"طرْ أمامهم/ وفوقهم/ وبعيدا عنهم/ تنشّقْ نسيمك من الأعالي/ بلا ضجّةٍ ولا وجل/ واخرجْ من مقابرهم/ إلى الأبد". بهذا المقطع ينهي الشاعر الإماراتي عبدالعزيز جاسم قصيدته الأولى "وداعا.. وداعا!" في ديوانه "افتحْ تابوتك وطِرْ" الصادر عن "مشروع قلم" من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث.. فكأن هذه القصيدة بيان حال يرتّب لانسلاخه، وانشقاقه عن النظام القارّ الثابت؛ عن التابوت الذي يحيل إلى الضيق والظلام والسكون والجاهزيّة لعالم الأموات. النظام المقفل بعاداته ورتوبه؛ المغطّى بـ "العفن وسوس العظام" هو ما يثور عليه الشاعر وما يحاول زحزحة صخرته الرازحة، فتتوالى أفعال الأمر، أو ما في حكمها من أفعال المضارع المسبوقة بـ "لا الناهية"، مثلَ صبيبٍ من الحصى؛ يوقِظ وينبّه ويرسم المسار المتجاوز للخارج وللذات المسقوفة به "لا ترتهن لقفل ولا لخريطة/ ولا حتّى للظلّ الذي كنتَهُ".. هو مسارٌ يرتجل خروجه بضراوةٍ رائعة لها طابع الهدم والإمعان فيه: زمجرْ؛ افقأْ؛ انفضْ؛ حطّمْ؛ مزّقْ؛ اركلْ؛ اضربْ.. الشاعر يخرج خروجاً سافراً. لا يتخفّى ولا ينسحب. يعرف أنّ حكمة الحرير لا فائدة منها، وأن التوازن لا يعني شيئا سوى الموت بحسب المفكر الروسي إيليا بريغوجين. فقد تساوى الأقرب والأدنى والأعلى؛ جميعهم في سويّة الموت الذي لن يسعف ولن يتذكّر "طرْ/ أيها المنشقُّ عن الحلقة/ عن التاج/ عن الحظيرة". إنها صيحةُ الانعتاق الكامل من كلّ الروابط التي هي في التحليل الأخير مجرد "قيود" مهما تلطّفتْ بها الأسماءُ والصفات؛ فإنها في المعنى واحد يشدّ إلى "الكهف" وإلى "الأوحال الفسفوريّة". يطلق نسرُ الأعالي زعقته "طرْ طيرانك البهيج، اُلْهُ/ من دون طوق/ واستنهضْ لك من الغيم/ حياةً مستحبّة".
إن بيان الحال الافتتاحي الذي جاء إنشاديّا متوتّرا ومقطّرا في بنيته؛ شديدَ التكثيف والتركيز، سيغدو المظلة التي يتحرّك تحتها النصّ الموالي "أوبرا لمدينةٍ في طنجرة" وهو بحقّ جوهرة الكتاب والإضافة المكينة لتجربة عبدالعزيز جاسم الشعرية. النص طويل بنفَسٍ سرديّ، ويوازي تقريبا ثلث الكتاب، فهو موزّع على 16 مقطعا ـ في 50 صفحة ـ بعناوين مأخوذة من أبجديّة السلم الموسيقي "دو ري فا صو لا سي". ومن المقطع الأول يسمي الشاعر أداته بـ "طنجرة المحو" رغم أنه يبادهنا ابتداءً بمشهد من المطبخ حيث السمن والبصل والبطاطا والثوم وسواها من خضار وتوابل يعدّها لوليمة منزليّة، لكنه يحرف صنيعه بنقلة تحدّد هدفه عبر التشبيه ".. قلّبَها بمهل كما لو أنه يقلّب تربةً لم تعد صالحةً للبذار. قلّبَها أكثر بملعقته الخشبية، فشعرَ بأنه يشقلب حياةً كاملةً اُجتثّتْ من جذرها. وها هي تستقرّ في صفيحة النّار، مثل مَن يرقد في نعشٍ يحترق". وبهذه النقلة تأخذ الطنجرة ومحتوياتها شأناً آخر يضارع وجه المدينة الشائخ وحاجته إلى تبديل الجلد "وكان جلدها تحت الضغط والبخار، يبدو مثل شخصٍ يئنّ ويشيخ على مهل". وفي المقاطع التي تلي ينبني هذا التحوّل في شكل صعود قريب من عمليّة التقشير التي تنهض من مدينة تتحطم ومن حياة لزجة ومن غياب الرائحة مع عودة إلى تذكير بالوليمة المعدّة لكن المرفوضة الآن، والانتصار لفعل الانشقاق بالسفر والطواف "ها هو يرفرف عاليا خارجَ الإطار. خارج الزمان. وخارج قذارات الكائن المنتفخ المتآمر الفاسد".