كما أخفى الراهب "هيبا" ـ بطل رواية "عزازيل" ليوسف زيدان ـ رقوقه التي تحوي مكابداته وتمزقه الروحي في صندوق مدفون بأحد أديرة الشام؛ فإن "غسان" ـ بطل رواية "وجه النائم" لعبدالله ثابت (دار الساقي ـ بيروت، 2011) ـ فعلَ الصنيع ذاته وإنْ على نحوٍ مختلف. خرج من جدة إلى المتن الشمالي في لبنان، وفي حضن الطبيعة هناك، وجدَ بيتاً مهجورا، نقبَ في جداره حفرةً أودعها لفائف كلامه التي تحمل آثار ندبةٍ متقيّحة من حياةٍ فرغت من الحياة، تتأثث بالعزلة ويحيط بها الضجر والسأم من كل مكان.. حياة عاطلة من "الوجود الإنساني" بشكله المباشر الملموس؛ فينكّل بها اللامعنى وينتشر في خلاياها سمُّ الهباء.
الهاويةُ التي تفغر شدقيها يتناثر منهما زبد الخواء ونُذُر السقوط في عتمتها، هي ما تطلّ فيها أوراقُ "وجه النائم" تختبر نطاق العدم المشدود إلى خاصرة غسان؛ كاتب اللفائف، و"ماريا"؛ قارئته اللبنانية المنهوبة بذاكرة الحرب اللبنانية والمحاصرة أيضا بالعزلة وتصحّر المكان من دالّ المعنى الذي تقشّر مع خطى الراحلين فأسلمها لغربةٍ وجودية طاحنة.. وكلاهما ـ غسان وماريا ـ ينتظر "مجهوله" ونداءَهُ ـ بحسب تعبير غسان كنفاني ذات رسالة ـ "لك شيءٌ في هذا العالم فقمْ".
لا تقوم رواية "وجه النائم" على الحكاية ولا على الأحداث. المتن الحكائي شحيح، ربما يجد القارئ العام خصاصة في هذا الجانب. ثمّة هيكل تجريدي تنرسم فيه الخطوط الخارجية لشخصيتَيْ غسان وماريا والوسط الاجتماعي والبيئة المكانية مقتطعة من لحظة الحاضر الضيّقة، وتبقى "الطبيعة" هي الحاضن الذي تتلاشى في ظله الحكاية. الكاتب يسجّل انصرافه عن ضجيج المشهد وأحداثه عبر تنبيهه الرابع يغرسه أمام عين المتلقي ووجدانه قبل الشروع في قراءة الكتاب (سأخرج من هذا الوادي مثل حطبة جرفها السيل، لكن.. لكن لا تنسوا العشب النابت عند الباب ولا الطلّ اللاصق بالنوافذ). وفي مفتتح الرواية القصير والمعنون بـ "لفافة الشاليه" يتأكّد هذا الانصراف عن العالم بأجمعه (... لا طاقة بي على الكلام مع أحد) ونقرأ القطيعة التامة مع "الآن وهنا" من خلال تجذير الرغبة للالتحاق بالحالة الجنينية ولغتها السائلة (نسمعها عبر الدم، ونتكلم بها بالدم) بعيدا عن أصوات الناس الفظّة الخشنة ولغتها المحشوة بالكذب؛ لغة (دونما كلام أو حقيقة).
لا يعني هذا غيرَ المأزق الوجودي (الفزع الوجودي) الذي تجري مناورته والاحتيال عليه بـ "لفائف الكلام" وبـ "المنامات". في الأولى نلمس عالما بدئيّا بؤرته الطبيعة وعالمها الخام، وحضور الكلمة الأولى ترشح بالنقاء والصفاء تنطلق من حنجرة المغنين والشعراء ومن جسدٍ محفوفٍ ببراءته الأولى تطفر من حركته لغةٌ تضارع لغة الكلام.. وفي الثانية نعثر على (مركبة الأحلام) وانفكاكها من هيمنة الوعي وإكراهاته. في هذه المركبة يتسلّل بهناءة وخفّة اللاوعي يستحضر اللغة المنسية بإحالاتها الرمزيّة، فتشفّ عن التجربة الداخليّة وإضماراتها (... فخرجت امرأةٌ شقراء من تجاويف زنبقة، تشبه العمرَ، وأخبرتني أن عينيّ لا تنطفئان حتى أبلغ قرنا إلا بضع سنين.. وسكتت سكتة الحِداد، ثم قالت: ذات يوم سيأتيك العدم الذي تريد).
الوجه المرتجّ الغائم؛ المندسّ في السواد الذي يطالعنا في الغلاف، يوقد له عبدالله ثابت جمرة الفتنة، لا يغريه بالانكشاف، يفتح له طريق التيه (أعزلَ من الآخرين والأشياء).. (مستقبلا نفسه ولا أحدا سواها) ناجيا من صفحة اللقاء. فذلك اكتمال يخنق نداء المجهول، ويسكّن شوقا لا يحتاجه "وجه النائم" ولا تسعى إليه الكتابة.