على شفا حرفٍ مسنون يتنزّلُ الجسدُ منقوعاً في الوجع وضراوته وسمومِ هبّاته. الجسدُ الذي احتملَ. الجسدُ الذي عبرَ فعادَ ملفوفاً بما لا يُنسَى من تجربة الألم ووحشيّتها، ومن ضفاف الوحشة التي غطَّ فيها مرارا يُقبِلُ حسن دعبل بكتابه "وحشة البئر" (دار جداول، بيروت ـ 2012) يسردُ صراعَهُ مع اللوكيميا؛ سراطِ الدم بغاراتِهِ العاتية على الجسد ينخرُ ويقوّض ويفتّت مُشرّعاً الغيران السوداء تلتهمُ نهارَ حياةٍ وتعلنُ "السيّدَ الليل" خازناً لا يفرّطُ بمن دفعتْهُ الريحُ إلى بابِه.
أكثرُ من عذاب المرض وأبعدُ غوراً من ألمِ أشواكه المسننة تجرش الجسد بقسوتها.. أكثرُ من العذاب وأبعدُ من الألم هي استعادةُ الرحلة بتفاصيلها ودقائقها. ما مرّ لم يمر. تركَ بذوره الجافّة هاجعةً في مكانٍ ما من الجسد. في مكان ما منه؟! الجسد بأجمعه ينطوي عليها. ظلّت هناك مدفونة لم يوارِها شفاء ولا أخفتْها عافية. الجسدُ قمقمٌ وفضاء في الآونةِ نفسِها. الجسدُ الشاشةُ التي اختزنتْ مراراتِ الأحمر والأسود، في قاعة المتفرّج الوحيد، تفجّرتْ نوافيرُ الضوء منها ساطعةً وحارّة وبملمسٍ تحذرُ اليدُ منه.
"وحشةُ البئرِ" تنّورٌ هائل تتعالى منه ألسنةُ النيران. حمحمةُ أعوادٍ يذيبُها الصّهدُ. لفحةٌ لا تُتَوقّى. صهريجٌ مندفعٌ بحممِهِ تتناثر تنشرُ اللهب في ثياب العابرين. التجربةُ لم تزل طريّةً والذاكرةُ دانيةٌ باشتعالاتها وحبْرُ خبرةِ الجسد لم يزل مسكوباً.
في هذا الكتاب لم نكن نقرأ قصة مرضٍ خبيث والحياة التي بسبيلها أن تخبو. لم نكن نطالعُ أوراقاً في رحلة صراعٍ عاتية على سرير المستشفى وفراش المنزل وبين ممرات المستشفى وعلى أبوابِ غرف الأطباء وفي مختبرات الفحص والتحليل. لم تكن نظراتنا تمرّ على الصمود وعلى عضلات الإرادة تنمو يوماً بعد يوم. لم يكن القارئ يتصفّح حكايةً من بعيد، وثمّة مسافة احترازيّة تقول "تلك حكاية".
في "وحشة البئر" لم يكن إلا الانغماس؛ الغوصُ في اللحم والدم والانسرابُ مع مجرى الأنفاس. ذلك أن حسن دعبل زرقَ في جلدِ حكايته مع اللوكيميا كميّةً وافرةً من الانفعالات؛ تهدّجات الروح ولوعتها على عمود خيمةٍ يبصرُ نفْسَهُ يتداعى ويشهدُ نفَسَهُ يفرطُ منه في أحشاء البئر.
موجُ الانفعالاتِ في هديرِهِ وفي تكسّراته أتى كاسحا منذُ جملة الأهداء يحصي فيها الدعائم والحبال التي ساندتْ وانتشلتْ الروحَ والجسد؛ وحتّى النافذة الأخيرة بضوئها وتهليلاتها التي تؤكّد على العبور المؤقّت وزوال الجسد بعد تقشّر فكرةِ الخلود. الاكتساح الانفعالي لم يكن مجّانيّاً ولا بإسرافٍ يرنو إلى الشفقة بقدر ما هو حفرٌ متتابع لمفهوم الفقد والرحيل نحو" سباتٍ عميقٍ وليلٍ طويل" تحفّه العائلة والأصدقاء وعناية المكان بذاكرتِهِ الحيّة وأسفارُ التاريخ وأساطيره.
.. كأنما هؤلاء جميعاً الترياقُ الذي انحلّ في الأمصال المربوطة إلى وريد حسن دعبل، وأخذ منه يشهق الحياة ثانية. وربما هذا السر الذي يفسّر قصر الفقرات واكتنازها وعدم الانسياق إلى الإفاضة والاسترسال (ما عدا الصفحات الأخيرة التي انسرحت في اختبار العافية الوئيدة). كانت قطراتُ الترياق تنهلّ بمقدارٍ محسوبٍ وصارم لتنجزَ لنا هذه التحفة الفنية التي قالت التجربة المريرة بشرطِها الإبداعي التي تثبتُ، كما قال مولانا جلال الدين الرومي: شمسُ الروحِ باقيةٌ لا أمسَ لها.