اللغة : عشيقة الشاعر، صديقة المخيلة، سرير الجمال.
اللغة.. كلمات، إشارات، رموز، مجازات، علاقات..
تصبح مضللة ومحايدة وفاترة وبليدة إذا استخدمت كأداة توصيل فقط، أو كأداة إعلام وتعليم.
لكن عندما يتم التعامل معها شعرياً، فإنها تصبح عنصراً جمالياً مدهشاً، وعنصراً خلاقاً أيضاً. نحن لا نبدع باللغة فحسب، إنها أحياناً تبدع من خلالنا. إذ نستحضر المفردات التي سوف تسعفنا في التعبير، تفرض اللغة نفسها عبر تراكيب وتشبيهات وتجاورات لا تخطر على بال.
وقتذاك، علينا أن نحسن التقاط اللحظة.
الشاعر وحده القادر على النظر إلى العلاقات الحسيّة بين الكلمات، وما تشعّ به من سحر وغموض. قادر أن يسبر أكثر المكامن شفافية وجمالاً.
اللغة كائن مروَّض وجامح في آن. يمكن أن تمتثل للعادي والمبتذل، يمكن أن تكون هائجة ومتسلطة ويمكن أن تكون طيّعة ومرنة لكن دون أن تفقد سحرها.
اللغة أنثى.
علاقتي باللغة مشوبة بالحب والحذر، الثقة والارتياب، المرح والقلق، الاطمئنان والخوف.
عندما تحتاج اللغة كي تنقل معلومة، أي تخضعها لرغبتك المستبدة، فإنها تأتيك صاغرة، مكبلة، عارية من الجمال والبهاء.
وعندما تستسلم لها، وتصبح مأخوذاً بالغواية، فإنها تجرّك إلى نعيم المتاهة حيث تخنقك ببطء.
لذا يتعين عليك أن تكبح جماحها قليلاً. أن تعانق الموجة لا الزبد.
اللغة أيضاً خائنة.
إنها تخون رفيقها باستمرار. لكنها الخيانة المبجلة. يحدث كثيراً أن يبتكر الكاتب صورة ما، وعندما تُقرأ فيما بعد تحل محلها صورة أخرى.. ربما مختلفة تماماً عن الأصل. ذلك لأن اللغة هنا قد استطاعت بذاتها أن تخلق - في ذهن القارئ - صورتها الخاصة، أن تخلق معان وايحاءات متعددة. يكتفي تركيب لغوي ما، مجاورة مفردة بأخرى لا تتصل بها منطقياً، لكي ترى حشداً من الإيحاءات والدلالات تخرج تباعاً ولتكتشف حالة شعرية فريدة.
اللغة ليست سيدة ولا جارية.
ثمة خيارات أخرى : أن تكون رفيقة مثلاً.
هي قابلة للتوالد. حبلى دائماً.
عندما تكون العلاقة حسيّة، تخرج المفردة من معجمها وتكتسب قيمة جمالية خاصة.
بالغة الثراء، دائمة التحوّل.
أن نفهمها، أن نحسن التعامل معها.. ذلك هو كل ما تحتاجه.
حضور الجسد في النص مادي وميتافيزيقي معاً.
المرأة والرجل والوطن.. تمثيل للجسد في حركته الإنسانية بشتى أبعادها وعلاقاتها.
لكنه أيضاً يجد تعبيره في عملية الكتابة ذاتها.
الكتابة، في جوهر طبيعتها، فعل جسدي / جنسي.
إنها ولوج شبق، شهواني، عنيف، داخل كينونة البشر والأشياء والأمكنة.. وداخل اللغة أيضاً. التحام حميمي، حتى آخر عضلة وعصب، بالمرئي واللامرئي، بالمحسوس والخفي، بالظاهر والكامن. وكلما كان الجوهر أكثر عمقاً ومجهولية وغموضاً، كان الإيلاج أكثر انغمارا وحدّة وإشراقاً.
النص ثمرة هذا الاتصال اللاهب، الهبوب الذي لا يمكن معرفة مصدره والتكهن بخاصيته أو مدى فعاليته وتأثيره. إنه ثمرة التوتر والاستثارة والهيجان والذروات المتلاحقة دون انقطاع.
الأفكار تكون عادة مسبقة أو في المتناول، العلاقات يمكن خلقها بإشارة أو إلهام ما، التناقضات مكتشفة بالخبرة والممارسة والمعرفة.. لكن الكتابة - التي تحتوي كل هذا وأكثر - هي في حد ذاتها عملية تقتضي التوحّد والعزلة والتخيّل : أن تكون مع ذات أخرى بلا وجود مادي، قد تأخذ شكل امرأة أو حجر أو شيطان أو قصيدة. إنها فعل سرّي، حميمي، شهواني، إفتضاضي.
الكتابة اغتصاب للذاكرة، اختراق للحلم، إفتضاض للواقع، إشباع لرغبة ما. إذن الكتابة ليست فعلاً ثقافياً وسياسياً فقط. إنها أيضاً فعل جنسي.
يحضر الجسد في أبهى صوره، وأكثرها نقاءً وشفافية، حين يكون الاتصال الإنساني في مستوى الحلم.. أي عندما يتخلص أو يتطهّر من شوائب الغريزة والعنف والامتلاك.
هذا الفعل يتم ممارسته كشكل من أشكال التطهر (حتى في ذروة الأزمة، حتى لو كان مؤقتاً وموجعاً) وليس شكل هروبي، أو باعتباره ضرورة بشرية يمكن تحقيقها بطرق آلية. إن العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الفرد والوطن، تكون أكثر صدقاً حين تتشكل عبر الجسد، لا العاطفة وحدها ولا الفكر وحده. الجسد هنا مزيج من العاطفة والفكر والسائل الحي والشعاع الأزرق.
الوجه يتحرك، يتشكّل، يتحوّل.
على الوجه نقرأ حركة الزمن الذي يترك آثاره وعلاماته على الجلد، حيث كل تجعيدة تشير إلى تاريخ خاص.
على الوجه نقرأ الحالات المتغيرة، سواء أكانت عفوية أم مصطنعة أم فجائية. نقرأ الانفعالات الخارجية : كالفرح والحزن والغضب والألم. نقرأ ما تمليه القسمات والتضاريس من انطباعات ذاتية.
لكن من هذه القراءة لا نحرز سوى المعرفة الظاهرية، السطحية، التي لا تخلو من الالتباس وسوء الفهم. ذلك لأن معرفتنا بحالة الآخر، النفسية، محددة ومرهونة بما يعكسه الوجه، بما يظهره ويعبّر عنه، وليس بما يكمن في الداخل، وما يبطنه. نحن لا نعرف ألم الآخر إلا إذا أظهره، أما إذا كبحه، فقد نظن العكس، أو ربما لن يهمنا أن نعرف.
الوجه قد يعبّر عما يشعره صاحبه، لكنه لا يعكس التفكير والتجربة والنوايا. في حالة الشرود والتأمل - مثلاً - لن نجد تعبيراً صريحاً ومحدداً وواضحاً. وسؤالنا الدائم عما يفكر فيه الآخر فيما نحدّق في وجهه، يعكس قلقنا وعجزنا عن المعرفة من خلال النظر فقط. ومحاولتنا اختراق المظهر، للوصول إلى الحقيقة المفترضة، محكومة غالباً بالفشل.
الوجه إذن سطح لا يمكن اختراقه والنفاذ إلى عمقه. عالم مستغلق يتعذر سبره وفهمه، وهو يتحدى التأويل.
في مقابل الوجه كسطح عاكس، هناك مفهوم الوجه كقناع. إنه الذي يخفي، يموّه، يضلّل.. حتى على المستوى الخارجي أو الظاهري. ومثلما يقدر الوجه أن يفشي ويبوح، كذلك يقدر أن يحجب ويقنّع. وأحياناً يصبح كوجه المهرج المطلي بالأصباغ، المصطنع، الجامد والذي لا يعبّر عن حقيقته بل يعكس مظهراً واحداً أزلياً، حيث التلميحات والإشارات مطموسة كلياً.
ثمة وجوه قديمة تحفظها الذاكرة ولا يمكن نسيانها، وأخرى تضيع وتتلاشى. تلك التي تركت أثراً عميقاً في تجربتنا معها، والتي عايشناها مديداً وسحرتنا، أو ارتبطت في الذهن بشيء مهم واستثنائي، تسكن الذاكرة فترة أطول من تلك التي عبرت حياتنا في لمحةٍ من الزمن دون أن تؤثر فينا، أو من تلك التي احتواها الزمن وامتزجت بهواء الماضي فصارت شيئاً نحنّ إليه لكننا لا نستطيع أن نميّز. ملامحه.
كذلك الأمر مع الصورة الفوتوغرافية، مع فارق أنها تحفظ الوجه في دقته ووضوحه : قد تستحضر - الصورة - التاريخ الشخصي لصاحب الصورة وعلاقته بنا، وقد نخفق في تذكيرنا بحقيقة أو هوية هذا الوجه الذي يرفض مغادرة موقعه في الماضي، والإفشاء لنا بما كان يعنيه لنا وبمدى اتصاله بتجربتنا.
الاقتراب من الوجه هنا لا يعني بالضرورة الاقتراب من حقيقته ومن واقعه الذي ينتسب إليه. وكلما خذلتنا الذاكرة، ازداد الوجه غموضاً.
الوجه مادة للنظر. النظرة تستبيح، تمتحن، تسبر، تتحرّى.
باستقبال الوجه للنظرة، فإنه يستقبل رأي الآخر، تقييمه حكمه، شعوره. بالتالي، هذا يؤثر على نظرة المرء لنفسه.
النظرات المتبادلة هي، في آن واحد، ذاتية وموضوعية، مرسلة ومستقبلة، رائية ومرئية، منتهكة ومستباحة.
النظرات كلمات غير منطوقة. اتصال خاص وحميم. بوح معلن أو خفي. خطاب متبادل بلغة الصمت أوان تعطل لغة الكلام.
النظرات، بما تحمله من دلالات وإشارات ومعان، تكون قابلة للترجمة أو التأويل وفق علاقة الرائي بالمنظور، أو وفق طبيعة اللحظة بما توحي (أو تصرح) به من انفعالات ومشاعر.
إن قراءة عمق النظرة أو سطحها، غموضها أو وضوحها، تفرضها وتحددها الاستجابة الفورية لتحديقة الآخر فينا. وهذه القراءة لا تخلو من التباس وارتباك وسوء فهم عندما تكون العلاقة حديثة العهد، أو غير مستقرة، أو مشوبة بالحذر والارتياب، أو رهينة توترات.
العلاقة بين الرائي والمرئي تجد تعبيرها في حالات مختلفة ومتعددة: فحص، سبر، بحث، استجواب، تيقن، تحكّم. وفي أغلب الأحوال تكون الرؤية مقترنة بعاطفة ما، شعور ما.. فأن ترى يعني أن تشعر. وبذلك فإن الرؤية مرتبطة بالاتصال، بالاعتناق العاطفي، بالتفاعل.
أحياناً يكون بصرك مركزاً ظاهرياً على مجال بصري معين لكن انتباهك وتفكيرك موجهان نحو مكان آخر أو زمان آخر، نحو صورة أو حدث يدور في ذهنك فقط، عندئذ لا تشعر بصلة أو ارتباط بالمنظور.. لأنك في الواقع لا تراه. وهنا يبرز الفارق الجوهري بين النظر والرؤية، والذي يتحدد بدرجة الشعور.
النظرات ذات صياغات متعددة فهي : ودودة، محبة، عدوانية، شهوانية، مغوية، حيادية، منحازة، متحدية، مرتبكة، مستعطفة، وقحة، مجفلة، مرعبة، مختلسة، خائفة، مباشرة.. الخ.
من يحدّق يمارس سلطة وهيمنة على المرئي.
عندما تكون في بؤرة التحديق، تشعر بالقلق والارتباك، وبأنك بلا حصانة أو دفاع، وعرضة للانتهاك والاستباحة.. ذلك لأنك تتحول - بفعل التحديق - من كائن خفي ومقنّع ومستتر إلى مشهد عام مكشوف ومباح..تصبح في محور الفضول والفحص والاستجواب.
لكن ثمة من يقبل هذا الدور ويتوق إليه.. أي أن يتحول إلى مشهد، منظر، شيء مباح للامتلاك بالنظر : المرأة الجميلة، نجوم السينما والمسرح، الرياضيون، المشاهير في مجالات مختلفة.. وآخرون. هؤلاء يجدون متعتهم في إحراز الإعجاب والثناء، في الكشف عن مظاهر التفوق والسمو، في إشباع حاجات ورغبات داخلية.. مع ذلك، يشعرون بارتياح أكبر عندما يكون التحديق عاماً ومجهولاً وغير مباشر، لأنهم - وقتذاك - يصبحون خارج التحكم والسيطرة والانتهاك التي تفرضها التحديقة المباشرة والخاصة.
التحديق المضاد تعبير عن التحدي. منازلة خرساء، الغلبة فيها لمن لا تطرف عينه، لمن لا يشيح بوجهه. هو أيضاً وسيلة دفاعية. عندما يخرج الرجل مع زوجته في مكان عام فإنه يوجه، بدافع الغيرة، نظرات عدوانية وعنيفة إلى كل من يحدق في زوجته. وهو لا يحاول أن يصد نظرات الآخرين، المنتهكة، فحسب، بل يريد أيضاً فرض سيطرته على الآخرين وجعلهم يمتثلون لرغبته في إبعادهم. إنه يجابه التحديق بتحديق أشد.. بهذه الطريقة وحدها يظن أنه سوف يصون ما يملك.
عندما تبيح نفسك للنظر فإنك تمارس في الوقت ذاته مراقبة نفسك، وتخضعها طوعاً للتقييم المزدوج. إنك تبحث عن انعكاس ذاتك في عين الآخر. تريد أن تعرف كيف تبدو، أن تطمئن على شكلك ومظهرك. في غياب الآخر، يمكن الاستعاضة عنه بالمرآة حيث النظرة الذاتية ترتد من السطح العاكس لتخترق ذاتك، وعندها تمارس فعل التقييم وحدك.. أي تصبح رائياً ومرئياً في آن. النظر، إذن، طريقة بها تؤسس علاقتك بالآخر وبالذات.
التلصصية هي اختلاس النظر إلى شيء لا تملكه، وليس من حقك النظر إليه.. أي أنه انتهاك لخصوصية الآخر أو غزو للآخر، بواسطة النظر. إنه إذن فعل يثير الاستنكار والاستهجان.
ولأن الفعل شكل من أشكال الإشباع الحسّي بواسطة النظر، فإن أحداً لا يستطيع أن يتجنب ارتكابه أو يتعهّد بعدم ممارسته ثانية، ذلك لأنه يتصل بطبيعة الكائن البشري الذي يحركه دافع الفضول (أن يرى كل شيء) والرغبة في الاكتشاف والامتلاك معاً، ويتصل من جهة أخرى بقوة الإغواء. فالشيء المثير، الجميل، الفاتن، هو الذي يجذبك - على نحو غير مباشر - ويرغمك على التحديق فيه والاستمتاع به بصرياً. إنه يغويك حتى دون أن يقصد ذلك. والرغبة تزداد كلما كان الشيء (لنقل الآخر) غافلاً عن كونه موضوع متعة بصرية. غياب المعرفة بوجود النظرة المحدّقة، المتفحصة، الشهوانية، تجعل الآخر مباحاً ومكشوفاً ومغوياً.. إنه يسهّل مهمة المتلصص الذي يرغب في الغوص عميقاً داخل عالم الآخر، كما لو أن ثمة سراً ينبغي كشفه.
في المتلصص تكمن النزعة السادية - المازوشية. إنه يمارس ساديته حين يجرّد المرئي من خصوصيته واستقلاليته، حين يحتلّه بالنظر. إنها سادية سلبية، أو بالأحرى، مجازية. لكن المازوشية ليست كذلك، لأنه يمارسها ضد نفسه، أي يختبرها جسدياً ونفسياً. إنه يدرك بأن المتعة زائلة ومعذّبة، وأن الإشباع ليس كلياً. لنتذكر عذابات بطل هنري باريوس في روايته (الجحيم) ، هذا القاطن في عزلته والذي لا يستطيع أن يتصل بالآخرين إلا عبر فتحة صغيرة في الجدار تطل على الغرفة المجاورة. إنه يتصل بواسطة النظر فقط، ولأنه يعجز عن المشاركة والتفاعل وامتلاك من يشتهي فإنه يغرز أظافره في الجدار، في إيماءة موجعة، محاولاً اختراق الحاجز.
التلصصية تشتمل على انفعالات متناقضة : إثارة، خوف، توتر، لذّة، ترقّب، ارتباك. أحياناً تستحوذ على المتلصص مشاعر مختلطة من الانجذاب والنفور فيما يراقب بلهفة وقلق في آن. إنه يشعر بالخوف من فكرة أن يكشفه الآخر أثناء ممارسته الفعل وفي الوقت ذاته، يشعر بالرغبة في أن يُضبط متلبساً بارتكاب الفعل. الخوف ينبع من يقينه بأنه يرتكب فعلاً خاطئاً، والرغبة تنبع من إحساسه بالذنب وضرورة معاقبته. لكن هذه الرغبة تشي أيضاً عن إحساس بالهيمنة، أن يعلن للآخر بأنه وقع تحت سيطرته لفترةٍ، ولو محدودة، من الزمن. أما في أغلب الأحيان، فإن المتلصص يفضّل أن يكون خفياً لا مرئياً، آمناً في موقعه، يمارس سطوته ويحقق متعته دون أن يعي أحد إلى حضوره. فالتحديد الأدق للمتلصص هو أن يرى دون أن يكون مرئياً.
التلصصية تقتضي وجود الآخر، والآخر دائماً استعراضي. إنه يستعرض نفسه على نحو مغوٍ دون أن يشعر (وأحياناً يشعر) بحضور راصد. المتلصص يحتاج إلى الاستعراضي، بدونه لا يمكن أن يوجد. والعنصران يتوفران في السينما. مشاهدة الفيلم (وكل أشكال العرض تقريباً) هي نوع من التلصصية، حيث ما يحدث على الشاشة يمثل العنصر الاستعراضي، والمتفرج القابع في غرفته المظلمة يمثل المتلصص الذي يحدّق أمامه محاولاً امتلاك ما يراه بالنظر. عملية المشاهدة السينمائية تكشف حقيقة أن داخل كل فرد يكمن المتلصص.
من يفقد حاسة البصر يحاول استخدام الحواس الأخرى - السمع، الشم، اللمس - في معرفة ما يحيط به من أشياء وكائنات وحركات وأفعال، وفي فهم - ومن ثم التوافق مع - الواقع الذي لا يعود مألوفاً وأليفاً.
في غياب الضوء، الذي يحدد شكل وطبيعة وملامح الأشياء،. تتجرّد هذه الأشياء من أشكالها الثابتة وتصير متحوّلة ومتعددة. إنها تطفو في هاوية الظلمة دون أن تستقر. العتمة تنتصر وتحكم، وكل شيء ينسحب إلى الداخل حيث انحسار الضوء واختلاط ما هو كائن بما هو محسوس.
الأبواب تنفتح إلى الداخل، فالخارج الآن محض انعكاس داكن، صورة لما هو موجود في الداخل أو هو مجرد ظل. والاستعاضة بالحواس الأخرى ما هي إلا محاولة موجعة لاستعادة الضوء الفاني أو للإمساك بآثار رؤية تجمدت في لحظة من الزمن. وما إن يتحرك الشيء، أو يُنقل من مكانه (الطاولة مثلاً) حتى يفنى ولا يعود موجوداً. وفي المساحة الخالية التي كان يحتلها، يفتح الفراغ هاويته وسديمه وهيوليته، وفيه يضيع الذي لا يرى.
العالم الذي كان يعرفه، ويتجول فيه بحرية وثقة وأمان، يصبح مظلماً، غامضاً، وربما عدائياً. العالم لا ينفي هذا الذي لا يرى، ولا ينفصل عنه نهائياً.. بل يحبسه، يحدّد إقامته، يراقبه بازدراء أو بشفقة وهو يتخبط في شباك الالتباس، ويخوض في اللايقين ناقلاً قدمه الحائرة من ورطة إلى أخرى. ويجعله - هذا العالم - رهين الارتياب، فكل صوت وكل حركة تستنفر موجات من الريبة والالتباس، ومعها يشعر بأن كل شيء متواطئ ضده.
العالم يريد أن يثبّته في النقطة الفاصلة بين هنا وهناك، الداخل والخارج النوم واليقظة، الوجود والعدم.
إحساسه الحاد بالعجز والإبعاد، الذي تفرضه حالة العزل القسري أو الاختياري وفقدان المشاركة، يجعله أسير قناعة، تترسخ شيئاً فشيئاً، بكونه ضحية استبدادية الأشياء واستبدادية الواقع.. هذا الواقع الذي ينصب له الشراك أمام كل خطوة. شراك طبيعية وشراك وهمية عليه أن يتفاداها برشاقة ودهاء وخبث طريدة علّمها القنص الأزلي كيف تستشعر الخطر وتتجنب المكامن.. غير أنه غالباً ما يقع أسير الفخ.
الأعمى يستخدم الأصابع كما لو أنها أعين. لا يريد أن يلمس ويتحسس فحسب، بل يريد أن يرى. يريد للأصابع أن تضيء المسالك، أن تتقرّى الملامح أن تحدّد الأشكال. الأعمى يرسم على طرف كل إصبع عيناً.
وهو يستخدم العصا أو العكاز كبديل آخر : به يطرق الفراغ معلناً عن حضوره، به يذكّر الآخرين بوجوده ليفسحوا له، به يدرك إلى حدٍ ما طبيعة العوائق ومصادر الأذى، وبه أيضاً يقرأ التخوم. لكن العكاز عين خشبية.
حاجته إلى دليل بشري هي حاجته إلى عين أخرى بديلة، ليست ناقصة وليست رمزية. إنها العين البشرية التي لا تخطئ، والتي تحميه وتجنبه الوقوع في الشرك. مع هذه العين، عين الدليل، يشعر بالثقة والأمان، ولا يجد نفسه مرغماً على أن يكون قائد نفسه. إنه يستسلم كلياً، بإذعان وبلا إرادة، لليد التي تقود الخطى وترسم الجهات. ويصير ظل الدليل.
بالذاكرة يستعين الأعمى حين يكون رفيق الوحدة، وحين يمشي بلا هداية أو دراية، معانقاً الظلمة الدائمة.
الذاكرة اختزنت الأماكن التي تجمَّدت نهائياً بكل محتوياتها. ولأنه لا يرى تحولات الأماكن بفعل الزمن، فإنه يبقي الصورة القديمة حيةً. إنه يعبر الطرق التي سلكها مرات كثيرة من قبل، يخترق الأماكن التي حفظها يتجه مباشرة إلى الأشياء التي ثبتت في موضعها.. وأي تغيّر أو تحول أو استبدال يفضي إلى إرباكه وتوريطه في مآزق لا تُحصى.
بمعنى آخر، هو لا ينتمي إلى واقعه الذي ينكره ويحرمه من كل شيء، قدر انتمائه إلى ذاكرته التي تغذّيه بالصور والإشارات والمعلومات. إنه يتحرك في الفضاء الخاص، والزمن الخاص بالذاكرة.
الأعمى لا ينسجم مع محيطه، ولا يتصالح مع أشياء محيطه، فهو دائم الارتطام بها، كما لو يحاول اختراقها، كما لو ينفي وجودها. مع ذلك فهي تعترض طريقه، تعوقه، تجبره على الرضوخ لكينونتها وتغيير مساره لتحاشي الاحتكاك بها، أو التوقف في حيرة وارتباك أمام حضورها المطلق والمستبد.
إنه في خصام دائم مع العالم، رغم إدراكه بأنه سوف يخرج من الحلبة مهزوماً في كل مرة.
نزال غير متكافئ، جائر وغير منصف، ذلك الذي يخوضه الأعمى بلا رغبة ولا هدف. إنه أمر مفروض عليه، ولا خيار له. جسده لا يستقر ولا يتآلف مع حالته (العمى) بل يضطرب ويتعثر ويرتطم ويصطدم وباستمرار ينهزم.
الأعمى، في أحوال كثيرة، يرفض أن يكون عالة، يأبى أن يكون عبداً أو تابعاً. حساسيته البالغة، الناجمة من وضعه الخاص، تجعله ينظر إلى فعل المساعدة كخدش لمشاعره وتجريح لكرامته وانتهاك لاستقلاليته. لذا فإنه يسعى إلى إقناع الآخرين بأنه يرى فعلاً، ولكي يبرهن على ذلك فإنه يتصرف كالمبصر، ويسخر من نظرة الآخرين إلى عاهته.
لكنه أحياناً يستخدم حالته أو عاهته كسلاح، كوسيلة لاستدرار الشفقة والعطف والإحسان.. ولكي يخدمه الآخرون.
إنه يحصّن ذاته، ضد القنوط والهزيمة، بالتلاعب والتحايل والمكر. فإذا لم يستطع أن يمنع القدر من إنجاز مهمته بالإجهاز على مصدر ضوئه، فإنه على الأقل يستطيع استغلال هذا الانطفاء في تجنيد من يقوم على خدمته أو تلبية حاجياته الضرورية.
إنه يطالب بقدر من ضوء الآخر كحق أو كواجب. وهو لا يكف عن تذكير الآخر بأنه مثله : غير محصّن، قابل للعطب، ويمكن أن يصير أعمى لأي سبب، وفي أية لحظة.
المكفوف منذ الولادة يخترع لنفسه عالماً خاصاً به، يشيّده من عناصر المخيلة، وما تمليه الحواس الأخرى من إشارات وعلامات ورموز. وفي هذا العالم يستقر وينمو، ومنه يستمد نظرته إلى العالم الواقعي الذي انفصل عنه بصرياً لكن اتصل به غريزياً. إنه يعيش في عالمين في وقت واحد : أحدهما يراه عبر مخيلته، والآخر يدركه عبر الحواس.
لكن هناك العمى المجازي.. ذلك الذي يبصر لكنه يرفض أن يرى، ذلك الذي يغمض عينيه حين يستدعي الأمر أن يفتحهما على سعتيهما ذلك المخطئ الذي لا يرى خطاياه، ذلك العبد الذي لا يرى شرور سيده، ذلك المخدوع الذي لا يرى أفعال من يخدعه، ذلك الذي يرى الشيء في وضوحه وسطوعه لكنه ينكر ولا يعترف.
(عيناك مفتوحتان على الضوء، لكنك لا ترى).. هكذا قال العرّاف الأعمى تريزياس لأوديب.. وأوديب هذا فقأ عينيه لأنه لم يكن يرى بهما.. لم ير آثامه.
ما إن تغمض عينيك حتى تدخل عالماً من صنعك، اختراعك، وينتسب إليك وحدك. هذا العالم يسمى الحلم. عالم مأهول بالصور المتوافدة بلا انتظام، مليء بالرموز والإشارات.. فيه تتجسد المخاوف والرغبات والرؤى.
كل شخص، كل شيء، هو انعكاس لذاتك بعدٌ آخر لذاتك، حتى وإن انتحل أشكالاً غريبة وغامضة، تستعصي على الفهم. ( كل الأشكال في الحلم هي مظاهر مجسّدة من ذات الحالم).. يقول يونج. إنه الجانب الآخر المخفي والمحجوب، وبهذا المعنى هو أكثر حقيقية وواقعية مما نظن.
الحلم لا يخضع لقانون أو منطق، لا تحكمه قيود أخلاقية. إنه يقفز فوق الزمان والمكان ويتخطى قوانين الطبيعة والعقل.. مع ذلك فليس ثمة شعور بالإثم. ليست هناك تعارضات بين الحياة والموت، الحقيقي والمتخيل، الماضي والمستقبل، الواضح والغامض. ثنائيات لا يُنظر إليها كنقائض بل كحالات متناغمة منزوعة عنها التخوم والفواصل.
صور الحلم لا تتسم بالتنظيم والتوحيد والتكثيف. لا شيء متماسك وجامد. كل شيء يطفو ويتحول باستمرار. في مقدمته لمسرحيته (لعبة الحلم) يقول سترندبرغ : (في الحلم أي شيء يمكن أن يحدث. كل شيء ممكن ومقبول ظاهرياً. الزمان والمكان لا يوجدان. وعلى خلفية لا تحمل مغزى أو دلالة، ينسج الخيال تصاميم وتخطيطات جديدة) الحلم، في التفسير الفرويدي، هو تجسيد للرغبات المكبوحة، التوترات، المخاوف الكامنة في اللاشعور والتي يرفضها العقل الواعي، وهي لا تبزغ إلا حينما يسترخي في النوم ذلك (الرقيب) الذي يحرس نطاق ما تحت الوعي. ولأن الاسترخاء ليس كاملاً فإن الرغبات والمخاوف تلجأ إلى التمويه والتنكر في شكل تخيلات تبدو بريئة وخالية من المعنى ظاهرياً. ويتحول الحلم إلى كابوس عندما تصبح الرغبة المكبوحة، من وجهة نظر الوعي، مخيفة جداً ولابد من إنكارها، وعندما تصبح قوية وفعالة جداً بحيث تشكل تهديداً جاداً وخطيراً.
لغة الحلم محجبة ومبطنة، لا يمكن تأويلها إلا عن طريق البحث عما هو مستتر في المحتوى الظاهر. بنية الحلم تقوم على عمليات لا واعية، مستقلة عن التفكير العقلاني. والمادة المستقاة من الذاكرة الراهنة تعبّر عن صراعات أو رغبات ربما تعود إلى الطفولة المبكرة. إن الأشكال المتخيلة التي يهرب إليها الحالم من توترات الحياة اليومية هي حافلة بالمعاني وقابلة للعديد من التأويلات.
الحلم، كما الواقع والمخيلة من المصادر الأساسية التي يستمد منها الفنان مادته. إنه لا يرسم أو يكتب حلمه إنما ينتزع منه إشارات، إضاءات،. إيحاءات.. منها ينطلق ويقدم رؤيته.*
التذكّر هو فعل تحرّر من المكان (هنا) ومن الزمان (الآن) .
عودة فورية وسريعة إلى ماض ٍ بعيد أو قريب. هذه العودة تكون إرادية أحياناً، بدافع الاستحضار المقصود لشيء يلبّي حاجة معينة، وأحياناً تكون مباغتة اعتباطية ولا تتصل بفعل الإرادة.. وفي كل الأحوال لابد من وجود محفّز ومحرّض : صورة صوت رائحة حدث.. وأشياء أخرى لا تقل أهمية في عملية الاستدعاء.
الذاكرة ليست كرونولوجية.. أي متسلسلة زمنياً. إنها لا تقدم تاريخاً متواصلاً، بل شظايا مبعثرة من هذا التاريخ. فالتذكر هو اقتطاع، انتقاء لحدثٍ ما أو صورةٍ ما أو وجهٍ ما، ثم انتزاعه من سياقه الزمني والمكاني، أي عزله عن محيطه، بتركيز البؤرة عليه وحصره في مجال الرؤية، وبذلك يكتسب خاصية جديدة لم تكن متوفرة له وقت وقوعه أو اختباره للمرة الأولى. من جهة أخرى، لا يمكن التحكم دائماً بالذاكرة وتوجيهها. حتى عندما يكون الفعل انتقائياً فإن الصورة كذلك الوجوه والأحداث، المراد استحضارها، تجر وراءها سلسلة من الصور والوجوه والأحداث التي تتداعى دونما ضبط أو تخطيط. الذاكرة، إذن، لا يمكن التنبوء بها بما سوف تقدمه.
الكائن الحي ذاكرة تعمل.. كما يقول العالم البيولوجي هنري لابوريه.
والذاكرة مستودع الذات، فيه يختزن المرء كل ما شكّل حياته منذ طفولته، كل تجاربه وتحولاته. لكنه لا يستطيع أن يستخرج من هذا المستودع الوقائع - مثلاً - بحرفيتها وتفاصيلها الدقيقة، ليس فقط بسببب طبيعة التشظي واستحالة التحكم، وتركيز البؤرة على أجزاء صغيرة من حدث ما، إنما أيضاً لأن الذاكرة، عندما تستعيد أو تستحضر الأشخاص والأمكنة، فإنها تخلقهم من جديد عبر نظرة جديدة وطرية.
الذاكرة، من هذا المنطلق، إعادة خلق - عاطفياً ونفسياً وبصرياً - لعالم ينتسب إلى الماضي. وعبر هذه العملية، نقوم بامتصاص ذلك العالم داخل ذات ترى ما تريد أن تراه، أو تتلقى بسلبية ما يُعرض عليها. بالتالي فإن الذاكرة غير واقعية وغير صادقة على نحو مطلق.
أيضاً لا يمكن الوثوق بها، والاعتماد عليها كلياً، في التزوّد بما هو مخزون في أية لحظة نشاء. إنها تصبح مستعصية ومراوغة، لهذا يدوّن المرء ملاحظاته وأفكاره ويومياته والمعلومات التي سوف يحتاجها يوماً، ويحتفظ بالصور للتحايل على النسيان، والتذكير بما كان وما حدث.
أن تفقد الذاكرة يعني أن تفقد السيطرة على كل شيء وتخضع لانتصار النسيان. وكما قال يوجين ديلاكروا : الإنسان بلا ذاكرة لا يعرف على ماذا يستطيع أن يعوّل.. كل شيء يخونه.
الماضي لا يمضي. لا يغيب كلياً. إنه يعيش معك، في داخلك. ويتعايش مع حاضرك مشكّلاً رؤاك وأحلامك. الماضي هو جذرك. أول كل شيء. مجموعة تجارب متراكمة تشكّل حقيقتك وواقعك. أحياناً يكون مهيمناً ومسيطراً، وأحياناً يأتي على هيئة شذرات، شظايا، وبصورة استحواذية أقل. وفي كل الأحوال، لا تستطيع أن تنفصل عنه، أن تنقطع عنه، وحتى إذا حاولت، بطريقة أو بأخرى، فإنه يرتادك من حيث لا تدري ولا تتوقع. رائحة ما، صوت ما، وجه ما.. يعود بك في لمحة إلى عالم كنت تظن أنه تلاشى منذ أن غادرته.. عالم الطفولة أو المراهقة.. مرحلة لا تعود تحتفظ بتماسكها المادي، إنما تقدم نفسها في شكل أجزاء منفصلة تبدو أحياناً ميتافيزيقية. فأنت لا تعود إلى الكل بل إلى الجزء.. الجزء الأكثر حضوراً لأنه الأكثر تأثيراً.
الحنين إلى الماضي هو حنين إلى ما هو مفقود في الحاضر. الأشياء التي كنت تعيشها وتختبرها وتراها، ولم تعد موجودة أو يصعب استعادتها. إنه، بمعنى ما، إحساس بانعدام التناغم والإنسجام مع أحد مظاهر الحاضر. وكلما ازدادت الضغوطات تكاثر الحنين. النوستالجيا ضرورية إلى حد ما، لكنها مؤلمة، لأنها تنبع - في أغلب الأحيان - من موقف أو وضع أو شعور مؤلم، ولأنها أيضاً عبور مؤقت إلى إقليم قد يجد فيه الراحل إلى هناك نوعاً من الطمأنينة والراحة.. غير أنها طمأنينة زائلة.
نقول أن الماضي أجمل. لكن لا نجاة في هذا القول، لا جدوى. الماضي دائماً يجمّل نفسه لكي يغويك.. ربما لهذا السبب تراه أجمل. ولأن الحنين إلى الماضي يتسم بنزوع رومانسي فإنه - الماضي - يبدو أجمل. أنك لا ترى الجوانب المظلمة، الكئيبة، المتوحشة، بل ترى ما تريد أن تراه : الجوانب المضيئة، المبهجة، المنعشة روحياً.
الكتابة عن الماضي هي محاولة يائسة لاستعادة مرحلة معينة، للإمساك ثانية بما كان في متناول أيدينا وأعيننا وصار الآن مفقوداً وغائباً. إنها محاولة موجعة لاستحضار البديل، الذي لا يمكن أن يكون بديلاً، لحاضر يفرض سماته وشروطه ومعطياته الجديدة والمختلفة، والذي سيصير - في الغد - ماضياً قد يمثل البديل عند آخرين، أو حتى عند أنفسنا.
الكلام (أو الكتابة) عن الأماكن القديمة، بكائناتها وأحداثها التي غادرت مواقعها لتسكن في الذاكرة واللاوعي، غالباً ما يكون استحضاراً ضبابياً، خليطاً بين الواقع والوهم، ولا يمكن الوثوق بالنزاهة المطلقة التي يدّعيها المستحضر.
المخيلة دائماً ترافق الذاكرة. عندما نتذكر حدثاً ما فإننا في الوقت ذاته نتخيله، أي نضفي عليه - لا شعورياً - درجة من الخيال ودرجة من الوهم. هكذا يصبح الحدث مادياً وميتافيزيقياً في آن، حقيقياً وزائفاً في آن. فالحدث لا يتجسد أمامنا حرفياً بكل تفاصيله الدقيقة والواقعية، ذلك لأنه منتزع - بقوة الذاكرة والتخيّل - من محيطه، من الحدث الذي سبقه أو تلاه، أي من تاريخه. إنه يتجسّد كحدث مستقل، منفصل، معزول. الاستحضار فعل انتقائي، وهو بالتالي ليس بريئاً من التأويل أو إعادة التأويل التي نفرضها بشكل محتوم ومتعذر اجتنابه، إذ أننا ننظر إلى الحدث الماضي من وجهة نظر ذاتية بحتة، أي نشكّله وفق رؤيتنا الخاصة وتفسيرنا الخاص ومن ثم سوف يفتقر إلى النظرة الموضوعية. الحدث الذي كان عادياً في حينه وغير ملفت أو مثير للاهتمام، يكتسب خاصية استثنائية ويتحول في عينيّ المستحضر إلى شيء مهم وغير عادي.
النوستالجيا انحياز إلى الماضي إلى قيم وعادات ومفاهيم سابقة إلى علاقات قديمة انتهت. إنها يمكن، اذن، أن تحمل صبغة رجعية، فالاستغراق الكلي في الحنين هروب من أزمات ومشكلات راهنة، إنه اعتراف صريح بالعجز عن فهم الواقع، أو عن محاولة فهمه والإنسجام معه. والبعد النوستالجي لا يكمن في كل عمل إبداعي يتناول الماضي، بل يكمن في الذهنية التي تتعامل مع الحاضر على أساس أنه عقيم، مفعم باليأس وغير قابل للتغيير.
قبل أن تتعرض هندسة المدن للتغيّر والتحوّل نتيجة التطور العمراني، واكتساح الجرافات للبيوت الصغيرة القديمة، من أجل إحلال بيوت مبنية وفق مواصفات حديثة.. قبل أن تتكاثر وتتعدد وسائل المواصلات، وتتقارب المدن والقرى..
قبل حدوث الإنفلاش السكاني في المنطقة الواحدة، وتوزّع الأهالي في مناطق أخرى متباعدة بحيث لم تعد العائلات والأفراد، الذين كانوا على اتصال وثيق قادرين على استعادة تلك العلاقات الحميمة..
قبل كل هذا وذاك، كانت توجد الحارة :
الوطن الصغير،
جغرافيا القرابة والصداقة والألفة.. وأيضاً العداوات والمشاحنات،
موقع صغير إليه ينتمي كل فرد مهما اختلفت الطبائع والمواقف والمذاهب،
جغرافيا الذاكرة والنسيان.. من وجهة نظر الحاضر.
قديماً كانت الحارة هي البؤرة، الرحم، الحضن.
عالم كان يبدو مستقلاً ومكتفياً بذاته. حدوده معروفة ولا يمكن للغريب اجتيازها بسهولة ودون مساءلة، أو دون أن يجابه - على الأقل - بنظرات حذرة وشكوكية وعدائية. الانتقالات من حارة إلى أخرى كانت سريعة، وغالباً لقضاء حاجيات ضرورية : كالتسوق أو الزيارة أو ارتياد السينما. الانتقال مجازفة إذا كانت الحارة المجاورة في حالة عداء. وإذا كان الانتقال إلى مسافة أبعد، فذلك عبارة عن رحلة، سفر، ارتياد عالم غريب ومجهول.. ودائماً ثمة رغبة قوية في العودة سريعاً إلى الحضن، حيث الأمان والطمأنينة. أي خروج يعني فقدان الأمان، يعزّز هذا الإحساس واقع التناحرات بين الحارات.
لكل حارة نماذجها الخاصة : الأبطال، الرياضيون، الفنانون، الأذكياء، الأغبياء، المهرجون، الأشقياء، المثقفون، الأميون، والمجانين.
الجنون لم يكن ملفتاً أو شاذاً. فقد كان عادياً، حالة (طبيعية) وليست ظاهرة غريبة. ثمة نوع من التعايش، من الانسجام. وفوق ذلك، فإن ثنائية العقل والجنون كانت موجودة في كل شخص تقريباً.
الجنون كان جزءاً من التكوين.
الفنانون والكتّاب، الذين خرجوا من أحشاء تلك الحارات، لا يزال تعاملهم مع تلك المواقع القاطنة في لا وعي الجسد، في ماضي الروح، قائماً على ثنائية الذاكرة والنسيان.
في لحظات انتعاش الذاكرة، يستعيد هؤلاء فترات سابقة، أحداثاً عابرة، شخصيات. أحياناً تسعفهم الذاكرة فيلتقطون تلك الصور والحالات، ويصوغون منها أعمالاً أدبية أو فنية، أو ربما تكون نقطة انطلاق فقط، أو مجرد استرجاع لجزء من نسيج يتناغم أو يتوازن فيه الماضي والحاضر.
وأحياناً يُلقي النسيان بظلاله الكثيفة فتبدو الرؤية ضبابية، وتتشظى الصور، عندئذ تأتي المخيلة لتعيد تركيب الصور.. أي لتعيد صياغتها.
وتتعدد المفاهيم ومستويات النظر إلى الحارة عند مختلف الكتاب والفنانين :
البعض يرى فيها مجازاً لعالم ٍ قائم بذاته، بكل عناصره الأساسية ومعطياته الاجتماعية والسياسية.
البعض يعود إليها من خلال استحضار نوستالجي، يعبّر عن الحنين إلى ماضي الأيام.
البعض يستخدمها كموقع أو ديكور فحسب.
البعض يتخذها كذريعة لسرد تجربة ذاتية عن الطفولة أو المراهقة.
والبعض يلتقط منها نماذج من خلالها يعبّر عن موقف معاصر.
لكن تظل الحارة : رهينة الذاكرة وضحية النسيان .*
كل شيء يفقد حقيقته وطبيعته وصفته الواقعية.. حالما يدخل النص. عندئذ يكتسب حقيقة أخرى، طبيعة أخرى، ووظيفة أخرى.
الشجرة، في النص، تمتلك خاصيات وعناصر غير التي نعرفها في الواقع. كذلك النبع والريح والأيل والمرآة. إنها تصبح كونية. كل كائن، كل شيء، كل موقع.. يصير كونياً.
الأرض بلا جغرافيا، العواصم بلا تخوم، المرتفعات بلا تضاريس، البيوت بلا أشكال هندسية. والجزيرة يمكن أن تكون ملعباً أو زورقاً يبحر من مرفأ إلى آخر بحرية مطلقة.
للمكان خاصيته الجمالية، ومنظوره المجازي والرمزي.
الخيمة لا تشير بالضرورة إلى البداوة أو الهجرة.. يمكن أن تكون الرحم أو الذاكرة. حين تتداخل وتتمازج الأبعاد الواقعية والفنتازية والميثولوجية فإن المكان والزمان من أكثر العناصر عرضة للتحول والتداخل والتخلق.
المكان، في إطاره الواقعي، لا يثير اهتمامي : قد يضيف معلومة جغرافية أو تاريخية، أو يضفي خصوصية معينة، أو يساهم في فهم العلاقات والتناقضات لكنه عنصر ثانوي في نسيج الوجود الإنساني، داخل النص، وفي الرؤية الأكثر شمولية وجوهرية.
الكاتب يخلق عالمه الخاص، وفي هذا العالم تتعايش كل الأمكنة والأزمنة والأحداث والشخوص.. التي تولد وتموت، لتولد من جديد . *
الطفولة :
وجوه بريئة حركات نزقة، مخيلة ثرية وجامحة،
أصوات تمجّد الصخب والفوضى،
أجنحة غير مرئية،
حروب صغيرة لا تهدأ ضد الترويض والخداع،
أكاذيب لا تُحصى هي حقائق راسخة في أذهان ليست مأهولة بالتجربة ولم تختبر بعد معايير الصواب والخطأ،
اختلاط كامل للمعاني والدلالات،
اختراق باطش لأقنعة سهلة الانكسار،
محو دائم للتخوم الفاصلة بين الوهم والحقيقة،
أحلام معبّدة بالفكاهة وكوابيس طريّة ليّنة،
ضحك من القلب.. ضحك فاحش،
ارتياب في واقع سريّ كتوم مخيف، ومسطح.. يهيمن عليه الكبار،
تلاعب شيطاني بالنصائح والتحذيرات،
انفتاح حر على عوالم محظورة،
أسئلة هائجة ومربكة،
النظر بعينٍ عذراء،
استجواب أدوار يتقمصها الكبار برشاقة بغيضة،
انتحال أسماء وهويات متغيرة يوماً بعد يوم،
جلبة عارمة، تدمير لا يرحم للمنطق والمعقول، ولع بالغامض والخارق،
كراهية لا حد لها للواضح والساكن،
رؤية العالم كملعب، والحياة كبالونة أو كرة،
رحيل لا ينقطع نحو أقاليم السحر،
اتصال مباشر بالعواطف والمشاعر في حالتها البكر،
تمويه الدوافع،
تشييد الكون بعناصر المخيلة،
كراهية معلنة وحب غير مكبوح،
نزوع يتعذر ضبطه، إلى رجّ المحيط بما يصدم ويربك،
إطلاق اللعب والعبث إلى حد الإنهاك. ،
لكن هناك أيضاً العنف الذي يفوق طاقة الأجسام الصغيرة الهشة. عنف لا يقاوَم، له مظهر فاتن ومغوٍ. الصغار يندفعون في اهتياج، مطلقين الصيحات الحادة والبدائية، نحو العالم المكتنز بالقسوة والوحشية. يخوضون في الطين يمرغون وجوههم في الغبار، يرشقون كل كائن وكل شيء بنثار العنف.
العنف لا يكمن في القتل والعراك والاغتصاب والمال فحسب، إنما أيضاً في اللعب والحب والدعابة. ثمة جذور للعدوانية والعنف في أبسط الأفعال وأكثرها عادية، في كل علاقة واتصال إنساني، أيضاً في ممارسات عامرة بالمتعة والفرح.. كالإبداع والجنس والولادة.
بالعنف يبدأ الإنسان (الولادة) وبه ينتهي (الموت).. بين الصرخة الأولى والحشرجة الأخيرة يتأرجح الكائن. العنف مكوّن أساسي في نشوء الكائنات.
والطفولة متخمة بالعنف :
تبجيل عنف الكبار، التباهي به، محاولة الاقتداء به من أجل النجاة من التهميش، وتعزيز حضور الذات، وإحراز الإعجاب.
اللعب بمختلف أشكاله، المطعّم بالخشونة والاحتيال، والذي ينتهي غالباً بالعراك.
الرغبة في إذلال الآخرين عبر السخرية والضحك.
التكتل من أجل مواجهة خصم واحد بغية قهره وإخضاعه.
اللجوء إلى الصياح أو البكاء أو الإضراب عن الطعام كنوع من الابتزاز العاطفي لتحقيق رغبة ما أو مطلب ما.
تحطيم الأشياء. تعذيب الحيوان. إيذاء الأضعف.
مواجهة التهديدات بعنف أكثر شراسة.
إنها طفولتنا التي نحنّ إليها نهفو إلى العودة إليها، لنمارس بشغف وبراءة كل - أو بعض - ذلك العنف. *
الآخرون هم الجحيم، حسب تعبير سارتر .
الآخرون هم نحن، حسب نظرية هنري لابوريه.. العالم البيولوجي الفرنسي.
نحن من صنع الآخرين. هم الذين يصوغون أفكارنا ومشاعرنا، يوجهون حركاتنا وعواطفنا واختياراتنا، يفرضون علينا أنماطاً محددة من السلوك والعادات. العائلة والمدرسة والبيئة تشكّل الأفراد منذ طفولتهم، وغالباً ضد مشيئتهم. الهوية ليست جزءاً سطحياً وظاهرياً من الذات، بل هي مصطلح يتضمن الكينونة الكلية مثل : شخصية ذات، وجود، جوهر، روح.
الهوية شيء عن طريقه نحاول أن ننسب أنفسنا إلى العالم ونتصل به، أن نكيّف أنفسنا مع معطياته وشروطه وإنتاجاته.
كل منا يحمل هويته مثل مرآة تعكس شيئاً مفروضاً سلفاً، و"معروفاً" من قبل الآخرين. ولأن العلاقات متنوعة ومتباينة إلى حد التناقض والتضارب، فإن الانتساب والاتصال والتكيّف يفرض حالات من التعامل متغيرة ومتوافقة مع ذلك التنوع والتباين.. بمعنى آخر، يقتضي انتحال هويات مختلفة لكل علاقة ولكل تجربة. وبذلك يعيد الفرد اختراع نفسه طوال الوقت وعلى جميع المستويات : الاجتماعية والسياسية والسيكولوجية.
إنه لا يكون ذاته أبداً بل شخصاً آخر ومختلفاً في كل مرّة : في العمل في البيت، مع أسرته، مع أصدقائه، مع زوجته أو حبيبته.
الهوية تتغيّر باستمرار.
خلف القناع المتحوّل، حسب كل حالة، توجد ذات منقسمة على نفسها .. ووحيدة تماماً.
يوجد شبح خفي ومجهول.
لا أحد قادر على اختراق السطح السميك، ومعرفة الذات الحقيقية، المتوارية، المموّهة. أشياء كثيرة مخبأة، عصية على الإدراك.
مثلما ينتحل الممثل هويات متعددة ومتنوعة، كذلك يغيّر المتفرج هويته - مؤقتاً وبواسطة المخيلة - عبر التطابق مع الشخصية الخيالية. إنه يصبح الآخر الذي يتحرك على الشاشة. فنحن لا نقع تحت تأثير الآخر الحقيقي فقط إنما أيضاً الآخر الخيالي.
عندما يصبح الوجود اليومي خارج نطاق السيطرة، ووراء متناول الفهم، فإننا نلوذ بعالم الشاشة المتخيّل، باحثين عن الهوية القادرة على مواجهة واقع ذلك الوجود، والانتصار عليه.. الهوية التي تبشر بالخلاص من الضغوطات والتوترات المحيطة بنا.
انتحال الهوية، إذن، وسيلة دفاعية. محاولة للتصالح مع واقع يفرض الامتثال والخضوع لشروطه، أو محاولة للهروب من غزو الواقع للذات، أو محاولة لستر عيوب الذات وخوائها وافتقارها إلى النضوج.
تعدّد الهويات، في المحصلة النهائية، تعبير عن انشطار الذات وازدواجيتها. *
ثمة كائنات بشرية - لفرط سكونيتها وعاديتها وحياديتها - تبدو غير ملحوظة، غير مرئية.
يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه لا تثير فضوله. بالأحرى، لا يشعر بوجودها. تبدو كما لو أنها محجّبة، أو أنها تتحصّن خلف قناع.
هي لا تفشي عن مشاعرها لأحد، لا تكشف عن نفسها بيسر أو مجانية.. ربما لأنها لا تثق بأحد أو بذواتها، ربما لأنها عاجزة عن الإفشاء والكشف، أو ربما لأن أحداً لم يحاول الاقتراب منها.
لذلك فإن أحداً لا يعرف إن كانت سعيدة أو تعيسة. لا يعرف شيئاً عنها.. عن مشاعرها ورغباتها، أحلامها ومخاوفها، عما يثير اهتمامها، عما تأمل إحرازه، عن دواخلها وما تخبئه من صور وكلام وأشياء ورؤى.
إنها تتحرك دون أن تترك أثراً. تعبر دون أن تترك علامة.
أشبه بظلال، بأشباح، بأرواح وديعةٍ وهشةٍ، تخشى أن يلامسها شيء فتنكسر.
صامتة كالمرآة، هادئة كالنوم.
تعود، بلا رفقة وبلا صوت حنون، إلى قوقعتها النائية عن العالم.. القوقعة القاطنة على ضفة حلم أخرس ووحدها تصغي إلى صمتها الصاخب وأصداء حوار وقور تأتي من بعيد.. من أعماقها المليئة بالصقيع.
أصيخوا،
ثمة رنين في الليل..
الكائن يكلّم نفسه.
لكن من يسمع الصمت؟ من يفهم حواراً يندلع في قلب كائن يتوحّد مع ضوء (أو ظلمة) جسده (أو روحه) ؟
هي لا تحسن التعبير باللغة، لذا فإنها لا تثق باللغة. عندما تتكلم تشعر بأنها معوقة. اللغة تضلل مشاعرها، تحرّف ما تريد إيصاله. علاقتها بالكائنات الأخرى، بالأشياء، تصبح مبتورة.
ترتبك كثيراً. لهذا تختار الصمت. أن تخاطب الكون بمشاعرها.. الوسيلة الأكثر صدقاً وبراءة. لكنها تجازف بتعريض نفسها لسوء الفهم، خطأ التأويل، وربما لما هو أخطر : الإهمال، النبذ، الإلغاء.
فمن ذا الذي يقبل الاقتراب ليرى ؟
وهل يعلم الآخر أي جمال سيكتشف إن رأى ؟
أي براءة وأي صداقة ؟
أي معنى سيحرز إن دنا واخترق، وراح يسأل ويستجوب، ويكتشف ذاتاً أشبه بأرض ٍ عذراء ؟
وهل يعرف كيف يرى :
ذلك الذي لا صبر لديه، العجول وغير المكترث، المليء بالتوجس وسوء الظن ؟
ذلك الذي يكره أكثر مما يحب ؟
ذلك الذي يحاذي أشباهه دون أن يلتفت، الذي يوزع النعوت والانطباعات دون رويّة، الذي يصدر الأحكام الطائشة من موقع العارف ؟
ذلك الذي يلامس السطح لا الجوهر، يحاكم الوجه ولا يصادق الروح ؟
داخل الكائن
السائر مع ظله
حياة تشبّ وتندلع.
لكنها تظل مجهولة إلا لمن يعرف كيف يحاورها. وبما أننا جميعاً نعجز عن هذا الفعل، فإن الكائن يعاشر مأساته إلى حدّ التوحّد.
منذ طفولته وهو محتجز - لسبب أو لآخر - داخل حيّز ضيق، معتم، رطب، لا يزوره الضوء إلا لماماً، ولا يمسّه الندى إلا في الحلم.
رهين عزلة مطلقة، وصمت مطبق.
لا يعرف قريناً، ولا يلهو إلا مع ظله.
حين يصيخ، يسمع أصداء نفسه الخاوية. وحين يحدّق، يرى فقط محيطه الصغير بما يحتويه من أشياء قليلة، مغبّرة، كالحة، تآلف معها حتى امتزج بها.
عندما يحلم، يصحو دامعاً ولا يعرف سبب بكائه في النوم.. أهو خوف من العقاب لأنه رأى ما لا ينبغي أن يُرى حتى لو كان حلماً، أم أنه وجع العجز عن إمساك ما رآه ؟
وكلما كبر ضاقت طموحاته وصغرت رغباته.
يمارس بقاءه على نحو رتيب، مكرر، آلي. لا يفرّق بين موت وحياة.
شخص ما حبسه في هذا المكان.. ربما بدافع حمايته من الخارج. ثمة شرور وسموم وآثام وهواء ملوّث في الخارج.. هكذا قيل له. وهكذا يحفظ الدرس في رعب يفصّد الدم في عروقه. وهذا الشخص - السجّان - لا يدرك أنه بحمايته له إنما يدمّره، يحقنه بسمّ أكثر فتكاً. ما نفع المأوى والمأكل والملبس لكائن يعاشر أشباحه في مملكة قاحلة، حالكة السواد ؟
هكذا الوضع دائماً :
الذي يحمي الآخر من شيء مفترض ووهمي، ينتهي بابتلاع الآخر في جوفه ونفي وجوده. القوة الكابحة تشوّه الروح وتخنق الإرادة.
والكائن الهش يمتثل للانسحاق في استسلام، يخضع للنواهي والتحذيرات في خنوع وطاعة مذلة. ذلك لأنه لا يعرف بأن خلف الجدران، العازلة للصوت والضوء، ثمة عالم آخر، مختلف. طوال الوقت يظن بأن حيّزه الضيق هو الكون، ولا يوجد في الخارج سوى الفراغ : هاوية مفتوحة الأشداق تنتظر خروجه لتلتهمه.
وعندما تسنح له فرصة الخروج - لسبب أو لآخر - فإنه يدنو من الباب في ذعر بالغ وحذر مفرط. لكن ثمة قوة خفية، طاغية، تدمغه بإلحاح لا يقاوم :
ربما هو الفضول،
أو الرغبة في الاكتشاف والمعرفة،
أو جاذبية النداء الغامض للحرية.
يتحسس، بقدمه الوجلة، العتبة الأولى التي سوف تسلّمه إلى العالم الآخر، الجاثم في المجهول. يخرج مغمض العينين، متوقعاً هجوماً مباغتاً، عنيفاً وضارياً. وحين لا يشعر بشيء، لا يتلقى ضربة أو طعنة، يفتح عينيه على مهل.
يجد نفسه في موقع غريب، لكنه غير عدائي.
يرى شوارع ومحلات وأشجاراً ومارة يذرعون الرصيف وأطفالاً يلعبون وكلاباً تمرح. يسمع أصواتاً وأنغاماً وضحكاً وضجيجاً. يتلفت بعينين ذاهلتين، مترعتين بالدهشة والفضول. يفاجأ بأن أحداً لا يكترث به، لا ينظر إليه في قسوة، أو يوجه إليه أمراً.
إنه الآن يتحرك، مفعماً بالبراءة، في عالم لم يتصل به بعد، لم يصدر أحكامه عليه بعد. غريب في محيط غريب، في رحلة اكتشاف لم يخطط لها. يرى الأشياء للمرة الأولى بنظرة جديدة، طريّة، باحثاً لها عن إسم، عن صفة، عن معنى. وكل شيء، مهما كان عادياً، يحرز - في حدقتيه - حضوراً مهماً ومتميزاً. إنه يقترب من هذا العالم بحواس مفتوحة وعين شبقة. يتلمس الأشياء بأصابع حائرة وجاهلة.
يحاذي الوجود، يتعرّف، يختبر، يكتشف، يتعّلم.
كل مظهر من الواقع المرئي يكتسب دلالة وبعداً جديداً.
تدريجياً ينخرط، منتقلاً من الحيّز إلى الفضاء، من العزلة إلى الانتماء.
يختبر كل المشاعر المتناقضة، كل العواطف المتضاربة. يكتشف الجمال والبشاعة، البراءة والإثم، العناية واللامبالاة، الصدق والرياء، الوداعة والتوحش. ويدرك بأنه لكي يحقق وجوده، ويجد موقعه الخاص، يتعين عليه أن يبحث عن هويته، عن معنى وجوده.
الآن، لم يعد يصحو من نومه دامع العينين.
بعد كل حلم، تحتل وجهه البشاشة.
وأنت في حضن أمك، ترضع الأمان والطمأنينة، تحسب أن صدر الأمومة وطنك الذي يغذّيك ويحميك، لكنك سرعان ما تنزلق نحو الطفولة لتجد نفسك أمام أشياء غريبة وهائلة الحجم، تشعرك بالضآلة واللاانسجام أو حتى اللاانتماء. فقوائم الكرسي عالية، والنوافذ بعيدة لا تطالها، ومقبض الباب يتعذر الوصول إليه. وقياساً إلى المحيطين بك من الكبار، تبدو قزماً وغير محصن، تبدو أشبه بكائن من الفضاء الخارجي، من كوكب آخر، يحط على أرض غريبة لا يعرف إن كانت سترحب به أو ترشقه بالعداوة.
إنه عالم لا تفهمه، لا تستطيع أن تنسجم أو تتوافق معه، ولا تستوعب لغته. ودفعةً واحدةً يصبون قوالب اللغة في رأسك.. لغة لا تتقن تركيبتها وصياغتها وأبجديتها بعد. وتجد للأشياء وللأشخاص وللأماكن أسماءً ونعوتاً تجهل معناها. تشعر بأن كل شيء يتواطأ ضدك وأن ثمة فجوة تفصلك عن عالم الكبار، لهذا تعزل نفسك وتنتحي في زاوية وتحاول أن تخلق عالمك الخاص بك، بعون ٍ من مخيلتك ومن الأشياء القريبة منك.. الصغيرة والعادية.
مع ذلك، هو عالم ضيق، مغلق، محكم. وعزلتك تنقلب ضدك، وتوشك أن تخنقك. لذا تبحث عن آخرين، عن أشباهك، أولئك الصغار الذين يشاطرونك المخيلة ذاتها واللغة ذاتها والنظرة ذاتها، ومعاً تنسجون بخيوط اللعب والهرج عالماً موازياً مليئاً بالحركة والعبث والشقاوة والفخاخ الضاجة.. وتظن أنه الوطن.
لكن يداً خشنة تقبض بإحكام على رسغك وتسحبك إلى مختبر (يسمى المدرسة)
فيه يُعاد تشكيل لغتك ومشاعرك وعواطفك وسلوكك ومخيلتك. هناك يشحنون دماغك بكمّ هائل من المعلومات والنصوص التي يجب أن تحفظها عن ظهر قلب.
تلقين وإملاء وواجبات ترهق جسمك الصغير. وهناك تكتشف الحقيقة المرّة :
إذا أردت أن تنتمي إلى عالم الكبار، ينبغي أن تدفن الطفل الذي كنته في داخلك.. (وفيما بعد، سوف تدفع ثمن هذا الانتماء إن رغبت فيه).
سنوات تعبرها ركضاً، أو تعبرك ركضاً. وكلما عدوت، ازداد ذلك الطفل غياباً أو غوصاً في أعماقك حتى تظن أنه قد اختفى ومات، ولم يعد له وجود.
هكذا تنخرط في مجتمع (تحسبه وطناً)، تمتثل لقيمه وشروطه أو تتمرد عليه، تحافظ على بقائه كما هو أو تسعى إلى تغييره.. وفقاً لوضعك وظروفك وأفكارك ورؤاك. لكنك في كل الأحوال تصير عالقاً بآلة تطحن أنفاسك بلا رأفة (تسمى الوظيفة).
وليلاً، في غرفة ضيقة وباردة، تحنّ إلى وطن ٍ كان، عالم ٍ كان. طفولة كانت، ووحيداً تبكي.
ثم تظن أن وطنك في الصداقة. وجوه تأتي، وجوه تذهب، وجوه تبقى. لكنك لا تزال تشعر بنهم تجاه شيء مفقود، شيء لا تعرفه.
ثم تظن أن المرأة هي الوطن. تجد لذة وسعادة في حب المرأة.. التي قد تخذلك أو تخذلها، لسبب أو لآخر، فلا يكون التعايش بينكما ممكناً، فتبحث عن الحب عند امرأة أخرى، ودليلك صورة مبهمة أو ملتبسة.. صورة متخيلة. وقد تجد هذه المرأة أو لا تجدها..
إحساسك بالوحدة يتضاعف ويزداد حدّة. تشعر بالوهن، فتنشد الاستقرار، وتظن أن وطنك في العائلة التي تشيّدها مع شريكتك حجراً حجراً. غير أن الشك يلازمك فتبدأ في استجواب حقيقة هذا الوطن : هل هو الملاذ الحقيقي الذي كنت تنشده ؟ إذن لماذا تتوق إلى الحرية إلى هذا الحد ؟ لماذا تلهث وراء حلم غامض، سديمي، ولا تعرف هويته ؟
قد تكتشف أن ثمة أشياء كامنة ترغب في الخروج من ذاتك، ترغب في التعبير عنها بالرسم أو النحت أو العزف أو الكتابة. وقد تكون موهوباً حقاً، فتظن أن وطنك في الفن. لكنك فيما بعد تدرك أنك صرت أسيراً للفن، عبداً أو خادماً له، وأنك تكرس كل وقتك له.
وفيما تدنو، رويداً رويداً، من إقليم الكهولة، تتساءل في حسرة إن كان الطفل فيك لا يزال حياً، إن كانت الطفولة المنسيّة والمهملة لا تزال تحتل ركناً فيك، منتظرةً السماح لها بالخروج واللعب.. إن كان الوطن يوجد في مكان ما.. لكن ما هو الوطن ؟
للسفر فوائد.
من يملك يسافر، ومن لا يملك يرغب في خوض التجربة.
الأسباب لا تُحصى : المتعة، المعرفة، الاكتشاف، المغامرة، التغيير، الدراسة، الزيارة. وأحياناً يكون السفر إجبارياً : النفي، العمل، العلاج.
لكن ثمة مظهر آخر للسفر.. مخيف، مشؤوم، منذر.
السفر خروج من دائرة الأمان : العائلة، الصداقة، المحيط، الوطن.
هجر (وإن يكن مؤقتاً) لكل ما اعتاد عليه المرء من دفء وحب وعناية ومشاركة.
إنه الوداع الذي يشتمل على الألم، ألم صامت وغير معلن، إذا لم يشعر به المسافر، فسوف يشعر به الطرف الآخر (المحب المتروك) الذي يعاني أكثر من قسوة الفراق ووحشة الغياب.
السفر انتقال من المعلوم إلى المجهول، من اليقين إلى الالتباس، من أرض أليفة إلى أر ض غريبة. رحيل في اللايقين والغموض والتشتت. ضياع في هندسة المدن، في جغرافيا مكان لا يمكن الانتساب إليه روحياً ونفسياً، لأنه ببساطةٍ لم يشهد مولدك وطفولتك، لم يعانق أحلامك. إنه انخراط عابر في عادات أخرى، نظرات أخرى، لغة أخرى.
المدينة شرك، تبرز مفاتنها لتغوي المسافر. ولا يتحقق الإغواء إلا بفقدان الذات. المسافر بلا حماية، بلا دفاع، مليء دائماً بالشك والتوجس والارتباك. إنه زائر غير حصين، مباح للمباغتات، مهيأ لاستقبال كل أنواع المفاجئات، مفتوح على تجارب لا يمكن أن يحوزها أو يتلقاها إلا من خلال هذا الانغمار في المدن المجهولة. آنذاك يشعر بأنه لم يعد متحكماً في حياته، بأنه خاضع لقدر المدينة.
سيزار بافيز قال : " السفر فعل موجع. إنه يرغمك على أن تثق بالغرباء، وتفقد الراحة والطمأنينة المألوفة في المنزل وعند الأصدقاء. إنك فاقد التوازن باستمرار. لا تمتلك شيئاً فيما عدا تلك الأشياء الأساسية : الهواء، النوم، الأحلام، البحر، السماء ".
مجابهات لا تنتهي لسيل من المصادفات.
صدفة الالتقاء بشخص غريب تبدو مدبّرة. إنه يقتحم عالمك بدون دعوة، يباشر الحديث معك دون استئذان. ربما يكون ودوداً وجذاباً، لكنه يظل غريباً. معرفتك به سطحية، رغم ذلك قد تمنحه الثقة المطلقة، ولا أحد يقدر أن يتكهن بالنتائج.
المفارقة، أن المسافر ذاته لا يستطيع أن يتخلص من الإحساس الموجع بأنه غريب. إنه يحمل عبء هذا التوتر المتواصل أينما حل. إقامته المؤقتة، الطارئة، في الفنادق تعزّز هذا الإحساس وتضاعف التوتر.
السفر هو رحيل إلى عالمين في وقت واحد :
عالم متخيّل، حيث تتخيل ما يمكن أن تراه وتصادفه وتفعله في البلاد التي ستزورها.
والعالم الحقيقي الذي تراه وتختبره فعلياً حين تصل وتعيش في البلاد ذاتها.
في السفر يتحقق الاصطدام المحتوم بين المتخيّل (الذي هو سهل ومريح وبلا مسؤوليات) والفعلي (الذي لا يمكن التنبوء فيه بما سوف يحدث).
كل سفر تيه..
وفي كل مرّة تخرج بتجربة ما، قد تعمّق رؤيتك وتوسّع مداركك، أو قد تجلب لك التعاسة والألم. لكن الرغبة في السفر لا تموت مهما كانت النتائج.
ها أنت هناك، في المنفى، تخوض رئات عواصم ترشقك بالعداوة حيناً، وتشيح عنك بلا اكتراث حيناً. ودائماً تنظر إليك الضواحي ككائن دخيل.. "اذهب من هنا أيها الأجنبي".
وحتى عندما تطول إقامتك في المكان الغريب، فإن جسدك فقط هو الذي يكون حاضراً، أما روحك وذاكرتك ومشاعرك فمشدودة إلى الماضي، إلى المنبع، إلى الوطن الأم. تحاول أن تسدل سديم النسيان على القلب اللاهث، لكن تباغتك الذاكرة من حيث لا تدري. صورة ما، نبأ ما، حلم ما.. يبلل روحك الغافية فترتعش أطرافك من فرط الحنين الموجع.
ها أنت هناك، في المنفى، تجرجر أثقالك وأعباءك وحاضرك، عارفاً أن جذورك ليست هناك بل هنا.. حيث الهواء والماء والأرض واللغة والطفولة والأهل والأصدقاء والسهر والضحك والألم واللعب. وكل هذا يقتفي أثرك أينما حللت، يجذبك من كتفك لتلتفت إلى الوراء، ومهما قاومت وعاندت وكابرت فإنك لا تستطيع أن تتجاهل النداء اللحوح الذي يتحول إلى عويل ونحيب في هاوية روحك. أما إذا كنت مسكوناً بالماضي، فإن آلامك ستكون مبرّحة، مهلكة، وبلا شفاء.
قوة ما، شخص ما، شيء ما، أرغمك على الرحيل.. عنوة أو اختياراً. إنك تعرف هذا الشيء جيداً، لكنك تجهل ما تبحث عنه. إنك تمضي فحسب نحو مالا تعرف، نحو مجهول يقودك إلى أماكن مجهولة حيث المصادفات، الأحداث اللامتوقعة، الاختراقات المفاجئة، المصادمات، التسويات، المحاولات المستمرة للتكيّف، المراهنات. تتحرك بحذر وارتياب، تتكلم بتحفّظ، تحصّن عواطفك ومشاعرك لكي لا يسهل اقتحامها، تراوغ وتموّه إلى أن تكتسب ثقة الآخرين. وحتى إذا تسلّحت بالجرأة والشكيمة فإنك لن تقدر على حجب ضعفك الكامن.. ذلك لأن ضعفك يكمن في الحنين. إنك تذعن لما يمليه عليك القدر، والقدر بلا قلب ولا ضمير.
في البداية لن تشعر بوطأة المنفى، بقسوته وشراسته. إذ تكون مدفوعاً بالرغبة في رؤية كل شيء، في التعرّف، في الاكتشاف، في الانطلاق. تمشي بإرادة المعرفة ومشيئة الفضول : أماكن جديدة، أناس مختلفون، لغة غريبة، عادات غير مألوفة، أفكار جذابة، طبيعة آسرة، حركات دائمة. ومع مرور الوقت تدرك أنك كنت طوال الوقت تمعن في الذهاب، في الرحيل، في البحث عن شيء لا تعرفه، وتشعر بأنك لم تصل بعد، إنه شعور غامض وخفي، ذلك لأن الوصول يعني أن تجد بيتك ثانية، وهذا مستحيل لأن البيت يقع في الماضي، ولكي تجده لابد أن تسلك طريق العودة، أن تجدف بذراعين خارقتين في مياه زمن ٍ يدوّم تياره في صخب وهياج.
والعودة إلى الماضي غير ممكنة، أو هي موجعة كوجع الرحيل .
وإذا حدث أن عدت، فسوف تعود إلى النقطة التي غادرتها منذ سنوات، وعندئذ سوف تكتشف - برعب بالغ - أنك وحيد وغريب في أرض ليس من المفترض أن تكون غريباً فيها. كل شيء سيبدو مختلفاً، متغيراً، نائياً : الأماكن، الناس، الأصحاب، الزمن، الأحاديث، المشاعر، العادات. تحاول أن تعيد بناء الماضي، لكنه الفعل المستحيل، لأن كل شيء قد غادر موقعه وسكن في ذاكرتك، وبالتالي تحوّل إلى صور، شظايا.
قد يستقبلونك بحفاوة، لكنك تشعر بتعبير مكبوت، غير مصرّح به، يفصح عن نفسه في النظرة، النبرة، الإيماءة. ثمة إدانة موجهة إليك، اتهام بالأنانية، بالهجر، بالتخلي. هذا التعبير يغطيه ربما الإعجاب بشجاعتك، أو تفهّم الظروف التي أرغمتك على الذهاب، أو السخط على الوضع العام، أو الإيمان بمبادئك ومواقفك.. لكن التعبير يظل كامناً ولا يمكن إنكاره أو إخفاءه إلى الأبد. وأنت تشعر به، تلمسه، وهذا يضاعف إحساسك باللاانتماء، باللاانتساب.
إنك مجرد ظل قادم من الماضي، يريد أن ينتسب ثانية، يريد أن يبني جسراً يصل الماضي بالحاضر، أن يجسّر سنوات من الصمت والغياب، أن يستعيد اللغة المشتركة والروابط القديمة والعلاقات الممزقة.
لكن من قال أننا، الذين هنا، لسنا مثلك.. نخوض رئة المدينة بحثاً عن شيء مفقود ولا نصل. هنا أيضاً يوجد المنفى، حولنا، وفي دواخلنا.
الإنسان، منذ طفولته وحتى شيخوخته، يصادف في دروبه العديد من الإغواءات المتنوعة والمختلفة. في كل مرحلة من مراحل حياته يتعرض للإغواء السياسي والجنسي والعاطفي والروحي والمادي.
هناك دائماً، عند كل منعطف، يكمن القادر على الإغواء :
ذلك المفعم بالفتنة والسحر والجاذبية،
ذلك الذي ينسج الكيد تلو الكيد ويرمي شباكه في الممرات،
ذلك الذي يغري ويجمّل،
ذلك الذي يزيّن الواقع، ويهيئ مائدة الحلم.
إنه يتقمص أشكالاً متعددة : الشهرة، السلطة، الزعامة، الثروة، النعيم، اللذة.
كل فرد منا لديه القابلية والاستعداد للإغواء، لأن يغوي ويُغوى. الغالبية تنتظر من يغويها:
البعض يشتهي ذلك،
البعض يتظاهر بأن الأمر كان مفروضاً عليه،
والبعض الآخر لا يحب ذلك لكنه يستسلم للإغواء.. وهذا الذي لا يحب، يتهم أو يضع اللوم على الآخر، الأقوى والأكثر سطوة : قد يكون الشيطان أو الزعيم أو المبشّر أو الثري أو الفاتن.
ولأننا نحب المال والشهرة والتسلط وإشباع الرغبة والشهوة، فإن انزلاقنا نحو شرك الإغواء هو محتوم ولا فكاك منه.
الشهرة من أكثر الإغواءات جاذبية :
هناك البريق واللمعان والأضواء الساطعة، هناك الاعتراف بالوجود الشخصي والوقوف في بؤرة الاهتمام والإعجاب، هناك اختبار النوازع النرجسية والاستعراضية، هناك مختلف أشكال الترف والمتع.
نحو الشهرة يتسابق الأفراد بأنفاس متقطعة، وفي العدْو السريع، المحموم، تُطرح المساومات والتنازلات، وتقدم التضحيات والقرابين.
السلطة من أشد الإغواءات خطورة :
لنتذكر أن هتلر قد استطاع أن يغوي أمةً بأسرها، ويجرها نحو المسلخ. لقد تلاعب بالقلق والمخاوف، واستغل حاجة الفرد إلى الأمان الاجتماعي والاقتصادي، ووعد الأمة بمجتمع مثالي متفوق. الأخطر من ذلك، أن النازية والفاشية تستغل حاجة الفرد البدائية إلى أن يكون مهماً ومسيطراً، أن يتحكم في العالم والتاريخ. هكذا انخرط الأفراد في جيوش مدججة بالجنون، زحفت على نحو هذياني لتحتل العالم.
الإغواء الروحي هو الأكثر عمقاً وتجذراً في النفس البشرية :
إنه يقدم وعداً بالخلاص، بالفردوس، بالخلود.. بالأشياء التي يتوق إليها الإنسان منذ القدم. وهو الإغواء القائم أو المرتكز على الثواب والعقاب، المشتمل على الخير والعنف، الترغيب والترهيب، الطهارة والسادية.
ويجب أن نلاحظ بأن الذي يستسلم للإغواء لا يعترف بأنه ارتكب إثماً أو خطيئة، بل يعتبر نفسه ضحية.. هذا ما يفعله الفرد حين لا يحقق المكاسب التي توقعها، أو حين يجابه بالإدانة.
إنه الدور الذي يلعبه كل واحد منا :
نغوي ونتعرض للإغواء، ونزعم البراءة في كل الأحوال.
لماذا تصر على أن أمشي معك في هذا الدرب بالذات، بينما في الغابة ممرات عديدة لم نسلكها ولم نكتشفها بعد ؟
لماذا نطل معاً من نافذة واحدة، بينما في وسعنا أن نفتح النوافذ الأخرى لننظر إلى المدى الفسيح من زوايا أخرى.. تتيح رؤيةً أشمل ؟
أشعر بالاختناق حين تفرط في توجيه النصائح لي بما ينبغي أن أفعل وأن أقول.. لأنك لا تحرمني من حقي في التفكير والنظر والاختيار فحسب، بل تحتجزني في حيّز خاص لا تنفذ إليه الريح.
تريد امتثالاً كلياً لطريقتك في التفكير والتعبير والعيش، تريد خضوعاً مطلقاً لمشيئتك، تريد تذويب الروح في سائل النموذج الواحد. تريد أن أكون ظلاً لك، تابعاً لا يستجوب خطواته، عبداً يرى في القيد طوق نجاة..
لكن مم ينجو هذا الذي لم يبحر أبداً ؟
مم أنجو ؟
لم أعد أثق بك.
تخطئ كثيراً لكنك لا تقوم ببادرة بسيطة تشير إلى رغبتك في إعادة النظر.
تخترع الجبهات المضادة لتأمرني بشن الهجمات اللامجدية عليها.
تردد كالببغاء شعارات كنتُ مغرماً بها في سالف الوقت، وأضحت الآن مادة للفكاهة. تطلب مني أن أؤمن بالتغيير فيما يغطيك الغبار وأنت واقف منذ زمن في موقع ثابت لا يتغيّر ولا تتغيّر.
تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وتزعم المعرفة الشاملة، لكنك لا تعرف شيئاً..
لسبب بسيط : أنك لا تسأل.
وأنت لا تسأل لأنك خائف. السؤال استجواب لذاتك أولاً، ارتياب في ما فعلت طوال سنواتك الفائتة. وإذا سألت ستكتشف أنك كائن من قش.
تصرخ لكي تقمع الصوت الآخر،
تهاجم لكي تتفادى الحوار،
تكره لكي لا تحب،
تتظاهر بالقوة لكي تحمي ضعفك،
وأنت تعرف هذا جيداً، لذلك لا تسأل.
والآن سأفشي سراً : بعيداً عنك، كنت أسأل وأختبر اليقين، فأشعر بأنني لست ضئيلاً كما أوهمتني.. في أسئلتي أكتشف حريتي.
لم أرك تحلم قط، لم تسرد لي حلماً واحداً.
ماذا ترى حين تغمض عينيك ؟
ومخيلتك.. أين حبستها ؟
إني أصغي إليك فلا أسمع غير كلمات تلفظ أنفاسها بمجرد خروجها من الفم : باردة، مكررة، مألوفة، بلا إيقاع، فقيرة الخيال، عديمة التأثير.
سوف أغادر.
الصقيع ليس في المكان بل في القلب.
الجميع يتوق إلى الضوء.. ما عداك.
1 - اعتقال المرئي
في الثلاثينات من القرن الثامن عشر، أعلن عن اكتشاف التصوير الفوتوغرافي. ومثل أي اكتشاف آخر، جوبه فوراً برفض شديد، وتعالت من حوله صيحات الاحتجاج والاستنكار، وأثار حالة عامة من التشوش والذهول والارتباك والخوف.
الكنيسة اعتبرته سحراً وبدعة شيطانية، لأنه يستحضر الأرواح والأشباح. خوف كهذا متجذّر بعمق في الفكرة البدائية المتأصلة في اللاوعي الجمعي بشأن التابو البصري، حيث الإيمان بامتلاك التصوير لطاقة سحرية قادرة على انتزاع جزء من الروح لحظة تجسّد أو تصوير الشكل البشري أو الحيواني. فرسوم الحيوانات على جدران الكهوف كانت تساعد إنسان العصر الحجري على الإحساس بالتفوّق والأمان، وعن طريقها ظن أنه يكتسب القوة والهيمنة على الحيوان أو أي عدو.
ردود الفعل العنيفة لم تصدر من المتعصبين والجهلة والأميين فقط، بل حتى ضمن أوساط المثقفين، كالشاعر جيرار دي نرفال، والروائي بلزاك الذي كان يؤمن بأن جسم الإنسان مغطى بطبقات من الصور الطيفية، وأنه في كل مرة تُلتقط صورة للشخص، فإن إحدى الطبقات تنسلخ من جسمه وتنتقل إلى الصورة الفوتوغرافية. وعلى الرغم من هذا الاعتقاد البدائي، اللاعقلاني، فقد سمح بلزاك للكاميرا بأن تلتقط له صورة.
هذا الاكتشاف الغامض، والمثير آنذاك، احتاج إلى وقت للقبول والاعتراف به والتآلف معه، ولكي يصبح عادياً وشائعاً بحيث يمكن لأي شخص أن يستعمله ويمارسه.
بعين ميكانيكية، صغيرة ودقيقة، تعتقل الكاميرا الشخص أو الشيء المرئي. إنه يظل هناك، محتجزاً داخل الصورة، إلى الأبد.. أسيراً لا يستطيع الإفلات أو التحرر.
بخلاف العين البشرية التي لا تحقق الامتلاك الكلي والأزلي بالنظر، فإن الحركة الخاطفة، المفاجئة، لانفتاح وانفلاق مصراع الكاميراً، أثناء التصوير، تعمل على أسر المرئي ومصادرة اللحظة بصرياً.
إنها تنتزعه من بيئته ومحيطه وحياته، وتمنحه حضوراً سرمدياً غامضاً، غير قابل للتحديد، دونما أثر أو ظل، أو ربما إشارة إلى واقع ما واتصال ما بعالم محدد. ولأن الكائن في الصورة لا يتصرف ولا ينطق، أي لا يعبّر عن نفسه، فإن محاولة تمييز طبيعته، أو تقييمه بفرض تصور أخلاقي أو سيكولوجي عليه، هو أمر صعب للغاية ويفضي حتماً إلى الإخفاق.. أي إنه فعل افتراضي وتخميني يتسم بالعبث والطيش.
وفيما يستمر الكائن في العيش، في الوجود، تظل تلك اللحظة الأسيرة معلّقة، لكنها قابلة للاسترجاع والتأمل، وربما لاستحضار حالة ٍ ما، وموقفٍ ما.. فكم من صورةٍ ثابتة، بعد تأمل عميق، وتشغيل للذاكرة والمخيلة، تستحضر على نحو متدفق سيلاً من الحركات والعلاقات، وفيضاً من الحالات والانطباعات والتداعيات. بالصورة الساكنة تستدعي عالماً مضى، وأشخاصاً طمرهم النسيان، وأحداثاً سابقة أو لاحقة أو مرافقة للحظة ذاتها.
2 - أسر الزمن
الصورة الفوتوغرافية عبارة عن لحظة متجمدة من حياة أو تاريخ ما هو مرئي. إنها تثبّت الواقع، وتختزل الكائنات الحية إلى أشياء ساكنة وغير زائلة.
الحركة الطبيعية تتعرض للتجميد.
النظرة المحدّقة تصبح مبهمة، مجرّدة من معناها الأصلي، ذات إيحاءات وتفسيرات متعددة يسبغها الرائي.. وتظل، فوق ذلك، أبدية.
الحدث المنفرد، المنتزع من سياق الواقع، يمتلك تفرّده واستقلاليته بمعزل عن الواقع الذي أنتجه، والحدث الذي سبقه أو تلاه، والمؤثر الخارجي الذي فرضه نفسياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ويصير كذلك خاضعاً لتأويلات عديدة. مع ذلك، فإن الخاصية التي تمثل أحد مظاهر القوة للصورة الفوتوغرافية، هي تلك القدرة على شحذ وتكثيف الانتباه بواسطة فصل الشيء عن محيطه، وتقديمه في عزلة مطلقة، دونما ارتباط بأي شيء آخر.
الصورة أيضاً تأسر الزمن وتعطله. إنها تعزل وتخلّد، في آن، لحظةً من الزمن قد تكون هامة وموحية، أو عادية وبلا معنى. وعبر هذا الأسر، تكشف عن علاقة جديدة بين المكان والزمان، يشير إليها رولان بارت في إحدى مقالاته، حيث يقول :
(حين ننظر إلى الصورة الفوتوغرافية، فإننا لا نرى الحضور الذي يكون - لأن مثل هذا التحديد فضفاض جداً ويمكن تطبيقه على أي نسخة - بل الحضور الذي كان. إذن سيتوفر لدينا تصنيف جديد للمكان - الزمان : المكان حاضر، لكن الزمان ماض ٍ. في الصورة الفوتوغرافية، ثمة اقتران غير منطقي بين هنا و آنذاك) .
الصورة السينمائية، فيما يتعلق بالزمن، لا يمكن أن تكون إلا في صيغة الحاضر، حتى في مشاهد الفلاش باك التي تعبّر عن الماضي، أي أنك دائماً ترى ما يحدث وليس ما حدث.
أما الصورة الفوتوغرافية، فإنها تشير باستمرار إلى الماضي. تعيّن معالم الماضي - كوجوه وأشكال وأحداث - وتذكرنا بالزمن الذي انقضى وتلاشى. هي، بالأحرى، تقترح النقيضين : الإشارة إلى حياة مضت بلا رجعة، وفي الوقت ذاته، تعرض إمكانية استحضار تلك الحياة - المرة تلو الأخرى - في الذاكرة.
قد تعبّر محتويات صورة ما - سواء في اللبس أو طبيعة الحدث - عن وضع اجتماعي أو سياسي، عن مرحلة تاريخية معينة، كصور الحروب ومعسكرات الاعتقال والمجاعات والكوارث الأخرى.
بعكس الصورة - الشهادة هذه، فإن الصورة الشخصية لا تشير إلى زمن معين، وقت التقاط الصورة، لذلك هي غير محددة تاريخياً، وغير مرتبطة بزمن معروف.. بالتالي هي تسمح بإعادة بناءٍ أو تركيبٍ متخيّل لأية مرحلة من حياة الشخص المصوَّر. من هنا تكمن جاذبية ألبوم الصور، والافتتان بجمع الصور، ذلك لأن كل صورة تعتبر علامة أو محطة أو مرحلة في تاريخ الشخص.
وبهذا المعنى، فإن كل صورة هي تاريخ : شخصي أو جماعي .
3 - حضور غير زائل
مرة أخرى نعود إلى رولان بارت الذي يتساءل عن مضمون الرسالة الفوتوغرافية، وما تنقله الصورة الفوتوغرافية، فيقول :
(تحديداً، هي تنقل المشهد ذاته، الواقع الحرفي... من أجل الانتقال من الواقع إلى الصورة، فإنه ليس من الضروري على الإطلاق تقسيم هذا الواقع إلى وحدات، وتشكيل هذه الوحدات كإشارات هي جوهرياً مختلفة عن الشيء الذي تتصل به. لا ضرورة هناك لتعيين أداة نقل، أي نظام شفري، بين الشيء وصورته. الصورة بالتأكيد ليست هي الواقع، لكنها على الأقل نظيره الكامل. هذا الكمال التناظري هو الذي - وفق الفطرة السليمة - يحدد بدقةٍ الصورة الفوتوغرافية".
العالم، بمختلف كائناته وأحداثه، هو مادة التصوير، وهو المورد الأساسي. والصورة هي إعادة إنتاج آلي للواقع أو للموضوع. إنها لا تستطيع أن تنقل الحدث المتدفق ولكن شظايا منه. أما الشخصية المستقلة، المؤطرة، فإنها لا تشير إلى حدث معين، وإنما هي منزوعة من محيطها. وإذا كان الرسام ينظر إلى المشهد دون أن يحدّه إطار، فإن المصور ينظر عبر الإطار. الإطار هو الذي يحدّد رؤيته، ومن خلاله يقي كل ما هو خارجي، ويصور فقط الجزء المرئي.
الكاميرا جهاز اصطناعي، أداة آلية، لا تعرض الحركة إنما توحي بها، لا تقدم معلومات تفصيلية إنما تتعامل مع الشظايا والأجزاء.
علاقتها بالعالم تلصصية. إنها تنظر باستمرار، وما يلفت أو يفتن.. يدخل مباشرة في حيّز الامتلاك.
إنها تهتم بالأشياء كما هي، لا كما ينبغي أن تكون. ولأنها لا تغيّر المرئي فهي حيادية.. إذ بين المصور والموضوع ثمة دائماً مسافة. المصور الذي التقط صورة ً لضابط فيتنامي جنوبي وهو يعدم محارباً من الفيتكونج، إبان حرب فيتنام، كان - هذا المصور - في موقع الراصد السلبي، أو الشاهد الذي يرى ما يحدث لكن دون أن يتدخل لمنع الجريمة. كان الخيار أن يصور الحدث ( وبالتالي يهز الرأي العام العالمي ) أو أن يفعل شيئاً غير التصوير، وفي هذه الحالة لن توجد الصورة.
المصور دائماً غائب، مجهول.
ما نراه هو الوجه الذي كان ينظر مباشرة إلى عدسة الكاميرا.. ومن ثم إلى المتفرج. المتفرج بدوره ينظر إلى الصورة متأملاً في فضول أو إفتتان، محاولاً اكتشاف سرٍّ ما، أو الغوص في ماوراء التحديقة المتجمّدة الفاترة، محاولاً أن يعرف حقيقة هذا الكائن، لكنه لا يصادف غير الغموض.
البعد النرجسي لا يمكن أن يغيب عن البال. إنه حاضر في كل صورة شخصية، حتى وإن كان بشكل مموّه أو غير واعً .
المصور الفنان لا يكتفي بعكس الواقع بل يتلاعب به من خلال تكبير الصورة، أو توظيف العناصر الجمالية بشكل غير واقعي وغير مألوف : الضوء، الظل، اللون، التكوين. إلى جانب تحطيم المظهر الواقعي باستخدام الكولاج.. كل هذا في سبيل إثراء مجاله الفني، وتقديم رؤية فلسفية وجمالية تنتزع هذا الفن من إطاره العادي، وتميّزه عن الاتجاه الحرفي.
كل ليلة، يرتطم بأحداقنا المأخوذة، المنبهرة، الممغنطة إلى الشاشة الصغيرة (التلفزيون) سيل من الإعلانات التجارية المصورة، المتلاحقة في إيقاع سريع، وفي مدة لا تتجاوز الدقيقة لكل إعلان، مقدمةً شتى المنتوجات والسلع الاستهلاكية، التي كل منها تحاول إقناعنا بأنها الأفضل والأنسب، والأكثر جودة وكمالاً.
هنا، في هذا الحقل، أكثر من أي حقل آخر، يتم تمجيد الأكذوبة وتجميلها.
الصورة، رغم فعاليتها وتأثيرها، تفقد مصداقيتها ونزاهتها، ولا تعود بريئة.
الوهمي يواري الحقيقي، ويطغى بمظهره المصقول والجذاب. وفي سبيل ترويج السلعة المعروضة - وهي الغاية الوحيدة - يلجأ الإعلان إلى الخداع والتضليل.
الإعلان ليس موجهاً إلى الجمهور لغايات تعليمية، إرشادية، أو حتى جمالية مجردة من الغرض المنفعي.. بل يتوجه مباشرة إلى المستهلك.
ثمة سلعة ينبغي ترويجها وتعميمها. ولجذب المستهلك، وحثه على اقتنائها، يقترح الإعلان أصنافاً من التلاعب والإغواء. ويتحقق الإغواء من خلال عناصر متعددة : الإيجاز، الاختزال، الإيقاع اللاهث، جاذبية العرض، التركيز على فتنة وجمال الشيء، توكيد الخاصية السحرية.
الأشرطة الدعائية لم تحقق أسلوباً أو لغة خاصة بها، فلقد استعارت تقنيتها من فن السينما، وأخضعت هذه التقنية لشروط التكثيف والاختزال.
الإعلان يعتقل الحركة عن طريق التصوير بالحركة البطيئة وتجميد الكادر. يعطّل استمرارية المكان والزمان. يتحرر من تزامن الصورة والصوت. لا يكترث بضرورة التسويغ الدرامي لحركة الكاميرا أو نشر وتوزيع الإضاءة.
الإعلان يكيّف التقنية واللغة السينمائية وفقاً لشروطه الصارمة. ومن مظاهر التكييف نجد : الاستخدام الهذياني للغة البصرية، الإفراط في توظيف المونتاج الحاد، التلاعبات البصرية، التركيز على المؤثرات الضوئية، الاعتماد على موسيقى الألوان، التعليق الكلامي والكتابي، توظيف الأغنية القصيرة والسريعة، المبالغة، التشظي المشهدي، عدم الاهتمام بعنصر الأداء التمثيلي، إهمال القصة أو الفعل الدرامي.
الإعلان يتعامل مع الواقع كمادة قابلة للتعليب والاستهلاك. إنه يتحول إلى واقع آخر، أو بالأحرى، يتحول إلى عالم سحري كل شيء فيه جذاب وجميل ومريح، ولا يخاطب إلا عزيزة الامتلاك والاستهلاك. غير أن هذا المظهر الاصطناعي الزائل، الذي يقصي التفكير العقلاني والمنطقي، يكشف عن طبيعته الخادعة عندما يخضع للتجربة.. لكن بعد فوات الأوان.
لاحظ الكثيرون بأن النكتة تزدهر وتتكاثر في الأوقات العصيبة، عند حدوث أزمات عنيفة أو كوارث مهددة، عندما يكون الإنسان في وضع محبط أو في مواجهة مجهول يستعصي عليه فهمه. الاستنتاج العام. والذي لا يثير خلافاً، أن النكتة أداة للتحرر من ضغوطات معينة، من مخاوف وتوترات، من شكوك والتباسات. محاولة لقهر المحنة الخاصة أو العامة، لتخليص النفس من القلق والاضطراب. إنها إحدى آليات الدفاع عن النفس.
النكتة، إذن، وفي أحد أبرز مظاهرها، تنبع من الألم. إنها تحصّن النفس من هجمات الألم. ولا يمكن التغلب على الألم إلا بتحويله إلى بهجة، إلى مصدر للضحك، أي بترويضه عن طريق الضحك. الألم الكامن مزعج ومقلق ومعذب، ولكي تسيطر عليه ينبغي تجريده من قوته عبر كشفه وتعريته من خلال الضحك. عندما يجد المرء نفسه أمام قوة طاغية لا يستطيع مقاومتها مادياً، فإنه يقاومها بواسطة المخيلة الساخرة، وذلك باستحضارها في حالات ومواقف تخيلية لتكون مصدراً للسخرية والضحك المشترك، وبالضحك يصعّد المرء إحساسه بالقوة ويحقق انتصاره المعنوي. الضحك أيضاً يصون المرء من الجنون الذي يسبّبه وجع الحياة.
ثمة جذر من العدوانية والعنف في النكتة. إنها تنتهك التابوات (المحرّمات) بأكثر الطرق تدميرية. كل المحرّمات والطقوس عرضة للاختراق. كل الموضوعات والرموز والأخلاقيات والعادات خاضعة للكشف والافتضاض. كل شيء مجرّد من هالته ومحوّل إلى مادة للضحك. النكتة، في جوهرها، فوضوية وعدوانية.. لا تحترم أحداً، لا تهادن سلطة، لا تبجّل شيئاً. تشن هجماتها المتلاحقة على كل الجبهات، ولا تحجم عن استخدام أي شيء.. حتى البذاءة والفحش.
النكتة تعتمد على الخيال. لا تروي حادثة واقعية بل تبتكر حدثاً لا يمكن أن يقع. هي عبارة عن مشهد أو موقف متخيّل يهدف إلى الإضحاك، وهي تنفي نفسها إذا لم تحقق الإضحاك. ومن أجل بلوغ هذه الغاية لابد أن تكون مبتكرة، مختزلة، سريعة الإيقاع، وذات نهايات غير متوقعة. التوقع، والافتقار إلى عنصر المفاجأة، يفسد النكتة ويخرّب تأثيرها. النكتة تتسم غالباً بالمبالغة، وبلا معقولية الموقف، وهدم المنطق. السرد والوصف من العوامل التي تخفف كثيراً من تأثيرها. ولأنها تعتمد على براعة الإلقاء والقدرة الإيمائية واللفظية عند المؤدي، فإنها تفقد الكثير من الفعالية والجاذبية حين تكون مكتوبة.
لا يستطيع الجميع رواية النكتة، فهي تقتضي موهبة خاصة وحساسية معينة. هناك من يمتلك موهبة إعداد أو رسم أو بناء النكتة، وهناك من يمتلك القدرة على إلقائها. وهناك من يمتلك موهبة الاستجابة والتفاعل معها.
في المونودراما (مسرحية الممثل الواحد) يقوم الممثل بتجسيد وعرض حالات متعددة ومتعارضة، تعبّر عن أزمة ذاتية أو معاناة فردية لا تنحصر في الخاص بالضرورة وإنما تمتد أحياناً لتشمل العام.
الشخصية هنا تقوم برحلة شاقة وقاسية وموجعة داخل ذاتها. ترتاد الأعماق. تتحرى (وتكشف) المكبوتات. تستقرئ منابع الإثم والذنب والمشاعر الغامضة. تنتقل من محطة إلى أخرى حيث المكاشفات والاعترافات تتدفق في جريان سريع وحار ومتوحش مثل انبثاق الدم من جرح فاغر متروك بلا إسعاف. إنها تجرّد الظاهر من الصدفة أو الجلد الخادع والمضلل، لتصل إلى الباطن، وتتصل بما هو عنيف وشرس. تخترق الخارجي لتلتحم بالداخلي. وفيما تفعل ذلك، تتعرّى الشخصية جلداً جلداً، عصباً عصباً، كما لو أنها تريد أن تتطهّر من كل آثامها ومخاوفها وأخطائها ووساوسها. ربما لا تحقق التطهر والتحرر الكلي، لكنها تنشده حتى لو كان ذلك إلزامياً وبدافع ملحّ.
صراع الفرد يشمل الذات والمحيط بالتساوي. وكل صراع هو صراع ضد قمع وكبح وكبت ووهم. الذات، بمكوناتها الروحية والنفسية والفيسيولوجية، تمثل القطب الضد، الحصن الذي لا يسهل اقتحامه، الآخر الذي لا ينفتح إلا بعد نزال ضار. وفي لحظة المجابهة تنطلق صرخة رعب مدويّة. وإذ يسفح الفرد ذاته، ويخضعها للهتك والإباحة، يبلغ أخيراً درجة من المعرفة تتيح له فرصة النأي عن الانفلاق أو الجنون أو الانتحار. إن جذور الخوف والرهاب والعصاب والدوافع الغامضة والكوابيس والغرائز والمحركات الإنسانية والحيوانية تمتد إلى الأغوار السحيقة من الذات، والإمساك بها يقتضي الكشف والفهم والتعايش.. ذلك لأنه يستحيل اجتثاثها.
أما المحيط، بأشيائه المحسوسة وكائناته اللامرئية، فإنه يمثّل الشكل القمعي السافر والمباشر والفوري، الصورة المصغرة لواقع أكبر يفرض الخضوع، والامتثال والولاء، ويرهب أية محاولة للخروج والتمرد. الفرد في محيط كهذا يشعر بالاختناق، واختراقه قد يؤدي إلى تهشم الرأس. حتى الأشياء البسيطة، المألوفة والمسالمة، تتخذ هيئة مسوخ تفترس العقل والجسد. المحيط لا يعطي المخاوف - مثلاً - أشكالاً مادية ملموسة ومحسوسة فحسب، بل أيضاً يكرّسها ويعززها يومياً بأدوات مختلفة ومتعددة. إنه يمارس السحق والاستلاب والحيونة والتشيوء بأكثر الطرق عنفاً.
علاقة الفرد بالمحيط محكومة بالنقائض والأضداد : الانجذاب والنفور، الحب والكراهية، الاندفاع والتقهقر، التلاحم والانطواء. ثمة امتزاج شبقي، محاولة للإمساك بالأشياء وامتلاكها، وبإخضاعها يتحقق للفرد الانتصار.. وهذا شيء مشكوك فيه طالما أن الفرد مستهدف ومهدّد.. أي يمثل الجانب الأضعف والمنزوع عنه كل حصانة.
الفرد في مجابهته للذات والمحيط معاً هو أعزل إلا من الذاكرة والحلم والدعابة.. العناصر التي بها يؤكد صموده، وبها يحافظ على توازنه وجسارته.. بدونها يتحول إلى جهاز استقبال سلبي، سهل الانكسار وسريع العطب.. وبدونها أيضاً لا يوجد شيء اسمه (مونودراما).
الشخصية، في المونودراما، قد تكون انفصامية (شيزوفرينية)، وقد تنشطر إلى عدة شخصيات تمثل مظاهر أو أبعاداً مختلفة ومتباينة، لكنها لا تنتحل هويات أخرى ببساطة من يشرب كأساً من الماء، أو برشاقة من يلبس قميصاً جديداً. فالانفصام أو الانشطار يستدعي حالة درامية استثنائية، يستدعي ضغوطاً نفسية هائلة، ومسببات وبواعث ربما لا تعيها أو تفهمها الشخصية إنما تفرض نفسها عنوةً أو قسراً. والتحوّل هنا لا يتم إلا في لحظة أشبه باللحظة الفاصلة بين الموت والانبعاث، بين النوم واليقظة، بين انسلاخ جلد ونشوء جلد آخر. أما أن تتحول الشخصية إلى هيئة امرأة أو كهل أو متسلط، بمجرد أن تلبس ثوباً آخر مميزاً، أو تستعير صوتاً مغايراً، فإن هذا التحول يتجرد من بعده السيكولوجي ليصبح استعاضة أو إحلالاً.. أي أن يلعب دوراً آخر من المفترض أن يلعبه ممثل آخر.. بمعنى آخر، يخرج الممثل من كينونته - بكل تفرعاتها وتشعباتها وحالاتها المتغيرة - ليدخل كينونة أخرى مستقلة عنه ولا تتصل به إلا اجتماعياً أو على صعيد الذاكرة. وفي هذا تفقد المونودراما الكثير من السمات والأبعاد والمعطيات.
(1)
نتكلم كثيراً. بيننا وحولنا كلام كثير. كلمات لا تعد ولا تحصى تخترقنا في كل ثانية من اليوم، لا ينقذنا منها سوى النوم. كلمات نتبادلها، نتقاذفها، نلهو بها، نصبغها بالجدية والرصانة تارة، وبالهزل والرعونة تارة. بحر نغرق فيه. نطلع لنغوص ثانية. واحد يأتي ويتصور أن أذنك سلة مهملات يرمي فيها بقايا الكلام، نثار الكلام، الكلام الذي لا يعبّر عن شيء، لا ينقل شيئاً، ولا يصل إلى مكان.
" قيل كلام كثير في هذه الغرفة. هنا، هناك.. ما تزال عبارات تتجرجر على الأرض يجب كنسها " (جورج شحادة).
في حياتنا اليومية كم هائل من الكلام. يا الله، من أين جئنا بها، ولماذا نحتاجها إلى هذا الحد وبهذه الكمية غير المعقولة ؟ هل لأننا نخاف الوحدة. نخاف الصمت الذي هو بوابة الوحدة ؟ نحكي لكي نوهم أنفسنا بأننا لسنا وحيدين، وبأننا اجتماعيون، وأننا كائنات تحب الاتصال ببعضها ؟ أم أننا توصلنا إلى قناعة راسخة بأن مشاعرنا لا تكفي للاتصال، وأن أحاسيسنا الداخلية عاجزة عن التعبير للآخر عما نشعره أو نعانيه ؟
الجميع يتكلم في اللحظة ذاتها. من يسمع الآخر ؟ لا أحد يصغي. ويبدو أن أحداً لا يهتم إذا كان الآخر يصغي أو لا يفعل أو يتظاهر بالإصغاء. لا يكترث كثيراً. إنها مسألة هامشية. المهم أن يقول ما يريد قوله. صار الكلام ضرورياً، حاجة طبيعية تشبه الأكل والنوم وإذلال الآخرين.
الكلام ينقلنا من الهدوء إلى الصخب، من التأمل إلى التشوش. الضجيج الكلامي يأتينا من الراديو، من التلفزيون، من الناس حولنا. ونحن ننخرط فيه. لابد أن نفعل ذلك كي لا نتهم بالعزلة والانطواء. نحن مرغمون على ذلك. والإرغام يصبح عادة. ويبدأ كل منا يتكلم، ليس مع الآخر بل مع ذاته، وأحياناً ليس مع ذاته بل مع الفراغ القائم أمامه. وكلما كثر الكلام قل الفهم، وازداد تخبطنا في الالتباس والتشوش.
الواحد يحتاج إلى ساعة أو أكثر لكي ينقل إلى الآخر معلومة بسيطة أو فكرة معينة (حتى لو كانت تافهة). الوقت ليس مهماً. مخطئ من قال أن الوقت كالسيف. الوقت عندنا وفير ولا ينضب، نهدره كيفما نشاء ووقتما نشاء ولا ينضب. الوقت سيف نكسره برباطة جأش. لدينا كلام كثير نريد توصيله إلى هذا الآخر الذي لا يفهم. لابد من التكرار. هكذا يتكرر الكلام. الجملة الواحدة تُعاد خمس مرات، ووقتنا طويل. والآخر لا يفهم. هكذا نظن، والآخر مسكين. إنه حقاً لا يفهم. يحاول لكن لا يفهم. لماذا ؟ لأن الكلام نفسه يشوّش، يضع عائقاً أمام المعنى. الاثنان يتكلمان، يعيدان الكلام، ولأن كلاً منهما واقف خلف جدار بناه لنفسه، جدار سميك وصلب، فمن الطبيعي أن يحول هذا دون وصول الكلمة، أو بمعنى أدق، المعنى.
كلام كهذا يخلق سوء فهم، يسبب معضلة، وقد يفضي هذا إلى زعل أو اشتباك أو خصام أزلي. هذه الظاهرة تتجسد أيضاً في ندواتنا الثقافية.. ذلك لأن أحداً لا يصغي بشكل جيد، وإذا أصغى فلكي يؤول الكلام ويفسّره ويفهمه حسب مزاجه أو حساسيته أو موقفه تجاه الآخر.
الكلمات مخادعة، مضللة، بشكل مريع، لكننا نستخدمها بمجانية مفرطة كوسيلة وحيدة للاتصال. إننا نقول الكلمة بغية أن نعبّر عن شيء محدد في ذهننا لكنها تصل إلى الآخر بمعنى مختلف وربما مناقض. نعتقد بأن لها دلالة خاصة لكن يتضح أنها مفتوحة على سلسلة لا متناهية من التأويلات أو سوء التفسير أو حتى سوء الاستخدام. الكلمة أحياناً تعبّر عن معنى مغاير للمعنى الأصلي. كلمة (الثورة) مثلاً، ماذا صارت تعني ؟ كانت فيما مضى تعني شيئاً محدداً أو تعبّر عن حالة معينة، حساسة وخطيرة.. الآن صارت من أكثر الكلمات شيوعاً وتكراراً في الإعلانات التجارية، كأن يقال : ثورة في عالم السيارات، ثورة في عالم الأزياء. مثال آخر : جيش يحتل بلداً زاعماً أنه يحررها. الاحتلال والتحرير مفردتان تحملان معان مختلفة عند كل طرف إلى حد التناقض. ما يعتبر احتلالاً هنا يصبح تحريراً هناك. وكم هي مضللة اللغة.
(2)
نتكلم كثيراً والفكرة لا تصل، المعنى لا يتضح، والدماغ يزداد تشوشاً. من أجل توصيل فكرة بسيطة نلجأ إلى الشرح. نشرح بإسهاب وإطناب، في الأخير نعود إلى النقطة التي بدأنا منها. هي دائرة مغلقة، وبدلاً من أن نتوقف ونلتقط أنفاسنا ونغيّر أسلوبنا ونعيد النظر في طريقتنا، فإننا نبدأ من جديد بالوتيرة ذاتها، بالطريقة ذاتها، بالرغبة ذاتها في تلقين الآخر - ولو بالقوة - الدرس الذي لم يستوعبه بعد.
إفراطنا في الكلام أدى إلى أن تفقد كلمات كثيرة معانيها ودلالاتها. من المفترض أن نحتاج إلى كلمة واحدة للتعبير عن عاطفة ما، إحساس ما. من الممكن أن أقول لحبيبتي "أحبك" فتفهم فوراً ما أعنيه.. لكن كما لو أن هذه الكلمة لا تحقق إشباعاً، كما لو أننا لا نثق بها أو بقدرتها على توصيل ما نشعره، لذلك نلجأ إلى الإضافات، إلى الإسهاب، نختار عدداً هائلاً من الكلمات، نعجن الحديث ونكرره لكي نوصل المعنى ذاته. لقول شيء بسيط نستخدم ركاماً من الكلام. هذا الركام يغطي المعنى، يعوقه عن الانبثاق، عن الوصول. التجربة تعلمنا أن اللغة من أصعب أشكال الاتصال، مع ذلك فنحن نستخدمها بشكل مفرط.
الاتصال يكون أسهل وأرقى بالمشاعر، بالنظرات، بالصمت، بالكلام المختزل. غير أن هذه الوسائط مهملة، أو يُزدرى بها، أو يُنظر إليها كوسائل قاصرة وغير مرضية، رغم أنها لا تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والكلام الزائد عن الحد والذي لا لزوم له. حالات قليلة ونادرة يتحقق فيها الاتصال بوسائط غير الكلام : خلوة العشاق مثلاً، في هذه الخلوة يقل الكلام، يكون الصمت سيداً، ولغة النظرات تكون حاضرة بقوة. هنا تجد أرقى المشاعر وأكثرها شفافية تعبيرها بواسطة الحواس، وبمفردات أقل، والمعنى يصل من خلال الصمت، الخطاب هنا ليس زاعقاً، ليس ملتبساً، ولا شيء يعوق التقاء المشاعر وحوارها.
إننا نتكلم في أي شيء وفي أي موضوع، ننتقل في لمحةٍ من موضوع إلى آخر دون أن نعطي الآخر فرصة لاستيعاب ما يقال. إننا، بالأحرى، نتكلم لكي لا نقول شيئاً. حاجتنا إلى الكلام تعكس خوفنا من الصمت. الصمت مرعب، يشبه الموت. في الصمت تتمثل العزلة المطلقة. ولأننا نخاف العزلة - التي قد تفضي في نظرنا إلى الجنون - فإننا نحاول قهرها بالكلام، بالبحث عن آخر يصغي ويشعرنا بأننا أحياء وغير معزولين. إننا نرى إلى الصمت بوصفه فراغاً رهيباً لابد من ردمه وجعله ممتلئاً بالجلبة الدائمة. عندما لا نجد ما نقوله فإننا نستمر في الكلام كي لا نسقط في هاوية الصمت.
لكن عندما تدرك بأنك، في هذا العالم المليء بالكلام، تواجه صعوبة في أن تكون مسموعاً أو مفهوماً، فإنك تغوص في الصمت بشكل يتعذر اجتنابه، وتجد أنك مفصول عن الآخرين بهذا التخم الموجع. الصمت يثير قلق الآخرين، يربكهم، يسبب توتراً لهم. لهذا يحاولون انتشال الصامت من صمته بأية وسيلة.. حتى بالاستفزاز. إنهم يحرضونه على الكلام، أن يقول شيئاً كي يبدّد هذا القلق والتوتر، كي يشعروا بأنه ينتسب إلى عالمهم وليس إلى عالم آخر مستقل، مجهول، ومخيف. الصامت غريب دوماً عن محيطه، في حضوره لا يشعر الآخرون بالأمان، فقط عندما يتحدث يستعيدون الطمأنينة ويدركون أنه ينتمي إليهم.
" ألا تسمع هذا الصراخ المريع الذي يحيط بنا، والذي يسميه البشر صمتاً ؟ " (فرنز هيرزوغ)
الصمت أحياناً يكون مأهولاً بالصراخ، لكن لا أحد يسمع هذا الصراخ غير الصامت. الصمت حقل تعبيري، الحواس كذلك. والموسيقى.. أليست لغة كونية ؟ إنها تصل إلى أعمق مستويات النفس البشرية وتتواصل مع مشاعرنا وعواطفنا الأكثر غوراً وذلك بأكثر الأشكال تجريدية. أليست العلامات والرموز الرياضية لغة عامة ؟ وماذا عن الرقص، الإيماءات، النظرات، الإشارات ؟
نترك كل هذا لنتشبث بالكلام الذي يتلاعب بالمشاعر والمعاني، والذي قد يسبب لنا كوارث لا تنتهي.
عندما يقرأ المرء كتاباً، أو يشاهد فيلماً سينمائياً، يتناول السيرة الذاتية لشخصية هامة وبارزة في مجال الفن أو السياسة أو العلم، فان أول ما يشغل تفكيره هو مدى تطابق ما يقرأه وما يشاهده، من أحداث ووقائع وعلاقات، مع واقع الشخصية العام والخاص، مع محيطها التاريخي والفني الحقيقي، مع مجريات حياتها الواقعية. إنه يتساءل : هل ما يراه قد حدث فعلاً، وهل مرّت الشخصية المعنية بكل هذه الظروف والحالات والتجارب، واختبرت كل هذه العلاقات، أم أن ثمة مبالغات وتحريفات وإضافات فرضتها دوافع محددة.. فنية أو ذاتية أو ما شابه ؟ هل هي متجذرة في واقع محدد اجتماعياً وسياسياً، أم أنها منزوعة من واقعها ولحظتها التاريخية ومقحمة في مجال تبدو فيه غريبة وغير منسجمة ؟
الكثير من الأعمال الفنية والأدبية التي تتعرض إلى السيرة الذاتية تبدو وكأنها إعادة كتابة لتاريخ الشخصية ضمن بناء واقعي وأمين، وفق منظور أخلاقي أو سياسي. وغالباً ما نصادف لجوءاً إلى إضفاء طابع رومانسي أو بعد بطولي وأسطوري على السيرة الذاتية، يصل إلى حد التمجيد والتبجيل : الأفعال تبدو خارقة، الأقوال مغسولة بالحكمة، الأخطاء مطموسة أو مخفّفة. إنه درس تاريخي ينبغي أن يُحتذى. هنا يحدث تزييف للشخصية وللوقائع، وتختلط الأكاذيب بالحقائق، وتنعدم التخوم بين ما كان وما ينبغي أن يكون. وما يُعتبر مشيناً أو مستهجناً في حياة وسلوك الشخصية يتم استبعاده فوراً. وفي الأعمال التي تتناول حياة فنانين ( موسيقيين أو تشكيليين ) نجد تجاهلاً فاضحاً لمصادر الإبداع وعملية الخلق، وتركيزاً على العلاقات العاطفية أو الوضع الاجتماعي للفنان.
في المقابل، ثمة محاولات قليلة ترغم القارئ ( أو المتفرج) على إعادة النظر في طبيعة (السيرة الذاتية) كنوع أدبي وفني. إنها لا تبحث عن دلائل وقرائن تثبت ما حدث، بل تسعى إلى النفاذ إلى روح وجوهر الشخصية المركّبة، وهذا النفاذ والسبر يستدعي رؤية ذاتية خاصة لا تتكئ على تفسيرات المؤرخين وكتّاب السير، ويقتضي تمثيلاً مجازياً وليس حرفياً للأحداث. ذلك لأن تعقيدات الفنان - كمثال - لا يمكن تأويلها من منظار واحد، كما أن ألغازه لا يمكن حلها من خلال تفسير واحد. لقد صار من الضروري ربط كل العناصر المختلفة والمتعارضة من أجل تصوير الحركات الداخلية للشخصية والتي تشكّل بواعث الإبداع، وتوجّه مسار علاقاتها بما يحيط بها. لإضاءة حياة وأعمال الفنان، لم يعد كافياً الرجوع إلى الكتب واليوميات الخاصة والرسائل، بل هناك أيضاً الاعتماد على التأويلات البصرية لأعمال الفنان ذاته والتي توفر إيحاءات هامة ودلالات ربما تكون خافية وغير مسبرة.
إن الالتزام بالأمانة التاريخية والدقة في تصوير الوقائع والاهتمام المفرط بتوثيق التفاصيل، لن يكفي لتفسير لحظة الإبداع، ولن يؤدي إلى الغاية الأهم : وهو استكشاف عناصر وعي الفنان ( السيكولوجية، الاجتماعية، التاريخية.. الخ ).. هذه العناصر التي تدخل في صميم العمل، بغية الكشف عن فعل الخلق ذاته، وعن الصلة الغامضة بين حياة الفنان وتعبيره الجمالي، وعن تلك الحياة الداخلية المترعة بالأحلام والهواجس والوساوس والطموحات.
من المفترض أن تكون الندوة الثقافية مجالاً للحوار وتبادل وجهات النظر واكتساب المعرفة وتوسيع الأفق الثقافي، لكنها تتحول - في معظم الأحيان - إلى حلبة تتعارك فيها الآراء وتتناحر الأفكار وكل طرف يرجم الآخر بالتهم والشتائم لسبب بسيط : هو الاختلاف في النظر إلى الأمور والقضايا. وفي خضم هذا النزال المرهق يضيع الصوت الداعي إلى الجدل والنقاش الهادئ المتزن. تحل الغوغائية والثرثرة والزعيق محل الرصانة والتوازن والتركيز.
يأتي الشخص إلى الندوة لا ليتحاور أو ليفهم، وإنما ليفرض أفكاره ومنطقه ووجهة نظره. إذا كان الرأي المطروح منسجماً مع توجهاته وأطروحاته فسوف يهز رأسه موافقاً في انتشاء، وقد يدفعه الحماس إلى التصفيق ببلاهة، والويل لمن يعارض ويكشف الخلل في الطرح، عندئذ سوف يقاطعه بعبارات الإستجهان وإيماءات التحقير. أما إذا كان الرأي مخالفاً من الأساس فإنه لن يستقر على مقعده، بل سوف يستمع بصبر نافد، بقلق، بتحفز، ويتحيّن الفرصة للانقضاض وتسفيه الرأي وإذلال القائل.
كل ادعاءاتنا بالموضوعية واحترام الرأي الآخر وتبنّي الأسلوب المتحضر في الحوار والإيمان بالنقد.. كل هذه الادعاءات والمزاعم تتهاوى وتظهر زيفها وخواءها بمجرد أن تتعرض مواقفنا وأفكارنا ووجهات نظرنا للنقض أو النقد أو المساءلة. آنذاك يصيبنا الفزع ونتهيأ للدفاع عن أنفسنا بكل ما نملك من مبررات وذرائع، بل ونبرهن على قدرتنا على الثأر لكرامتنا، وصيانة معتقداتنا وقناعاتنا، وحماية مواقعنا، بشن هجوم مضاد نسعى من خلال إلي الحط من قدر وقيمة الآخر، والانتقاص من شأن ما يقوله، وإطلاق أحكام لا مسؤولة ونعوت مهينة. ويصل بنا الأمر إلى محاولة قمعه ومصادرة حريته في التعبير وإخراسه نهائياً.. نفعل هذا بأكثر السبل ابتذالاً وغوغائية.
بدلاً من الانفتاح نتمادى في الانغلاق، بدلاً من التأمل وإعادة النظر نتمادى في العناد والخطأ. ننسب إلى أنفسنا المعرفة الكلية والفهم المطلق. نعزل وننفي من يتجاسر على قول ما لا نقوله ولا يتطابق رأيه مع رأينا. بعد ذلك نتظاهر بأننا متحمسون للحوار وندبج عبارات الغزل في سلوكنا الديمقراطي.
إننا لا نصغي جيداً، لهذا نسيء فهم وتأويل ما يقال. لاحظوا كيف يدور النقاش أحياناً في حلقة مفرغة، في دائرة لا تنتهي من الثرثرة والجدال العقيم، لنكتشف في الأخير بأننا متفقون في الرأي ولسنا مختلفين كما كنا نظن.
غالباً ما نأتي لنجد ما يعزّز ويدعم موقفنا، ويطمئننا على حصانة قناعاتنا، لكن ما ان نجابه بالخلخلة والشك والانتهاك حتى نستنفر كل قوانا لإبطال مفعول ما نسميه بالتخريب أو التلويث. التعصب يدفعنا إلى البطش، لكن من يجزم أننا لن نتعرض، بدورنا، للبطش ؟ وإلى متى سوف يستمر توهمنا بامتلاك الحقيقة ؟
بالرغم من شيوع مصطلح التجريبية، وكثرة تداوله في الوسط المسرحي، إلا أنني أعترف بعجزي عن فهم هذا المصطلح وتحديد ماهيته في خضم التأويلات والتنظيرات التجريدية والتلاعبات اللفظية التي تتناطح بلا رويّة ولا حكمة. إني أراه ملتبساً، مراوغاً، مضللاً، وهلامياً.. تماماً مثل الحداثة والواقعية وغيرها من المصطلحات التي لا تعني شيئاً، وفي الوقت ذاته تعني أشياء متنوعة، وفق منظور ومعتقد كل باحث أو محاور، فكل شخص ينظر إلى المصطلح من زاويته الخاصة، من وجهة نظره الخاصة. تعال إلى أية ندوة أو حلقة نقاش حول عمل تجريبي لترى إلى أي مدى تزداد جهلاً وحيرة وسط تناطح الآراء وتراشق المفاهيم. سترى أن الحضور يبددون الوقت كله بحثاً عن القشرة لا اللبّ، يحومون حول المفهوم دون ملامسة الجوهر.
ومع تكاثر المفاهيم ووجهات النظر، إلى حد التخبّط في فوضى عارمة، يفقد الشيء خاصيته وجوهره وقيمته، ويصبح مبتذلاً ويضاعف من التشوش والالتباس.
مشكلتنا أننا نتكلم عن الشيء، أو نمارسه، دون أن نحلّله بعمق ووضوح. صرنا نطلق صفة التجريبية على العرض المغاير لما هو تقليدي، والذي يحتوي على حركات وتقنيات غير مألوفة، والذي يتمرّد على موقع العرض (الخشبة). لكن ألم تمارس تجارب أخرى في العالم مثل هذا الخروج دون أن تطلق على نفسها صفة التجريبية ؟ إننا نتكلم عن التجريبية معتقدين أن الآخرين يفهمون ما نعني، وهم يوهموننا بأنهم يفهمون، لكن أحداً - في الحقيقة - لا يفهم الآخر. مجرد حوار أخرس حول شيء غائب نتوهم حضوره.
لاشك أن التجريب ضروري في الفن. من غير التجريب لا يمكن أن تتطور، أن تجد، وأن تثري تجربتك الإبداعية. ثمة فرق بين التجريب والتجريبية : التجريب فعل إبداعي. التجريبية صفة أو طابع تصنيفي يخترعه الناقد عادة لتمييز الأشكال وتسهيل مهمته النقدية، أو بالأحرى لترويج سلعة.
بإمكانك القول أنك تجرّب أدواتك التعبيرية وتبتكر طرائقك الفنية والتقنية أثناء التدريبات المسرحية، أو أثناء انتقاء الأنغام الموسيقية، أو اختبار العلاقات اللونية في اللوحة، أو اختبار الزوايا الملائمة للتصوير، أو معالجة مفرداتك اللغوية في الجملة الأدبية، أي حين يكون العمل قيد الإنجاز وفي مرحلة النمو.. لكن ما إن يكتمل ويأخذ شكله النهائي ويُعرض على الآخرين حتى تنتفي منه صفة التجريب أو التجريبية، لأنه عندئذ سيكون النتيجة أو المحصلة النهائية لبحوثك، سيكون نتاجاً قائماً بذاته، منتهياً، وينتحل كينونة خاصة.
التجريب يكمن في البحث وليس في العمل المكتمل. بالتالي لا نستطيع أن نقول عن لوحة تشكيلية أنها تجريبية، أو عن عرض مسرحي أنه تجريبي. إنما نقول، هذا العرض ثمرة جهد أو نشاط تجريبي.. وإلا لأطلقنا على كل عمل فني صفة التجريبية لأنها مبنية أساساً على البحث والاكتشاف.
أعتقد أننا إذا أزحنا المصطلح جانباً فسوف نتجنب سوء الفهم والازدراء - الذي يصل إلى حد العداء - في تعامل الكثيرين منا مع العروض الموسومة بالتجريبية، وسوف نكف عن التساؤل بشأن صفة العرض وما إذا كان تجريبياً أم لا، وسوف نضع تلك العروض في سياقها الطبيعي من الحركة المسرحية من حيث أنها محاولات للاستفادة من التجارب والمناهج المسرحية التجديدية، وطرح صيغ غير مألوفة بالنسبة لنا، سواء في شكل العرض أو في استغلال أدوات الممثل، وننظر إليها كحاجة طبيعية تفرضها شروط التطور، والرغبة الملحة في الخروج من أسر التقليد والمتعارف عليه لتكريس تعامل مختلف مع فن المسرح.
ربما لم تحقق أغلب تلك العروض طموحاتها، ولم تستطع أن تفرض حضورها القوي، وربما تزخر بالأخطاء، لكن هناك التماعات تستحق الإطراء وتجعل من وجود مثل تلك العروض ضرورة، ولابد من تشجيعها على الاستمرار، والاستفادة من أخطائها. إن الحكم بعدم صلاحيتها، وبأنها تعكس (حالة سلبية)، يرجع في اعتقادي إلى ثلاثة أسباب رئيسية :
الأول، تصنيف تلك العروض ضمن خانة التجريبية، وإحداث انقسام بين ما هو تجريبي وما هو "طبيعي" (أو كلاسيكي أو تقليدي أو سمّه ما شئت). هذا الانقسام استلزم بالضرورة وجود أنصار من مؤيدين ومعارضين، واستدعى بالتالي العمل الدؤوب - الذي يتوفر على درجة كبيرة من الخبث والشماتة - في رصد العيوب والأخطاء. ومع تكرار الأخطاء والإخفاق في تقديم عروض قوية ومتميّزة، ساد انطباع بفشل "التجريبية" وتعالت أصوات مطالبة بدفن هذا الطموح والعودة إلى الحظيرة الآمنة. بمعنى آخر، فقد تم فصل وانتزاع تلك العروض من السياق المفترض (كمحاولات تجديد) وإزاحتها جانباً باعتبارها حركة مستقلة، غريبة وشاذة، يمكن وأدها إذا لم تستجب للنظر النقدي الراهن. ومن المؤسف أن بعض العاملين في الحقل التجريبي قد ساهموا، على نحو ضار، في تكريس هذا الانقسام والعزل، عبر ادعاءات متبجحة، ومواجهة العداء بالعداء، واعتبار عروضهم الممثل الأوحد والحقيقي لفن المسرح.
السبب الثاني، الرأي النقدي الذي ينظر إلى التجارب من الخارج ويحاول فرض وجهة نظره وذوقه على العمل. إنه لا يرى ما هو كائن ولكن ما يعتقد أنه ينبغي أن يكون. إنه يضفي على الموجود طموحاته ورغباته الشخصية، وعندما يكتشف أنها لم تستجب لهذه الطموحات والرغبات يقرر فشل العمل أو فشل التجربة. المقارنة التي يعقدها بين ما هو موجود أمامه، وما هو متحقق في ذهنه بفعل الإطلاع أو المعرفة، غالباً ما تكون مجحفة وليست في صالح العمل. ويأتي التصنيف (أو المصطلح) مرة أخر ى ليكون عاملاً مؤثراً في حكم الناقد، إذ أنه يلجأ إلى مقارنة الموجود بما شاهده أو قرأ عنه، والذي يدخل ضمن حيّز ما يسمى بالتجريبية. إنه يقارن تكويناً بتكوين آخر، أداءً بأداء آخر، حركةً بحركةٍ أخرى.. وهكذا، وبالتالي يعجز عن اكتشاف الجوانب الإيجابية التي يمكن تسليط الضوء عليها لتثمر - مستقبلاً - إنجازات ذات قيمة وأهمية.
السبب الثالث، الانسياق وراء المطلب الاستهلاكي للمتفرج الذي ينظر إلى العمل كوسط ترفيهي بحت، والذي يجابه الجدّة والخلخلة بالامتعاض والنفور. هذا العدو الرئيسي للتجريب والتجديد، المدافع الأكبر عن التقليد والثبات، كيف يمكن اعتباره حكماً ومقياساً؟ أليس التسليم بحكمه قبول - يكاد يكون عاماً - بمصادرة حرية الفنان في الإبداع؟
الاختلافات في النظر والرأي واردة ومشروعة، ولا ينبغي اللجوء إلى التعميم، وافتراض أن العروض التجريبية عكست " حالة سلبية عامة ".
إن الرفض المطلق لاتجاه يسعى - بأمانة وصدق - إلى تجديد دم المسرح، ويسعى إلى تحريرنا من أسر التقليدي، هو أمر غير مقبول ويلحق ضرراً بالغاً بالمسرح.
ينبغي أن نتحلى بالتسامح والمرونة. أن ننفتح على كل الاتجاهات والتجارب، لأنها ليست مخيفة، بل قد تثري مجالنا المسرحي على نحو قد لا ندركه الآن أو نتوقعه، لكنها حتماً ستقوّي النسيج الفني. إن تعايش مختلف الاتجاهات والأشكال والأنواع مسألة ضرورية وحيوية، وأي مصادرة لنوع أو اتجاه مصادرة للفكر وحرية التعبير.
الفن، في جوهره، يتصل بما هو سرّي وغامض، باللامرئي وغير المدرك، بما يكمن تحت السطح الظاهر من الواقع.
الوثائقية تتسم بالطابع التعليمي، الإخباري، التقريري، التبسيطي.. اهتمامها يتركز في تقديم وثيقة اجتماعية أو سياسية أو تاريخية.
الوثائقية تهتم بالوقائع، بالنماذج، بالمعلومات، وليس بالرؤيا والشعر. إنها تنقل ولا تخلق، تخبر ولا تسبر، تؤكد ولا تستجوب.. ومن ثم، تخلو من السحر واللغز والحدس.
العالم الذي تصوره عالم ساكن، حتى وإن بدا متحركاً ظاهرياً، إذ أن حركته محددة في إطار ما حدث، ما كان.
الوثائقية إعادة إنتاج تتوفر على درجة من الاصطناعية والمحاكاة. وهي في أفضل أحوالها ذات طبيعة إسقاطية، تعمل على إحالة الحاضر إلى الماضي أو العكس.
الوثائقية ذات غاية محددة : تلقين درس ما.
الفن ليس درساً سياسياً أو تاريخياً. إنه بحث دائم في شؤون الذات والوجود، ليس على المستوى العلمي والمنطقي، بل على المستوى الحسي والجمالي والخارق. الفن، في رحلته اللانهائية، حاملاً طاقة الرؤيا والاستشراف، لا يقف في دائرة ما يجد بل يتخطاها مقتحماً التخوم التي لم يكتشفها. إنه يجعلنا أمام آفاق غير مدركة، يفتح حواسنا على عوالم ربما مررنا بها في أحلامنا ولا وعينا لكنها لم تستوقفنا، لم تلفت انتباهنا، لم نختبر عمقها وجمالها. إنه يجعلنا نرى الأشياء بعين مختلفة، عين مليئة بالدهشة.
في المعارض التشكيلية لوحات لا تُحصى تنقل حرفياً أشياء البيئة، تنقل ما تراه الحدقة الجامدة لا الحدقة المخترقة سطح ما يكون. هنا تغييب كلي للمخيلة. الغاية الأساسية : توكيد المهارة التقنية وتوظيفها لغرض استهلاكي.
المفارقة الفاضحة : اللوحة تحاكي الصورة الفوتوغرافية، في حين تسعى الصورة إلى التحرر من فضائها الضيق، والتلاعب بالمرئيات من أجل كشف علاقاتها الخفية. فالواقع لا يتمثل في الظاهر بل، بدرجة أعمق، في الخفي.
قصص كثيرة تعكس الواقع، تحكيه، توثّق التجارب. إنها تهمل الوجه الآخر الذي بدونه يصبح الواقع ناقصاً : الحلم، المخيلة، الوهم، الأسطورة، الميتافيزيقا .
إذا كنا نستطيع إحراز المعرفة الاجتماعية أو التاريخية أو السياسية من مصادرها الأساسية، فما حاجتنا إلى رواية لا تهتم سوى باستعارة هذه المعرفة وتقديمها بأكثر الطرق اختزالاً ومراوغة ؟
الوثائقية تقدم المحسوس والمدرك، لكنها لا تستنطق الكامن. تعيد إنتاج وتنظيم ما حدث في مرحلة سابقة. تعكس بدقة ما يقع في مجالها البصري. تستحضر الطقوس بعدسة حيادية..
لكن، هل الفن مجرد أسلوب وتقنية تساعد على نقل المعلومات ؟
لعله دياجيليف الذي صاح أمام جان كوكتو في اهتياج : أذهلني.
لعله فيرلين الذي كاد أن يرمي نفسه من النافذة إعجاباً بقصيدة كتبها رامبو.
لا أتذكر الأسماء، لكن أتذكر الحالة..
حالة النشوة الخالصة، المتعة والغبطة، الرعشة التي تسري في البدن بفعل الدهشة والانذهال، لذّة الإحساس بأن شخصاً يخاطب روحك ويحاور مشاعرك بلغة تمتزج بملح الجسد، البهجة في رؤية حلم ٍ بأعين مفتوحة، الانبهار بعالم يتخلق أمامك وكلما أوغلت وفتحت باباً وجدت نفسك أمام أفق يقطن فيه السحر والغرابة، ويفضي بك إلى باب آخر وأفق آخر ومعرفةٍ لا تمنح ذاتها كلياً،
إنها الحالة التي يختبرها المرء في وقوفه الطويل قبالة نص، أو عمل فني، ينتزعه من السكون، من العادي، من اليومي، من الرتابة، ليسلّمه إلى تجربة لم يألفها ولم يتوقعها، والتي فيها يكتشف أبعاداً جديدة، صوراً منبّهة، أصداءً من ذاته وواقعه، مرايا لا تعكس أفكاره ومشاعره فحسب، إنما أيضاً تصدمه على نحو مباغت ليعيد النظر في مسلّماته، ويبصر العالم من زوايا مختلفة. تجربةٌ تعمّق مداركه وتوسّع حساسيته الجمالية.
بنصه الطويل، الجديد لغةً وشكلاً ومناخاً، عن مجنون ليلى، وضعني قاسم حداد في حالة تكاد أن تكون مماثلة. قرأت عشر صفحات فأوشكت أن أصيح غبطةً، أو أهذي انتشاءً. كنت أرتعش انفعالاً لحظة القراءة. لم أتمالك نفسي، اتصلت به وقلت له : ماذا فعلت بي ؟
مع نص كهذا لا تستطيع أن تكون محايداً، ولا أن تحتفظ بمسافة تحاول من خلالها أن تكون عقلانياً، ذلك لأنه ينتزعك من مكانك وزمنك لينقلك إلى مكان وزمن آخر ينتمي إلى الحلم وحده.. على الرغم من الحدود التاريخية والشخصيات المعروفة سلفاً.
الحلم هو واقع النص ومناخه.
اللغة لغة حلم. العاشقان من خلق الحلم. وما الوقائع والرواة والسرد إلا شراك مموّهة لاستدراجك إلى عتبة الحلم، وعندما تدخل لا تشتهي أن تخرج.
في هذا النص تتجاور الأضداد والنقائض - أو ما نعتبرها كذلك - إلى حد التمازج : التاريخ والأسطورة، التراث والخرافة، الواقع والوهم، الحاضر والماضي، الحقيقة والكذب، الإنسان والوحش، الشهوة والعفة، العنف والبراءة، المقبول والمحظور، الجنون والعقل، الشك واليقين، الشعر والنثر.
قاسم حداد يتلاعب بهذه الأضداد - التي نعتبرها كذلك - ويلهو بمصادره بوعي وبصيرة شاعر يؤسس عالمه الخاص من عناصر مستمدة من مملكة الفوضى، من الحكاية والذاكرة، من الأصبهاني والرواة (وأيضاً الرواة الذين ليسوا رواة)، من الوقائع المتناقضة والأحداث المتخيلة، من أشعار ابن الملوّح، من اللغة الحية.
وفي هذا العالم يطلق الشاعر نشيد الحب العذب، النشيد الحر الذي يصدر من فم حالم.
عندما كتب لويس كارول رائعته (أليس في بلاد العجائب)، لم يتوقع أن تحرز شهرة واسعة، وتستقطب إعجاب واهتمام الصغار والكبار ( السورياليين بخاصة) على حد سواء. فهذا النص المكتوب للصغار يحتفي بعالم الحلم والمخيلة، ويمجّد الغرابة، وببراعة يحرّض قارئه على رؤية الكائنات والأشياء من زاوية طرية، وبعينين طافحتين بالدهشة.
الأرنب الأبيض ذو العينين الورديتين، الذي يمر كالسهم أمام الصغيرة أليس الضجرة، يقود أليس - المدفوعة بالفضول والطيش - إلى الجانب الخفي، المستتر، من العالم اليومي الذي إليه ينتسب الكبار. ذلك الجانب، أو الإقليم المجهول، الذي تنحدر نحوه عبر نفق طويل وعميق، ليفضي بها إلى متاهة لا تخرج منها إلا لتلج متاهة أخرى أشد غرابةً وتحدياً لقدراتها وإمكانياتها.
لا شيء، ولا أحد، يسعف أليس في رحلتها الغامضة والعجيبة : الذاكرة تتشتت، المعلومات تتبدد، الماضي يتجرد من حياتها وينأى. وتبدأ في الشك في هويتها، إذ لا تعود تعرف من هي ومن تكون. محض طفولة مجردة من اليقين والتجربة، ومن كل ما يعصم.
إنها تلج العالم الآخر، وهي في غاية البراءة والسذاجة والطيش، لتواجه كائنات غريبة الشكل والسلوك والتفكير، ولتنخرط في أحداث لا تفهمها ولا تجد لها تفسيراً. لكنها أبداً لا تفقد القدرة على النظر إلى الأشياء بعين الدهشة.
لا شيء مستحيل في هذا العالم (النص) :
الظواهر الخارقة تحدث ببساطة. الأمنيات تتحقق فوراً. المعقول واللامعقول يتجاوران. المألوف والعجيب يتعايشان في موقع واحد. الواقع والحلم يتبادلان الأدوار. المتخيل والمعاش يمحوان التخوم الفاصلة بينهما. الأشياء تكتسب خاصيات غير عادية، سحرية وخارقة. الجوع إلى المعرفة والاكتشاف يحث على المغامرة التي لا يمكن التنبوء بنتائجها. وخلف الباب لغز يقود إلى لغز آخر، في سلسلة لا نهائية من الأسئلة التي تحوم بلا أجوبة.
أليس، في وحدتها وضياعها وخوفها، تستنجد بالخارق الذي يستجيب في لمحةٍ. هكذا تكبر وتتضخم، أو تصغر وتتقلص وتتضاءل، بفعل أدوات سحرية كالسائل أو الحلوى، وعلى نحو لا إرادي.
هذه التحولات الجسمانية (والعاطفية أيضاً) تعينها على اجتياز الفوضى المروّعة والجنون المنتشر، حيث المشاجرات والوقائع المزعجة والمضحكة معاً، وحيث السخرية الهادرة والمرح الصاخب، وحيث الملكة التي تحكم على الجميع بالإعدام، دون توقف، والمحكومون لا يُعدمون أبداً.
لهو مستمر، ودعابات لا تنقطع.
أحياناً يمارس الفجائي والشاذ تهديداً مباشراً، لكن لأن أليس تحلم (وهذا ما نكتشفه في النهاية) ولأن كل ما يحدث هو نتاج حلم، فإن أليس لا تستقبل كل ما تصادفه كضحية مرعوبة وإنما كراصد، تتأمل الأشياء بهدوء ورباطة جأش، على الرغم من المحاولات الدؤوبة لتوريطها أو تدجينها.
النص عبارة عن دعوة إلى الحلم، دعوة إلى التجربة المشتملة على الحقيقة الجوهرية للكائن، دعوة إلى اللعب الذي هو قرين الحلم. اللعب الذي ينقلب إلى حلم، والحلم إلى لعب.
والقارئ يحلم - بينما يقرأ - حلمه الخاص، مستحضراً تجارب الطفولة : الطفولة القاطنة خلف الأسوار.. والمتروكة للنسيان.
( 1 )
كان عليه أن يدفع ثمن غروره وغطرسته وأنانيته حين أبعد عن طريقه، بجفاء وخشونة، امرأة هرمة تلتمس منه الصدقة. لم يعرف أنها ساحرة متنكرة. لكن العقاب كان أشد قسوة، وأكثر عنفاً، من الذنب :
في لمحةٍ وجد نفسه مطروداً من عالم البشر، منبوذاً وملعوناً، محروماً من نعمة الحب والعناية، متقهقراً نحو جحيمه الخاص حيث لا صوت ولا ضوء. عتمة غامرة، يأس طافح، وبكاء طويل في ليل الوحشة.
في هذا الكائن، يتعايش الآن الإنساني والحيواني. ظاهره تشوّه لا يُحتمل، وباطنه جمال مشع.. لكن من يرى ؟
صار مسخاً مخيفاً لا يثير سوى الرعب والنفور. صار يحمل اللعنة التي تثقل كاهله وتدمي قلبه أينما يمضي وأينما يحل. كأنه القربان الأبدي. الضحية التي يجب أن تكفّر عن خطايا كل البشر، ولا شفيع لها ولا مغفرة.
لكن قبل أن يمضي وحيداً، زرعت الساحرة في روحه بذرة أمل : لن يستعيد شكله البشري إلا حين تفتح له امرأة قلبها، وتمنحه الحب.
ومذ ذاك صار يتأرجح بين الأمل واليأس، بين الحكمة والجنون، بين النور والظلمة.. وإن كان أقرب إلى الحزن والألم.. فمن هي التي تقبل أن تنظر إلى مرآة روحه وتستطلع نبع الحنان والبراءة ؟ من التي تقدر أن تخترق بشاعة المنظر لتعانق جمال الجوهر ؟ هو الآن سجين شكله، قصره، قدره، عزلته اللامتناهية.
سجين اللعنة الأبدية.
ما مرّ إنسان من هنا، ما اقترب كائن من تخوم جحيمه.
الوقت حجّر قلبه، جمّد عواطفه، ونثر في أنحائه صقيع الغربة والعزل. وذات ليلة عاصفة، يتوه العائد من السفر فيلوذ بالقصر الموحش. في الحديقة يبصر وردةً. ابنته الجميلة عافت كل هدايا السفر ولم تطلب غير وردة. لكن ما إن يقطفها حتى يخرج الوحش غاضباً ومتوعداً، ذلك لأن الوردة هي أثمن ما يملك، بدونها، أو إن ذبلت قبل أن يلتقي بامرأة حلمه، فسوف لن يعود بشرياً إلى الأبد .
يهدده بالموت ما لم يعد بإحضار ابنته إلى قصره. يرجع المسافر إلى بيته ويحكي ما حدث. الوحش قادر على قتله في أي وقت يشاء، إذا لم يف بوعده. عندئذ توافق الجميلة على الذهاب إلى القصر كي تنقذ والدها. ما إن تبصر الوحش، للمرة الأولى، حتى يغمى عليها من فرط الفزع. أما هو، فيذوب قلبه حباً.
هاهي فتاة حلمه وقدره ومصيره، متمددة أمامه. وحدها قادرة أن تسقي بذرة الأمل بماء الحياة. وحدها المغسولة بأنداء النعيم، المعطّرة بأنفاس النبالة. كم هي آسرة هذه العذوبة النائمة على سرير العشب.
شفافة كالحلم، بهية كالفجر .
وحدها الملكة، وقلبه العرش.
عندما تصحو، يعتذر لها عن بشاعة منظره، عن مظهره الحيواني. ويسمح لها بأن تتجول في أنحاء قصره شرط ألا تقترب من البوابة. بعد ذلك يبوح لها برغبته في الزواج منها، وبأنه كل مساء، وقت العشاء، سوف يعرض عليها الزواج حتى تقبل.
شيئاً فشيئاً، يتبدّد النفور والخوف والحذر. تعتاد على مظهره. تستجيب لسلوكه المهذب ورقّة مشاعره. لا يعود في نظرها وحشاً، بل كائناً معذباً يتوق إلى الحب.
لكنها ترفض الاقتران به، وتعجز عن مبادلته الحب، غير أنها تهبه الصداقة، حساسيتها ورهافتها وبراءتها تجعلها تتآلف معه بأسرع مما كان يتخيل. وعندما تطلب منه ذات نهار أن يرافقها في جولتها، تطفر من عينيه دمعتان.. دمعة شكر ودمعة فرح. وعندما تضع يدها الدافئة على الفرو الذي يكسو جسمه، يشعر برغبة جارفة في أن يجثو بين يديها ويسلمها روحه.
يعرف أنه لن يستطيع انتزاع الحب رغماً عنها، يعرف أنها لن تكون له، لكن حسبه أن يحرز هذا الاحترام، هذا القبول، هذا الاعتراف. حسبه أن ينال الرفقة العذبة. عالمان يقتربان من بعضهما لكن لا يلتقيان. ما يفرّق بينهما أكثر مما يجمع بينهما : الإنسان والحيوان، الحرية والسجن، الجميلة والوحش.
والدها مريض. تطلب منه أن يسمح لها بالعودة إلى بيتها لمدة أسبوع فقط. يوافق. لكن يخبرها بأنه سوف يموت إذا لم ترجع.
هناك، في عالمها، تتعرّف للمرة الأولى على الوحوش الحقيقية، القاطنة في أجساد بشرية. جشع، أنانية، خيانة، تآمر، عدوانية، كراهية غير مبرّرة. وتدرك كم هو جميل ونبيل ذلك الكائن الذي تركته في حبسه. كم أخطأت في حقه، إذ لم تكن تصغي إلى ما يمليه القلب بل تستجيب إلى ما تراه العين. الآن تدرك أنه يستحق الحب الذي ينشده، وأن سعادتها لا تكتمل إلا معه.
أثناء ذلك، الوحش المهجور في داره، المتروك في عزلته مع آلامه وعذاباته، يبدأ في الاحتضار، فقد مضى الأسبوع ولم تعد الجميلة. هاهو يموت حالماً بأصابعها تداعب قسمات وجهه، وبأنفاسها تدنو لتهمس بالكلمة التي اشتاق إليها منذ زمن طويل : أحبك.
( 2 )
(الجميلة والوحش) حكاية خرافية كتبتها الارستقراطية الفرنسية دي فيلينو في العام 1740، تحكي فيها عن جنية شريرة تعشق شاباً وسيماً وتراوده، وحين يصدها ويعرض عن محاولاتها، تثور وتلعنه، فيتحول إلى وحش.
بعد 14 عاماً، كتبت ماري دي بومون نسخة معدّلة ومنقّحة عن هذه الحكاية. وكانت ماري آنذاك تعمل مربية أطفال عند العائلات الارستقراطية في إنجلترا، وفي الوقت ذاته تنشر الحكايات الخرافية والتربوية في إحدى المجلات النسائية.
في هذه النسخة تروي تحوّل الأمير إلى وحش بفعل لعنة تصبها عليه إحدى الساحرات، ووعي الجميلة بخاصيات الوحش الإنسانية الراقية، مما يدفعها إلى اختراق المظهر البشع لملامسة الجوهر الجميل والنبيل، المحاصر داخل جسد منبوذ ومحروم من أي حق ومتعة. الحكاية كانت تمجّد دور الحب، الذي يأخذ خاصية سحرية، في استعادة الحالة الطبيعية والجمال والنقاء.
الحكاية تحتوي على ثيمات قابلة لتأويلات متعددة :
ثنائية الداخل والخارج، العمق والسطح، الجوهر والمظهر، الحب والغريزة، الحقيقة والوهم، الثواب والعقاب.. إضافة إلى مفهوم الحرية، الوعد بتحقيق العدل، تعايش الإنساني والحيواني في الذات البشرية، الخوف من الحيوان.
وهي، مثل أية حكاية خرافية أخرى، توجّه رسالة أخلاقية وتربوية، ولا تخلو من النقد الاجتماعي. وبعرضها للأحداث الغرائبية والخارقة، وإظهارها للشخصيات الشاذة المنحرفة، فإنها تحتفي بعالم المخيلة والحلم. أما الصراع بين الخير والشر، في صورته المطلقة، فيبقى العنصر الأساسي والأزلي في كل حكاية.
النهايات السعيدة سمة دائمة في هذه الحكايات، لا يمكن الاستغناء عنها أو تخريبها. لكن النهاية السعيدة، وبالتحديد في الجميلة والوحش، تعتبر خيانة للحكاية، وتعبّر عن موقف ريائي، لأنها تدمّر الاحتمالات الرمزية والمجازية، وتفسد التأويل السيكولوجي الذي يفسر ثنائية الجمال والقبح، الخير والشر، الشكل والمضمون، كخاصيات إنسانية ملازمة ومتوحدة في الذات البشرية، ولا يمكن فصمها.
إن عودة الوحش، أو المسخ، إلى شكله الطبيعي، ليتمتع بوسامته الأصلية، هي محاولة لنفي أو دحض ما قامت وتأسست عليه الحكاية، وما تدعو إليه : إنها، جوهرياً، تستجوب حواسنا الناقصة، وقصورنا في فهم الكائنات الأخرى التي تعيش معنا، وتجاهلنا للمكامن التي تشعّ بالجمال والخير والحق.. ذلك لأننا ننظر ولا نرى، نحكم ولا نختبر، نقرر ولا نسبر، نعبر ولا نخترق. إنها تجعلنا نعيد النظر في مفاهيمنا وتصوراتنا.
لكن تأتي النهاية السعيدة هنا لتدمّر كل هذا، أو على الأقل، لتسبّب تشوشاً والتباساً، إذ أنها تعمل على تكريس المفهوم الخاطئ ذاته الذي نتبناه عادة : فالآخر يظل غريباً، مختلفاً، دخيلاً، شاذاً، وعدواً، ما لم ينتسب إلينا ويتماثل معنا، أو - في حالة الوحش - عندما يستعيد شكله الخارجي الطبيعي.
( 3 )
حكاية (الجميلة والوحش) ألهمت العديد من الكتاب والفنانين الذين قدموا تنويعات مختلفة للحكاية، أو اقتبسوها وفق تأويلات ورؤى خاصة.. سواء في النحت (كما عند رودين) أو الرسم (كما عند ماكس إرنست وبيكاسو) أو الأدب أو الباليه.
المينوتور (وهو كائن خرافي نصفه على صورة رجل، ونصفه الآخر على صورة ثور) استخدمه بيكاسو كثيراً في أوضاع مختلفة مع الجميلة. وفي إحدى لوحاته، يظهر المينوتور جاثياً قرب فتاة نائمة.. (إنه يتأملها، محاولاً أن يقرأ أفكارها، محاولاً أن يقرر ما إذا كانت تحبه لذاته.. كوحش. من الصعب تحديد ما إذا كان يريد إيقاظها أو قتلها) .. هذا ما قاله بيكاسو.
في السينما، قُدمت الحكاية مراراً وبتنويعات مختلفة.. في الأفلام الكرتونية وفي الأفلام الدرامية الطويلة. ومن أهم وأبرز هذه الأعمال فيلم جان كوكتو (الجميلة والوحش) (1945). أما التنويع فنجده في فيلم (كينج كونج) الذي يصور عشق غوريلا عملاق لفتاة جميلة.
الجميلة عبّر عنها بودلير، بشكل غير مباشر، في تعريفه للمرأة :
(هي التي تلقي بالضوء الأعظم، أو بالعتمة العظمى، في أحلامنا) .
في حديثه عن يوميات ادوارد مونش، الرسام التعبيري النرويجي، قال بيتر واتكنز :
(في يومياته كان مونش يستخدم صيغة المتكلم ( أنا )، وأحياناً يشير إلى نفسه في صيغة المخاطب "هو" أو يستخدم أسماءً مستعارة. كان يتيح لمشاعره حرية التدفق والاندفاع.. مشاعره تجاه فنه وعائلته، وتجاه الحياة والموت والنساء. قيل أنه كان يتكلم بتدفق مفاجئ، هكذا كان يكتب أيضاً. لم يكن يستخدم الفواصل والنقاط بين الجمل، بل كان يربط خيوط المشاعر والتداعيات والتوق والحزن والكراهية بواسطة خطوط قصيرة - هكذا، في جملة واحدة أو فقرة واحدة كان يكتب عن تمضيته عيد الميلاد الأخير مع أمه في 1868، وفي اللحظة التالية يكتب عن تعبه ويأسه بعد عشرين سنة أثناء زيارته لصانعي الأطر. بعد ذلك يتطرق على نحو غير متوقع في الفقرة التالية إلى إحساسه بالغضب والأسى إزاء والده، ثم فجأة يقفز إلى حدث آخر متذكراً المرة الأولى التي قبّل فيها هايبرج "المرأة المتزوجة التي أحبها". وحتى ضمن وصفه للحدث أو التجربة ذاتها، كان مونش ينتقل - دون أن يرفع قلمه - من الرقة إلى الاشمئزاز البالغ).
كم هو فنان عظيم هذا الذي رسم : الصرخة، الطفلة المريضة، الصوت، القارب الأصفر، الموت في حجرة التمريض.. وغيرها من الأعمال الخالدة. هذا الذي رسم حياته، تجاربه، مشاعره الباطنية، رؤاه، كوابيس عصره.
في لوحته (الطفلة المريضة) كان يعبّر عن أحاسيسه العميقة تجاه موت شقيقته صوفي. لم يكن يكترث بالتفاصيل الواقعية بل يجعلها ضبابية وغير واضحة، ذلك لأنه كان يجاهد في نقل اختلاجة النفس واهتزاز المشاعر إلى سطح القماش العاري، ساعياً إلى إيقاظ حالة مماثلة عند المشاهد. لقد كان يناضل من أجل أن يتذكر ومن أجل أن ينسى. وعن هذه اللوحة قال مونش : (لقد فتحت طريقاً جديداً في مساري الفني. أغلب أعمالي اللاحقة تدين بنشوئها لهذه اللوحة التي أثارت الاستياء في النرويج أكثر من أية لوحة أخرى لي).
الخدوش والندوب والضربات التي تمتلئ بها لوحاته، تعبّر عن روح معذبة، مشحونة بالقلق والمخاوف. لقد اختبر الخوف والكبت، الوجع والتوق، الحنين إلى لحظات السعادة الوجيزة التي فقدها إلى الأبد. لم يجد إشباعاً لحاجته الدائمة إلى الآخر، وعانى كثيراً من اخفاقاته في إقامة علاقات مع الآخرين (مع النساء بالذات)، لهذا كانت أغلب أعماله تصور معضلات الاتصال الإنساني. ومنذ طفولته، كان شبح المرض والجنون والموت يرافقه كالظل. أخيراً، في العام،1908 أودع نفسه في عيادة طبيب نفساني.
دائرة سوء الفهم والجهل وضيق الأفق لم تحط بحياته الخاصة فحسب (الزعم بأنه كان معادياً للمرأة وأن لوحاته تشف عن كراهية للنساء) بل أيضاً بأعماله الفنية. فقد تعرض طوال حياته إلى هجوم عنيف من النقاد، وبعد إقامته معرضاً في أكتوبر 1895، تسابقت أقلام النقاد على صفحات الجرائد في السخرية منه والاستخفاف به والحط من قدره والشك في موهبته وقدراته.. وهذا بعض مما قيل عن أعماله :
(هلوسات عقل مريض).
(سخف وقبح بالغ.. لوحات وضيعة وبغيضة.. بشاعة صريحة وزاعقة).
(هذا ليس فناً.. إنه هراء)
(خلو المعرض من الحضور سيكون أفضل طريقة لكبح هذا التهور والتطرف).
مع ذلك، لم يمتثل مونش ولم يستسلم، بل ظل صادقاً مع مشاعره ورؤاه.
حساسيته النفسية والفنية جعلته يعيش أغلب سنوات حياته في المنفى الاختياري، في العزلة المطلقة. كان يؤمن بأن فنه ليس نتاج عقل مختل، وكان ينشد ما يسميه (الفن الذي يستحوذ على المرء ويحرك أحاسيسه).
أعماله الفنية كانت تتنبأ بالعزلة والإنسلاب والرعب الذي سوف يعيشه إنسان القرن العشرين بعد حرب عالمية مدمرة. ألم يقل هذا الرائي في يومياته أنه يرى "سماء" تلتهب كالدم "ويشعر" بالصرخة المديدة، اللانهائية، القادمة من خلال الطبيعة) ؟
اقترنَ اسم المركيز دي ساد، في مختلف البحوث والمراجع والإشارات، بالسادية التي (في أحد أكثر مظاهرها بروزاً وتعميماً، وأكثرها إثارة للخلط والإلتباس ) تعني الانحراف الجنسي الذي يتسم بالتلذذ في إنزال صنوف العذاب بالآخر. وبالنتيجة، لم يحدث أن تشوّه إسمٌ في تاريخ الأدب، وذُكر مصحوباً بالازدراء والاستهجان زمناً طويلاً، مثلما حدث مع ساد.. هذا الكاتب الفذ، الفيلسوف، المدافع الأكبر عن حرية الفرد وبراءته.
على الرغم من التأثير الواسع والفعّال الذي مارسته كتاباته في عدد من الروائيين والشعراء والمفكرين، إضافة إلى الاتجاه الفرويدي في علم النفس، وعلى الرغم من احتفاء السرياليين به إلى حد اعتباره واحداً من أسلافهم، إلا أن الأوساط الثقافية ظلت تنظر إليه كشخص ملعون، سيئ السمعة، تحفل كتاباته بما هو فاحش وشائن ومريض. وكان عليه أن ينتظر سنوات حتى يعاد الاعتبار إليه ككاتب مهم، بارز، ومحترم.. ولتدرس أعماله كنتاجات متميزة تعبّر عن ثورة الإنسان الحر ضد التسلط والقهر.
في العام 1909 كتب الشاعر أبولينير عن ساد بوصفه الروح الأكثر حرية من أي كائن آخر، وقد تنبأ بالاهتمام الذي سيلقاه حين قال : "هذا الرجل، الذي جوبه بالتجاهل، ولم يجد التقدير والاهتمام طوال القرن التاسع عشر، سوف يحقق حضوره المهيمن في القرن العشرين".
إن تأثيراته في مجال الفكر والأدب نجدها ساطعة في بعض كتابات شيلي، بودلير، لوتريامون، نيتشه، كافكا.. والعديد من الكتاب المعاصرين.
ولد ساد في العام 1740 ونشأ في وسط أرستقراطي سرعان ما تمرد عليه رافضاً قيمه وتقاليده. ولم يكتف بهذا بل هاجم بعنف وشجاعة رياء وفساد البلاط الفرنسي، وقد دفع ثمناً لهذه المواقف سنوات طويلة أمضاها في السجن. وفي عزلته الرهيبة - محروماً من كل المتع والحاجات، متوحداً مع رؤاه وشفافية روحه - أبدع رواياته التي تمجّد الإنسان ورغباته، وتحذّر من التفسخ والانحطاط، وتعالج ببصيرة نافذة علاقة السيد والضحية من مختلف جوانبها الاجتماعية والجنسية والنفسية.
للجنس في أعماله دور بارز، فهو المحرك والدافع للكثير من الأفعال والسلوكيات، لكنه لم يكن إباحياً (بورنوغرافيا) على الإطلاق. ومن الجهل أن يُتخذ ساد رمزاً للانحراف الجنسي والقسوة المفرطة - وهي أفعال كان الإنسان يمارسها قبل مولده بقرون - في حين أنه كان يحرّض الإنسان على التمرد ضد التفسخ والإذلال عبر تجسيد العنف والهيمنة والاستبدادية التي يمارسها الفرد على الآخر، أو الجماعة القوية على جماعة أضعف منها أو على أمة بأسرها.. ومثل هذا الشكل من الهيمنة يتمثل بوضوح في الفاشية والسلطة التوتاليتارية. وإذا كانت شخصيات ساد تعبّر عن النزوع الاستبدادي وتشوّه الروح الإنسانية، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنها تعبّر عن فلسفة ساد نفسه، أو أنه يؤمن بها ويدعو إليها.
تحت سقف العنف والألم، كان ساد يبوح بحب عميق للكائن البشري، ويرجو أن يستعيد الإنسان براءته ونقاءه وحريته، وأن يتناغم مع الذات والطبيعة.
هانز رودي جيجر : فنان سويسري معاصر. تشكيلي ونحات ومصمم مناظر. رسوماته وتصميماته السريالية الغريبة، المتميزة، ذات الأسلوب الفريد واللافت، حققت له شهرة عالمية. عرضت أعماله في العديد من المعارض الفنية الكبرى. عن حياته وأعماله أصدرت بعض الكتب وصُنعت بعض الأفلام الوثائقية. عمل مصمماً للمناظر في المسرح والسينما.. في فيلم Alien صمم المركبة الفضائية الغريبة. وسطح الكوكب الغامض، والوحش الفضائي المرعب.
"يزعم البعض بأن أعمالي غالباً ما تكون كئيبة وتشاؤمية تثير الإحباط، مع توكيدات على الموت، الدم، الازدحام، الكائنات الغريبة.. الخ. لكنني لا أظن أنها كذلك. ثمة في مكان ما أمل ونوع من الجمال، إن بحثت عنه فسوف تجده. المخلوقات التي أصممها وأرسمها ليست غريبة عن محيطها الخاص أو دخيلة على البيئة التي توجد فيها".
(هانز جيجر) في أعماله تتوحّد الايروسية، الرمزية بمختلف أنواعها، النساء الجميلات اللواتي لا يشبهن النساء، التصميمات المعقدة والآسرة، الأطفال الرضع، الدم، الطيور، المناظر الطبيعية، العبودية، الشقاء واليأس، الجمال المخيف لكنه الأنيق الباذخ. وعلى حافة الجحيم الشهواني تحوم وتتأرجح هذه الصور، والتي فيها نلمس أصداء الأعمال السريالية : هيرونيموس بوش، سلفادور دالي.. غير أنها تنتسب إلى جيجر وحده، إلى مخيلته الخصبة، إلى أسلوبه المتفرد.
"يقولون بأن رسوماتي تصور عالم المستقبل. ربما هي كذلك، لكنني أرسم الواقع. أركّب معاً أشياء وأفكاراً عديدة، وعندما أنتهي منها، يمكن أن تظهر المستقبل. من يدري ؟ إذا كان البعض يرغب في تأويل أعمالي بوصفها تحذيرات بشأن الانفجار السكاني، المرض، المكننة في المستقبل.. فذلك شأنهم، وهم أحرار في تفسير ما يرون. شخصياً أحب أن أدمج الكائنات البشرية مع المخلوقات الميكانيكية. أحب أن أرسم العظام، فهي أنيقة وعملية، وقبل كل شيء، هي جزء من الكائن البشري".
رسم جيجر كوابيسه الخاصة التي " لا يمكن أن تكون فعلاً جمالياً فحسب بل أنها ممارسة فلسفية حقيقية.. لقد اكتشف أن الرعب امتياز إنساني، فلماذا يحاول حجبه بالمصطلحات اللغوية ؟" ( ريدلي سكوت )
لذلك كان جيجر يستثمر كوابيسه وأحلامه الغريبة : (عندما أصحو من النوم، أقوم برسم الأشياء التي رأيتها في حلمي. ذلك يجعلني أشعر بتحسّن، والكوابيس عندئذ تغادرني حتى يحين موعد الحلم الآخر)
في أعماله تتجاور - إلى حد التمازج - القوة والهشاشة، القسوة والرقة، العنف والرهافة، الجسد الأنثوي والجسد المعدني في تخطيط متناغم. الألوان الرئيسية التي يستخدمها عادةً هي الرمادي والأبيض والبني.. (إنها ألوان قطتي السيامية. استخدم الحبر الأسود أيضاً. أميل إلى وضع الأبيض على الأسود.. إنه يمنح أعمالي نوعاً من المظهر نصف الشفاف، وأحياناً مظهر ثلاثي الأبعاد. وجوه النساء في أعمالي غالباً ما تكون مستعارة من وجوه نساءٍ أعرفهن)
في كتابها (المرأة وعقلها : قصة الحياة اليومية) تقول مريديث تاكس، على لسان المرأة - ربّة المنزل - المحتجزة في بيتها :
(حين أكون وحيدة مع نفسي، أكون عدماً، لا شيء. أعرف أنني موجودة لأن شخصاً ما يحتاجني، شخصاً حقيقياً : زوجي، أطفالي. زوجي يخرج إلى العالم الحقيقي. الآخرون يميّزونه ككائن حقيقي له مكانته واعتباره. إنه يؤثر في الآخرين وفي الأحداث. يفعل أشياء ويغيّر أشياء والتي ستكون مختلفة فيما بعد. أنا أقطن في عالمي المتخيّل، في هذا البيت، أمارس أشغالاً أخترعها ولا أحد غيري يبالي بها. أنا لا أغيّر الأشياء. العمل الذي أمارسه لا يغيّر شيئاً. ما أطبخه سوف يختفي، ما أنظفه يوماً سوف يتعيّن عليّ أن أنظفه مرة أخرى في اليوم التالي. إنني أستغرق في أداء عملية غامضة أكثر من أفعال ذات نتائج. المرّة الوحيدة التي أظن أنني ذات حقيقية هي عندما أسمع صراخي أو أكون في حالة هستيرية، لكن في هذه المرات أشعر بخطر عظيم.. أن يقال لي بأنني مخطئة، أو أن ما أفعله لا يتناسب مع حقيقتي وطبيعتي، أو أن يكرهني زوجي. إذا شعرت بأنه لم يعد يحبني فسوف أتحطم، ولن تكون لدي غاية في الحياة، ولن أعود واثقة بأنني حية. يجب أن أمحو نفسي لكي أتجنب ذلك، ولا أفرض مطالب عليه، أو أرتكب ما يزعجه ويغضبه. أحس الآن أني ميتة، لكن إذا كف عن حبي فسأكون فعلاً ميتة. فبدونه أنا صفر. لاشيء. ينبغي أن أكون مرئية أو ملحوظة لكي أعرف أنني موجودة. لكن إن محوت نفسي، فكيف يمكن أن أكون مرئية؟)
هذا ما قالته المرأة الغربية (الأمريكية تحديداً)، وهذا ما تقوله المرأة الشرقية (العربية تحديداً) منذ قرون وحتى يومنا هذا. ما الفارق ؟ إلى أي مدى تغيّر الحال ؟ جذور الكبح ضاربة في العمق. والدعوات اللحوحة لتهميش هذا الكائن البشري (خوفاً عليه أو منه) تزداد حدّة وشراسة.
مطالبات لا تنتهي بوجوب إرغام المرأة على العودة إلى الحظيرة، إلى البيت حيث المأوى والملاذ، حيث تكون التابع أو الظل، حيث الدور المرسوم بعناية. الدور الذي ينحصر في إرضاء الآخرين وتلبية رغباتهم. البيت هو الذي يشكل وجودها ويحدّد قيمتها. فيه تطبخ، تنظف، تخيط، تربّي الأولاد، توفر الراحة، تجامل الأقارب، ترحّب بالضيوف. وعليها أن تبدو جذابة وجميلة ومهذبة وهادئة باستمرار. تصرفاتها محسوبة، سلوكها مراقب، أفكارها مكبوحة.
لا ينبغي أن تملك ذاتاً. بالأحرى هي لا تحتاج إلى ذات. عليها أن تعيش من أجل الآخرين لا من أجل نفسها. وهي بلا هوية. الآخرون (الأب، الأخ، الزوج) هم الذين يخترعون لها هوية. بدونهم تضيع، تصبح عدماً. خارج البيت ستكون مكشوفة ومباحة، بلا حماية ولا حصانة، ستكون الضحية المرتقبة. شيء ما سوف يحدث لها. عندئذ سوف تدمّر نفسها أو ربما غيرها. البيت هو ملجأها الوحيد، الحصن المنيع، هو عالمها..
لكنها تدرك بأنه العالم الذي لا تستطيع أن تسيطر عليه وتشعر فيه بالأمان. العالم الذي تكون فيه محجوبة أو ممحية.
هاهي وحيدة، ومحاصرة، تنظر في رعب إلى حشد متجهم يحوّل الحضارة إلى صحراء، والعالم إلى خيمة، والبشر إلى قطيع، والكائن الأجمل (المرأة) إلى شيٍ فاقدٍ للمعنى ومسيّج بالمحرّمات.
السينما عالم حكمه الرجل منذ ظهور الحركة الأولى على الشاشة.
وعندما خرجت المرأة من البيت متحررة من هيمنة الرجل، باحثة عن هويتها الخاصة، راغبة في تحقيق ذاتها ووجودها وفرض استقلاليتها، أصبح الرجل بلا ظل، بلا تابع، بلا مملكة. عندئذ اخترع (على الشاشة) صورة للمرأة تتوافق مع معاييره ورغباته وتخيلاته. صورة من لحم ودم، لكنها لا تعكس حقيقة المرأة، روحها، جوهرها، أفكارها، مشاعرها، رؤاها.. بل تعكس مفهوم الرجل للجمال والمتعة والامتثال والملكية في علاقته بالمرأة.
للصورة وجهان :
وجه عذراء. جميلة، ناعمة، ضعيفة، مطيعة، مستسلمة، سجينة تكوين فيسيولوجي ناقص وعاجز. طريقها واضح، مصيرها محدّد. إنها المؤهلة لأن تكون زوجة صالحة وأماً طيبة تبتسم في امتنان أثناء تقديمها الوجبات الثلاث اليومية، وإنجازها للأشغال الشاقة في البيت. إنها الحبيبة، الأخت، الأم.
وجه مومس. شريرة، شهوانية، مغوية، غامضة. تحركها الغريزة لا القيم والأخلاق. وهي تستغل جاذبيتها الجنسية في الإيقاع بالرجل المحترم وتحطيم الزواج السعيد. إنها لا تهدد حياة وسعادة الأفراد بل تسعى أيضاً إلى تقويض النظام وإشاعة الفتن. لذلك فإنها تستحق العقاب بأكثر الأشكال عنفاً : القتل، الانتحار، الجنون. ولأن هذا الوجه يمثل المرأة المتحررة، المستقلة، الإيجابية، فإن العنف موجّه أساساً إلى النموذج الواقعي الخارج عن سيطرة الرجل.
مع ظهور سينمائيين حساسين ومتحررين من مركبّات النقص، واقتحام المرأة لمجال الإخراج السينمائي، انتقلت المرأة من الهامش إلى المحور، واكتسبت حضوراً مشعاً. غير أن الصورة ذاتها - في الاتجاه السائد - لم تتعرض للتدمير، فما تزال الشاشة تعرض تلك الطبيعة النرجسية والمازوشية، الحالة السلبية، السلوك الاعتباطي والغريزي للمرأة.. هذا الموقف العدائي الذي يعبّر عن ازدراء صريح لحقيقة المرأة كمخلوقة حرة، مستقلة، منتجة، خلاقة، حساسة.
المرأة كجسد بلا عقل، كغريزة بلا عاطفة، كمادة جنسية مباحة، كتابل مهيّج للشهوة، كشيء قابل للامتلاك بواسطة النظر، كمشهد إباحي لإشباع الميول التلصصية، كسلعة متداولة في وسط مكبوت جنسياً.. كل هذا يتجسد في مجال البورنوغرافيا.
البورنوغرافيا في أصلها اللاتيني تعني حرفياً : الكتابة عن المومسات. وقد اكتسبت الكلمة معان ٍ أخرى مختلفة، في الاستخدام المعاصر لها، حتى اختلطت التحديدات إلى حد التعارض، وإن ظل المفهوم العام ثابتاً، حيث تشير الكلمة إلى (التصوير الصريح للفعل الجنسي (.
الكاتب د. هـ. لورنس يشير إلى البورنوغرافيا بوصفها "خلطاً بين الأعضاء التناسلية والأعضاء الإفرازية نتيجة القرابة التشريحية والتحريم الثقافي".
والكاتبة انجيلا كارتر تصف البورنوغرافيا كـ "تعبير تجريدي لفعل الجماع الإنساني الذي فيه تُختزل الذات إلى عناصرها الشكلية ".
ومن بين التحديدات العديدة للكلمة نختار :
" تمثيل تخيلات الحياة الجنسية الطفولية " (ستيفن ماركوس)
" تسجيل تخيلي لرغبة الإنسان الجنسية " (بيتر مايكلسون)
" جوهر الدعاية المضادة للمرأة وفلسفة الاغتصاب " (سوزان براون ميلر)
" سادية ثقافية " ( كاثلين باري )
البورنوغرافيا في السينما كانت ضرورية لهدم سلطة الرقابة واختراق تابو الجنس، وكمرحلة لبلوغ التصوير الايروسي حيث الجنس يصير فعلاً إنسانياً محرراً، وبالرغم من أنها تقدم معرفة بصرية للممارسة الجنسية بمختلف أشكالها، وتتيح إشباع الفضول ومراقبة واختبار جسد الآخر في حركاته وإيماءاته والتواءاته وتعابيره، وتساعد على إطلاق شحنات التوتر، إلا أن توكيدها على دافع الربح التجاري بتصوير الفعل الجنسي المجرد، على نحو تكراري، وتعاملها مع الجسد البشري كسلعة استهلاكية، يجعلها عرضة للهجوم العنيف.
بتحويل الجسد إلى بضاعة رائجة، إلى مادة للإستمناء، واختزال الفعل الطبيعي والحر إلى حركات ميكانيكية مرهقة، يُنتزع من الكائن البشري سحره وغموضه ليصل إلى حالة من التشيوء والحيونة.
البورنوغرافيا مجردة من الحس الجمالي، وتفتقر إلى النعومة والعذوبة والروح الرومانسية. الحب والفرح من الأشياء المجهولة. الدعابة مفتقدة إلا في أحوال نادرة. المظاهر الحسيّة (النظرات، المداعبات، الملامسات، القبل، التعري) مخفّفة وثانوية، إنها ذات وظيفة منفعية محضة تهدف إلى تهييج الآخر (المرأة غالباً ) وتهيئته للمباشرة في الفعل، وليست موظفة من أجل تحقيق أعلى درجات اللذة. المتعة منبوذة أو مشوهة. الخيال غائب كلياً عن المشهد.
إنها تصور العلاقة بين الذكر والأنثى في مظهرها البدائي، المعزول عن الفكر والعاطفة والدوافع السيكولوجية والنسق الاجتماعي. إنها تعرض الفعل الجنسي، بمباشريته وتجريديته، دون تمهيد. تبدأ من الفعل وتنتهي به. غايتها تهييج المتفرج وإثارة غرائزه وتمثيل، أو إعادة تمثيل، تخيلاته الجنسية، وليس تحريك مشاعره واستجواب عواطفه.
يعتقد منتجو أفلام البورنوغرافيا بأن تصوير الأوضاع الجنسية، في حالات متكررة ورتيبة، كافٍ بذاته لإثارة المشاهدين وتثبيت اهتمامهم وتغذية تخيلاتهم الاستمنائية. هذا يفسر عدم اهتمام تلك الأفلام ( ذات التكاليف الضئيلة ) بالخاصيات الفنية والجمالية، واعتمادها على سيناريوهات فقيرة في الحبكة والسرد والبناء، مركّبة في شكل أحداث متفرقة، مفصولة عن بعضها، تحتوي على سلسلة لا نهائية من المضاجعات الاعتباطية التي تخلو من العاطفة والضحك والتوتر والاسترخاء والارتباك، وتوظيفها لممثلين وممثلات من الهواة، بوجوه جامدة وتعابير صارمة ومشاعر شاحبة، راغبين في الكشف عن أعضائهم التناسلية وممارسة ما يملى عليهم من أشكال المضاجعة دون امتلاك القدرة على إيصال مشاعر إنسانية وبواعث سيكولوجية. كما تتكئ هذه الأفلام على المونتاج المتوازي - طوال الوقت - بين الاتصال الجنسي في لقطات كبيرة والوجوه التي تستجيب إلى تأثيرات الاتصال.
غالبية أفلام البورنوغرافيا تعبّر عن وجهة نظر الرجل الذي يرى المرأة بوصفها ) الآخر (، الغريب، الشهواني. ولكي يمتلكها ويستعمرها جنسياً - بواسطة الصور - فإنه يفصل جسدها عن روحها وعقلها، ويحوّل هذا الجسد إلى مادة عرض، اشتهاء، إشباع. وإذا كان جسد الرجل بدوره عرضة للانتهاك والتسليع، إلا أنه يبدو مسيطراً بفحولته، إيجابياً، قادراً على إخضاع الجسد الأنثوي. إنه مستخدم كأداة لاستحضار، أو تمثيل، فانتازيا الذكر. ومثلما الواقع يعكس هيمنة الرجل اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، فإن البورنوغرافيا تعكس هيمنة الرجل جنسياً.
المرأة هنا كائن سلبي وعاجز، موضوع رغبة، شيء سهل المنال. قيمتها تكمن في مظهرها الجسماني (الإعلانات والمجلات النسائية أيضاً تؤكد هذا الجانب وتعزّزه بصورة انتقائية ) وتكمن في قدرتها على إمتاع الرجل. قليلة هي الأعمال التي تصورها فاعلة، باحثة عن المتعة، في سلوكها الجنسي. إذ أن فعاليتها تشكل تهديداً لسطوة الذكر.
البورنوغرافيا، في بعض مظاهرها، تعبير عن الحالة العدوانية لدى الذكر تجاه الأنثى، وهي تتجسد أكثر في مشاهد الاغتصاب حيث تبدي المرأة مقاومة قصيرة، غير جادة، تستسلم بعدها في رضا وتلذذ كما لو أنها تخفي في قرارتها جوعاً ضارياً إلى الاتصال العنيف. إنها إعادة توكيد للاعتقاد السائد بأن المرأة تنشد الاغتصاب وتستمتع بالألم والإذلال. العدوانية في هذه الحالة تصبح مبررة، فهي تفجّر المكبوت وتحرّر الرغبات الدفينة وتكشف الميول المازوشية عند النساء.
الايروسية eroticism مشتقة من الكلمة اللاتينية erotikos التي تعني حرفياً الحب الجنسي. إنها نقيض البورنوغرافيا. وإذا كانت الفروقات بين الايروسية والبورنوغرافيا واضحة في الأدب، فإنها في السينما تصبح غير مؤكدة، إذ يصعب التمييز بينهما، فما ينظر إليه شخص باعتباره بورنوغرافياً ينظر إليه آخر باعتباره أيروسياً.
ويشير الكاتب جيرار لين في كتابه ) الجنس على الشاشة ( إلى حقيقة أنهما وجهان لظاهرة واحدة، لا يمكن لأحدهما أن يوجد بدون الآخر. الأيروسية وظيفة عقلية، إنها ما يحدث في ذهن المرء. البورنوغرافيا وظيفة بدنية، إنها ما يحدث بين الأجساد. وإذا كانت الأيروسية متخيلة فإن البورنوغرافيا بيانية ووصفية، وبهذا المعنى فإن أي تمثيل هو بورنوغرافي بالضرورة.
البورنوغرافيا هي أية صورة لا تعتمد كلياً على الحس. وعكسياً، الأيروسية هي تمثيل تخيلي، والمتخيل غير محسوس.. فيما عدا في السينما. السينما تجسد التخيلات وبالتالي تلغي كل الفروقات وتسد الفجوة بين الخيال والتمثيل، أي بين الإيروسية والبورنوغرافيا. إذن من الابتسار - كما يقول جيرار لين - تعريف البورنوغرافيا كتمثيل للفعل الجنسي، والإيروسية كتوقّع للرغبة، لأن الرغبة لا يمكن أن توجد بدون الوعد بالإشباع.
مع ذلك، وكمفهوم عام، يمكن تحديد الاختلافات من واقع النظرة إلى الجنس في كلا المجالين :
الايروسية تنزع إلى اقتراح الأشكال الأقوى من الحميمية الجسمانية. إنها تصوّر العري كمظهر طبيعي مجرد من الرياء والاحتيال والمكر والدغدغة. العري في حد ذاته ليس فحشاً. ( في العري، فاحش كل ما هو ليس جميلاً.. يقول روبير بريسون ). إنه رمز كلاسيكي للنقاء والطهارة والبساطة. السمة المطلقة للبراءة. لكن الإيروسية لا تكمن فقط في العري (كذلك لا تهتم فقط بتعرية الأجساد وتهيئتها لممارسة الفعل الجنسي) إنما تكمن أيضاً في التلميحات والإيحاءات والرموز واللغة وطقوس المداعبة واللعب. الأعمال الإيروسية تلجأ إلى التلميح أكثر من التصريح. قدرتها على إثارة وتحرير التخيلات هي التي تمنحها قوة وفعالية.
الإيروسية توكيد على المتعة، متعة الحواس، أكثر من تشابك الأجساد. إنها تتعامل مع الجنس كلغة، كاتصال، فيها تتجلى الرغبة والمفاجأة والدعابة والحلم. النشاط الجنسي في الإيروسية وسيلة، بينما هو في البورنوغرافيا غاية.
البورنوغرافيا تعرض الجنس كفعل مفصول عن الواقع الاجتماعي والنفسي والتعقيدات الإنسانية.
الإيروسية تعرض وحدة الحب والجنس في الذات البشرية والعلاقات الاجتماعية.
البورنوغرافيا تسعى إلى التهييج والإثارة.
الإيروسية توحّد الغريزة والعاطفة.
البورنوغرافيا تمتهن الجسد، تتاجر به.
الإيروسية تدافع عن كرامة الجسد.
البورنوغرافيا تعتمد على ديناميكية الخضوع والهيمنة.
الإيروسية تقوم على التكافؤ والمساواة. المرأة ليست مادة بل ذاتاً فاعلة.
المطالبة بممارسة الرقابة ضد البورنوغرافيا ليست حلاً. إنها تظل، بصورة أو بأخرى، شكلاً من أشكال التعبير. والدعوة إلى مصادرتها هي دعوة ضمنية، شئنا أم أبينا، إلى فرض قيود على حرية التعبير والفكر في مجالات واتجاهات ثقافية أخرى. إذ ما الذي سوف يمنع جهات معينة، ذات منطق ومفهوم مختلف، من تحريم تداول أعمال لورنس وهنري ميلر وبازوليني وآخرين.. بذريعة أنها بورنوغرافية ؟ ما هي المعايير القانونية التي يمكن الاستناد إليها في تحديد ما هو بورنوغرافي وما هو إيروسي، ما هو فاحش وما هو غير فاحش ؟
من المؤكد أن البورنوغرافيا نتاج مجتمع يفرض القمع الجنسي، ويمجّد أو يشجع أو - على الأقل - يبيح إخضاع المرأة وتكريس تبعيتها. البورنوغرافيا سوف تزول بشكل طبيعي، أو تنتفي الحاجة إليها، عندما :
- يتحرر المجتمع ولا تعود هناك كوابح وضغوطات وتابوات.
- تسود المساواة وتلغى أشكال الاستغلال والاضطهاد.
- لا يتعامل المجتمع مع المرأة ككائن ناقص، تابع، أقل منزلة وحقوقاً.
- لا يفرض على المرأة أن تبيع جسدها نتيجة ضغط اقتصادي.
- يجرّد الرجل من حقه في إذلال المرأة وممارسة العنف ضدها.. جسدياً وجنسياً ونفسيا.
- يتوفر للمرأة الحق في الاستقلالية وإيجاد هويتها الحقيقية.
- تزول الهيمنة والإكراه والقمع.
- يتم الاعتراف باتحاد الذكورة والأنوثة في الكائن البشري.
1
السينما لا تحقق التأثير المباشر على المتفرج إلا إذا عزلته عن واقعه اليومي وأبعدته عن كل المؤثرات الخارجية التي قد تفسد أو تربك دخوله المطلوب في عمق الشاشة ليتعايش مع الشخصيات المخترعة هناك. ومن أجل ذلك، فإنها - السينما - تخلق عن طريق الحيل البصرية الحسيّة واقعاً بديلاً.. وهمياً لكنه أكثر سحراً وإثارة. وهي تحاول أن تقرّب هذا الواقع من نفسية وإدراك المتفرج عبر الإيحاء بحركة مماثلة لحركة الواقع الحقيقي، وعبر تقديم تماثلات مع مظاهر وعناصر الواقع.
إن معايشة الوهم تفرض انغماراً كلياً، على المستوى الشعوري واللاشعوري، في الصور التي تبعثها الشاشة. فالصورة السينمائية، بإمكانياتها المتعددة وجاذبيتها التي لا تقاوم، من حيث الحركة المتواصلة وتغيّر أشكال وأحجام اللقطات وتدفق الأحداث والحوارات، تؤثر بشكل فعال على حواس المتفرج وتحرّك مشاعره وتخترق لا وعيه، وتخلق لديه حالات من الاستثارة والتهيّج والإستجابات.. الواعية واللاإرادية معاً.
2
المتفرج يلج واقع الفيلم مثلما يلج النائم حلمه، منتزعاً نفسه (أو منتزعاً من قِبل الصور القوية والمؤثرة) من محيطه وواقعه اليومي، قابلاً في استسلام وخضوع بكل ما يعرضه الواقع الوهمي على الشاشة.
إن صور الفيلم تخاطب أو تتوجه بشكل مباشر نحو مشاعر ولا وعي المتفرج قبل أن تصل إلى عقله، لذلك فإن استجاباته تكون عاطفية (أي انفعالية) قبل أن تكون عقلية (أي واعية ومتأملة). إنه لا يحلل - أثناء المشاهدة - علاقة الصور ببعضها - مثلاً - أو علاقة الشخصية بالمكان، ولا يدرس دوافع الشخصيات وبواعثها وأفكارها، في حينها، بل - يخضع - في اندماجه الكلي مع الفيلم - لمؤثرات الصور ويدع نفسه تنجرف مع الأشكال والعلاقات، محاولاً فحسب أن يعيش ما يراه وما يسمعه، أي أن يكون هناك. فالعين المسحورة، المبهورة بما يجري، تكون لها الأولوية، ثم في مرحلة تالية ربما تأتي العين الناقدة أو المتفحصة.
إذن، في المشاهدة السينمائية، يصبح المتفرج فرداً وحيداً، منسلخاً عن محيطه وعن الحياة التي كان يعيشها في الخارج. حتى إحساسه بوجوده الخاص يتلاشى ما إن يضع قدمه على عتبة العالم الآخر ( عالم الشاشة ). وكالحالم يستسلم تماماً لحلمه. في هذا الجو الطقسي لا يشعر المتفرج بحاجة إلى الربط المنطقي للأحداث المتلاحقة، أو بالأحرى، لا تتاح له فرصة استحضار أدوات الرصد والنقد والتفسير.. فالسينما - كما يقول جان جودال - تقتضي منا فقط ذاكرة تكفي لربط الصور.
المتفرج أحياناً يجد نفسه في حالة بين اليقظة والنوم، أو يكون تقريباً أشبه بالخاضع للتنويم المغناطيسي. إنه، بالأصح، يتأرجح بين عالمين : الواقعي، المادي، الملموس. والآخر الوهمي، المتخيّل، المحسوس.
والذي يساعد على تهيئة هذا المناخ، ما يرافق عملية المشاهدة من مظاهر وحالات طقسية تقريباً : الصالة المظلمة، الشاشة المضاءة بصور متحركة، العزلة المطلقة التي يعيشها الفرد حتى عندما يكون وسط حشد من الناس، حالة اليقظة الجزئية، الهذيان الواعي، هيمنة اللاشعور نتيجة الغياب النسبي للعقل الواعي، انبجاس المشاعر والرغبات الدفينة دونما كابح.
عبر هذه الحالات تصبح المشاهدة تجربة شخصية، خاصة بالفرد، وليست جماعية. فالاستجابات وردود الفعل والآراء، تختلف وتتفاوت من شخص إلى آخر. إنها تتقارب فقط في اللحظات الموجهة، المتحكم فيها من قبل العاملين في الفليم، كأن يهدف المشهد إلى الإضحاك أو إثارة الخوف أو تحريك الوجدان ميلودرامياً. عندئذ نجد استجابة جماعية مؤقتة تتمثل في الضحك أو الصياح في رعب أو ذرف الدموع. فيما عدا ذلك تحتفظ تجربة المشاهدة بخاصيتها الفردية القائمة على التفاعل والمشاركة الحميمة بين ذات المتفرج وعالم الفيلم، بمعزل عن الذوات الأخرى المحيطة به والتي يشعر تجاهها بانقطاع تام، وبمسافة هائلة تفصله عن الكتل المجاورة له أو القريبة منه.
3
إذا كان الحلم في جوهره تعبيراً عن رغبات مكبوتة، كامنة في اللاوعي، وإذا كان الحلم الواعي، وبالمفهوم الاجتماعي، في أحد أشكاله، يعد تعويضاً عن قهر اجتماعي أو سياسي، حيث يجد فيه الحالم إشباعاً سيكولوجياً يعوضه عن الحرمان والقهر والإحباط الذي يعيشه في حياته اليومية، فإن السينما - في طبيعتها وخاصيتها - تقترب كثيراً من الحلم. إنها، بالأحرى، تصبح كالحلم.
التماثل أو التطابق، بين الفيلم والحلم، يبدأ منذ اللحظة الأولى. إن انطفاء الأنوار في الصالة وسيادة الظلام يماثل انطباق الأجفان، حيث يتم إقصاء المرئي والانقطاع عن مؤثرات الواقع والمحيط، والشروع في الاستسلام للصور المتدافعة على نحو غير منظم أو منتظم، والتي لا يمكن السيطرة عليها أو التحكم في مجرياتها.
إن لقطات الفيلم تشبه لقطات الحلم.. فهي مختزلة، سريعة، مجهولة المصدر، متعاقبة وفق نظام ومنطق خاصين بها. الأزمنة تكون مكثفة ومتداخلة، الأمكنة سريعة التحول. وفي كلا الحالين (الفيلم والحلم) تدخل إقليماً غامضاً لا تعرف إلى أين يفضي بك. إنك تجد نفسك مستسلماً كلياً لصور تتدفق على نحو حر، مؤجلاً - أو بالأصح عاجزاً عن - إصدار أي تقييم أو حكم نقدي واع.
الحلم نتاج الذاكرة والطاقة اللاواعية الكامنة في الذات. الفيلم نتاج مخيلة الآخر (الفنان)، لكنه يستغل بمهارة عناصر الحلم من أجل السيطرة على حواس وعواطف المتفرج، وتحريكه بدنياً وذهنياً، وبالتالي تحقيق أقصى ما يمكن من تأثير. سواء في الحلم أو الفيلم، المرء يكون مستسلماً لغزو الصور، عاجزاً عن صّدها أو تغيير مسارها، قابلاً بما تعرضه حتى لو كان صادماً ومنتهكاً.
الدخول في الشاشة دخول في الحلم، وقبول بالوهم. ويحدث التطابق الفعلي عندما يضع المتفرج نفسه محل الشخصية (أو البطل). إنه يصبح جزءاً من ذلك العالم الوهمي ومشاركاً فيما يحدث (ليس كلياً ولكن جزئياً، إذ يعود إلى حالته الأولى كمتفرج ما أن يتم تحطيم الوهم بشكل من الأشكال ).
هنا، عند حدوث التطابق، تتعرض التخوم - التي تفصل بين الواقع والحلم - إلى المحو، ويفقد المتفرج ذاته في الآخر (الوهمي)، ويصبح متأرجحاً بين ما هو واقعي (حالته كمتفرج) وما هو وهمي (حالته كشخصية).
ومثلما يجد المرء في الحلم نوعاً من التعويض، فإنه يجد في الفيلم أيضاً تعويضاً وحلولاً (وإن كانت وهمية ومؤقتة) لمشاكله ومعاناته وحالات الحرمان والقهر التي يعيشها. فالفيلم يخلق حالات تطلق طاقة التخيل - عند المتفرج - من أسرها، وتجعله يعيش في جو حافل بالإثارة. الصور تستثير ذلك النطاق الذي يكمن فيه ما هو مكبوت وممنوع، وهو يطلق أحاسيسه ورغباته عبر الآخر (بطل الفيلم) والذي يصبح ذاتاً أخرى. إنه يجد في ما تفعله الذات الأخرى إشباعاً وإرضاءً للنوازع المقموعة في واقعه اليومي.
4
بسبب العزلة التامة التي يعيشها المتفرج داخل الصالة المظلمة، وتوجه الفيلم على نحو مباشر وفوري إلى اللاشعور لتحريك الطاقات الكامنة، وخصوصية تجربة المشاهدة، واستسلام المتفرج لقوة الصور والحيل البصرية الأخرى التي يبتكرها صانعو الفيلم من أجل التأثير على حواسه ومشاعره، وخضوعه لتلاعبات العناصر الفنية الموجهة بصرياً وسمعياً على نحو مفاجئ.. فإن المتفرجين لا يشاهدون الفيلم المعروض ذاته ( كما لاحظ الشاعر والسينمائي الفرنسي جيرار ليجران) إنما يشاهدون ما تعكسه استجاباتهم (الشعورية واللاشعورية، السيكولوجية والفيسولوجية) تجاه الفيلم، وما تعكسه مستوياتهم الثقافية ودرجات إدراكهم ونوعيات الاهتمام والتذوق والحس الجمالي.
بالرغم من أن الفيلم عبارة عن حركات وأصوات ومؤثرات محدّدة ومصورة على أشرطة ومعروضة على الشاشة كما هي - دون أن تتغيّر - إلا أن كل متفرج ينظر إلى الفيلم من زاوية مختلفة تماماً عن الزاوية التي يرى منها زميله الجالس إلى جواره.. إن ذلك أشبه بالنظر إلى المرايا المحرّفة أو المشوهة التي تعكس مظاهر مغايرة ومتعددة لصورة واحدة.
الفيلم ذو أوجه وأشكال متعددة ومختلفة. إنه يتشكّل حسب ما يراه المتفرج، ذلك لأنه يخضع الفيلم لتصوراته وتخيلاته ورغباته الخاصة، مسقطاً عليه مشاعره وعواطفه وانفعالاته ومواقفه وتفسيراته طبقاً لقدراته الإدراكية وذوقه وميوله. أي أن كل متفرج يستمد من المادة المعروضة ( الفيلم ) العناصر والمصادر والأشكال والأحداث والكائنات التي بها، أو من خلالها، يستطيع أن يحقق فيلمه الخاص به. لهذا نجد شخصية ما - على سبيل المثال - تثير التعاطف عند متفرج بينما تثير النفور عند آخر في الوقت ذاته، أو نجد حركةً ما تحمل مدلولاً عند متفرج بينما تبدو خالية من المعنى عند متفرج آخر. وهكذا تتباين وتختلف معاني الفيلم الأصلي ومدلولاته وإيحاءاته ورموزه، مع تباين واختلاف وجهات النظر إلى العمل الفني. وبسبب هذا التباين والتعدّد يستحيل أن تلتقي كل الآراء في تقييم العمل بنفس الدرجة من التوافق والدقة، كما يصعب الحكم بالإجماع على قيمته الفنية إيجاباً أو سلباً.
حتى عندما يشاهد المتفرج فيلماً للمرة الثانية فإنه يراه على نحو مختلف وبعين مختلفة.. إذ قد يكتشف جوانب لم ينتبه لها، أو يستوعب ويفهم أموراً لم يحسن التقاطها والتركيز عليها في المرة السابقة، وربما يعيد النظر في تقييمه للعمل.. أي أنه لا يعود المتفرج الذي كانه، بل يصبح متفرجاً آخر.
ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا يكون عمل ما مبهراً ومثيراً للإعجاب في المرة الأولى، وعندما تشاهده في فترة لاحقة ربما تشعر بخيبة أمل وبأن العمل فقد جاذبيته ولم يعد يبهرك. والعكس صحيح أيضاً، فثمة عمل لا تشعر بميل نحوه، وربما ترفضه، وفيما بعد تكتشف فيه خاصيات مميزة أو رائعة.
هذا التحول في المزاج أو الذوق أو الإدراك قد يتعلق بتنامي الوعي والقدرة على التركيز والرغبة في الفهم، أو بالوقوع تحت تأثيرات خارجية (تحليل نقدي أو ما شابه)، لكن لا يمكن إنكار علاقة ذلك بطبيعة المشاهدة ذاتها والتي تفرض - كما ذكرنا - تحولات في زوايا النظر وتعدّد مجالات الرؤية واختلاف حالات التفرج.
عن الكتابة، عن غيرها
1
الكتابة تعبير عن مشاعر وعواطف وأفكار ومواقف.. وأنت تختار الكتابة لأنك لا تمتلك موهبة التعبير بوسائل أخرى، فأنت لا تجيد الرقص أو العزف، لا تحسن الرسم أو التصوير أو النحت، ولا تصلح لأن تكون ممثلاً أو مغنياً.
اتصالك الأول بالكتابة يأتي مباشرة بعد اعتقادك بأن لديك شيئاً مهماً تريد أن تقوله إلى الآخرين، وتظن أن هذا الشيء لم يقله أحد من قبل، أو لم يقله بالطريقة التي تراها الأفضل والأنسب. أحياناً تأتي الكتابة كاستجابة لإحساس ملحّ بالتعبير عن موقف ما من الحياة، وتحسب أن العالم كله يصيخ مستنفراً حواسه. وأحياناً لتلفت نظر تلك التي تحبها ولا تكترث بك، أو لتتباهى على أقرانك، أو لأسباب أخرى عديدة لا أعرفها.
تكتب التجربة الأولى، مع ما يرافقها من طيش وسذاجة واستسهال وتأثر فاضح في الأسلوب والصياغة بأعمال آخرين، لكن دون أن تعي كل نقاط الضعف هذه، أو تعيها لكنك تكابر.
بعد ذلك تشعر بأنك لم تعبّر إلا عن جزء بسيط مما يحتدم في داخلك، أو أن كتابتك لم تحقق ما كنت تتوقعه أو تهدف إليه.. لذا تواصل، ويحالفك الحظ (إذا كنت موهوباً حقاً) فتجد لكتابتك صدى. وتشعر بأنك قد اكتسبت مهارات معينة، والكثير من الثقة والتوازن.
موضوعاتك تبدأ في التنوع. الأهداف الأولى تتوارى لتنبثق غايات أخرى جديدة. وبالتدريج تختبر أنواعاً من المتع : متعة أن تكون معروفاً، متعة تلقّي الإطراء والمديح، متعة الدعوات التي تنهال عليك للمشاركة في الندوات والمؤتمرات، متعة اللقاءات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية، متعة المجادلات والمشاكسات.
في موازاة ذلك تتنامى وتتطور تلك العلاقة الحميمة بينك وبين الكتابة. تشعر بأنها صارت جزءاً منك أو صرت جزءاً منها. ثمة هذا النوع من الولاء والتكريس. وينشأ إحساس بأنك خُلقت لتكتب. الكتابة هنا تصبح تحقيقاً للذات، تعطي معنى لوجودك، بدونها يحاصرك الخواء والعجز.
مع مرور الوقت تصل إلى مرحلة تشعر فيها بضرورة التريث ومراجعة الذات وإعادة النظر واستجواب التجربة. ليس هو التعب ولا الإشباع ولا الاكتفاء، بل هو الإحساس بالمسؤولية وبجدية ما تفعل، وبأنه يتعين عليك أن تتعامل بشكل مختلف مع الكتابة. أن تكون متحولاً. أن تدهش نفسك وتذهلها قبل أن تدهش وتذهل الآخرين.
لا تعود الكتابة وسيلة أو وظيفة. إنها حياة تتعاطاها كالمدمن، تعيشها حتى الثمالة.
ثم تصل إلى مرحلة تكون فيها الكتابة مصدراً للوجع واللذة معاً، القلق والغبطة، التوتر والراحة، الأسر و الانعتاق. الإنتاج يقل، الوساوس تتكاثر. وحين تنتهي من كتابة النص تكون قد بلغت الحالة القصوى من الاستنزاف. تموت لتبعث في نص آخر.
2
في بداية تجربتك مع الكتابة، قد تتكوّن لديك قناعة بأن علاقتك بالكتابة سوف تتسم دائماً بالتوحّد والاكتفاء.. أشبه بعلاقة المعتزل بذاته، أو العاشق بمعشوقته، أو الناسك بصلواته. لا أحد، لاشيء، سوف يتدخل بينكما أو يتطفل عليكما. تقول أفكارك، مشاعرك، رغباتك، أحلامك، والكتابة تأخذ كل هذا وتقدمه إلى الآخرين، لعل أحداً يصغي ويتفاعل.
لكن يستحيل البقاء لفترة طويلة داخل الصدَفة التي اخترعتها لنفسك. فإذا كان ما تكتبه ملفتاً ومثيراً للاهتمام، فسوف يأتي من يطرق بابك ليراك ويتعرّف عليك، ثم يدعوك للانضمام إلى مجموعته الصغيرة المهتمة بشئون الأدب. وبعد ذلك إلى تجمّع أكبر، أكثر تنظيماً والتزاماً.
إنه ينتزعك من دائرتك الضيقة والسريّة إلى دائرة أوسع وأكثر انكشافاً. تقول : ) لا بأس، لن تضرني هذه المشاركة. على العكس، فالاتصال والتفاعل سوف يشحذان حتماً أدواتي الفنية، ويفتحان آفاقاً جديدة أمامي، ويوسعان مداركي ورؤاي (.
شيئاً فشيئاً تكتشف أنك محاط بعدد من الواجبات والالتزامات المرهقة : المشاركة في الندوات، الانضمام إلى لجان معينة، ترشيحك لحضور مؤتمرات أو مهرجانات. وسوف تكتشف أنك قد تحولت إلى ناقد أو منظّر أو رجل علاقات عامة. وعند نقطة معينة، تتوقف وتقول لنفسك : ) هذا يكفي، لا مزيد من الثرثرات والمجادلات العقيمة والمناقشات المكررة واللقاءات المملة. هذا أوان مراجعة الذات، وإعادة تقييم ما أنتجته. ثمة أشياء كثيرة ينبغي إعادة النظر فيها (.
من جهة أخرى، ومع مرور الوقت، تصبح معروفاً أكثر، وتعتبر من ضمن البارزين في مجالك الأدبي، بحكم تجربتك الطويلة واكتساب أعمالك قيمة معينة. وهذا يضيف عبئاً جديداً ربما هو أسوأ من تلك العروض والواجبات المقترحة عليك، وأعني بالعبء، اعتقاد أصحاب المحاولات الأولى في الكتابة أنك أفضل وأقدر من يمكنه توجيه النصح، وتصحيح الأخطاء، وإبداء الرأي. يأتي إليك، الكاتب المبتدئ، طالباً منك قراءة وتقييم عمله. وعبثاً تحاول إقناعه بأنها مهمة صعبة لأنك لست ناقداً، ولن تستطيع أن تكون موضوعياً في التقييم، وأن أي تقييم نابع من رؤيتك وتصوراتك الخاصة، فيما يتصل بالأسلوب واللغة، والتي لا تتوافق بالضرورة مع قناعات الآخر. غير أنه لا يقتنع بوجهة نظرك، ويتهمك بالتهرب أو الاستعلاء. وأحياناً ترضخ لإلحاحه، وعندما تشعر بعدم التعاطف مع عمله، فسوف تجد نفسك في مأزق حقيقي. هل تصارحه بقسوة، فتدمّر الطاقة المحتملة، الكامنة فيه، أم تجامله فتفسده ؟ كيف يمكن إقناعه بأنك آخر من يصلح لإطلاق الأحكام النقدية ؟ وكم من شخص جاء إليك، طالباً الاستفادة من خبرتك، وانتهى الأمر به إلى توجيه سهام الكراهية نحوك، وادّخار ضغينة لا شفاء منها تجاهك لمجرد أنك أبديت رأياً سلبياً لم يعجبه، واعتبره انتقاصاً ؟ من خلال التجربة تكتشف أن البعض، ليس فقط المبتدئين، يأتي طالباً الإطراء لا التقييم، وهذا البعض لديه القابلية لأن يعتبرك - في لمحة - عدواً.
متى يدرك الآخرون أنك كاتب فحسب. كاتب ينزوي في غرفته، حاملاً عبء الكتابة وحدها (مثل سان جون بيرس) وليس في حاجة إلى أعباء إضافية لا تتصل باهتمامه الرئيسي.
3
من الأمور المربكة والمحرجة التي يتعرض لها الكاتب، أو أي فنان، الافتراض بأن الكاتب متحدث عارف، بارع، مؤهل للكلام في أي موضوع ثقافي، وحتى في شئون غامضة ومعقدة.. كمسألة الحياة والموت. ونتيجة لهذا الافتراض، فإن الكاتب مطالب بأن يلبّي أية دعوة للمشاركة في ندوة ما، أو في إجراء مقابلة معه في الصحف أو الإذاعة أو التلفزيون.
إنه غير محصّن أمام هذا السيل الجارف من الأسئلة (العميقة والسطحية على حد سواء) ويتعيّن عليه أن يكون متأهباً دوماً، مستسلماً أمام أي اختراق، مالئاً جيوبه بالأجوبة. كما لو أن من شروط الكتابة أن تكون متحدثاً لبقاً، فصيحاً، ولديك معرفة شمولية، في حين أنك لا تقدر، لا تعرف، وتشعر بالاضطراب والارتباك والتوتر. وعندما تعتذر، يتهمونك بالغرور أو التواضع المبالغ فيه.
الكاتب يعبّر بالكتابة، لا بالكلام. الفنان يعبّر بريشته أو آلته أو جسده، لا بالكلام. إنه ليس خطيباً أو واعظاً أو داعية. العمل الفني هو الذي ينطق لا الفنان.
ويزداد الأمر سوءاً عندما تكتشف بأن الذي جاء ليدير معك الحوار، شخص لا يعرفك جيداً، لا يعرف شيئاً عنك، لم يقرأ ما كتبته أو لم يشاهد أعمالك، وإذا فعل فبسطحية وعلى عجل. إنه لا يكلّف نفسه عناء البحث والإطلاع، فما جاء إليك إلا لإنجاز مهمة كُلّف بها. وعليك أن تبلع الإهانة وتجيب على الأسئلة التافهة بإجابات تافهة. وجودك، بالنسبة إليه، صدفة. حضورك، بالتالي، ضربة حظ. لو لم يجدك لوجد غيرك.. أنت هنا مجرد موضوع، مادة، ولا حرية لك.
4
عندما تعبّر عن رأيك، شفوياً، في أمور وقضايا ثقافية - على سبيل المثال - فإنك أحياناً سوف تفتقر إلى خاصيات معينة في التعبير : التركيز، التكثيف، الاختزال، التماسك، التنسيق، حرية انتقاء المفردات.
ربما يتميّز تعبيرك بالعفوية والصدق (مع أن هذا قد لا يتوفر دائماً) لكن بدون تلك الخاصيات يصبح كلامك مشوباً بالارتباك والتكرار والتخلخل والاعتباطية والشروحات الفائضة. وسوف لن يسعفك الوقت (سواء في المقابلة أو الندوة، نظراً لمحدودية الزمن) للاعتناء بعباراتك، واختيار المفردات الأنسب، وصقل الجمل وتشكيلها في بناء لغوي متماسك.
أنت، في حالة الكلام، تهتم فقط بتوصيل فكرة أو مفهوم أو معلومة. أن تكون واضحاً ومفهوماً. أن تدافع وتضمن ألا يساء تأويل ما تقول. المحتوى هو المهم وليس الشكل. وعلى نحو متعذر اجتنابه، تهمل جانب البناء والتنسيق والزخرفة. الخاصيات، المفتقدة في الكلام، تجد الرعاية والحرص والاهتمام في الكتابة. هنا يخضع القول للفحص والمراجعة والتدقيق. كل الزوائد والإضافات غير الضرورية يتم استبعادها. تراكيب الجمل والمفردات تكون تحت العناية الدقيقة على المستوى الجمالي والنحوي، ولن تكون عرضة للتدفق العشوائي. المحتوى والشكل يكتسبان أهمية متساوية تقريباً. الكتابة، بالتالي، هي التعبير في شكله الأرقى والأكثر صفاءً.
من هنا نفهم تجنب البعض، من كتّاب وفنانين، إبداء آراء شفوية، أو إجراء مقابلات غير مكتوبة. وكم صادفنا من حالات يسارع فيها البعض لإنكار ما ذُكر على لسانهم، وإرجاع ذلك إلى سوء الفهم أو النيّة السيئة عند الطرف الناقل. كذلك نفهم عدم رغبة الكثيرين في نقل كلامهم حرفياً، وإصرارهم على مراجعة المقابلات قبل نشرها للاطمئنان على أمانة النقل والصياغة وقوة التعبير .