في رواية "ميمونة" فتحَ محمود تراوري كتاب التاريخ، يستعيد حكاية ناغلة بالدم من ليل العبودية؛ العائلة التي هاجرت من أفريقيا بحلم مجاورة البيت العتيق، فوجدت نفسها مشتتة تنساق إلى قيد السُّخرة والعبوديّة، وكلّما حاول أحدهم ـ عمر المسك ـ أن يفرّ إلى حريّته هاربا جهة البحر، ألفى نفسه محاصرا بمن يعيده إلى ذلّ القيد. المسارُ الحضاري كسرَ قيدَ الاسترقاق، لكنّ صفحة التاريخ ما تزال لزجةً، وأثرُها في الروح والجسد لم يُطوَ بعد.
الفن لا يعرف أو لا يريد أن ينجز عمليّة الحِداد على حكاية الماضي بقطع الصلة بها واعتبارها كأنْ لم تكن. ثمّة ما يُنبَش ويسيل معه ماء الذاكرة، يهدّم ما أُنشئ من قلاع النسيان أو التوهم في طمر الجرح. البذرةُ الهاجعة لها من يحملها في سباق تتابع حتّى تستوي على عودها؛ فتطيبُ ثمرةُ الحكاية وإنْ لم يطب الجرح بفمه المزموم على صرخةٍ، ما برح صداها يتردّد ويوغِل.
الجرحُ الذي قطرتْ منه "ميمونة" لم ينشف. ينطق بالتسامح، يفوه بالغفران، لكنه، أبدا، لن يصدع بكلمة النسيان. ومن هذا الجانب نطالع رواية تراوري الثانية "أخضر يا عود القنا" (دار جداول ـ بيروت، 2011). هنا لا تعود الذاكرة أدراجها تستلّ الحكاية من منبعها إلى المصب. الذاكرة تعمل، فقط في المكان الأخير الذي انتهت إليه الهجرة بأراضي الحجاز. العودة إلى المنبع بكامل الجسد وشتات الروح؛ إلى السنغال على ضفاف الأطلسي، حيث جزيرة "غوري" موطن النخاسة العالمية في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. تلك الجزيرة أضحت البوابة الأخيرة التي خرج منها عشرات الملايين (اُنتزعوا من أرضهم وأحلامهم وذاكرتهم ورحلوا صوب مزارع القطن وحقول الذرة والتبغ والمصانع في أوروبا وأمريكا في قصة إنسانية بالغة الوحشية، لم يجرؤ أحد على الاعتذار عنها). "غوري" أصبحت مزارا عالميا تُختصَر فيه سيرة الوجع، يبقى نابضا كأنه الآن. فيها تنفرط الأعضاء ويسحّ الدمع تطهّرا من ذنب الأسلاف.. فيها تصمد الذاكرة لئلا يغتالها النسيان.
إذا كانت الرحلة إلى "غوري" ضد النسيان، فإن في تضاعيف "أخضر يا عود القنا" تسري صنعة روائية محكمة النَّسْج تتبدّى في الحواريّة التي أقامها السارد بين صوته الشخصي "ودود/عبد الودود" وصوت صديقيه "فالو/فاضل" و"بدر"، وهؤلاء جميعا يشتركون في العمل على فيلم يتناول "غوري" وشخصياتها وفضائها بخلفيّة موسيقيّة متعددة الآلات والمصادر تعرب عن الانصهار الثقافي الكوني. هذه الشخصيات الثلاث (بالإضافة إلى صالح سانا الذي يتحدث في آخر الرواية) رغم الرابط إلا أنّ كل واحدة لها امتداد خاص بالموقف وبالذاكرة الشخصية وبالمشكلة أو الأزمة كحال بدر بحكاية أسلافه الشماليين وأمه الحبشية وذلك الانشقاق من الرغبة في الجسد الأخضر ورفضه اجتماعيا وتبخيسه سياسيا، أو فالو وموقفه من الثورة الفرنسية والتحولات السياسية في العالم، أو السارد ودود وذلك التعلق بصورة الجسد لميري الفرنسية؛ الغرب المشتهى؛ الإبدال التعويضي.. هذه الأصوات تحضر بالتناوب وبالتداخل وفيها من الجدل ما يؤشّر إلى الاختلاف والتنوّع والتعدد الذي ينبغي أن يكون عليه العالم بغضّ النظر عن ماهيّة الذوات المكوّنة لهذا العالم.