لحظة ودعته في محطة مهجورة، وعاد إليّ مرّة ونثر فوقي ندفاً من ثلج شفاف. دعوته إلى مائدة خالية من الأطباق والملاعق وتآمرنا على وضع صيغةٍ شاذةٍ للموت في حالات الطوارئ ومنع التجول.
في ليلة مخمورة بنكهة الرعب اختطفته نواقيس السجون المتكدّسة على ضفاف الخليج، فامتلكني غضب مجنون وردمت رمال السماء المتواطئة وغيّرت وجه القلاع والأبراج، صيّرتها أكواخ صيادين يتجرعون النبيذ في ردهات الربيع.
تقدمتُ. شربتُ نخب زفافي وانتظرتُ موتي وأنا أبتسم.
ــ أ. ص
ــ هذا أنا..
ــ نعم، هذا أنت. ستغني لك أمك
الآن، فلا تنم.
تنبلج من مقلتيّ الرصيف امرأة كالوهْم تدنو مني، وحين تقتحم جسدي أهمس "أنتِ وحدك حبيبتي". أعرفها من الزغب المنتشر تحت إبطيها، ونمشي، تأكل كتفي، وأغمد تعاستي في حنجرتها لعلها تلفظ باسمي في المراقص وفي مراسيم شرب الأنخاب.. (لغم الهجرة الفاسد أنتِ، أم لغم البقاء المحظور؟) أبسط أمامها جسدي المضمخ بالندوب لكي تنام وترتاح. لقد تعبتْ حبيبتي وتعبنا ولم ينته زمان العار. ها جسدي الأول.. خذيه، وانتظري جسدي الثاني، ربما ينقرض أو ينزف أو يحيا.. فتجهش في البكاء حبيبتي. أسفحُ حنيني داخل سرّتها النافرة مثل الوردة، و أجسّ نبض رسغي.
لا، لم أمت. نشتري رغيفاً ونتقاسمه (شعبي جائع وربّ الكعبة).. ندخل عرساً، أخطأنا، كان مأتماً.
ــ أ. ص
ــ هذا أنا.. أصغي.
وحيداً أتسرّب في الغسق. ينحسر ثوب الهواء كاشفاً ريحاً حارة تقعي في صدري ثم تنحدر لتلتصق بي على الرصيف المهجور إلا من المارة الفقراء والشحاذين والسيارات القديمة والجوع الذي نزل في مملكتي الوثنية وجثم على ركبتيه يشحذ من المارة الفقراء، وكانوا فقراء.
حمل طاسته الجاهلية وكان مذعوراً. صعد إلى الصحراء يأكل الجبن ويشرب لبن الماعز، ثم نزل إلى مرتفعات السماء يساوم يوم القيامة الذي لم يستجب.. وكالعادة يتأبط رأسه ويتجول معه في علب الليل.
- 2 -
- سوف أذوب قبل أن يصل دوري.
التفت الواقف أمامي، زفر بضيق في وجهي ثم أدار رأسه ناظراً في قفا الواقف أمامه. مددتُ أناملي أتحسس بذلته الناصعة البياض فأدار ظهره بحركة مفاجئة وصفعني.
ــ لا تلمس بذلتي أيها القذر.
طوقتُ رقبته بذراعي وضغطتُ، أخذ يخور محاولاً الإفلات ولكنني شددت على رقبته فتدلى لسانه و انساب اللعاب من فمه، وفي الوقت ذاته صرختُ من الألم حين أطبق بكفه على خصيتي، أرخيتُ ذراعي فلطم وجهي بقبضته القوية وطرحني أرضاً. تدخّل القواد صائحاً.
ــ كفاكم شجاراً وإلا أغلقتُ الباب.
صحنا في صوت واحد:
ــ لا تغلقه..
وقفنا في الطابور الطويل مرة أخرى ننتظر دورنا في ضيق وضجر.
داهمني إحساس مفاجئ بأن ما نفعله الآن لا يختلف عن العروض التي تقدمها ملكات جمال العالم النرجسيات، إذ نقف في مثل هذا الصف الطويل وكل منا يتوهم أن جسده هو الأجمل والأفضل، وليس على المومس المحترفة سوى أن تلبس نظارة طبية وتدقق أكثر في النتوءات العضلية، إن كانت متوفرة أو غير متوفرة، في بدن كل فردٍ ومن ثم تصيح مهللة وهي تشير إلى أكثرنا نرجسية "هذا هو الأكثر وسامة وفحولة".
أشرعُ رئتي للسفلس والزهري وأزعق: مرحباً بالانتحار السرّي.
لكن الذي ظل مستعصياً على الفهم هو تأهب أحد كبار المسؤولين في شعبة بوليس الآداب للدخول، حيث كان في أول الصف..
ــ ماذا يفعل هنا هذا الوغد؟
ــ مثلما تفعلون، هل تظن أنه جاء ليتأمل؟
قالت المومس هذا ثم قهقهت في إعياء واضح.
بدت مرهقة تماماً وليس لديها أي رغبة في الحديث، أدارت رأسها وأراحته على الوسادة ثم ماءت مثل هرّة تحتضر. أشارت بيدها نحوي وفهمتُ أنها تستعجلني، لكنني أردت أن أطيل البقاء، والتحديق في نهديها الممدودين على بطنها المترهل مثل بالونتين مثقوبتين. قرأتُ في أخاديد فخذيها عمر الوحشة وسنوات البور: أربعين عاماً أو يزيد.
قلت وأنا متكئ بمرفقي على السرير الخشبي:
ــ حين استيقظتُ وجدت مثانتي مليئة بالجنس فذهبت إلى السوق وسرقت ديناراً من صرّاف يهودي ثم انتظرت دوري في الطابور..
ــ لا يهمني ما فعلت. لننه الأمر.
ــ وأنا هنا الآن لكي أفرغ الجنس وأنام مطمئناً..
ــ عليك اللعنة.
ــ غيري يفضّل العادة السرية، أنا أفضل العادة المباحة..
ــ أنت تضجرني.
ــ وأنتِ تذكّرينني بنبع شنقته في سرداب لأنه كفّ عن العطاء.
رفعتْ عينين مطفأتين وأَومأت شبه نائمة:
ــ لم ينته الطابور وأنت واقف هنا تثرثر.. هيا.
تهيأتُ.
• 50٫000 محترفة للبغاء من مجموع مليون ونصف المليون نسمة.
• أكثر من 60% (يفوق عددها عشرة آلاف) من دور الدعارة السرية لا يمكن متابعة أصحابها قانونياً لأن الرجل والمرأة متزوجان شكلياً.
• 1600 عائلة يرتبط خبزها اليومي باحتراف البغاء.
• 55% من التلاميذ مصابون بأمراض جنسية.
(الأرقام مأخوذة من ملفات الشرطة في مدينة عربية).
بعد خمس دقائق لفظني المبغى، فأكملت ارتداء ثيابي في الطريق وبدأت أهرول نحو المطبعة. بعد أن تأكدت من عدم وجود أحد في المطبعة، تسللت من النافذة وسرقت كمية ضخمة من الجرائد التي سوف تصدر في اليوم التالي. وضعتها على الرصيف فصارت فراشاً ووسادة. أنا فخور بما أفعله لأنني أساهم مع علماء الرياضيات في حل أزمة الصداع الدائم عند القراء. ورغم أن سرقة الجرائد عملية شاقة ومحفوفة بالمخاطر، إلا أنني كنت أمارسها دائماً بشغف وتلذذ. في إحدى المرات أمسكني حارس ليلي وطلب مني أن أدفع كفالة مالية. قلت له: "لا أستطيع"، فأخذ يحصي المرات التي خالفت فيها القانون وكانت عديدة إلى درجة أنني كنت أتثاءب وأنا أتابع ما يقوله.
قلت له:
ــ لا أنكر أنك خبير ماهر في الإحصائيات ولكنك لست ذكياً.
ــ كيف؟
ــ لماذا لا تعتقد أن القانون هو الذي يخالفني وليس العكس؟
ــ لا أعتقد .
ــ إذن أنت غبي.
أدخلني السجن وأقفل باب الزنزانة ثم بلع المفتاح. صرختُ:
ــ كيف سأخرج الآن.. هل يعني هذا أنك قد حكمت علي بالسجن مدى الحياة؟
قال ساخراً وهو في طريقه إلى دورة المياه:
ــ ربما..
استندت إلى الجدار فانشق الجدار. اندهشتُ وصحت منادياً الحارس، فجاء مهرولاً وهو يحاول أن يرفع سرواله الساقط على كاحليه.
ــ ماذا حدث؟
أشرتُ إلى الجدار الممزق وأنا أزعق ساخطاً:
ــ هل هذه زنزانة أم ورق مقوى؟
بدا عليه الذعر وراح يلكم بطنه لكي يخرج المفتاح من معدته، لكن المفتاح رفض أن يخرج، فانبطح أرضاً ورفع ساقيه ووقف على رأسه وتدحرج عدة مرات، لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل. قلتُ "لا فائدة".. وخرجت من الجدار.
أتوق إلى حديقة أقرأ فيها سحر الأناشيد الأممية وسر أشعار القرامطة.. تفتح أمامي حديقة جعلتها الدولة حريقاً يتدرب فيها خريجو الدفعة الأولى من الكلية العسكرية لقمع الفتن الداخلية ومظاهرات الطلبة. تهيأتُ للضحك، ثم استدركت، هل نسيت أن أحزن؟
امتهنت التشرد حتى تقلصت أصابعي وقلت: سأبحث عن عمل شاحب آكله في ثلاث وجبات. جلست على أهداب شجرة أرنو إلى زوارق ترحل محملة بالمقاولين والنخاسين، وتتركني وحيداً أحلم بالوجبات الثلاث.
ــ هل تسمحين أن أرخي الستارة؟
ــ . . . .
ــ هل تسمحين أن أدخل ضفائرك النرجسية؟
ــ . . .
ــ هل تسمحين أن أتوسّد نهدك؟
ــ . . .
_ هل تسمحين؟
ــ . . .
ــ هل؟
والمرايا تنزف. نبحث عن وجوهنا المتكسرة، نجدها شظايا تسـبقنا خطوات، وبين الخطوة والخطوة مسافة تدعى المجزرة وتدعى الزنج. تختبئ الوجوه في المرايا ولا نجدها..
هذه بوابة ونحن بلا وجوه، لذا ندخلها، لذا يطالعنا الحارس مندهشاُ لكننا لا نراه، فقط نسمع نباح عصاه لحظة انكسارها فوق ظهورنا. هنا شــجرة. "لا، لا تجلسوا هنا بل هناك". كذب علينا الحارس وأجلسنا في مستنقع. ببساطة صدقنا كذبته. هذا نهر. جدول. رغم أننا هجسنا بأن هناك شـجرة ما، قلنا: هذا محيط يجرّ قاراته إلى كهوف بعيدة.
هل هناك طفل؟ هناك أطفال يحملون مظلات ملونة تحت سماء لا تمطر، إذن لا جدوى من النظرة السوداوية. حفيف راقصة عجوز وشيخ يجري خلفها: "عودي يا ملكة، سوف أمشط شعرك، فلا تحزني". إذن لا جدوى من الفرح. هنا أعشاب وأريكة. "لا، لا تجلسوا هنا بل هناك". ها قد عاد الحارس إلى الكذب، وأجلسنا في زورق منخور. هكذا نستطيع أن نقول إن البوابة هي الوحيدة التي تعاني العزلة، إذ أنها عندما تشعر بالموت لن تجد أحداً يواريها التراب، فتحفر لنفسها قبراً، أيضاً ينبغي أن تصلي في جنازتها وكل هذا فوق طاقاتها المحدودة جداً. مرة أخرى تنسى البورجوازية وقارها وتخلق حفاري قبرها. أمور سخيفة تحدث هنا، مثلاً: موافقة الحارس على أن نلعب كرة القدم في ساحة دون كيخوته بشرط أن نهتف بسقوط الكومونة. ماذا قالت العذراء الحمراء لويز ميشيل غداة نفيها؟.. (ما رأيك في تسريحتي الجديدة، فستاني الجديد، رموشي الجديدة، حبيبي الجديد.. أنا جميلة، أليس كذلك؟).. للمرة الثالثة يكذب الحارس ويكتب أغنية رديئــة. العذراء قالت: "الجالسون على العروش يشحذون سيوفهم، وأنتم أيها البسطاء اشحذوا نصل مناجلكم"..
شخص يأكل الكمثرى. شخص يأكل كّم الثري. جميل أن تلمح ذقون السبايا رغم الأسر. احملوا العكازات، لقد انطفأ النفط وفقدت المصابيح بصرها. غير أن الوجوه لا تغادر المرآة، أو هكذا يتراءى لي، غير أن المرآة لا تغادر الوجوه. سينتابُ الطفل وجومٌ شاحبٌ عندما يكتشف أن الزواج بغاء شرعي. ليس صحيحاً ما يقال عن غرابة الشوك وهو ينبت في باطن القدم. ذات مساء طفر الرمل من شفتيْ المغني المجهول ومع ذلك لم يدّع الغرابة، بل قال: "هذا مألوف أكثر من اللازم".. ثم مات. هل لديكم مشاعل؟ سوف تغلق البوابة أجفانها ولن نراها، لذا سوف تصطدم بنا، ولذا ينبغي أن نستعير أحداقاً فسفورية.
هل تسمحين؟
حسناً.. أنت تفهمين أو لا تفهمين.. سأغتصبك الليلة بعد طلوع الشمس وليذق عنقي بعد ذلك طعم المقصلة.
حسناً.. سأتسكع بين شفرتيّ النهر المشعث الشعر ونمضي معاً، نرتل ما تيسر من سورة السجون.. لعلكم تذكرون.
(ترفّق بي أيها النهر واستقر في حنجرتي، لعلي أذكر أن حبيبتي وجبة للعشاء ووجبة للغداء ووجبة تؤكل قبل التسكع وبعده)
والصبر جرح يتخثر في الفم، و الصمت..
صمتاً: انهالت برقيات التهنئة من الوفود الرسمية.
صمتاً: تبرّع الصليب والهلال ببطانيات ورقية مضمونة 100٪
صمتاً: كدّسنا لحومنا النيئة في علب نايلون لاستعمالها وقت
الحاجة.
ملتفين حول النار كنا، نتدفأ ونستمع إلى صرير القش. سرَد رجل متقدم في السن حلماً التقى به لحظات، ثم انكفأ على وجهه يقضم قشرة خشنة. اتكأ آخر على ظهره فتأوّه متألماً، نهض وسار ينقب عن أعقاب سجائر مطفأة.. ابتعد مسافة طويلة، صورته ظلت في أحداقنا ولم تبتعد، ثم وقف في مكانه حائراً يلتفت يمنة ويسرة. همس الجالس إلى جواري: "لقد فقد أثر خطواته مرة أخرى". قام هذا وذهب إلى الرجل وأمسكه من يده وأخذ يقوده كالأعمى حتى أحضره إلينا، وجلسا.
قال واحد: لنذهب قبل أن يأتي القناصة.
ذهبنا،
وخشينا أن تصادفنا دورية ليلية فتعتقد أن انقلاباً أبيض قد حدث، توزعنا، كل مجموعة تبحث لها عن غرفة في مجاري المياه، وبعد بحث شاق تمكّنا من إيجاد غرفة مكعبة، أزحنا الأوبئة والبعوض جانباً ونمنا هناك مثل العناكب، وحين استيقظنا طرحنا الأسئلة التالية:
- كيف تبدو شجيرات الغاب عند هطول الأمطار الربيعية؟
- كيف تبدو المرأة المراهقة حين نقبّل ثديها الطري؟
- كيف تبدو قنينة العسل في ذاكرة واحدٍ منا يعشق الرسم؟
- كيف يبدو ماسح الأحذية وهو يستحم في نافورة مليئة
بأزهار عبّاد الشمس
- كيف يبدو القمح في مرآة المجاري؟
وهمسنا جميعاً: يا إلهي.. لا نعرف.
وقع واحد منا على الأرض، اعتقدنا في بادئ الأمر أنه فقد وعيه بسبب الرائحة النتنة التي تفوح من بدنه، لكن عضلاته أخذت تتشنج ونتوءات وجهه تتقلص ودم أسود بدأ يتسرب من عينيه وأذنيه على شكل قطرات تتسع تدريجياً وتغطي مساحات وجهه الضيقة، وشيئاً فشيئاً خفتت حشرجاته وهدأ جسده، فأيقنا أنه مات. جلسنا حوله نتأمله في هدوء حتى اليوم التالي، حضرت سيارة الشرطة تتبعها سيارة الإسعاف: نزلوا. مشوا في خطوات جنائزية مهيبة. وقفوا دقيقة حول الميت. قرأوا الفاتحة. سفحوا بعض الدموع فوق الجثمان. لفّوا الميت بملاءة بيضاء نظيفة جداً. حملوه بعناية فائقة. وضعوه برفق في سـيارة الإسعاف. انطلقت.
لا أنكر في تلك اللحظة شعوري بالغيرة من الميت. لقد تمنيت أن أكون الميت لكي أحظى بتلك الرعاية والاهتمام، وربما أتلقى بعد ذلك دعوة للعشاء معهم. أخرسني المحقق بأن أصدر أوامره باعتقالنا جميعاً لإجراء بعض التحقيقات الشكلية، حيث أنه قد شك ـ بالسليقة ـ في أن الحادث ليس قضاءً وقدراً بل جريمة بشعة ـ هكذا قال ـ ارتكبت بحق إنسان بريء.
في المخفر وقفنا، طابور طويل وكأننا في مبغى، نصغي إلى فرقعة السياط وتمزقات الأظافر وهي تنتزع. كان دوري الأخير.. تذكرت الحارس الليلي الذي تحول إلى قرد كثيف الشعر. جاء دوري فاهتز جسدي "أ. ص.. حان موعد موتك". سحبني الشرطي من كم قميصي وقذفني إلى الداخل. تلقفني المحقق مع بضعة أشخاص لم أتمكن من تمييز سحنتهم، إلا أنني شعرت بعضلاتهم الصخرية وقبضاتهم التي انهالت علىّ باللكم والركل. سلطوا الأضواء الساخنة فوق صدغي، وفي الوقت نفسه لفوا جسدي بأسلاك كهربائية.. حدث هذا دون أن يتفوهوا بحرف واحد. فقدت وعيي عدّة مرات و لم يكفّوا، حتى تحولت إلى كتلة هُلامية سهلة المضغ والهضم، عندئذ توقفوا. شدّ المحقق رأسي إلى الوراء ففتحت عينيّ بصعوبة شديدة. بصقوا في وجهي.. الواحد تلو الآخر. وصلني فحيح المحقق وكأنه يأتي من بعيد:
ــ هل تريد أن تقول شيئاً؟
ــ أعترف بأنني القاتل.
رددت قولي عدة مرات، لأن صوتي كان خافتاً جداً.
ضحك المحقق بزهو، وأخذ يذرع المكتب جيئة وذهاباً نافخاً صدره باختيال. وببطء بدأ يتغير.. صار طاووساً.
في المخفر وقفنا مرة أخرى، نحمل فوق رؤوسنا عاهاتنا وكدماتنا، والطاووس لا يتوقف عن الحركة، يحدّق في وجوهنا في سخرية وشماتة:
ــ اعترفتم جميعاً بارتكاب الجريمة، وهذه بادرة طيبة تستحق الشكر لأنها لم تعرقل مجرى التحقيق، وبما أن الكتب القانونية التي أحفظها غيباً وأطبّقها غيباً تؤكد أن هذا النوع من الجرائم لا يرتكبها عادة أكثر من شخص واحد، فإنني حفاظاً على مصلحة القانون وعلى الشعار الأزلي.. العين بالعين والسن بالسن.. فقد قررت أن أختار واحداً منكم فقط.. و الله وليّ التوفيق.
اقترب مني فأصابني الهلع وقلت "أ. ص.. حان موعد موتك".. نظر في وجهي عدة ثوانٍ، أخرج لي لسانه كما يحدث في الأفلام البوليسية ثم أدار رأسه نحو الآخرين. توقّف عند شخص ما، أخرجه من الطابور.
أسندوا الرجل بسرعة وبقسـوة إلى الجدار وعصبوا عينيه..
"استعدوا".. صوبوا البنادق.. "أطلقوا".
أطلقوا سراحنا، فركضنا في الممرات والسراديب وعيوننا ترشح دخاناً كثيفاً.
يقف الجنون عند بوابة المدينة العاقلة ويتوسل إليّ أن أفتح له الباب لكي يدخل. أحدودب وأطلب منه أن يركب، فيمتطي ظهري وأعدو به نحو حظيرة ذئاب شرسة تلبس معاطف جلدية.
ــ تترجل؟
ــ لا، أريد أن أرى الناحية الأخرى.
أعدوا به نحو حقول تغصّ بالمسافرين وعمال السكك الحديدية. يترجّل.
ــ تسافر؟
ــ لا.
أراه يقف فوق المدخنة ويحرّض العمال على الإضراب. يحملونه ويهرولون إلى حظيرة الذئاب، لكن تصعقهم المفاجأة حين يجدون الحظيرة خاوية لا أحدَ فيها. يتلفتون في حيرة وعدم فهم، ولا تغادرهم الدهشة إلاّ حين يتساقطون كالندى تحت وابل الرصاص الذي ينهمر عليهم من الجهات الأربع.
يقف الجنون عند بوابة المدينة العاقلة ويتوسل إليّ أن أفتح له الباب لكي يخرج.
وأنا أكاد أموت شوقاً إلى حبيبةٍ تهجو أصابعي وتهجو شفتي السفلى التي تجهل التقبيل واللثم. هل تسمحين أن أُرخي الستارة وأن أدخل ضفائرك النرجسية وأن أتوسد نهدك؟ دعيني يا حبيبة أفعل. أغيب في منعطفات الماضي وفي أطراف الضواحي, أتأبط تعاستي وأبكي بمرارة ساعات طويلة.. هل بكيتِ لأجلي دقيقة؟ لأجل مسافر دامع العينين يحمل على كتفه حقيبة مليئة بجزر جميلة لا تجيد القراءة, يذهب بها خلسة إلي غابة مهجورة وينفض عنها الغبار والكآبة, لكن الغبار يعود والكآبة تعود والغابات المهجورة كثيرة.. دعيني أتنزه فيك لكي أرى ينابيعك وأحدّثك عن طفولتي التي علقتها منذ أجيال في غيمة عتيقة في معسكر تعذيب, أحدثك عن تجوالي بين زوايا المخابئ وفي ملفات الشرطة, عن حكاياتي القصيرة جداً.. يا حبيبتي, سأموت ذات يوم, ذات ليلة.. فهل تذكريني؟ هل تذكرين كائناً قميئاً ينكس مظلته الوهمية وينحدر إلى مقهى, ينزوي معقوفاً تحت منضدة يتكئ عليها شخصان, يسرق من أحدهما لفافة ويسرق من الآخر فنجان شاي, ويتخيل نفسه رمحاً جامحاً ينتصب في العتمة, يطرق الأبواب فتفتح له الأبواب صدورها وتدعوه للنوم فوق فراشها الوثير. يتسلل تحت المناضد ويسرق لفافات كثيرة يبني بها أبراجا يقف عليها الفقراء وفي راحة يد كل منهم حقل وعذراء تتحلى بقلادات كالشفق, والأفق حاضر ـ حتى في الغياب ـ في عروقه الممتدة إلى الضوء المتسرب عبر نوافذ بيوت الأغنياء ليحط على مكيفات الهواء وفي الثلاجات الكبيرة, ويتمنى أن تتسامق قامته حتى تصل إلى الكواكب. أحمل عروش العصافير وأمشي فوق شريان هذه المدينة, أطمس خطوات الفجيعة المرسومة على قسمات الأطفال مثل بحيرة جرداء, وأغيب في متاهة الغربة: تغرّب وطني, تغربنا في حقائب رجال الأعمال.
أحاور الصاعقة الساكنة في حديقة التفاح البعيدة, لا تسمع صوتي. يحاورني الصقيع، يفتح مغارات تحزّ جبيني. أهرب منه إلى الصاعقة رافعاً بيارق من أشلاء ضحايا الحروب الدولية، لكن ثمة أشياء تفصلني عنها. أتوغل في خارطة الأشياء لعلي أغيّرها.
آه.. تعتريني رعشة الصدمة. وحيد أنا، أواجه موتي وحضوري.
- 3 -
(أتوهم أنني سيد الحلم الذي يتمتّع بذاكرة رائقة كذاكرة زهرة في قميص شاعر. أعبر جهات الريح وأقبع في زاوية بين طرف الفرح وطرف الطفولة.. تطفو طفلة النهر وتتدحرج حتى تستقر بين ذراعي، أرفعها فوق منكبي وأتنزّه معها فوق زنابق الحقول العاشقة، ندلف معاً إلى كوخ مضيء، أجلسها فوق مقعد خشبي وأشمّر عن ساعدي لكي أحصد لها زهرة لوتس. جذلى تضع الزهرة في شعرها المفعم طراوة وتتحدث طويلاً وأنا أنظر في مقلتيها. تستأذن طفلة النهر إذ أنها لا ترغب في التأخر. أرقبها وهي تغيب في منعطفات العتمة وقد ارتدت هالة من الضوء المشع. وحين أجد نفسي وحيداً، أتوهم أنني سيد الرمل)
أذكر أن المختار كان يرفع يده دائماً حين يريد قمع أصوات المتحدثين. وفي راحة يده يلمحون نسوراً غاضبة تربض فوق صدورهم وتفقأ أعينهم بتمهل وإتقان، بينما يمتدُ الريف كعذراء تنأى بغموض ونعومة.
يخطب المختار زاعقاً:
"أمقت العرائض، أمقت الاحتجاجات، أمقتكم جميعاً.. هذه الأسمدة الفاجرة والشمس التي تسكب زيتها الساخن فوق جبيني والفؤوس العرجاء وخصلات شعوركم المرتجفة مثل قرويات يشاهدن عُرْيَ رجل للمرة الأولى. يا إلهي.. صرت أمقت نفسي لأني أقف أمامكم الآن وأصغي إلى هلوساتكم المتعثرة بين اللثة والسن. هل يجب عليّ أن أقول بأنني أطهو الليل والنيزك والعقارب وألتهمها قبل أن تلتهمني؟
سأقول لكم ما الذي سأفعله الآن: سأركب حصاناً أبيض وامتشق سيفي الطويل ذا النصل الحادّ، ثم ألهبكم مُتّخذاً من رؤوسـكم كرات ألعب بها البيسبول".
يخطب المختار هامساً:
"أودّ أن أجلس معكم وأتحدث قليلاً. بعضكم يدعوني القيصر الدموي. دعوني أعترف: لست دموياً بل وديعاً كقمر، بريئاً كمروحة، شهماً كسيارة نقل. الاعتراف فضيلة، وعائلتي بالذات تحترم هذه الفضيلة. لستُ خَجِلاً من ذلك،
(ثم بصوت مرتفع)
بل فخور جداً، إلى درجة أنني أطالبكم فوراً بتكوين لجنة خاصة لاحترامي. قبل مجيئي كنتم تبولون في سراويلكم يا أبناء البقر، وأنا لا أحبُ البقرة، خوارها يزعجني ويثير أعصابي، أحياناً أخرج في الليل و اتّخذ من ثديها هدفاً للتصويب، أحياناً أخنقها حين أراها تقرأ في الحظيرة. كم أودُ أن أحرق جميع الكتب وأرمي كتّابها في الأديرة كي يأكلهم الرهبان. قبل أن ألتقي بكم فكرت في أن أترككم تتعفنون مثل ضوء مصباح. قلت في نفسي سأدع هذا الحقل في احتضاره دون نجدة، ولن أتدخّل في شؤون الجراد الذي أقبل ـ كعادته ـ دون إشعار وبدأ يقرض أطراف البرسيم بمهارة. لكنني فكرت: ليس هذا موقفاً رجولياً، وأنا فارس قبل كل شيء. لهذا باشرت في إغاثة الحقل وتعمير الأشجار. الفضل لي والمجد للآباء والتماثيل والخناجر والابن البار الذي يشرب نخب راقصة البار. ماذا تظنوني يا أبناء طاحنات الحبوب. وأنت يا قروي.. لماذا تحدّق فيّ وكأنك لا تراني؟ لا بأس، طالما أنك لا تملك القدرة على سحقي بنظراتك العرجاء".
ينفضُ الجمع دون أن يفهموا شيئاً، ويستدير المختار قاصداً داره، يتقدّمه صدره النافر مثل المدرّعة.
هذه هي القرية:
في الكوخ رجل يشهق حين يشعر بأنفاس الموت لصق أهدابه الذابلة. يرتجف كامل جسده ويمدُ ذراعيه محاولاً أن يدفع الموت بعيداً لكن ذراعيه ترتطمان بالفراغ، والموت ما يزال يزفر في أنحاء وجهه. يطبق عينيه فلا يرى سوى الظلام. بعد هنيهة يشعر بأنامل صغيرة تتحسسُ صدغيه وتحطُ على عينيه المغمضتين ثم تبدأ في رفع جفنيه بهدوء وسكينة. يطالعه فمٌ مثل الكرز. تهلل طفلته الصغيرة وتصيح مغتبطة. يتأملها قليلاً، يرفع رأسه ويلثم وجهها ثم يعيد رأسه إلى الوسادة. يلتفت إلى زوجته التي تدخل الغرفة على صياح الطفلة وتطلب منها أن تهدأ لأنّ والدها مريض ويريد أن يرتاح. تبتسم له زوجته بحب بعد أن خرجت الطفلة الشقية: كيف تشعر؟.. يجيبها: الغرفة باردة.
تشعل بعض الحطب، ثم تدنو منه وتجلس بقربه على السرير، يعانق أصابعها. الآن يشعر بالدفء بعض الشيء، يمرّر يده الأخرى في ثنايا شعرها الغزير: هل قلت لك من قبل بأنك جميلة جداً؟.. تهمس وهي تنحني فوقه: كثيراً.
(وأنحني فوق الرمل فأنا سيدها.. أرقب الأسماك الواقفة على رؤوسها في الماء وأُصغي إلى الببغاء التي تطل من الشرفة وأرثي لنفسي وأدع ذرّات الريح ترثي للفم الذي يعزف الهارمونيكا بينما الأذنان تقدحان دخاناً، وهذه الرمال توحي بالشفقة لأنني سيدها)
هذه هي القرية:
يلتقط الرجل لحظات ضعفه ويُعيدها في حزامه ثم يتسلّق شجرةً وهميةً يرسم فوقها وجه حبيبته ماحياً كل الأيام البغيضة. ها هو يحيط خصر حبيبته ويأخذها بعيداً، يلمحُ في مقلتيها شواطئ جميلة مفتوحة ليست بحاجة إلى حماية فيتخلّى عن خصرها. ينفرج ثغرها. يشمُ رائحة طفل.
ــ تحب الأطفال؟
ــ أحب..
تغور الشهب في عيون مَنْ نحب، لذا تتألق الشهب في ليل الغابات.. أو هكذا يهجس.
ــ هل تريدين طفلاً؟
ــ أريد..
ويرافق عائلته إلى الحديقة، حاملاً سلة مليئة بالبرتقال والجبن والخبز وضجيج طفلته. ينقبض صدره حين يمرُ الوقت سريعاً، فيرافق عائلته إلى البيت.
ينتصف الليل، ينام الكوخ غير أنه ما برح في فراشه يَقِظاً يدخن لفافة تلو أخرى. تنظر زوجته في عينيه قلقة:
ــ تبدو مهموماً؟
ــ بل خائفاً.
(أتطلّع إلى الرمل فأرى دموعاً جليدية تغطي وجهي وأشعر بكآبة شرهة تلعق قعر حنجرتي المتعبة. يَفترّ ثغر المسافة الميتة والمميتة فينهمر اليأس وتنهار الخطوة والقبضة ويبزغ توق خرافي إلى نجمة حاسرة الرأس تعتلي ربوة متحركة وترفض أن تزيح هدباً عند وقوع نيزك بقربها. في مثل هذا الوضع والموضع يتلاشى صخب السنابل ويضيع هديل اليمامة ويخبو لمعان زجـــاج النافذة، ويبقى الفزع سيد الخلايا، لا حديث إلا عن السبايا في موقعة تخلو من بئر ماء عذب، فالينابيع عند القتل تغلق شبابيكها وتخلد للحزن المرّ الذي يهتك نضارة الأغصان الدائمة التلألؤ في ضفائر الصبايا، والزوايا تغادر مواقعها وتلجأ إلى صدر طفلة تجهل معنى القتل. ماذا رسمت الطفلة غداة الغزوة المباغتة؟ رسمتْ قلباً وشارةً خضراء، غير أن الغزوة لم تمهلها لترسم أفقاً أبيض منتشراً كالندى).
هذه هي القرية:
يدخل رجل حانة. يختار زاوية هادئة ومنضدة وكأساً، يُخرج لفافة ويُشعلها. يشعر بخدر لذيذ بعد الكأس الثالثة. يخرج ليدلف إلى حانة أخرى مزدحمة. في الركن منضدة وفتاة تجلس وحدها..
"هل تأذنين لي بالجلوس؟".. تأذن، فيجلس. يحدّثها عن الزحام والطقس وأسرار المدينة الغامضة.. وتبتسم. يحدّثها عن عينيها الزرقاوين وأناملها المفعمة بالبراءة.. وتبتسم. يحدّثها عن غرفته الصغيرة والكتب المرصوفة بغير عناية.. وتبتسم. يسألها أن تتحدﱠث، فلا تتحدث بل ترمقه بنظرة حانية قبل أن تنهض وتختفي في الزحام. ينهض هو الآخر ويُدرك ـ لوهلة ـ أنه كان يحبها منذ زمن. يختفي في الزحام، ويغيب.. يغيب.
يصل إلى مكان قاحل ويقول "هذه نخلة".. لا أحد يعترض فيصدﱢق كذبته ويعتقد بأن هناك نخلة فعلاً، هذه النخلة تثمر ثلجاً. يتدحرج على الثلج. يكوّر الثلج بأصابعه ويقذف به صوب أثمار عديدة متدلية في الفضاء. تسقط الأثمار في حجره وبقربه، يلتقطها ثم يجري مغتبطاً، ينشقّ ثوب الجليد فيبصر تلك الفتاة التي صادفها في الحانة، يهرع إليها ويتمرغان في الثلج، تغمره القبلات، تغمره الظلال، فيهفو إلى فراش وثير تحت سقف مزدان بمرايا ملونة، يضطجع، تأتي نسمة رطبة تتهادى، تحلق فوق أجفانه، تكبس أجفانه بخفة ورفق، فيغمض عينيه وينام.
ويتمغط المختار في نومه. ينهض ويطلب الفطور، بعد أن ينتهي يذهب إلى الحظيرة ليتفقد ماشيته. يصادف الديك الغجري فيركله بقدمه لأنه لا يكفّ عن الصياح، ثم يرنو بإعجاب إلى أعواد الذرة، ويعود أدراجه. ينادي خادماته لمعاونته في التمارين الصباحية التي يمارسها منذ كان صغيراً. في مخزن القش يمتطي قروية، وأخرى تفك أزرار ثوبها منتظرة دورها، يقذف بالعصا عند باب المخزن وينخس بقدمه بطن قروية ثالثة آمراً إياها بأن تقلّد الكلب عندما يجري ويلتقط العصا بفمه، فتفعل ويضحك هو حين يشاهد عشباً أو فطراً عالقاً بين أسنانها. بعد ذلك يذهب إلى الحقل ويجلد الظهور العارية المنحنية.. بانتشاء. إنه لا يسمح بأي تباطؤ في أداء العمل، وحين تصدر من أحدهم نأمة، يسخر منه قائلاً: "بعد أن تنتهي من عملك، سوف أبعث لك بنهر صغير لا ماء فيه، تستحم فيه شتاءً وترتديه صيفاً وفي الربيع تتخذ منه قلنسوة تحميك من أوراق الشجر.. ماذا قلت؟".
لا يقولون شيئاً. يصلون العراء بالفناء ويبكون بكاء العاجز. تستفزهم العروق المتفصدة في الرقاب ولا يقدرون سوى على الانحناء، فالوهج الذي يسكن تلال الأفق هزج غير مفهوم.
"مرحباً، أرغمونا على مغادرة أماكننا، وها نحن نبحث عن أقصر طريق يؤدي إلى القبر، وليس إلى القصر.. هل يطول بحثنا؟".
مرحباً، هل رأيتم شبحاً يقضم عباءة ويهذي؟ إنه رسول الموت، إن وجدتموه أخبروه أننا هنا ننتظره منذ سنوات.
مرحباً، لا نريد شمعة أو قنديلاً، لأننا نخاف الضوء، فمعذرة.
مرحى بالنوم الذي سوف يعصمنا من الحلم.
مرحى بالعراء الذي سوف يمنع عنا الهواء.
مرحى بالموت.
لكن.. هذا ما حدث في القرية:
يهب رجل صدره للمدائن المنتشرة على سلالم الجسر، لعل سارية النار تفيق من غفوتها وتتغلغل في نسغه. "يا سارية النار أقبلي". ها هي تفعل. يشرق جبينه ويتخيل نفسه بركاناً في مملكة تغزل خطاها من نسيج خطاياها التي لا تحصى. تمنحه السارية لهباً. يلملم آثار قدميه في حقيبة ورقية ويرميها من على الجسر منعاً للتراجع "لكي لا أتذكر مواطئ الهزيمة والخنوع". تلملم شعرها، ويسيران بتوءدة صوب جزيرة مستباحة كانت جزيرتهما قبل الهجرة.
ــ جئت أسترجع سنابلي، فدعني أفعل ذلك أو أشعلني زيتاً يسري في عروق هذه الأرض.
ــ كلامك عجيب يا قروي.. لم أعهده من قبل.
ــ أخمد خفقات القلب.. إذا شئت. لكنك لن تستطيع خنق وهج الحلم النابض.
ــ أنت لا تعي ما تقوله، دوار البحر هو سبب هذيانك يا ولدي، وأنا أغفر لك.
ــ كفّ عن التملق، فقد اهتدى الموت إلينا مذ عرفناك.
(ها برغوث يحلم ويتحدى القدر. لا بأس من اتخاذ وضع بريء ـ لفترة ـ مثل زرافة)
ــ اقترب يا ولدي لكي أغفر لك.. وانحن.
ــ الرمح لا ينحني.
(هذا الوقح نسي كيف كانت أمه تحلب البقرة من لسانها. إذن.. لا بد من اتخاذ وضع آخر)
يستطيع الموت المتخم الآن أن يغفو برهة على رفيف أجنحته المغتبطة، فقرينته الرصاصة استعارت لهباً أبدياً من جوف تنين وراحت تنفثه في وجه القرويين. الرياح كانت موصدة والرصاصة تشتهي الانفراد بالأفراد.
يراق الإعياء على باب اليأس كقطرات وحل أصفر أفرزتها سحابة جافة، والشفاه اسفنجة تتوق إلى ماء، والماء منفي في طاحونة مهجورة كالخرافة.. لا كائن ولا أريكة ما عدا فزاعة مطمورة في الرمل حتى العنق، تخرج لسانها وتهفو إلى طيور شقية تنقر الحبّ فوق رأسها الخشبي. كدسوا الأضرحة واحرقوها بالدمع. فالموتى لا يأبهون بالأشياء الصغيرة، لكنهم يلوذون بركن ويعدون الأصابع النحيلة ريثما يقبل الموت ثانية. يقتاتون رعب الوقت القادم وليس هنا قدح ماء أو حفنة تمر.
أعرف حوذياً يسكن في الجوار. طرقتُ بابه، فخرج من النافذة بسرعة البرق.
ــ إلى أين أيها المسافر الوديع؟
كان يمشي ويتكلم بسرعة عجيبة، وحين لاحظ ارتباكي، ابتسم:
ــ أعذرني، نحن مخلوقات سريعة.. اعتدنا على السرعة.
جلست بجانبه على المقعد، فتحركت العربة بسرعة، وبدأ الحوذي يشيد بالجوادين وقوتهما ويصف الطريق ويتحدث عن النجوم التي لا تملّ من مرافقته لأنه يشدو لها في الأمسيات الخريفية بأغنيات مرحة، ثم فجأة سألني:
ــ لم تقل لي أيها السيد، إلى أين أنت ذاهب؟
ــ لا شيء هنا سوى السراب يحلق في أسراب تتهالك من شدة العطش.
ــ غامض ما تقوله أيها المسافر!
ــ أبحث عن أرملة ترثيني.
ــ الآن بدأت أفهم.. سوف أذهب بك إلى تلك الواحة المصابة بالأرق دوماً بسبب الأرامل النائحات ليلاً ونهاراً، اللواتي فقدن أزواجهن في حربٍ ما. الحرب قبعة، تتقافز فوق الرأس مثل الفقاعة.. وكالرغوة أنفاس المحارب الشجاع. كم مرة أقول هذا للأرامل لكنهن عنيدات لا يصدقنني. أعرف شخصاً لا يحب النبيذ لكنه حين خاض أول معركة عاد إلى البيت واشترى مصنعاً للنبيذ. أرى أن من الحكمة بناء بحيرة لهؤلاء الأرامل.. للترفيه وإبداع المرثيات.
ــ أهلاً بالغيبوبة .
ــ أهلاً بك أيها المسافر رغم أنني لا أفهمك. أراك ترفع أصابعك المتشنجة وتلوّح لمقصورة القمر الرابضة فوق. هذا لا ينفع أيها المسافر لأن القمر يطالع وجهه الجميل الآن في مرآة عذبة ولا يأبه بتلويحاتك. هل تريد تيناً برياً وقشدة؟ لا تريد. أستطيع أن أقطف لك نجمة وأعلقها على صدرك كتعويذة.. لا تريد؟ أنت يائس أيها المسافر، وهذا ليس من شأني.
بعد فترة.. يقول الحوذي:
ــ هناك. ألمح شيئاً فضولياً وطفولياً يدعوني إلى الاقتراب، إنه يُشبه الألفة التي تغمر ثغر حمَل نائم في سريره الصغير. أتخيله يدنو مني بتوءدة.. هل ترى هذا الشيء؟
ــ الرؤية صعبة من هنا.
ــ أوه.. لا. إنه مجرد طائر نورس.. نافخ بوق يدلني إلى الطريق.. ظننته شيئاً آخر. يظهر أنني أوشك أن أفقد بصري. أعرف مسافراً لا يشبهك كان يردد دائماً: غامض هو البحر. ويبدو أنه كان بائساً لأنه كان يهوي برأسه إلى الأمام ويهمهم: لا شيء حقيقي في الحلم.
في منتصف الطريق، نزلتُ من العربة.
... ... ...
النجوم سامرتني في تلك الليلة الباردة، سألتها: في أي فصل نحن؟.. أجابتني: لا تهتم، الفصول تتغير. عند هبوط الفجر ينحدر الحوذي مع الطل، وفي داخل العربة يجلس الصيف هادئاً يطالـع الجريدة، وفي موقف معين ينزل الصيف ويصعد الخريف أو غيره. الحوذي يعرف مواقع الفصول.. إنها مهنته.
كنتُ أتنصت لخشخشة الندى الذي يطرق العشب حين أبصرت من بعيد ظلاً يتراقص في الهواء. كان الظل فتاة. بهتُ عندما لاح وجهها الجميل والمضيء بفعل القمر الذي يبدو أنه كان يغازلها طوال الوقت. كانت تتقدم نحوي وتبتسم بخجل وبراءة.
ــ من أنتِ؟
ــ امرأة.
المكان رائع بحضور ضوء هفهاف، بحضور أشياء جميلة. رجل وامرأة. في مثل هذه اللحظات يتجلى العالم ويصفو، يصبح رائقاً مثل المطر. ارتجاجات الأثداء تمنح العالم هدوءاً مجانياً وطفولة غير مألوفة. رجل وامرأة. اقتربنا من بعضنا، التصقنا حتى الاندماج.. التلاحم والرعشة والرجفة والبلل.. الرغبة في الاحتماء. رجل وامرأة. اندلقنا في أخاديد الأرض. لا شيء سوى انتشاء العوسجات في دغل ممطر. رجل وامرأة.
- 4 -
يكشطُ لحاء غصن صلب يتدلى من جدار قديم، يجده مرّاً.. يبصـق وهو يرمقني بنظرة مطفأة.
ــ انحنيتُ كثيراً في حياتي، لا أريد أن أنحني الآن.
أصغيتُ إليه وهو يحدثني عن هامة والده التي ظلت مرفوعة كالرمح حتى وهو يشق بإصبعه التربة اليابسة. كان نقياً رغم أن فرحه كان هشاً مثل سنديانة مكسورة الساقين. وعندما هدأت دقات قلبه ظلّ واقفاً يرنو إلى رقعة صغيرة في السماء تنسج حوله ألواناً تومض مع كل رفة هدب.
ــ سأصير فتيلاً أو قرصاناً إن شئت.
ويقول أن من العبث الجلوس عند العتبة ومعانقة نحيب الأرامل، وأن ما نفعله الآن لا يتجاوز تقبيل أحذية أولياء الأمور. هناك (أشار إلى فضاءٍ فضّي: حصن الثورة هناك) لن نضطر إلى سرج ظهورنا ليمتطينا المشرفون على إقامة العروض الترفيهية في السيرك والمهرجانات. لن نعاقر البغايا والأفيون والخرائب. هل مرّ يوم لم نشك في أسمائنا وتواريخ ميلادنا؟ جاورتنا قضبان السجون، وحين يؤرقنا بعث ذاكرة الأيام الآتية، يحلو لنا أن نحصي القضبان التي هي بعدد النجوم في سماء أخرى، ونتأمل سحنة الذين يتنزهون في الحدائق الخاصة، مأخوذين ـ نحن ـ بروعة سراب يتلألأ بين أسناننا الشرهة لالتهام الطحالب وأصداف البحر.
ــ سوف أمضي، هل تأتي معي؟
وقفتُ. مضى وليس في طريقه غير فجر دام ابتعد عنه واقترب مني.
استدرت ووجدتُ الأحزان تنتظرني، وضعتها على كتفي وأنا أشعر بالوحدة أكثر وبالرعب.
فجأة.. ها هي امرأة ترتدي الحداد لكنني أشم بريق عينيها. تجاورني تتجاوزني، أتبعها، فيئاً أتمدّد تحته، فوقه. أنعمُ بفترة قصيرة من الراحة قد تطول.
ــ سيدتي الصغيرة.. هل تتزوجينني؟
تجذبني إلى مكان رائق كالزبَد وتنزع ثوب الحداد. تستيقظ ذرّات جسدي فيشهق خصرها وينشق ثديها. تتدحرج من الثدي شهب لا تسقط، تظل معلقة في الهواء. ألملمُ آهاتي المشروخة بشفرات حادة، أغطيها، تغطيني ـ بغتة ـ بهديلها المفعم شفافية، أتناغم "يا خالقتي انسكبي في إيقاعات وريدي". أهرّب في أذنها كلمات جميلة أبدعتها اللحظة. تصعد أناملي، تهبط في نتوءات فخذيها، وبين الثنيات بيارق، أفراس تصهل، أصداف تتناسل.. ترقص في قعر كأسي، تلتف بي تغرس أعشاشها في مائي الذي لا أعرف من أين جاء ونضب بعد حين. تفتح إنجيلها الوثني وأقرأ تفاعلات الضوء والظلّ المتموج في منبع نهر عذب. أنكمش داخل جسدها الومض واستسقى غضارة ثغرها مغموراً بعناقها المنتشر في رجفة جنونية تنزلق متخطية دوائر الوحشة لتملأ مساحات الغبطة. بكيتُ، إذ أنها المرة الأولى التي أرى فيها زنبقة تنفلق وتدفق عصارتها في فمي. نأيت بعريي فصرخ عريها والتقيا. فجأة سطع في ذاكرة الوهم وهْم أن أصير فراشة يأسرها الضوء الممتد إلى نفق له فتحة تطل على بحر غريب سميته الحرية.
يقيناً لن أصل إلى الفتحة طالما أن الرغيف مدبّب ولا يمكن الحصول عليه، ولكي أنسى ينبغي أن أموت، هذا يعني أن يموت أيضاً عمال النفط والصيادون والفلاحون مع زوجاتهم وأطفالهم فتخلو الأرصفة والبراري ولا يبق غير أصحاب القصور وسيدات المجتمع الراقي يعيثون فساداً. قلتُ لن أنسَ الرغيف ما دمتُ حياً، أعني جائعاً.
قلتُ لصاحبة ثوب الحداد التي أصبحت زوجتي: يناسبني أن نسرح في شوارع المدينة كغزالين يغمسان أهازيجهما في محارات الأرض.
تأبطتُ ذراعها وانحدرنا. مشينا. انعطفنا. وبعد أن تركنا المطاعم المضاءة بالنيون وناطحات السحاب ومحلات بيع الزهور الصناعية، دخلنا الأحياء الفقيرة وصادفنا في طريقنا فيضاً من المناظر المألوفة التي اعتاد عليها من يسكن هذه الأحياء ومن يمرّ بها.
لم أكن مصلحاً اجتماعياً، وزوجتي لم تكن تنتمي إلى شجرة عائلة كريمة، أي غنية.. لذا لم نسقط على الأرض من أثر فظاعة ما نراه.. بل تابعنا السير، أنظر في عينيها وتنظر هي إلى سرب من الطيور الهزيلة كانت تتساقط أمامنا مثل أوراق هرمة، وكنتُ أرى الرعب في بؤبؤ عينيها.
فجأة توقفتْ محملقة في امرأة في غاية النحافة، تقعي قرب جدار وتنظر في وجوم ولوعة إلى ضفائر شعر تتلوى على راحتيها، وبالقرب منها طفل لم يتجاوز العامين يقضم كرة من المطاط. اقتربتْ منها زوجتي، سمعتها تتمتم في حزن:
ــ ضفائر جميلة، أليس كذلك؟ أجمل من الشفق، أجمل من الياسمين. خذيها، ضعيها في قارورة زهور. خذي الضفائر مقابل حفنة من العنب. أنتِ أيضاً لا تريدين يا سيدتي؟ لا تريدين أن تشتري ضفائر ابنتي الصغيرة التي كانت بالأمس تركض مثل النهار، وحين ولّى النهار، توقف قلبها وماتت يا سيدتي.. إنها ابنتي، وهذي ضفائرها.
كانت زوجتي واقفة كالمشلولة، تحملق فقط. أخذتُ يدها وسحبتها برفق، فسارت معي بمشقة وببطء شديدين، وبعد أن مشينا عدة خطوات أفلتتْ يدها بقسوة وركضتْ مبتعدة. غابت. وعرفت أنها سوف لن تعود.
. . . . . . . . .
أقسمتُ أن لا أحب وأن أنزوي في علبة لا تناسب حجمي، وأصنعُ ثقباً أتفرج من خلاله على المطر الذي كان يهوي من فوق حاملاً غباراً ورائحة لا تشبه رائحة الماء.
أقسمتُ أن أخترع لنفسي فاكهة من المطاط، ومراهقة من رمل أضطجع فوقها في الساعات الأخيرة من الليل. وأن أهب حياتي للمصادفة تنتهكها متى شاءت وكيفما شاءت. لن أبكي طالباً مدفأة أو مكيف هواء، سأدع جسدي حراً يتبخر أو يتجزأ، يتحجر أو يُسلق.
لكن الملكة جاءت وحطمتْ علبتي وقالت: امنحني دمك.
ضحكتُ أنا أولاً ثم ضحكت هي، وكان الفرق في نكهة الضحك. ونسيتُ أن أقول لها قبل أن تمشي، إن هناك علباً متوفرة بكثرة على الشاطئ وأن هذه العلب تستجدي البحر لكي يعطيها ملحاً. وكنتُ قد رسمت في ذاكرتي هواية التفرج على المطر الذي يهوي... وقبعتُ أمارس هذه الهواية بشغف عجيب وفرح يصل إلى حد تمزق أوردتي، ذلك لأنني كنت أفرح كما تفرح عاشقة الجسد الذي يصلب أكثر من مرة في اليوم. وكنتُ أسأل نفسي، ماذا تفعل السنابل عندما:
- يسحقها جسدان يضيئان في عتمة ليل؟
- تسحقها رصاصة ليست طائشة، بل عاقلة جداً؟
فأبحثُ عن امرأة أو غابة، مخبئاً قسمي في جيبي المثقوب. لكنني لا أجد غير أرض منهكة تتوجع بانكسار ذليل وأحياناً تسفح أعشاباً جافة. أقول لها ما دمتِ الوحيدة التي تملك جسداً في عالم تتكور بين ثناياه الصخور والأخشاب والحديد، فإنني سوف أمنحك نفسي وتمنحيني نفسك. ومن الطبيعي، قبل أن نفعل ذلك، أن تتدخل الملكة قائلة: "ادفع ضرائب وجودك في مملكتي".
فلا أملك إلا لساني الذي أدعه متدلياً في حلقي ومستنداً إلى الضفة السفلى من أسناني التي تتضور جوعاً، وأقوم بعد ذلك بتقليد مشية الملكة الهرمة، وكانت تمشي هكذا . . . . . . .
في كل بقعة، معتمة أو مضيئة، تحاذيني الملكة كالظل.. لذلك وثقتُ بأنني ضيف ثقيل في مملكتها، وأنها تحاول التخلص مني لأنني أعلنت في حضرتها أن كل شيء مقنن في هذه المملكة حتى الحلم، وأنا أحب التنوع ولا أستسيغ الأوضاع الراكدة. وكان يحلو لي مراراً أن أناوشها بأبجدياتي الضارية:
(ألف)
ألمحُ الموكب يشق حوض البحر ويصرخ: ها أنذا آت.
يأتون في موكب ناريّ يتألق وسط زغاريد النسوة المزهوات بثيابهن المزركشة.
يعبر الموكب فوهة البركان ويعزف لحناً لأغنية لم تكتمل:
"تعبنا من التعب والحصار وأسماك القرش ونريد الآن أن نستريح، أن نبني بستاناً، ونرقب أم أولادنا تذري الحنطة وتحصد الفاكهة. تغضنتْ الشفاه وتآكلت الأذرع. ها نحن آتون.. للماء، للضوء، للضحك.."
خيّمت العساكر على مقربة. طوقوا الموكب الذي لم يفقه سبب كراهية العساكر للبستان والحنطة والفاكهة. ألمح كهلاً فقَد بصره أثناء محاولة له لاستخراج لؤلؤة في رمال متحركة، يتقدم زائغ الخطوة: "آن لكم أن تقدموا القرابين، واعلموا أن ما تفعلونه مجرد ثورة موقوتة. اصنعوا تاريخكم أو أعلنوا موت النبوءة".
يتساقطون مثل الفجيعة، مثل البراءة الهادرة في محاور معبأة بالقذائف وطقوس الرعب. يعودون إلى البحر، في عيونهم تنبجس النبوءة ألقاً وانفجاراً.
[نقلت أعمدة التليفون خبر إجهاض الثورة التاسعة عشرة، وأغفلت ذكر خبر اللحن المهرّب في رسالة عاجلة وسرية إلى الثورة العشرين]
(بــاء)
ألمحهُ ـ الموكب ذاته ـ يجتمع في الطرقات يردد اللحن الناقص ويجادل العساكر ـ ذاتهم ـ
"لا النفط لنا، لا الشطآن لنا، لا البهجة لنا، لا الأعراس لنا، لا الكواكب لنا، لا البلاد لنا، لا العناقيد لنا، لا اللآلئ لنا، لا الحقول لنا، لا الأمواج لنا، لا النهار لنا، لا الشرفات لنا، لا الجرارات لنا، لا الأغطية لنا، لا النخيل لنا، لا الألوان لنا.."
وانشقت الأرض بغتة فتهاوى الموكب داخلها، مانحاً صدره لطعنات العساكر.
[قانون الطوارئ كان في حالة استنفار]
(جيم)
النبوءة طفل نسي أن يشيخ. النبوءة فتحت مآقي النوافذ. النبوءة أباحت ذراعيها للقتل. النبوءة لاذت بمخبأ سري.
[وما زال قانون الطوارئ في حالة استنفار]
قلتُ: هكذا تسير الأمور.
أقسمتُ ـ هذه المرة ـ بالجزء الجميل من الكون على أن أقضي بقية عمري في تحريض البشر على أكل الماء وشرب الأشجار، ولأن البندقية كانت تتحول في يدي إلى بجعة مكسورة الرقبة، فقد فكرتُ في الامتناع عن أكل أظافري، وبدأت أراقب الأظافر وهي تنمو، وحين صارت مثل أنياب طفلة يتيمة جائعة، هتفتُ: الآن سأدمر الجزء الرديء من هذا الكون.
لكن تدبّ في جسدي رغبة رؤية المطر وهو ينهمر بين فخذيّ امرأة تناديني: "تعال". فانطلق إليها دافناً وجهي في صدرها، ساكباً في سرّتها عالماً لا يدفع الضرائب ولا يبيع دمه وصوته لمومس تحترف قتل الثورات وتعلن في المناسبات وغير المناسبات "خلقت الخناجر للحناجر".. أشهدُ سريان الدمع في قافلة أحزاني.
أمرقُ في إيقاعاتها المتداخلة، في آبارها. تأخذني إلى كهوفها الوثنية كي نحتفل هناك بعرسنا الذي سوف تباركه الثورة الطالعة مع بذور الأرض. ومرة أخرى أمرّغ وجهي في صدرها الذي استحال ـ فجأة ـ تراباً يلتصق في لزوجة بأهدابي، رفعتُ وجهي وزفرت أنيناً قاسياً: آه، لو وجدتُ هذه المرأة ووجدتني. عذّبني النأي، عذبتني الأصفاد، عذبتني المرأة.. أراها في اليوم ألف مرة ولا أراها، هل تراني؟ ألْبستني عباءة الرعب والمراثي أنشدها في المناجم والمصانع. جزأتني ولم تسمع صوتي الأبكم.. آه، لو.. وما وجدتني، غير أني أدركت أن الثورة لن تأتي ما دام الصمت حياً، وتمنيت أن أصرخ في وجوه الذين لا يسمعون صوتي: "أطلبوا الرغيف بصوت جهوري، و هللوا".
صغرتُ. لملمتُ بقايا هيكلي وخبأته في مقصورة قطار لا يبرح مكانه، وعدتُ طفلاً يهوى بناء أحلام رملية تطؤها الملكة في كل مرة، فأهرع إلى أبي أشكوه ما صنعته الملكة. كان يصفعني وهو يبكي، وأحياناً كان ينصحني ـ وهو يرتعد ناظراً إلى الباب بهلع محيّر ـ بأن لا أتفوّه بمثل هذه الكلمات المجنونة. في المرة الأخيرة لم يقل شيئاً، بل سقط رأسه على صدره وراح في إغفاءة عميقة.
أبصرتُه يبتكر من نسيج عمره أو خوفه (لا فرق) قبراً يرتّل فيه. ويتقدم ساحباً نعشه وراءه بحبال متينة ويرجو الملكة المسترخية في شرفة برجها: هل تسمحين يا سيدتي أن أموت في هذه اللحظة؟ فتسمح السيدة وهي ترفع الوشاح القاتم. يضع النعش على الأرض في هدوء تام ويتمدد فيه شابكاً أصابعه، موصداً أجفانه. انطلقتُ إلى أمي. أبي على وشك أن ينام قبل أن يسمع أغنيتها المعتادة. تأهبتْ للغناء غير أنها فوجئتْ بموته. نظرتْ إلي في هلع، وقال صوتها المفقود: إنه ميت.
سارت الجنازة في طرق فرعية متشابكة، توقفت ـ كانت المقبرة تقيم في قلب المدينة ـ استلقى النعش بجانب حفرة صغيرة كانت تتسع شيئاً فشيئاً، هبط النعش إلى تحت ببطء، رأى تراباً وأحجاراً وأحزاناً عديدة.. ثم لم ير شيئاً بعد ذلك.
ــ أمي.. كيف نموت؟
ــ حين نفقد القدرة على رؤية الأشياء التي تحدث أمامنا، نغمض أعيننا هكذا..
انتظرت أن تفتح عينيها لكي ألمحُ صورتي في البؤبؤين، لكنها لم تفعل، فانتظرتُ حتى الصباح، حينئذٍ لمحتُ صورتي ولمحتُ اعتذارها.
ــ لقد غلبني النعاس وكنتُ مرهقة.
صمتتْ هنيهة تحسستْ خلالها شعري الأجعد:
ــ ينبغي أن تفهم.. نحن وحيدان الآن.
ــ أفهم.
ــ يوجد فول في الوعاء ورغيف.
غمستُ الرغيف في الوعاء و أكلتُ الفول.
ــ بعد أن تنتهي ابحث عن عمل.
ــ أفهم.
ذهبتُ إلى مكتب التوظيف. سخروا من صغر سني وحجمي بضع دقائق ثم ارتشفوا الشاي ولعبوا الورق. وقفت أرقبهم وأرقب صور فتيات عاريات ملتصقات على الجدران في أوضاع غير مهذبة. صاح أحدهم في وجهي سـاخطاً: أغرب عن وجهي.
أمي قالت: اذهب مرة أخرى.
عدتُ ثانية. غضبوا مني وقذفوني خارجاً.
خرجت أمي، وخرجتُ أنا.. أبني أحلاماً رملية تدفن فيها الطيور القرمزية بيضها قبل أن تطأها أقدام الملكة. فرحتْ أمي لأنها حصلت على وظيفة ساعية بريد.
كبرتُ، أخذتُ حاجياتي التي وضعتها في مقصورة قطار برح مكانه للتوّ. انطلقتُ نحو باعة متجولين كانوا في حالة هروب دائم من مفتشي الصحة والضرائب. كنا دائماً نجري حتى لو لم يكن هناك أحد يطاردنا، كنا نحلم بالهجرة إلى بلاد أخرى لا تطاردُ الباعة المتجولين بل تسمح لهم بالإقامة المجانية في فنادق من الدرجة الأولى، مغمورين بابتسامات فتيات رشيقات يتراشقن بالعطور في حبور، نبيعهن الحلوى والكعك و يبايعننا ملوكاً بلا عروش أو محظيات.
. . . . . . . . .
تبدأ اللعبة ولا تنتهي. هكذا: مخبر في معطف، مخبر في جريدة، مخبر في مقهى يشرب البيبسي كولا. وهناك في الساحة العامة يقف بائع متجول عارياً مثل بالونة. تدور عقارب الساعات في رسغ المخبرين. وحين يلتحم العقربان يخرج الثلاثة ويحاصرون البائع. يتهامسون حوله: نعرف أنك تتعامل مع الأشياء المهرّبة. (أو شيء من هذا القبيل.. عبارة تقال عند بدء اللعبة) يعتريه الذهول والذبول.. يهجس أن الليل سيخفق بعد قليل وأن الثلج لن يلمع في العتمة وكل ما قيل عن الفرح المدهش يخبو مثل نجمة تنطفئ على مضض. ستعاتبه زوجته لأنه خرج في الصباح الباكر ولم يقبّل أطفاله. يهجس أنه لن يسمع عتابها وعويل طفله الصغير المصاب بالتيفوئيد. يهجس أن صوته لن يخرج إلا شاكياً وباكياً.
يضحك المخبرون (إيماءة تصدر عند بدء القتل) ينظر أحدهم في ســـاعته: "بعد ثلاث ثوان تعود إلى تلك النقطة وسوف نلحق بك". لم تكن هناك نقطة، غير أنه رسم في مخيلته نقطة جسّها بأصابعه فبدت ناعمة ومضيئة، كانت تدعوه لأن يطوّقها بجسده، وعندما طوقها التفّتْ حول عنقه مثل مشنقة مرهفة.
انتفض من الذعر شاخصاً نحو الأجساد الثقيلة القريبة منه. قهقه الآخر بخشونة "سيكون السباق لذيذاً". أفسحوا طريقاً طويلاً لا توجد في جوانبه منعطفات أو دكاكين (هكذا تحدث الأمور)، تشبث بالأرض حتى تشنجتْ أصابع قدميه. قرر أن يبقى وينظر إلى: اندلاق الضجيج من أحشاء الأرصفة، عبور تلاميذ المدارس، الأكواخ الآيلة للسقوط في أية لحظة، مظاهرة تندلع ثم تكبو ثم تندلع، طفل يمزق إعلاناً عن حليب، بائعات السمسم والفول السوداني يزعقن. . .
يهدر الزعيق في أذنه: "ها قد انقضت الثواني الثلاث.. تحرك.. أركض". يدفعونه بشدّة فينكب على وجهه وتشجّ جبينه حصاة حادة، يلاحقونه بالصفير والصياح: "أركض". يقف مترنحاً فاغر الفم لا يعرف ماذا يفعل. "أركض". يتأرجح بين الوقوف والركض. يخرجون مسدساتهم ويطلقون بين ساقيه. "أركض". تمرّ رصاصة فوق رأسه. لا يعرف. ذاهل تماماً. يركض. يركض. يلهث. يركض...
ويصير جسده العاري كياناً مثقوباً بخمسين رصاصة، ويصير سارية تحترق على مهل في الساحة العامة.
تبدأ اللعبة ولا تنتهي، هكذا: مخبر في معطف، مخبر في جريدة، مخبر في مقهى يشرب البيبسي كولا ويكتب تقريره المعتاد عن الحالة الداخلية.
. . . . . . . . .
أقتحم أحداث أسابيعي الموحلة: ثمة سجن بحجم وطن عربي، ثمة أنين يبقّع صدغ الجدران، ثمة سيّاف يدعى مسرور. مسرور يمتشق حسامه قي اليقظة والمنام، مسرور يداعب وجنات الشعب لكي لا يُقلق راحة بال الملكة في القيلولة وفي الأمسيات الساهرة، مسرور يرقب الكواكب الغادية خشية أن تنفجر فوق رأس المملكة، مسرور يناشد الذين أينعت رقابهم وحان قطافها أن يتقدموا فليس في الأجران غير جماجم القراصنة.
ثمة طفل يدعى شارلي شابلن يقلي حذاءه على النار ويضعه في صحن على المائدة ثم يبدأ بانتزاع المسامير بالشوكة والسكين لكي يهنأ أخيراً بأكل الجلد. ثمة طفل يدعى شارلي شابلن...
ــ أمي، ما معنى أن تغني لأبي ولا تغني لي؟
ــ لم تعد صغيراً.
ــ وهل كان أبي صغيراً؟
ــ كان.
سنواتي مضمّخة بالرعب والبرد. من يؤرخ طفولة الفزاعات الخشبية؟ من يؤرخ أحزان شعب امتهن التسكع في الأقبية وفي أهداب الريح؟
- 5 -
وبدأتُ أرصد تحركات مؤرخ هرم، لأنني كنت أفكر في طريقة لاختطافه من القصر حيث كان يمنح رأسه، كل ليلة، لجارية حسناء تثقب ذاكرته بإبرة حادة ثم تُعيده إليه في طبق من الذهب.
تسلقتُ القصر ثم اختطفتُه وهربت به دون أن يشعر أحد، أو يشعر هو لأنه كان نائماً بعمق. أخذته إلى الساحل، حيث أسكن، ووضعته في إحدى العلب بقربي ولطمته على وجهه فصحا مذعوراً. صرختُ فيه: سجّلْ...
يوم السبت:
في السابعة صباحاً سأل صديقه عن كنْه العالم وابتكارات الولادة.
شجرة تلد شجرة، ماذا يعني المخاض؟
رسم حمامة بالطبشور ثم مشى خلف خطواته، وكلما التقي بأحد تفاجأ بالسؤال تلو السؤال. في الثانية ظهراً تنشق هواءً ملوثاً ودوّن حلماً جديداً وضعه في الصندوق مع الأحلام الكثيرة. في الساعة العاشرة ليلاً حاور المصنع الذي كان يبتز لحمه قطعة فقطعة. في الساعة العاشرة والنصف وُجد مطروحاً تحت آلة ثقيلة سحقت بقايا عظامه.
قالوا في أوراقهم الرسمية أن الحادث قضاء وقدر، ثم أغلقوا ملف القضية.. لكن الأم لم تغلق ملف القضية.
يوم الأثنين:
أنجبت الأم طفلاً آخر وعلّمته خفيةً كيف يصنع وردة. عرف أنها ليست للتسلية أو للزينة، عرف أنها ممنوعة. كان يرتحل معها إلى المناطق المحظورة ممتطياً صهوتها، يحدّثها طويلاً عن الخروج من قوانين النوم المألوف إلى شفة لغة ضارية تفتض تضاريس الأضرحة والعلاقات الواقفة.. تحدّثه عن النوافذ المعبأة بوهج الرعد الناهض بين وجه الوحشة ووجه الاغتراب.. يحدّثها عن انبهار الفقراء المرصوفين على ضفاف الإسفلت إذ يشاهدون فلول الأنهار والنهار يبزغ من كوةٍ في قبّة الوطن.. لكن ـ بغتةً ـ طفت حمحمة فرقة مكافحة الشغب ـ وهما يتحدثان مرّة ـ فأدركا أنهما مطوقان من جميع الجهات. لم يستغيثا بل راحا ينسجان من خيوط الحلم فتيلاً، أخذ يشتعل شرارةً بعد شرارة حتى انفجر، انبطحوا على الأرض وحين رفعوا رؤوسهم وجدوه جثة مبتسمة ولم يجدوا الوردة، غير أنهم سمعوا نحيبها العاصف.
فتحوا ملفّ القضية وتابعوا التحقيق.. لكن الأم أغلقت ملفّ القضية ومضت تنجب أطفالاً.
يوم الأحد:
نزل الساحة رجل شاهراً سيفه. نزل الساحة رجل شاهراً عينيه المنتفضتين. عندما صفقت الملكة معلنة بدء القتال، طار رأس الأعزل في الفراغ ثم ارتمى في حضن امرأة. وضعتْ المرأة الرأس في راحتيها وتمتمت: لا بأس يا ولدي؟
يوم الخميس:
سألتْ الزوجة زوجها: ماذا سنأكل اليوم؟ فتسلّق نخلة وأخذ حفنة من التمر، وحين نزل، قبض عليه الحراس وأمر مالك الأرض أن يُجلد حتى الموت. بينما هو يحتضر، جاءت امرأة وقبّلت جروحه ثم قبّلت شفتيه الجافتين وهمستْ: "سوف يذكرك الآخرون يا ولدي". عندما ذهبت، انبثقت من فمه نخلة شاهقة مليئة بالتمر.
يوم الجمعة:
قالت لابنها أن العالم معتم لأن الشمس معتقَلة في إحدى القلاع. حين ذهب إلى القلعة، عانقته الشمس، لكن رمحاً اخترق ظهره، ففغرت الشمس فمها وصرخت الأم.
يوم الأربعاء:
عصرتْ ثديها عدة مرات دون جدوى فألقمتْ طفلها الشاحب عود كبريت وخرجت تستعير ثدياً مليئاً بالحليب.
يوم الثلاثاء:
في فجر مبكر جداً اعتقلوا الطفل الشاحب وأودعوه في مكان لا اسم له ولا ملامح.
. . . . . . . . .
لم ألحظ من قبل مدى نحافة المؤرخ وارتجافه الدائم، الآن بدا لي أشبه بقشة تعوم في الهواء، منتظرة الوقوع ـ في أية لحظة ـ على قفاها لكي تتكسر. يقيناً لم أصادف حزناً أكثر طغياناً من هذا الحزن الطافح في جلده.
قلت له برقـّة:
ــ الحزن يهطل من عينيك مثل الرذاذ.
وضع رأسه بين كفيه:
ــ يا ولدي.. ماذا تتوقع أن يفعل رجل ظل دهراً في جيوب الخلفاء والمماليك ومازال، محشواً ولائم وأقمشة وعمارات. يُجلسني الخليفة قربه في مجلسه العامر.. يأمرني بالصمت فأصمت، يأمرني بالكلام فأمدح وأهجو.. أعني أكذب، وعندما ينفضّ المجلس يحلّ الخليفة قيودي غير المنظورة. عند عتبات المدن المسيّجة أنزف وأبكي متلهفاً لأنامل كشعاع تربت على كتفي وتقول لي "قم أيها الشيخ، لقد تعبت وآن لك أن ترتاح". شاطرتُ كل كائن أحزانه حتى فاضت وطفر بعضها لأنني ما وجدت في جسدي متسعاً لها.
حكيتُ له قصة الخادمة التي تزوجت النهر في يوم صيفي رائق وكانت مرتدية في ليلة عرسها سوطاً وكتاباً، وقصة السيد الذي كان منهمكاً في صنع مصيدة يستطيع أن يصطاد بها الشمس ويسلخ أشعتها الذهبية ويحولها إلى دخان تنفثه مصانعه.
قلت له:
ــ سأذهبُ، هل تودُ مرافقتي؟
ــ إلى أين؟
ــ لا أعرف.
استدار نحو البحر وحدّق فترة ثم قال:
ــ عجباً، كدتُ أنسى لونه.
ــ منْ؟
ــ البحر، ظننته مات.
سعل بشدة وارتجت أعضاؤه، قلت له مرة أخرى:
ــ سأذهب، هل تودّ مرافقتي؟
هزّ رأسه وهو ما زال يسعل:
ــ سأبقى هنا، أو ربما أجوب السواحل والقرى بحثاً عن الزنجي علي بن محمد، هذا الصديق الذي أساءوا إليه كثيراً منتحلين اسمي. آه كم أودّ أن أعرف أين ألقاه وكيف، لأشرح له كل شيء.. ربما يغفر لي أو يقتلني، الأمر سيان.
- 6 -
تخرج امرأة من فم سمكة. إنها تشبهك. جميلة مثلك، مجنونة مثلك. تفكر في تغيير عالم يحمل حقيبة جلدية ويتجول في محطات السكك الحديدية لعله يحصل على تذكرة مجانية. إنها حزينة لأنها تبحث عنه في كل مكان كي تثني عزمه لكنها لا تجده، فتجلس على قارعة الطريق وتروي حكايات خرافية عن جنيات البحر اللواتي عاشرتهن، والمارة لا يصدقونها، مع ذلك يقذفون قروشاً قليلة أمامها معتقدين أنها شحاذة. تذرع السهول والموانئ، تذرف الوهم. حتى البحارة لا يصدقون حكاياتها الخرافية عن جنيات البحر. كيف يتناسل الثلج في أصقاع وادٍ أجرب؟ الجنيات منجّمات كاذبات.
تخرج امرأة من فم نجمة. إنها تُشبهك. تسعى وراء رؤيا وهمية، تهدأ على حواف المحار تارة وتغطس في رمل متحرك تارة أخرى، لكنها تعود مع إطلالة الفجر كالعنقاء مسحورةً باللهفة لرؤية الأشياء في صورة أجمل.
أهجس بامتقاع وجهك حين يقتحم الأرق واجهة جبينكِ وأنتِ تفكرين بتغيير عالم يحمل حقيبة جلدية.
يا نجمتي البائسة أوقدي نضارة خصرك الضامر فأنتِ تزدادين نحافة وشحوباً. موغلٌ شعرك في الدفء، يغوي رغبات النساء الجافة.
ها قد انحرف مزاج الطاهي وطبخ عجينة سيأكلها وحده بنهم. انتبهي، هذا هو عشائي الأخير. أنشدي لي ترنيمة النوم الأبدي أو اهجريني.
تخرج امرأة من باب كهف وتدلف فوهة حرف، لا تعلم أن الحرف مثل الفرح يذوب في الماء، لذا تنمق وشاح خيالاتها الممشوقة وتتذكر بهجة الأيام الآتية، بينما يسقط الوشاح في الماء ويغرق.
تخرجين من شرج نحلة كالجرأة، رغم ذلك يباع العسل في الملاهي، رغم ذلك يبيعونكِ في الملاهي. وأنا أسمع رنين أحزانكِ، مكورة أحزانكِ تحت غشاء الشرايين.
صدرك شاسع ولدنٌ، يقترب من أنفي، من شفتي، ألتحم بأنوثتك وأغيب.. أتيه.. ثم أبكي لأني فقدت مصابيحي، ولأن البراءة تنسحق تحت القسوة الهادرة في عزلة طفل.
هذه روحي كانت في الحلم تسبح في الحقول وتستنشق السنابل لكنها اليوم تهذي محمومة وتحتضر. كان محظوراً عليها أن تسأل، أرادوا منها أن تتغنج تحت ملامسات سلاح ثقيل.
حين واجهني القتل غادرني الحلم وشهقت.
أرى قناديل مشتهاة توغل في خارطة جسدك. سأضيء دربكِ بمزاميري يا راعية ذات ملامح سماوية. لا تحبيني، بل لفيني في قماط وهدهديني كي أعود طفلاً ميتاً لا يرغب في الرؤية.. أو انحري نحري كي أزول مع غروب الريح السوداء.
أدركُ أن عضلات جسمي فضلات تتأفف منها العناكب، مع ذلك تمضغني ثم تلفظني في منفضة عتيقة مقيمة في حانة قاتمة. الهندسة تزيف الحديقة.. لهذا تبدو حدائقنا دميمة.
ينفجر الدم في الرأس إن مارست الأحداق مزيداً من الرؤية. يجب أن أفقد البصر، أن أفقأ عينيّ بسبابتي. آنئذٍ لن يلومني أحد، لأن ما يحدث لا يعنيني البتّة. سأكبح جماح التساؤل الذي يراود من يبصر. سوف تستكين الأشياء ولن تهتاج الصخرة أمامي. وعندما تكتسح العاصفة بئراً سوف أنأى بعيداً. لن يرغمني أحد على قراءة المستقبل، لأن عذري معي، فأنا أعمى، وهذا أطرف شيء في الحياة. إذا جاءتني قافلة تائهة سوف أورطها وأبتكر لها طرقاً غامضة. إذذّاك أضحك في داخلي من تخبطها في صومعة طرقاتي بدون مهارة. من لا يرى لا يحلم. هذا شأني.
هيا احرقيني على مهل، لكن قبل أن تفعلي ذلك، هاتي أصابعك وأسدلي جفني لعلي أنام فأنا متعب.. متعب
ــ أ. ص
ــ ها أنذا.
ــ أمك ستغني لك الآن، فلا تنم.
ــ أنا أصغي.
أغنية تدنو، أرنو إلى زورق يطفو تعتليه طيور النورس. تقول الأغنية: قديماً كان لنا بيت وشجرة.
تفرد النوارس أجنحتها وتطير، فأغدو ـ بعد أن غادرتني البهجة الممزوجة بالتعاسة ـ طفلاً يتمرغ في الذهول ويلامس أطراف هاوية ممتدة مثل إخطبوط في العراء. إنه العطش السرمدي الذي يهتك شفة الوطن، والوطن هو الوطن: إخصاب وقتل، مقايضة في غرفة القاضي في الطابق العاشر ـ عمارة الإمبريال ـ شارع التجار.
محموماً أتنقل من ضاحية إلى ضاحية لعلي أعثر على اسمي الذي علقته في ياقة قميصي وسرقه شخص ما ذات ليلة باردة، قد يكون شرطياً أو محصل ضرائب أو سفيراً فقد حقيبته الدبلوماسية وظن أن اسمي وثيقة سرية. قررت أن أرفع عريضة احتجاج إلى من يهمه الأمر، لكنني فكرت: إن ذهبت إلى الملكة ستأمر أتباعها بجلدي أو بمنحي جارية جميلة، إن ذهبت إلى القاضي سيأمر بمصادرة أملاكي ـ وهذا يعني جسدي ـ أو يفتح زجاجات الشمبانيا، إن ذهبت إلى المأذون سيحرر وثيقة عقد نكاح.
تقول الأغنية: قديماً كان لنا برتقال وغبطة.
أنا العطش السرمدي سأهتك شفة الوطن لعل حروفي تتهيج وتتدلى على قارعة الطريق مثل لعاب مرّ. أ. ص.. قادمٌ من وقتٍ رخو لا يقاوم السكينة، يحلم بوقت بلوري يقهر السكينة. لا بأس من اختلاق أحلام تتصدى لكوابيس صنعت في أوروبا خصيصاً لشعوب العالم الثالث.
أغدو طفلاً مصدوع الرأس يكتشف للوهلة الأولى: أن القناعة قناع يلبس وجوه الفقراء.
إذن كنت صغيراً عندما تمنيتُ أن أكبر لكي أحصل على:
.. ثياب بيضاء.
.. بحر لا يحتاج إلى بطاقة دعوة كي أدخل فيه ويدخل فيّ.
.. رغيف ليّن لا يعض لساني.
حدث أن استطالت قامتي دونما حذر، حيث تراءى لي أن في استطاعتي الآن لمس طفولتي والأشياء الصغيرة التي أرهقتني وأنا أركض وراءها عندما كنت صغيراً خافتَ الصوت. تراءى لي أن امرأة، لها رائحة ثدي عامر وإبطٍ مشرّع أمام جمع غفير من الأمنيات المفقودة: الحرية، الأمان، الحب، الصدق.. سوف تحتويني بين ثدييها.
قلتُ: حدث أن استطالت قامتي دونما حذر.
أذكرُ:
أمسكني الحزن من شعري واقحمني بعنف داخل غرفة لا تسعني. أوصد الأبواب وطفق يلهو في فراغ جسدي ثم ابتسم بفجور في وجهي "تقمصني".
فعلتُ وخرجتُ متجنباً رؤية المدرعات المنتشرة في أجزاء هذا الوطن المحتقن بلون الخفافيش، لأنني سأضحك أو أبتسم، وهذا يثير سخط الحزن الذي تقمصته منذ دقائق. محموماً أتنقل من ضاحية إلى ضاحية (حدث هذا عندما كنتُ صغيراً!) أستنجد بجبل يعصمني من الغرق ومن الخطأ.
قابلتُ رجلاً امتهن السرقة وكان يُقسم بشرفه أنه يسرق بيوت الأغنيـاء فقط ـ وأضاف ـ وهل أجد في جيوب العاطلين ما يستحق السرقة؟
استدرجني ـ وما زلت حزيناً ـ فمضينا إلى حانة لم نجد فيها مكاناً نجلس فيه أو نقف، ورغم ذلك وقفنا، تزاحمنا المناكب والأصوات الضاجة. طمأنني الرجل "سنشرب اليوم على حسابي". أومأت موافقاً وشربت خمراً محلياً، وتوهمت ساعتها أنني أدعى الفرح. رواد الحانة ضحكوا ثم بكوا ثم غنوا أغنية مخمورة.
غادرت الحانة بعد أن غافلت الرجل وكان مندمجاً في نقاش طويل مع آخر يشبهه، ربما كان يتحدث مع نفسه، لست متأكداً. أذكر أنني بعد برهة وجيزة رجعت إليه فوجدته يحتسي الخمر وحده، طلبت منه نقوداً لكي اشتري سندوتشا، فنظر إليّ بطرف عينه وأنكرني. قال: لا أعرفك يا رجل.. اذهب.
رجوته أن يعطيني بعض النقود لأنني جائع جداً، فأشفق عليّ وربت على كتفي:
ــ لا بأس يا رجل.. خذ، لكن أقسم بشرفي أني لا أعرفك ولم أرَ وجهك قبل الآن.
عندما غادرت الحانة ثانية، قررت أن أنتحر لأن الحياة استنفدت كل طاقاتي وصرت هشاً مثل عود قصب منخور، ودعتني ـ بعد ذلك ـ لمبارزة غير عادلة فلم ألبّ الدعوة وقلت بكبرياء إني أفضل الانتحار على الموت خنقاً كما يفعل الجبناء، وكنت على يقين تام من أن الحياة سوت تموت غيظاً بسبب شراستي الوقحة.
ليس أفضل من الصحراء مكاناً للموت المنفرد. كان معي حبل وضوضاء لهاثي ومرآة. كان جسد الصحراء أملساً مثل جلد أفعى بحيث كنت أستطيع أن أبصر خطواتي تنزلق وتتدحرج أمامي. وضعت المرآة أمامي كي أرى فيها موتي. انضغط الحبل قليلاً.. تأوهتُ، انضغط أكثر.. صرخت. أدخلت إصبعي بين الحبل والعنق. لقد شعرت بظمأ ذي شفرات حادة تمزق حلقي. تلفتّ حولي وما أبصرت سوى امتدادات الصحراء اللامتناهية، وانبلجت في الذاكرة المقدمة على الانتحار صور شتى.
صبيّة في رداء أبيض تفردُ يديها وتتقدم نحوي.. شعرها طويل، أسود كالليل. ابتسامتها بيضاء. تحتضن وجهي بين أصابعها الرقيقة الناعمة وتوشوش مثل حمامة: لماذا يا أخي؟
فلاح يتكئ فأسه على منكبه، يتجه نحوي.. يحدّق ملياً في وجهي ثم يخرج لفافة من سرواله ويشعلها، يضعها بين شفتي وهو يربت على صدري برفق.
يجيء أشخاص كثيرون. تجيء الفصول:
ــ الثورة آتية.
ــ الثورة؟
ــ عندما تمر من هنا وتجدك مسمراً هكذا مثل سلحفاة خشبية، ستلعنك.
ــ الثورة؟
ــ تزهو مع من يراقصها، تتلألأ مع من يتهجى اسمها.
لملمت الحبل والمرآة وعبرت جسد الصحراء وحيداً. ولجتُ المدينة الضاجة بالأحياء العمالية هاتفاً: "يا ثورة، لا أحد سوف يتهجى اسمك غيري". ما سمعني أحد، ما همني أحد.
. . . . . . . . .
انزويت في علبتي أصنع قنابل عديدة نسفت بها ـ في اليوم التالي ـ مخفراً، ولدهشتي فوجئت بأن العالم لم يتغير، والناس ما زالوا يسيرون في الشوارع ويتغذون الصمت الحنظلي وكأن شيئاً لم يحدث. انزويت مرة أخرى في علبتي ولم أصنع قنابل، بل جلست أفكر:
أولاً: لست وحدي الذي ينتظر الثورة، وهذه حقيقة علمية لم ينكرها لاعبو كرة القدم وعلماء الفضاء.
ثانياً: أجريت إحصائية للكلمات التي استخدمتها منذ ولوجي داخل هذا العالم وحتى الآن، فاكتشفت أن "الأنا" تكمن في كل صوت وإيماءة واختلاجة تصدر مني.
كان اكتشافي هذا مبهراً وعظيماً إلى درجة أنني بدأت أمارس التمارين السويدية بغبطة، وأركض هنا وهناك رافعاً كفي وفاتحاً صدري لجميع السائرين وهم حفاة أو بفردة حذاء.
عروقي نافرة أقحمها في الملاجئ والمخابئ، في الأحياء والمخيمات، شاهراً أوردتي المضمخة بالحلم، بإيقاعات الثورة. أبحث عن امرأة تكون سريراً وسقفاً وأكون لها ملعباً مليئاً بالحشائش. لكن امرأة عجوزاً سألتني عن الذي أبحث عنه فقلت لها مداعباً: "أبحث عن مرفأ للعشاق". أخذتني من يدي وذهبنا معاً إلى المرفأ، وكان غاصاً بأطفال يحملون حاجيات المسافرين والمهرّبين، همستْ العجوز في أذني: "أليس حراماً أن يشتغل الطفل عتالاً". قلت لها أن هذا حرام فعلاً، و إنني لا أبحث عن مرفأ للعشاق، بل كان ذلك مزحة بريئة فحسب، فغضبت العجوز ومشت صوب البحر. ركضت وراءها لكي أرى ما سوف تفعله، لكن المياه ابتلعتها ولم تسمح لها بصرخة استغاثة واحدة.
. . . . . . . . .
حين جاورت العلب المترامية على أطراف البحر الذي يهدر جائعاً، تساءلت: لماذا أسكن هذه العلب وهي لا تسع سوى رأسي؟
لم أنتظر رداً بل جلست على جبل مرتفع تحط عليه بين الحين والحين نسور عمياء.
ــ الكاميرا في حركة بانورامية تستعرض هوائيات التلفزيون المصلوبة على السطوح العالية.
ــ تثبت الكاميرا لمدة خمس ثوان عند إعلان بالنيون لسجائر "مارلبورو"، ثم بحركة مفاجئة وسريعة إلى أسفل (في لقطة عامة) نشاهد عمارة فخمة ذات عشرين طابقاً. ترتدّ الكاميرا إلى الخلف ببطء.
ــ لقطة عامة: العمارة ذاتها. في الزاوية اليسرى من الكادر، في الأسفل، بواب ضئيل الحجم، ملامحه غير واضحة.
ــ تتحرك الكاميرا إلى جهة اليمين.
ــ لقطات عامة: مزرعة صغيرة، طائرة نفاثة تخترق الفضاء، سوبر ماركت، بنك، بناية المحكمة العليا، دوائر حكومية، فندق، حديقة جميلة تتوسطها بركة سباحة.
ــ لقطة متوسطة: رجل رثُ الثياب يدخن لفافة وينظر إلى الحديقة من خلال السياج.
ــ مزج إلي: رجل ذي كرش تغطي عينيه نظارة سوداء كبيرة، يرتدي بذلة أنيقة، ينفث دخاناً ملتوياً من سيجاره الضخم. تقترب الكاميرا منه بتردد حتى تحصر وجهه في لقطة قريبة جداً.
ــ الرجل يقول: أملك عمارة ذات عشرين طابقاً. أملك زوجة مطيعة وسيارتين فخمتين. أملك بنتاً تلعب التنس جيداً، وابناً يعمل مديراً لفرع شركتي، وكلباً لا يحبُ أكل البطاطس. أملك آلاف الأسهم في العديد من الشركات والفنادق، أموالي استثمرها في أربعة بنوك كبرى. أملك بندقية صيد أوتوماتيكية أصطاد بها البط والأرانب واللصوص الذين يسرقون البصل والفلفل من مزرعتي.
حينذاك خشيتُ أن تفطن النسور العمياء، التي كانت تحوم فوق رأسي وبقربي، إلى وجودي المتطفل. اجتاحني جزع عنيف، فأسقطت المسافة التي تفصل الأرض عن فوهة الجبل، وفي الأسفل انحنيت على الأرض أشـمُ رائحة خطوات المؤرخ..
"أيها الشيخ الجليل، أين أنت؟ إنسخْ ممرات جسدي على خارطة أصابعك المتغضنة وافتح راحتك. دعني أتكسر، أتحلل، لكن أرجوك لا تنس أن هناك وطناً يركض عارياً في الطرقات يهدر والرماح تعبئ ظهره بالجراح.. خبئهُ بين دفتيّ كتابك وامنحه - امنحني رؤاك".
انحنيت على النهر أرسم خطاه.. قد يطفو، حينئذ أحمله بين ذراعيّ كالرغوة لكي يردّ اعتباره ويكذّب ما رواه عبر القرون بدافع الإرهاب والعجز.
- 7 -
قال الزقاق:
"في احتضار الطفولة لم أرَ سوى لون العباءات العتيقة، ذلك اللون الذي يخبو مثل بؤبؤ شحاذ يعاني من الرمد، وكنت أستجدي القطار القادم من الجنوب أن يأتيني بحزمة ألوان تشبه عيون بنت الجيران التي خاضتْ مستنقعات الضفادع وهدأتْ على ضفة العشب ترقب شهباً تصهل فوقها حمامات بيضاء، وتنتظرني.
مطرقاً أنتظر في المحطة القطار القادم من الجنوب. يراودني النعاس المعتق، وحين أغفو يتراءى لي أنّ القطار عبر فوق جسدي فأجفل وأسأل السكة: هل مرت قافلة من الثلج هودجها ارتعاشة عباد شمس وغضارة نهر بكر؟
لكن السكة تطوحني إلى غرفة الانتظار، أجرع الوقت وأقلع.
عندما قطفت ـ في الرؤيا ـ قبلة من عيني بنت الجيران، دلف القطار ـ في الرؤيا ـ داخل رأسي، وتقدم صوب حقيبتي الجلدية واضعاً حزمة الألوان فيها. في غمرة فرحي نسيت أن قاع حقيبتي مكتظ بالثقوب، فتسربت الألوان ثم هوت على الأرض وكان صوت انكسارها مروعاً.
شعرت بفداحة الإثم الذي ارتكبته، انكفأت في شرنقة الخيبة حيث مسحوق الرمل يدق ثغري، كأنه يرجمني. فجأة تعرّى النهار فسطعت للحظةٍ ألوان عديدة تشبه ألوان عينيّ بنت الجيران، فعرفت من العرّافين أن هذا الشيء يدعي قوس قزح، وفكرت: حتماً سيتعرى النهار يوماً، وإذا لم يفعل سوف يهترئ من القذارة".
قال الزقاق هذا وصمت، فحدثته عن عائلة جائعة كانت تنتظر نعجة، وبعد عدة سنوات أقبلت النعجة، طرقت الباب ثـم دخلت دون اســـتئذان وصاحت: "ها أنذا". لكن العائلة لم تتعرف عليها وطردتها.
ظل الزقاق جالساً يسوق سرب الترقب والتحديق من ثقب الباب لعل النهار يتعرى، وأنا مشيت.
صادفت الحبّ عند سفح الجبل ـ الذي تحط عليه بين الحين والحين نسور عمياء - وهو يهشم رأسه الصغير بحجارة مسننة: "يكفي أن أجد عاشقين يتواريان خلف ظل الجنون.. يكفي هذا".
يقول الحب:
"سوف أحكي.. اعتصمت الفتاة بأجفاني وأجهشت: حبيبي استدعاه الحرس مرة ليضيء قناديل الحرب. والحرب لم تهادنه بل أسدلت فوق جثمانه البائس وسام البطولة.. هكذا قالوا. ومرّة قبع حبيبي إزاء نافذتي الموصدة، يمتشق حربة ويستسقي من ضياء وجهي المبتلّ بالندى. أومأت إلى الرداء الحديدي الذي يفصلنا، سدّد حربته لكنها انكسرت، فقد كان الغبار يعلوها والصدأ. طفق يبكي. أسريتُ عبر نسغ الواحات، قلتُ، في أصداف البحر تكمن حربة تلتهب في ظل المساء، وعندما عرّجت عائدةً، وجدت ظله لكني لم أجده.
يقول الحب: لا مكان لي هنا.
وضعته على كتفي واخترقنا معاً دغلاً. طلبت منه أن ينظر، فنظر ورأى جبلاً يتوهج بلون غابة مليئة بالأشجار والبراعم الخضراء. قال: "أرى فتاة تركض هاربة، وانفجارات، وصوت طائرة هليكوبتر، وبقرة مبتورة الساقين، ورجلاً جريحاً. أرى فتاة تحتضن بندقية، وعشيقها يحتضن بندقية، وسبورة سوداء، وأطفالاً يقرأون وعلى أكتافهم بنادق. أرى الفتاة تطلق رصاصة. أرى المليشيا".
امتلأ غبطة فصار ثقيلاً، أنزلته. أراد أن يذهب ناحية الجبل فأمسكته وأخبرته أن مكانه هنا رغم كل شيء، فهزّ رأسه: "ما أجمل العاشقة حين تلوّح بالبندقية". وأخذ يجري صوب الأزقة.
نعم، ما أجمل العاشقة. لولا التخوم ومكاتب خفر السواحل، لكنت هناك.
والمطر ـ هنا ـ يهوي حاملاً غباراً ورائحة لا تُشبه رائحة الماء.
. . . . . . . . .
صوت يصرخ في أعصاب قبيلة مغمورة في قنينة:
"لو كان الجوع عبوة ناسفة لأكلتها. لو كان الخوف بطانية لمزقتها ونمت مغتماً في العراء مع أرملة مهجورة. إذا كان الزمن فرساً خشبية يمتطيها إمبراطور معتوه، فينبغي أن نقتاد الإمبراطور ـ معصوب العينين ـ إلى جبّ يرشقه بالنزع الأول والثاني والأخير، ونلوي عنق الزمن المائل كالخرقة حتى يصير خفاً طيعاً في أرجل الفقراء. ونفتح شرخاً في الغيوم الممصوصة لكي ينهمر المطر مفعماً برائحة تشبه رائحة الماء".
الماء.. هتفتُ. خطر لي أن أمكث في صحراء خرساء أرقب عن كثب مجرى الدمعة المستديرة وهي تجوب أسمدة النخلة المرهقة من الوقوف، منتعلة نهراً قاحلاً يعاشر صرير الأرض، غير أني ارتميت على الرمل محدّقاً في الماء، وكان فوقي لا ينحدر.
مهموماً أشكر العلف المرصوف بعناية فوق مائدة قروي.. ينهض القروي ويستدير نحو الباب، يتحرى إن كان ثمة أحد، يعود وهو يردف خلفه صديقه الحدّاد. يجلسان ويلعبان الورق.
أتمدد على القش وأغفو ساعتين. ما زالا يلعبان صامتين. النجوم في الخارج تعتمر السماء، والريح تجمح في معاطف اليوم، ترتدّ حيث الرجلان يناوشانها بالصمت، إذ لم تعد اللغة المعلبة مجدية في مثل هذه الحالات. بعد ذلك يخرج الاثنان. أترك العلف في مكانه وأخرج خلفهما، لكنهما يغيبان.
يا وطني..
ها هي عروقي المتقوسة.. يا وطني.
والماء ـ هتفتُ ـ كان فوقي. بنيت من جسدي سلماً ارتقيته، بارزتُ الحراس ثم نزلت متكئاً على جرحي الذي أسرع ووضعني في الباص طالباً من السائق أن يوصلني إلى فندق من الدرجة العاشرة، كان نزلاؤه يهربون في الفجر من النافذة.
قال صاحب الفندق: ادفع مقدماً.
فقلت: لا لن أدفع، فأنا محترم وجريح أيضاً.
سألني عن الجرح فقلت له إنه هو الذي أوصلني.
قال: هل أستدعي طبيباً؟
قلت: نعم.
فاستدعى شرطياً.
قلت للشرطي: لقد تركتُ جرحي في مكان ما، لا أعرف أين.
. . . . . .
حين فتحت عينيّ، ألفيت نفسي ممدداً على بساط خشن، وبقربي تجثو امرأة لا أعرفها، تنظر إليّ. غامرت وأسريت في عينيها، فما صدني الرمش ولا دمع العين.
مثل فارس متكبر تقدمت ـ حين فتحتْ هي بكارتها ـ واتّقدتُ. أردت أن أسألها: من أنت، و أين أنا، و لمَ أنا هنا؟ لكنني فضّلتُ أن أنتظر ريثما أستفزُ ذاكرتي وأعرف منها ماذا حدث. بعد فترة عرفت أن ثعباناً لدغني وقذفني بعيداً، فصار الرمل ينهب دمي بشراهة، والشمس تهتك جلدي، وأنا مأخوذ بالهذيان تطوقني شرانق الهلوسة. أنقذتني هذه الراعية المتحدة بالصحراء منذ الولادة، وحملتني إلى خيمتها، ومصّتْ السمّ وبصقتْ السم، ثم جلست بقربي ساعات طويلة ترقب صحوي، وما صحوتُ بل لذتُ بمدارات الهذيان، أغمس تعبي في عروق البحر وأخاطب الأنوثة، أتشهى ثمر الأنوثة، وما ذكرت اسم الوطن حتى حضرت الأنثى ولفتني بالدمع وألقمتني ثديها الموشّى بالدفء والعذوبة، وانتصب جذعها المكتظ بالأثمار. قلت: إنها البهجة والتحوّل الزاخر في آن. وحين احتضنتني، رأيت أوساخي تتسلل وتغادر أصابعي، وعدتُ نقياً أتلألأ في صدر الخيمة.
مثقلاً بالتعب كنتُ، وها هي سفينتي، سأهدأ على صاريتها وأبتكر ريحاً لا تتقن الشراسة.
نهضتْ الراعية وأحضرت لبناً، شربته، بينما كانت ترمقني بنظراتٍ رؤوفة، ثم نهضتْ ثانية وغادرت الخيمة. قاومت أوجاعي وخرجت بدوري من الخيمة. رأيتها جالسة على ربوة تحدّق في الأفق المتسع. دنوت منها فالتفتت صوبي وابتسمت ثم عادت تحدق مرة أخرى.
يا امرأة بريّة أنا مهموم وأحزاني أكثر فتكاً من لدغة الثعبان. مشيت على النار والشوك، لا ماء يحميني ولا حضن يدفئني. أمطر نحيباً كلما تذكرت وطني، فأنا ملعون بالفراق. يعدني الشوق باللقاء ولا يتم اللقاء. سأبتكر بحراً وأضع رأسي في مقدمة سفينتي قرباناً، ربما أجد وطني، ربما يجدني وطني، ربما أصير طائراً من ضوء مشحوناً بالجرأة والمجازفة.
مغرمٌ بالتواصل أنا. ومرغم على الانحدار في متاهات الفراق. تتأجج في ذاكرتي اللقاءات الأولى، ورعشة الجسد الأولى، فأنبش التراب وأنهش الذاكرة لعلي أنسى أني بلا بيت ولا سفن ولا عنب.
يا عناقيدي الحلوة، هل رأيتنّ فارساً مطعوناً، في جبهته بذور تشتهي اللقاح؟ هل سمعتنّ وقواقاً ينقر الثلج ويستخرج النبيذ للشجرة الطافحة بالفواكه؟ هل شممتن رائحة سفينة تدور حول نفسها بحثاً عن سيدها؟
يا عناقيدي الحلوة، أما آن لي أن أضطجع تحت ظلك وأحدثك عن هذه الأشياء؟
يا سيدة الصحراء والخيام، سأحدثك عن الأنوثة التي أجهلها بينما أتمرأى في رذاذ نهديك وأروّض فخذيك الجامحين.. وأنام.
- 8 -
والإمبراطور نسي أن جيوبه مليئة بالنفط فراح يفتش عن النفط، وأنا رحت أفتش عن الماء.. اصطدمنا. أمر رجاله بأن يبعدوني عن طريقه فأبعدوني. وأخذت أتأمله وهو يأمر رجاله بأن يفتشوا الأرض. انحنوا جميعاً وهم يفتشون ثم تعبوا. جلس الإمبراطور على عرشه وأمر رجاله بأن يقتلعوا الأرض حتى يتسنى لهم أن يفتشوها على مهل.. بحضور الخبراء والجنرالات والـ سي. آي. إي .
* صاحب الجلالة، كم مرة حاولوا تصفيتكم؟
ـ رسمياً مرتين، وبعد ذلك، الله أعلم. لكن ما معنى
ذلك؟ أنا لا أعيش تحت شعور أني سأموت اغتيالاً.
أنا مقتنع أنه لن يحدث لي شيء حتى أتمم
رسالتي. نعم سأبقى حياً إلى أن أقوم بما يجب
عليّ تحقيقه. وهذا اليوم حدّده الله، وليس أولئك
الذين يريدون قتلي .
* من النادر رؤية ابتسامة على وجهكم. إذن أنتم لا
تضحكون أبداً يا صاحب الجلالة؟
ـ أضحك فقط عندما يحدث ما يضحكني فعلاً. وهذا
ما يحدث نادراً. أنا ملك قبل أن أكون رجلاً.
* إنكم يا صاحب الجلالة تشعرون بالعزلة الرهيبة.
ـ لا أنكر عزلتي.. إنها عميقة. عزلة ملك لا ينبغي
عليه تقديم حساب لأحد حول ما يقوله وما
يفعله. مع ذلك فأنا لست وحيداً تماماً، فهناك
قوة ترافقني لا يراها الآخرون.. إنها قوتي
الصوفية، وأنا أتلقى إيحاءات دينية. فأنا متدين
جداً، أؤمن بالله، ودائماً أقول إذا كان الله غير
موجود فلا بدّ من اختراعه. آه كم أتألم لأجل أولئك
الذين لا إله عندهم. أنا لا أستطيع العيش بدون
الله. إني أعيش مع الله منذ سن الخامسة. أي
منذ أن منحني الله رؤاه.
* رؤى، يا صاحب الجلالة؟
ـ كل الناس يعرفون أنني أتلقـى الوحـي. رأيت
رؤيتين وأنا طفل. رؤاي كانت معجزات أنقذت
البلاد وتنقذها لأن الله في جانبي. وفي غضون
15 عاماً لم أرَ سوى حلمين لا غير.
* أية أحلام يا صاحب الجلالة؟
ـ أحلام دينية، مرتكزة على صوفيتي. أحلام أرى
خلالها ما سيحدث بعد شهرين أو ثلاثة شهور. لا
أستطيع أن أقول لكم ما رأيت في أحلامي.. إنها
تتعلق بقضايا داخلية، لذا فهي من أسرار الدولة.
* جئت لأتحدث معكم عن النفط وبلدكم وعن
شخصكم وعــن نسائكم.. الزواج والطلاق.. هل
كان طلاقكم مأساة يا صاحب الجلالة؟
ـ المشاعر الشخصية لا قيمة لها عند الملك.
فالملك لا يبكي أبداً.. لا يحق له ذلك. إنه يفكر أولاً
بواجبه ـ لا أحد يستطيع التأثير عليّ. لا أحد، ولا
حتى امرأة. في حياة الرجل لا قيمة للنساء إلا إذا
كن جميلات، فاتنات، محافظات على أنوثتهن. لم
يظهر أبداً من النساء مايكل أنجلو أو باخ ولا حتى
طباخ كبير. وتتذرع المرأة بالظروف، وأنا أسألها
هل حالت الظروف دون أن تعطي النساء
للبشرية طباخة شهيرة وكبيرة؟ إن النساء لم
تعط أبداً شيئاً له قيمة. النساء ماكرات وسيئات..
كلهن..
ـ وثيقة ـ
يا قاتلي.. خذ قميصي وانسجه حزام عفّة للملكة الهرمة، فأنا ارتديت اللهفة منذ عاشرتُ السؤال المستحيل عند فوهة المتاهة، منذ استفاقت زهرة الجنون لحظة همدت لغة السكون، منذ نصبت البرق الفائر في القلب الفاتر. أذكر يا قاتلي كيف وضعتني في مأتم ناحت فيه كلابك البوليسية المتخمة، وكيف أدخلتني قفص السيرك وجعلت الوفود تضحك عندما ألبستني زي البلاهة والمجون. أذكر كيف كنت أهفو لرؤية أوراق الشجر تزهر في جبيني وتزهو.
هذا زمن الأفران إن كنت لا تعلم. هل ترى ذلك الكوخ الموءود عند مشارف الهضبة؟ هناك حدّاد يقرأ رأس المال، وقروي يصنع حدوة لحصان دوستويفسكي.
. . . . . . . . .
أذكر حكاية جدتي التي لم أرها قط، والقط كان نائماً وقتئذٍ:
"كان يا ما كان، في بقعة من الزمان، اثنان يتشاجران، فأحضرا إلى السلطان، قال الأول للسلطان: أريد أن أقتلك بطريقتي الخاصة. قال الثاني للسلطان: أريد أن أقتلك بطريقتي الخاصة. ضحك السلطان ثم قذف بهما داخل زنزانة، وتركهما يتشاجران".
وتركتني الصغيرة رغم أنها اعترفت لي بأنها تحبني جداً وترغب في رؤيتي جداً، لكن أهلها أرغموها على أن تقطع علاقتها بي، لأني ـ كما زعموا ـ مغرم بالطيور، وهذه العلاقة الحميمة ـ بيني وبين الطيور ـ تدعو إلى الريبة.
انفعلتُ وصرختُ: هل تقصدين أني أضاجع هذه الطيور المسكينة؟
قالوا بدون انفعال: لا.. لكننا لا نفخر بأن تكون واحداً من عائلتنا.
امتلأتُ حنقاً وبدأ الباب يدنو مني بتوءدة حتى دخلني، فوجدت نفسي أمام شحاذة تهز أردافها. قلت لها: أوقدي لهباً في جسدي المتعب إن كنت تستطيعين.
قالت: أنت أحمق.
أخذتها بين أحضاني الشبقة مرتكباً الحماقة، لأنها كانت قطعة من الخشب البارد. في آخر الليل دلفنا إلى خرابة معتمة. جلست في زاوية وهي في زاوية، تصيخ السمع إلى هدأة الليل يتخللها بين الحين والحين نقيق ضفادع. فجأة أجهشتْ في البكاء ولم تتوقف. وطفقت أرقبها ساعات، يراودني شعور بأنها والحزن توأمان. وها هي تتلاشى رويداً رويداً وتجردني من ثياب الصمت، لتعلّق في مقلتيّ شارتيّ الفجأة والدهشة: لقد ضاجعت الحزن ولم أدرِ.
ثم انزلقت في النوم فاغراً وجهي.
جميل بيتنا الواقف عند منبع النهر، تكسوه حديقة صغيرة فيها شجرة واحدة تثمر برتقالاً. الأفق يتسلل عبر الجدار ويلعب مع أختي الصغيرة، أبي يرشق الزنابير ويداعب صدغ أمي. الليل المفعم برائحة برتقالة ندية يلهو مع السلاحف. تنتشي الظلال وهي تُرهف السمع لحكايات الجدة. الأمسيات الساهرة، أنا والحبيبة والعائلة نشرب العصير. صدر الحبيبة وسادة وعيناها قمح ورداء. تشايكوفسكي يعزف بعد العشاء الكونشرتو الأول ثم يرقص مع البجع في البحيرة....
(حلم)
طلع الفجر، نام القط، والعصفور يجر ساقيه المخضّبتين بالدم ويشهق في كل خطوة. كان جناحاه عينين مشطورتين إلى نصفين، كل نصف يتحول إلى شظايا، والشظية تتكسر، والانكسار له وقع مروع كفرقعة جمجمة طفل.
إلى أين؟.. تخاطبك الموجة المتوهجة في كبد الفجر، ويخاطبك سعال رضيع أخذوا أمه ولم يأخذوه معها. وإن سُئلت مرة: إلى أين؟ قل: مكان أموت فيه كما يموت الثائر.. يحتضن شجرة ويلتصق بها ثم يموت.
طلع الفجر، نام القط، والعصفور عاد بعد أن ضمّد جراحه. مشيت خلفه. وصل عند النقطة التي تتقاطع فيها الطرق.
* لماذا أنت هنا في هذه المنطقة؟
ـ أنا محارب محترف. عملت في الهند وبورما
وجنوب أفريقيا والصومال ومقديشو وليبيا. وأنا
اليوم هنا.. هذه هي مهمتي. أنا مثل البضاعة
المعروضة في السوق. فأنا كمقاتل محترف
مستعدّ للخدمة مقابل أجر. وعندما عرض عليّ
المجيء إلى هنا قبلت ذلك بكل ترحاب.
* ما الفرق بينكم وبين المرتزقة؟
ــ هناك بعض الفروق. لقد كانت كلمة مرتزقة
مرادفة للجندي الذي لا ينتمي رسمياً إلى بلد ما
ويحارب بالأجر، أما الآن فقد اكتسبت كلمة
مرتزقة معنى مقبولاً، وهو أن المرتزق ضابط معار
من حكومته إلى حكومة أخرى، وهذا هو وضعنا.
* ماذا تفتقد هنا؟
ــ النساء.
* وما هي اهتماماتك الآن؟
ـ إنني مستقلّ تماماً، وأستطيع أن أمارس ما يحلو
لي، وأنا أعمل هنا ما اشتهيه، وأشبع رغبتي
في المغامرة وفي الأعمال العنيفة.
(وثيقة)
عدوت باحثاً عن المؤرخ، لمحته مستلقياً على ظهره فوق موجة وبقربه يقف طفل. حين وصلت كان قد لفظ آخر أنفاسه. حملته الموجة برفق ونعومة وسارت به نحو البحر الفسيح. التفت إليّ الطفل وقال: حذرني من النوم في الأدراج.
نظرت إليه ملياً: هل تسجل؟
(لبس الحذاء ممنوع. الخروج إلى الشوارع بعد الغروب بدون فانوس ممنوع. التجول مساء ممنوع. التدخين ممنوع. القراءة ممنوعة. التدخل في السياسة ممنوع. بناء المستشفيات ممنوع. استعمال النظارات الطبية والشمسية ممنوع. دخول الصحف ممنوع. بناء المدارس ممنوع. استخدام التيار الكهربائي ممنوع. سماع الموسيقى ممنوع. مسك القلم خطيئة دينية. بناء منزل أو امتلاك راديو أو دراجة نارية أو شراء علبة متوسطة من السمن النباتي أو صيد الأسماك لا يتم إلا بأذن خطي)
(مرسوم)
* * *
الشتاء جالس على الرصيف يحتسي النبيذ. يصمت فترة ويثرثر فترة. سألته وأنا أُشير إلى مقهى قريب: أليس من الأفضل أن نجلس هناك؟
هزّ رأسه: لا.
جلست بقربه فوضع رأسه على كتفي وغفا دقائق. قال:دخان. ثم رسم على الأرض بغصن صغير عدة دوائر وأقواس. قلت: زهرة. رفع الغصن ورسم في الهواء خطوطاً مستقيمة ومثلثات وانحناءات. قال: ثورة.
- 9 -
ذات صباح مفعم بالطراوة اقتادتني دورية الأمن إلى المخفر دون أن توضح سبباً وجيهاً لاعتقالي. بعد ربع ساعة أحالوني للتحقيق. قدموا لي شاياً وسيجارة.
أحاطني المحقّق بذراعه وفحّ في أذني:
ــ هل تعرف علي بن محمد؟
ــ قائد الزنج؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يبتسم.
لولا خشيتي من حرماني الشاي والسيجارة، لأخبرته بأن ابتسامة شدقيه تخيفني بعض الشيء.
ــ أعرفه.
(أتخيله بسرواله المنقوع بالزيت والإسمنت واقفاً وعيناه تومضان، في قرارتهما العديد من أطفال الحي. كان يحب الأطفال، ودائماً يحلم بتبني عدد كبير منهم. كان يصطحبهم حيناً في زورقه الصغير، وحيناً يحدثهم عن غزواته في الزمن الغابر. أجلس معه في غرفته الضيقة المنحسر عنها الضوء، ملتفاً ببطانية، يحتويني بنظراته ويخترقني. يقول: "في الداخل يهجع النخيل، وفي الخارج الكواكب مثقلة بخطى عمال يشتغلون 24 ساعة في اليوم". أفتح علبة سردين. يقول: "أخاف المعلبات، أتوقع دائماً أن أجد طفلاً مطموراً في إحدى هذه العلب".
في الخامسة صباحاً يعرض نفسه لشاحنات المقاولين "ألا تستأجرني لمدة ساعتين؟". لكن الشاحنات تتجاوزه. أجد ظلّه راقداً على السرير يرتجف. ألاحظ شحوب وجهه، والومض المعهود في مقلتيه قد نضب.
نخرج معاً. اعتاد أن يستبيح نفسه لذرات الهواء ومراوغات الأزقة. عروقه تتفصد حين يشاهد غدارات النيون والناطحات مصوّبة ـ من بعيد ـ نحو صدره، لكنه يمشي ولا يتعثّر. ينتضي أصابعه، يرفعها عالياً: "اتشحنا بالأخطاء، فباغتتنا المعتقلات")
ــ ماذا كنت تفعل في الأحياء العمالية؟
ــ علي يسكن هناك.
(يتجول هناك وئيداً وئيداً يعاشر عفوية الأطفال. يتسامق وهم حوله، ومع انفراج المدّ ينحدر.. يرتوي من انتشاء المد. أقرأ في وجهه موته الألف.. ألف حربة أضاءت جراحه وما يزال ندياً مثل يمامة مبللة بالحنين، وما يزال يحاور الموت المقبل، البعث المقبل، في أرض غضّة تتعاطى الفرح. يثب فوق الصخور الناتئة حافي القدمين "آه يا شعباً غيّبه الأعداء في لّجة التوقعات".
يدقُ النوافذ فتطلُ وجوه داكنة:
ــ ولدي مصاب بالحمّى. غداً سوف يموت لأن علاجه مكلف.
ــ زوجتي تصقل مرايا القصر النائي. سيدة القصر تضربها كل يوم بالخيزران. حتى الآن لم تأت.. إنها نحيفة جداً.
ــ أبي كسيح. البارحة بترت يده وهو يعمل. أنا خائفة.
ــ جارتي سكبت البنزين على نفسها ثم أشعلت النار. احترق كوخها.
ــ زوجي خرج عارياً بعد أن قال لي إن هذا زمن الانعتاق، صرخ في وسط الحي، قالوا إنه مجنون.. كان هادئاً طوال حياته. أنت تعرفه، هل كان مجنوناً؟
ــ القانون فتش البيت بحثاً عن قصاصات أوراق وكتب. اعتقل ابني مع زوجته وأطفاله. بعد قليل سأذهب إلى السوق لكي أشحذ أو تدهمني سيارة، فأنا ضرير كما ترى.
النافذة الأخيرة قالت: أنا بخير. بعد هنيهة سقطت على الأرض وتحطمت.
شعرت بلسان المحقّق في أذني، فاقشعر بدني:
ــ كل شيء واضح، ما عدا شيء واحد.. أين هو؟
ــ إنه هناك.. يسكن هناك.
نظر في وجهي برهة، وبالرغم من أنه كان يبتسم إلا أنّ الخوف بدأ يغشاني.
ــ بحثنا عنه لكننا لم نجده، هل بإمكانك مساعدتنا في العثور عليه؟
احتميت بالرعشة التي اجتاحتني في تلك اللحظة. قوّس المحقق ظهره وتحفز للانقضاض، فتقهقرت إلى الوراء غريزياً.
ــ ما عدت أراه في الآونة الأخيرة. كنت أحياناً أنتظره في غرفته حتى الصباح دون أن يأتي.. لا أعرف أين هو.
هوت صفعة مدوية على صدغي طرحتني أرضاً. تلقيت ركلة عنيفة في خاصرتي. صرخت..
(صرخ علي بن محمد حين أبصر ـ مصعوقاً ـ الجثث عقب مظاهرة سلمية. انطلق إلى غرفته وأخرج من الصندوق القديم سيفه الملتهب الذي زعق حالما ولج الطرقات: كيف يحاربون طواحين الهواء والأفاعي رابضة في شقوق الأجساد؟
أيقظ الجثث المهشمة وشرّع الرايات. إنها الحرب وليست الغفوة. عليّ وشم موته في ألف راية تترقب راية قادمة من الجنوب. البعث في النهر وليس في الوهم.. علي يصرخ)
رجلاي معلقتان بحبل من مروحة سقف، وجسدي يتدلى. رأسي يكاد يلامس الأرض. سياط وهراوات ولكمات تنهال على جسدي كله. الدم ينهمر من أنفي وفمي وظهري، يلطخ المرئيات، لا أرى سوى خيوط وبقع حمراء.
أبكي؟ كيف؟
احضنيني يا امرأة تعبي في هذه الصحراء الدامية، قبليني، مرغي شفتيك في مسامي. ألمٌ ينوح في أضلعي ويتشنج. اشهقي وتذكري حبيباً جاء من التخوم المستباحة فارداً ذراعيه، عابراً المناطق النارية هاتفاً باسمك. أنثري زنديك ودعيني أنام.
ــ أ. ص
ــ أنا منهكٌ يا أمي.. منهك.. منهك.
الزنزانة خالية لا سماء فيها، تتسع وتتسع. تصير خزانة كبيرة تسع أكثر من مليون عربي. جعلتُ الزنزانة تقويماً للأعوام التي سوف تأتي لزيارتي ثم تمضي لأنني لا أستطيع تمييزها، إذ أن الأيام سوف تتشابه وتصبحُ مثل وجه الحارس المألوف والطعام المألوف. هكذا غادرني التقويم ولم أنتبه, ثم انتبهت ولم اهتم. وقبعت في زاويتي ارقب شبح ظل يتمادى في الاختباء.. أتكهن بأنّ هذا الشبح سجين مذعور مثلي يتوقع فضلات الشرطة. هممت بأن أناديه لكي يبدّد معي سحنة الوحشة الغريبة, لكنني تراجعت لأن هذا زمن الهفوات.. ربما يكون وهْماً فأعاقب بالجلْد.
استدعاني المحقق في العتمة وكرّر السؤال: أين علي بن محمد؟ لم أنبس, لقد كان ظهري عرضة للحرق والجلد. وجهي جرح كبير يسقط من الإعياء. أتخثر، يغرزون مخالبهم في كتفي ويجروني إلى الزنزانة فاقداً الحواسّ الخمس, وعلى الخيش استسلمت لآلام ظلت تطعنني حتى يوم آخر..
وبدأت أخطط للهرب.
. . . . . . . . .
لحظة فاجأني النهار بهتُ ثم فغرت صدري واحتويت النهار ومشيت خبباً.
ها أنذا أتغلغل في معادلات الأشياء الصعبة: يقيناً لن أُصبح حراً طالما أن المؤسسات الراهنة قائمة. وأقول: لتكن الشجرة ومْضاً، والعالم جناحاً يخفق فوق مدارات الأحياء الفقيرة, ويشتعل في قلب كل عاشق مشتاق. وأقول: لتكن ذرّاتي ريحاً تحوم حول الأكواخ وتمتزج بعروق ساكنيها، نتعلم أسرار الأزهار ونتقن لغة الشهداء.
( .. هذا, وقد ذكر الطبيب في تقريره, أنّ وفــاة المدعو أ. ص ليست طبيعية, إذ أنها نجمت عن تناوله كمية كبيرة من حامض الكبريت. وهذا يؤكد شكوكنا من أن المدعو أ. ص قد انتحر نتيجة احباطات نفسية)
(وكالة أنباء)
وأمي الضريرة، الحُبلى بأشجان لا تحصى، ارتدت ثوباً أحمر وتوكأت الليل الداجن، ثم انسلّت بوهن في ردهات القلق والجزع, تنزح عبر ساحات الفجيعة تلعن قسوة العالم وتنتحب:
"قلبي الذي كان نزهة وردية أضحى أنقاضاً و هياكل".
صاحت بالأفراد الذين كان يمتطيهم الخوف وينخس بطونهم على عجل: "اجمحوا يا من روّضكم الخوف وتعالوا لكي أسألكم عن ولد شقي ذهب يلعب مع الصبْية عند الأصيل ولم يعد. أوصافه تشبه أوصاف أفق مجهول: عيناه رصاصيتان، شفتاه مثل الكرز الأصفر، صدره مشطور وعلى ركبته اليمنى أثر جرح غائر مثل نبع بكر. يفرح في اليوم ساعة وفي بقية الساعات يكتئب ويصبح مغارة يفيض منها الدمع سيولاً. يحبُ سمراء رآها في الحلم مرة فحملها في الذاكرة وراح يتجول معها في أقاليم البهجة والكآبة. يكره كل طعام لم يذق طعمه. ينام عندما تغرب الشمس ويصحو عندما تغرب الشمس. أصابع رجله مفلطحة وخشنة منذ الصغر، إذ كان في عامه الثامن عندما خرج يبحث عن عمل، وفي التاسعة من عمره اشتغل زبالاً، لذا هو يجهل لعب الأطفال وركوب الدراجة ذات العجلات الثلاث.
إذا وجدتم فتى تنطبق عليه هذه الأوصاف، أخبروه بأن أمّه تبحث عنه منذ زمن".
بعد طواف طويل خرّت عند ناصية شارع تحفّ بها سيارات وحصى وأشخاص تجرهم بغال خاملة.
. . . . . . . . .
كانت المتاجر ومحلات الفطائر وصالونات الحلاقة تدور حولي وتلفني في دوامة التيه، تطالع وجهي لحظة ثم تتركني، والشارع المبلّط يجري تحت قدميّ. أقف عند دكان بائع سجائر والتقط أعقاب السجائر.
لمحت الشتاء يبزغ من المنعطف ويهرول نحوي لاهثاً وواضعاً يده على قلبه الخافق.
ــ أمك ترقد في مستشفى للأمراض العصبية.
ــ ماذا أصابها؟
- ينبغي زيارتها.
وأنا في طريقي إلى المستشفى تذكّرت شخصاً شهد الجميع بأنه مواطن مثالي، وحين طلبوه للخدمة العسكرية، وافق برحابة صدر وبابتسامة واثقة عريضة رسمها بدقّة. وضعوه في الخطوط الأمامية بعد أن أقنعوه أن العدو ضعيف ضعف أسماك سُحب من تحتها الماء.
قال له القائد: هل تحسن إطلاق النار؟
أجاب: لا.
زمجر القائد وشتمه بكلمات بذيئة ثم أمره بأن ينتظر. حين جاءته رصاصة مسنونة نظر إليها في رعب ولم يستطع أن يمنعها من الولوج في قلبه. التفت إلى القائد الذي كان منهمكاً في حديث مع مراسلة تليفزيونية.
* ما هي مهمتكم الأساسية في هذه القاعدة؟
ـ مهمتنا صعبة جداً لكونها مهمة أساسية
للقضاء على الثوار، حيث لا يمكننا تحديد
مواقعهم وأماكنهم والطرق التي يسلكونها،
لهذا يعود الجيش إلى قصف كل المناطق،
بدون استثناء، وغالباً ما تحدث بيننا وبينهم
اشتباكات مستمرة، وتبادل إطلاق النار لا
ينقطع .
* بصفتك أجنبياً، ما هي طبيعة الحرب التي
تخوضونها؟
ــ إنها حرب، لكنني لا أستطيع تعريفها.
* كيف تتمكنون من معرفة العدو؟
ــ إنهم يجيدون استعمال ما لديهم من أسلحة،
وأساليب حرب العصابات بشكل جيد، وهم
متعودون على هذه المنطقة ويحسنون
استخدامها.
* يبدو للمشاهد أنّ دولتكم لها تواجد أساسي
كبير في المنطقة.. هل معنى هذا أن دولتكم
تشكل طرفاً أساسياً في هذه الحرب؟
ــ نعم..
(يستدرك غلطته ويحاول أن يتراجع)
إنها مجرد عمليات ولا يمكن أن تعني حرباً
بالمعنى المفهوم.
* ما هي متعتك في هذه الحرب؟
ــ إنها تختلف من أي شيء اختبرته في حياتي.
(وثيقة)
وأنا في طريقي إلى المستشفى، رأيت تمثال المواطن المثالي ـ نفسه ـ منتصباً فوق مصطبة في وسط الميدان، فاغراً عينيه وكفـّه على قلبه.. أعزل كفزاعة منكسرة الجبين، تطمسه أبواق السيارات وضجيج المتسكعين. يرميه بقّال بقشرة بطيخ وهو يضحك ساخراً. يتسلقه صبي هارب من والده الذي يتهدده ويتوعده بالضرب فينتفض الصبي ويبلل ثيابه، يتسرب البول على وجه المواطن وصدره، يحاول أن يحتجّ لكنه يشعر بفخذ عذراء تحتك به فينسى احتجاجه ويتطلع مبهوراً، يفرد عينيه لكي يحتضن هذا العري الناهد غير أنها سرعان ما تغادره متأبطة ذراع شاب.
تمهلت في سيري وأخذت أحدّق في خوذة المواطن اللامعة، تخيلت الخوذة وهي ترنو إليّ تشكو تجاهل الناس لها واستهزاءهم بها. بالتدريج بدأت الخوذة تذوب وتنصهر وكذلك المواطن المثالي إذ أخذ يرتجف ويتقلص.. احدودب ظهره وتقوست ساقاه وانحنى على المصطبة ذائباً أكثر فأكثر حتى صار كومة ثم نُطفة.. وعندما تلاشى نهائياً استدرت وواصلت سيري.
* * *
دخلت المتاهة.. في هذه المنطقة توجد: مستشفيات للأمراض العصبية، مستشفيات للأمراض العقلية، مستشفيات للأمراض النفسية، مخافر للأحداث، مصحات لمدمني المخدرات واللواط والدعارة، ملاجئ للأيتام.
عبرتُ المتاهة.. قف. أعبر. إلزم اليمين. احذر هاوية. احذر طريق زلقة. قف. لا تعبرْ. قف. اعبر. قف. ممنوع. "هذا مستشفى الأمراض العصبية يا ابن المجنونة". أدخل. لافتة: الغرفة في نهاية الممر. سهم يشير إلى الغرفة.. "لست في بيتك، هذا مستشفى". لافتة. قف. احذر... (شخص مذعور يلتصق بزاوية في الممر، الممرضات يحاولن تهدئته، يلتصق أكثر، يسحب من جيبه سكيناً كبيرة ويرفع كم قميصه، يشهر العنق والسكين، تتوقف الممرضات، يندفع من إحدى الغرف طبيب شرس الملامح ويزعق طالباً من المريض أن يعود إلى سريره، يصرخ المريض بهستيرية وفي سرعة خاطفة يطعن عنقه بالسكين. يستدير الطبيب عائداً وهو يلوي شفتيه تقززاً، تبصق إحدى الممرضات علكاً وتدعو الأخريات إلى نقل الجثة، فيحملن الجثة بلا مبالاة متناهية وهنّ يثرثرن عن حفلة البارحة.) .. قفْ. الممر الرابع.. "ماذا تريد؟".. انتبه. مطبات. قف "الغرفة هناك".. "لم أر في حياتي رجلاً بليداً مثلك، هل هي زيارتك الأولى؟" .. إلزم اليمين "لا تظن نفسك في مبغى، هذا مستشفى.. ألمْ يعلمك أهلك كيف تتبع النظام وتحترم القوانين؟". انتبـه.. "إذن قف في الطابور" (مريض يركض، يطارده طبيب يهوي على ظهره بالسوط، ينكفئ المريض والطبيب يستمّر في جلده وهو يزعق: أمرتك ألا تغادر السرير إلا بإذني، ألا تفهم، أنت تستحق أكثر من الجلد، خذ، خذ) احذر. "أف، هذا الرجل يثير قرفي، قلت لك أكثر من مرة أن تلزم مكانك.. لست الزائر الوحيد هنا". الممر العاشر. الغرفة الثامنة. مطبات. لا تعبر.
كانت نائمة على السرير.. لا، ما كانت نائمة، بل ميتة.
آه.. أرهقتني المسافات، وها جسدي الذي شاخ يغفو مرة فوق نجمة ويغفو مرة فوق ربوة. تحاذيني الهفوات وتدخلني. جرحي وحش يعوي في البراري والكهوف ينهشني. أ. ص.. ملك يبعثر شوائبه في مملكة الأخطاء. أ. ص.. صعلوك يرثي قصائده المتوترة. يأتيني صوتك سراباً في أحلام اليقظة وأنا أستحمُ في الغبار.. أرهقتني أحلام اليقظة. تجيئين كمهرة برية تطعنني في الصدر وتحفر جسدي ثغرة من الطين، وأنا أتلوى مشتاقاً. أرهقتني دوائر التشرد.
حملت أمي و خرجنا.
وضعتها فوق تلة.. بدا وجهها جميلاً ورائقاً.
ــ أ. ص
ــ أنا هنا
ــ هل تذكر أغنية أمك؟
غنيت بصوت آخر كان شجياً ورخيماً، ثم أخرجت عود ثقاب.. احترق جسدها واستحال رماداً. تناولت الرماد المتفتت في راحتي ونثرته في البحر. بعد دقيقة لمحت موكباً من الغجر يزحف طالعاً من البحر. نصبوا الخيام وأشعلوا النيران ثم بدأوا يمارسون طقوساً غريبة.