يقول ابن عربي "كلُّ شوقٍ يسكنُ باللقاء لا يُعوّلُ عليه"، والشاعر أحمد الملا في كتابه "علامة فارقة" (دار مسعى للتوزيع والنشر، البحرين - ٢٠١٤) لا يفتأ يترسّمُ هذا القول من جهةِ طلب النقصان وجعله حالةً مستمرة؛ موقداً يخاف الرماد ولا ينفكّ يسألُ مزيداً من الجمر الذي به تتجدّدُ الحكاية ويلمعُ دمُها فكأنّها الآن غيرُ خاضعةٍ لتصاريفِ الزمن ومواقيته ولا لتحوّلِ المكان وتبدّل منازلِه. تحيينٌ وتغيّرٌ يجريان في السطح، لكنّ الجوهر على حالته الأولى من التعلّقِ ومن الشغفِ؛ الصورةِ في لقطتِها لم تزل في طور الاستعداد والترتيب والقابليّة للتحريك، وعَوْداً إلى حياة تنفر من برودة الألبوم والعينِ اللاهيّة فرِحَةٍ بصيدِها التّام. نقرأ في نص "كتاب مجنون" هذا المقطع الدّال على الانهماك والاستدرار بروحِ الصانع الصائغ؛ تأبى الاكتمالَ وتحنُّ إلى ثغرةٍ تستنفرُ عضلةَ التجربة عند أوّل الخُطَى وفي الغَمْرِ إذْ اللهاثُ يكبرُ والشهقةُ تزدحمُ بأكثر من حياة: "وَلَهٌ تنسجُهُ يدي/ يسحبُك بخيطٍ رهيف،/ كلّما اقتربَ كمالُ سجّادتي/ أنقضُها؛/ هذا حالُ الوالِهِ/ وما يفعل).
ما لا يُستنفَد ولا يَبلغ منطقةَ تشبّع هو ما يغري الشاعر بالكتابة؛ كلمة السرّ تدخلُهُ في حضرة الشعر كائناً ليس من هذا العالم، وجدَ نفسَهُ متروكاً دونَ إهابِهِ الذي كان فيه. يلجأُ غريباً يقارِن وتفدحُ به الذكرى الغائمة عندما لم يستكمل حظّه من الماء؛ موطنِهِ البدئي بحياتِهِ السائغة؛ بختمِ الغرقِ يُحكِمُ الصلة ويؤكّد الميثاق لانتماءٍ لا يقومُ إلا مرّةً واحدة، وأيّ تفريطٍ لا يعني إلا العقاب والتيه: "نُزعنا من الماء نزعاً/ قلبتنا الحياةُ على رأسِنا/ ولطمتْنا بقبضتِها في الظهر/ لنفقدَ طعمَهُ إلى الأبد".
ذلك الطَّعم الذي بقي مخزوناً، ويندلع وهلةَ التنبيه إليه، وفي الوقت نفسه يعترض العجز سبيل الاقتراب منه. تجدُهُ ولا تستطيع الالتحاق به. فقط يمرُّ خطفاً لا تراه إلا أنت، وثمّة من يجرفك من المشهد ظانّاً أنّه ينقذك من ضلالتك ومن وهمِك. لم يدرِ أنّه فوّتَ مناسبةَ العودة وفرصتها الوحيدة. هذا ما ينبئُ عنه نص "حقد" حيث دالّة الإنقاذ التي تتكرّر من الجار على نحوٍ من الادّعاء ليست إلا الوجه الآخر للضياع والذريعة التي تطلق حقداً تبريه وتدبّبُه السنوات على من قوّضَ الحلم وأبطلَ النجاة: "أقفُ صافناً على صخرةٍ وحيدة،/ أنبشُ في صدري عن حقدٍ دفين؛/ عن الجار الذي عاش طوال حياته/ مدّعياً إنقاذ حياتي،/ أحدّقُ في الشمس بمللٍ/ لأراهم في ماء العين./ غجرٌ ينهبون الدهشة/ ويطاردون خلخالها،/ يعبرون أطراف قريتي الصغيرة/ بثيابهم الملوّنة وحليّهم المتلألئة في الشمس،/ بالنساء الخليعات وضحكاتهن الرنّانة،/ لغنائهم الخاطف للأطفال؛/ حين أنقذني جارنا/ وهو عائدٌ من النخيل،/ فضاعت فرصتي الوحيدة للنجاة".
الفقدان؛ الثلم؛ الفتق؛ ما لا سبيل إلى رتقه؛ اللظى المستعر؛ الضلع الهائم بنشيدِ الحنين.. كلّها تؤبّد البابَ المغلق واستحالة العودة، مهما امتدَّ النداءُ وتعاظمتْ الحرقة. فـ"الغريق الجاحد" أنكرَ نعمة الماء وخانَ الصُّحبة بأبديّتها الهانئة، وسوف يكون سعيُهُ عبثاً إلى تركيبِ عالمٍ نأى عنه وضُرب بينهما بحجاب: "لتكتمل؛/ عليك أن تتفادى كلَّ نهاية/ سوى الغرق،/ لتكتمل؛/ عُدْ جنيناً ولا تحبسْ أنفاسك،/ اغطسْ/ وتذكّرْ موجةً تلوَ أخرى".
الوالِهُ مركوزٌ عند ضلالِهِ القديم، لا يتحوّلُ. يقفُ على مبعدةٍ من النبع وفي يدِهِ حجرُ الذكريّات. كنزُهُ الذي يحافظ عليه ولا يفرّطُ فيه. يسنُّهُ بمبرد الحنين، وفي غيمةِ الشرارات وما تنثره من حرارة؛ تُستعادُ الطريقُ وما بزغ في أحشائها من جمراتٍ على هيئة جرحٍ طمرتْهُ الأيامُ بأحداثها لكنّهُ بعدُ يزهرُ بناره: "الجرحُ انكفأَ وغاص/ مختبئاً/ يرجُمُ من بعيد،/ يسيلُ ويدرُّ ما إن يحنُّ ويتذكّر". كأنما هذا الحجر الأثرُ الحي والعلامة الواسِمة، وتعويذتُهُ التي تربطه بعالمه الذي قدم منه أو أُخرِجَ منه: "حجرٌ عميق،/ غرقُهُ صافٍ وأزرق"، فيمنحه هذا الحجرُ التعويذةُ الحمايةَ وما يشتهي، ويردُّ عنه العثرات والأهوال، ويضيءُ له ما فات وما انحجبَ عنه. حجرٌ حامٍ ومحميٌّ مكانه القلب وحده. ينعدم أن يكون له مثيلاً من بين الأحجار الأخرى، ويقيمُ أبداً في الطيش ولا تصيبه يد العمر يوماً بأذى: "حجرٌ/ في القلب/ قديمٌ وساخن/ دفنتُهُ بمشقّة/ وكلّما هبَّ الهواء/ ينكشفُ مثلَ وشمِ النار".. "حجري الذي لا شبيه له/ يتفلّتُ من بين أصابعي/ طائشٌ ولا يهرَم".