يسمع ويرى ويستدخل. الحواسّ مستودعُهُ، عبرها يمرّ العالم، وبها يمتصّ حصّتَهُ، وحصّةَ الضّالعين معه في الجرح، مرارةَ هذا العالم في وجودها الفيزيائي المحض؛ تترجمُها وجوهُ القسوةِ والغلظة ينشقّ عنها ليلُ الجلاد وعتمة السجن وخنادق الحرب ودروب المنفى. تجربةُ الألم في منتهاها؛ مسمارُ الوجع الذي يثقبُ الرّوح؛ مهمازُ الحزن يلكزُ الخاصرةَ فيتفسّخ اللحمُ وتنتشر الرائحةُ عاصفةً تقصفُ وناراً تلفح. ذاك فؤادُ الشاعرِ ينبضُ بين السطور. ذاك دمُهُ يسيلُ في الحبر.
تجربةُ الجَوْرُ والتعذيب يختبرها الشاعر السوري عارف حمزة في كتابه "الكناري الميت منذ يومين" (دار النهضة العربية، بيروت ـ 2009). يعكف على مهلٍ تاركاً الجمرةَ تستقرّ ويستحثّها بمزيدٍ لتتفجّر الكلمةً دماً حارّا؛ جسداً صلباً يقول الكلمةَ وتقولُه الكلمة؛ الانصهار الذي يطلبه الشعرُ يوافيه الشاعرُ فَتَفِي له القصيدة.
في نص "لو يعطونني شفرة" يقفنا حمزة على مصنع قصيدتِهِ ومنبع كلماته ودرجةِ تأديتها التي تتعدّى النطق فتتخلّل الجسدَ مجلًى تعبيريّا لها. ينابيعُ متصلةٌ ماؤها حديدُ السجن الأجاج الطّاعن في أبديّةٍ لا تفتأُ تنتجُ العذاب ولا تكفّ. ينابيعُ الخوف تأسن فيها الحياة وتتعفن. ينابيعُ المعنى المشروط بخبرة الجسد أوّلا إنْ في الحرمان أو في الصمود رغم التدمير الذي يطال البدن لكنه لا يسدّ منافذ الرّوح فتطلّ على من تحب. إنّ ينابيعَ تلك صفاتها، فما يصدر عنها من مختبر الشاعر لن يكون كلماتٍ وحسب أو ذبذباتٍ تعبر في الهواء فقط: (من قبضات الحديد المسجون معي منذ سنوات، المسجون في هذه الأرض،/ منذ ملايين السنين،/ من الفزع اللاهث/ من النظرة اللاهثة اليتيمة والخائفة/ من بقايا الحياةِ العطنة/ أصنعُ/ هذه/ الكلمات).. (لقد تذوقتُهُ بنفسي/ بأظافري وأصابعي المتّسخة بالحب/ بقلقي/ لم يقل/ لي/ أحدٌ/ ما طعمُ الحرمان).. (إلى أسلاكٍ من النحاس/ تحوّلَ دمي/ من كثرة/ ما أطعموني الكهرباء/ ورغم ذلك/ أراكِ/ من/ هنا).. (ليس بالفمِ/ بل بكلّ الأعضاء/ تُقالُ/ هذه الكلمات).
بيانُ الموئل، الذي يحكم تجربة الشاعر في هذا الكتاب فيغمرُها في الألم عصباً يدقّ كلّ حين ويتغشّاها بالحزن كفناً يلفّ المشاهِدَ والمشاعِر، يرسمُ بالسواد الثخين يأساً يتفشّى وأملاً مدحوراً تتساوى فيه حياةٌ تنعدم فيها أسباب الحياة وموتٌ مُشتهَى لا يأتي أمام سجينٍ رهن الاعتقال تطعنُ عينيه جدران السجن (أصبحتْ الحياة/ وكذلك الموتُ/ أمنيةً تالفةً ومدفونةً منذ زمنٍ بعيد/ كالعيون/ التي احتفظتْ/ بدلا من الحياة/ بمكعبّات الإسمنت الفائضة/ من السجن). هذه الأمنية التالفة المدفونة، لن ترجع إليها خضرتُها ولن يبعثها الأملُ من تحت التراب. فقد أُوصدت الأبوابُ ومشتْ في الجحيم. انسملتْ عينُ الرجاء، ولا شيءَ يبعث على انجلاء الكابوس. انتشرتْ مياهُ اليأس بلزوجتها العدميّة (بعيدةٌ هي الأنوار/ وإذا اقتربنا يوما/ سنراها مطفأة/ ماتت العيون/ مات الضوء/ الالتفاتةُ ماتتْ/ العتمةُ مقيمة/ مثل روحٍ ميّتة).
مناخُ الألم وعصفُهُ الضاري يتردّد بين نصوص "الكناري الميّت منذ يومين" يُستعاد في أحوال السجناء المقموعين، وأحوال المحاربين المزجوجين في حربٍ مع جيشٍ (هُزِمَ ثلاثينَ مرّة/ وهَزَمَنا آلاف المرات). هي تجربةٌ مضاعفة من السجن والانحشار في "خنادق الضياع" التي لا تعني غيرَ الفراق والفقد ولظى البُعاد وبطلان تعويذةٍ لم تردع ولم تحمِ. كأنما صفحة الوجود انزلقتْ من كتاب الحياة إلى جبٍّ أخير لن يمرّ به سيّارةٌ ولن يتدلّى حبل نجاةٍ أو خلاص ولو في صورة الموت (في داخلنا هبطتْ الخنادقُ/ فنمتْ الطحالبُ/ وأزهارُ البكاء/ وارتفعنا عن الأرض/ كنعش/ متعفّنٍ/ ومن مكاننا مكشوف/ رأينا/ دمعةً/ العينِ/ الزرقاء/ من مكاننا المر/ رأينا عظامَ الوحشة:/ ما عادَ/ يتذكّرُنا/ أحد).. ( لا تخذلْنا/ يا ملك الموت).
يقدّم الشاعر عارف حمزة في "الكناري الميّت منذ يومين" تجربةً شعريّة صافية. الإمساك بعظام التجربة وتأمّلُ الفداحة، يرتفع صوتُها ويذهب عميقا في الشعر، فيحلّ الكاتب في المكتوب وتنذهل الأوراقُ ممّا فيها (نجلس/ لنسمعَ الكتب وهي تتمزّق/ نسمع حشرجةَ الأوراق/ وصوتَ مخاطِها/ وهي تقرأُ/ عظامَ الحياة).