يكتب الشاعر أحمد الملا الظلالَ، فيستدعي هدأتَها، وعتمتَها الخفيضة تمور باللامرئي والمحجوب طيّةَ نعاسٍ تعرف الذاكرة كيف تتسلّلُ إليه فتوقظُ غافيَ الأيام وما تسرُّهُ الأمكنةُ؛ أرواحاً أو أشباحاً انفكّت من تاريخِها على مركبةِ الخيال. يلتقطُ الشاعر الذبذبات ويضخّمُها على هُونٍ وفي شغفٍ، كما لو كان يصقلُ النبرةَ ويحفُّ بحجرِهِ خشونةً تواري اللمعة. ما استترَ هناك وديعةَ الظلال تنفُذُ إليه الكلمةُ بختمِ الذاكرةِ التي تمتلكُ إغراءَها وتمنُّعَها؛ طالبةً ومطلوبة: (الظلالُ/ في نجدةِ العين/ تستدرجُ الذاكرةَ لمخادِعِها - خفيفٌ ومائل كنسيان، ص١١). وعندما يجري الاستدراج إلى "المخادع" فهذا ضربٌ من الاستتار المضاعَف ومن المبالغة في الكتمان. إلى ذلك فإن كلمة "المَخادِع" تحيل إلى ظاهر وباطن؛ مرئي ومستور، وهو في كلِّ الأحوال الخاصُّ الطارف ينعم في عزلة الاختفاء والإضمار. المكنونُ في البعيد في حَرَمِ الظلال منطويّاً على سرِّه الذي ينوسُ بين حَدَّيْ التخفّي والعلن وينتفخُ ببذرتِهِ حتّى تُقشَر النواة فتندَى الظلال وتسيل: (في الظلالِ زهرةُ سراجٍ تخفتُ وترطّبُ الخشبَ القريبَ، كائناتٌ تآلفتْ في طيّاتَها واحتمتْ بدفءِ عتمتِها، يتفتّحُ الحبسُ، ينسابُ في نوافذِهِ غيمٌ وفراشات، في الظلالِ أيضاً تُلمَحُ لمعةُ الحزنِ دائخةً ومُغمِضة - كتبتْنا البنات، ص٨٨). ها هي الظلالُ مُرتطَم النقائض تموجُ في حدودها المتضاربة وفي بينيّتِها التي لا تخلُص، حيث الحزن بلمعتِهِ الدائخة المُغمِضة؛ الوليدُ؛ تاجُ التّرحُل بين الظلال؛ شارةُ الشاعر يحملُها بلُطْفٍ ولِينٍ نكادُ لا نشعرُ به لفرط الرقّة.
يذهب الشاعر إلى الظلال ويعود منها مصطحباً حزنَهُ؛ الرفقة التي لا يتخلّى عنها ولا تنصرفُ عنه. تسكنُهُ. تشِمُهُ. الروحُ التي تخامِرُ أمكنتَهُ منذ وقفَ وقفةَ الغريبِ أمام الـ "باب" يقرأُ فيه حنيناً، وتاريخاً مخزوناً للبيتِ والشارع يظلُّ محفوظاً لا تقربُهُ شفةُ البوح إلا لتنضجَهُ؛ شفةٌ تمخُرُ عروقَ الباب المحتشدة تفزّزُها النظرةُ، والخُطى السائلةُ نحوَ البعيد؛ السائرةُ تقرعُ بصداها الباب وتخضُّ جسدَ الشاعر خضّاً وتنهبُ أصابعَه نهباً: (مثل هذا الباب/ كمثل شاعر/ نقشتْهُ سرقات/ وَسَمَتْهُ عيون/ وما ارتسمَ من همسٍ غامض./ ... لم يفتح درفتيْهِ للذكريات/ كي لا يتهدّم.../ حطبٌ زخرفَهُ الوله/ لخُطى تدنو.. وتغرب/ بابٌ نخرَهُ الحنين... مثله كمثل شاعر/ سينطق: قصيدةَ النار/ مرّةً... وإلى الأبد - ظلٌّ يتقصّف، ص١٠٥).
البابُ في وجهٍ من وجوهه ينهضُ حصناً أمام الخارج، ويعمل بمثابة عازل يفصل الداخل ويحميه. ولا يتيح العبور إلا لمن لديه شفرة الدخول ويشاطر البيت في ناحيةٍ من أسراره. هو مَن يتوفّر على جدارة الولوج واستئناف الحُضن المنزلي والعوم في حميميّته. ولأجل ذلك ينتصب الباب، ومعه هِبَةُ المفتاح تعلوه وبرسم الاستعمال، قائماً في المحبّة أبداً، يكحتُهُ الانتظار، ويعالج الفصولَ وتراكُمَ صُفرةِ الأوراق برجاء عودةٍ يبدو أنها، الآن، أقرب إلى السراب الذي وإنْ أمّلَ فسرعان ما يقشع قشرةَ الأمل ويغادر مخلّفاً الحسرة تنهالُ بعتمتِها: (بابٌ بُحّتْ مفاصلُهُ/ ومفتاحٌ كبندول وقتٍ يترقّب./ الريحُ وحدَها/ مسافةٌ تروح/ والروح/ ما همدتْ بعدُ على العتبة - ظلٌّ يتقصّف، ص٣٤).. (العتمةُ/ تبيتُ، تتربّصُ الغيابَ/ على مهل...// الآن/ ينصفقُ البابُ/ وعينُ المفتاحِ/ تتأرجّح - خفيف ومائل كنسيان، ص٣٨).
أحيانا، عندما نتركُ المنزلَ الأوّل ونودّع نيّة الرجوع إليه، ويضرب الزمن بِسُجُفِهِ فيتعطّل طريقُ العودة حتّى لو أردنا؛ تتصلّب المشاعر المنزليّة وكأنّها الجفوة تبدأ خافتةً ثمّ تغلِظ، فتتبدّى جداراً فاصلاً يمارسُ فعلَ الانتقام قبالةَ الهجر. ثمّةَ نصوص لأحمد الملا تمرّرُ شعوراً ثابتاً مُرّاً أنّه خارجَ حصانة المنزل وبعيداً عن مناخاتِهِ الراضية. فقدْ بات الشاعر غريباً منبتّاً، تأخذُهُ الأماكنُ المؤقّتة صوبَ فراغِها وتمرّغُهُ في الخذلان مفطوماً من المنزل الأول - وبابِهِ المفتوح المترقّب - ومحروماً من التماسِّ مع عطايا ذاكرتِه. ليس أقسى من أن تكون في العراء ولا مدد يَفيءُ يكسو الغريبَ فيبسطُ له جناحَهُ لينعمَ بحنانِ الريش؛ يعيدُهُ إلى دورة الحرارة ومعنى أن يعيشَ ملتحماً بذاكرته: (القفلُ بسرِّهِ/ كامنةٌ وراءَهُ ذاكرةٌ لستَ فيها/ وعماءٌ عليكَ طيّه في كتمان.// القفلُ/ ورعشةُ اليدِ فاضحةٌ/ تتمنّى لو لم يكن لك سوى مفتاحٍ لا يتردّد/ ربّما يفسحُ لك الممرَّ ويتخفّف.// حين ترتبكُ عيناكَ في الدارِ/ ينقضُّ السقفُ/ على ظلِّك في ارتباكِهِ الغُفل،/ ونافذةٌ صغيرةٌ/ تتأرجحُ درفتاها/ بضغينةِ الغائبين،/ تتحيّنُ سهوةً تعضُّ قلبَك.// للقفلِ أن يشيَ بوحشةِ النازل،/ يزردَ عند عبورِ ثقلك/ يتشفّى بخروجِك/ ولن يبوحَ لك/ أنت الغريب - تمارين الوحش، ص١٢٤).. (عينُ القفلِ/ حادّةٌ ترقب مسراكَ،/ لن تطرفَ/ وأنت النازلُ الغريب - نفسه، ص١٢٧).
كيف للمرء احتمالُ أن يبقى محجوزاً وقد ضُرِبَ بينه وبين ذاكرتِه سورٌ يتعذّرُ نقبُه. وحدَهُ والظلال التي لا تعدُ إلا بالحزن يصلصلُ بحديدةِ الندب يعلِّم بالغياب وبالمسرى الذي طالَ ولا نجمةٌ تهدي المتعثّرَ في حنينِه. ينخُلُ الظلالَ بقصد أن يَتعرّفَ؛ أن يُتعرّفَ عليه لعل ريّقاً من الماضي يعود فيرويه ليسكنَ ظمأُهُ وترجعَ إليه صحّةُ المشهد مؤهولاً باضطرابِه القديم، فتزهو أمامَهُ المرايا وتتناسل بينابيعِها تسقي نخلتَه المثابرةَ في أحلامِه تحفُّها سدرةُ منتهاه وغوايةُ حديثِ الرمّان المستكنُّ في فلقاتٍ لا تُحصَى. يعكفُ تحوطُهُ أشباحُ الغائبين لا يتميّزهم عائمينَ في أساه؛ تنخسُهُ فكرةٌ هائمة بـ"ربّما" القليلةِ اليائسةِ المتشكّكة. ينخُلُ المواقعَ لعلّه يظفر بحجر الذكرى؛ يفرك عليه برادةَ أيامِه برجاء بارقٍ يكشفُ عتمتَهُ المتكاثفة: (روينا الظلالَ بالماء القليل/ علّنا نتذكّر/ علّنا نعرف بغيتَنا/ التي نشفتْ في أجسادِنا/ ونضبتْ منها المرايا - كتبتْنا البنات، ص٦١).. (أشباحٌ من أسًى شفيف/ تطوفُ الظلالُ وتضمحلُّ/ تنبّهُ الأفكارَ في غامقِ الزوايا/ تمسحُ عنها نعاسَ الحنينِ/ وتمنّيها بشمعةٍ وريش./ تنثرُ الملحَ في العتبات/ في النوافذِ/ وفي الشقوق،/ لربّما تلمعُ الذكرى/ وتكنسُ الغياب - نفسه، ص٦٥).
هذا المعلّق على ساريةِ الحنين وقد اُرتجِتْ في وجهِهِ المنافذ. يعذّبُهُ التلفّتُ ويغري به التيهُ، ينفِرُ بقلقِ السؤال يتمطّى بكلّابةِ الاستفهام كأنّما تجرجرُهُ في قاعِ بئرٍ ناشفةٍ طمرتْ كلَّ الأحلام:(كيف لا يطيحُ بي الحنين؟/ هل أفقأُ النافذةَ وأمحو الباب؟ - ظلٌّ يتقصّف، ص٧٠). ذلك ما يستحيلُ عليه أن يصنعَهُ. ليس له إلا أن يتقفّصَ في غُرُفِهِ المؤقتّة البعيدة عن المنزل الهاجع في ذكرى لا تنشقُّ له؛ فتركتْهُ مقروضاً في لهبِ الشمعةِ وملسوعاً بالإصغاء إلى حالتِهِ تطفرُ من ذاكرة الخشب: (كلّ ما بقيَ من لسانِ الشمعةِ لسعةٌ داكنةٌ في ذاكرةِ الخشب،/ خشبٌ نسمعُ انكسارَ حنينِهِ في البرد ونلمحُ تقوُّسَهُ في ناهضِ الألم - كتبتْنا البنات، ص٣٢).
قُضِيَ الأمرُ وصكُّ الحرمان أُبرِمَ، ولا رادَّ للذكرى. فردوسُ المنزل رضوانُهُ لن يَفتح، أغلقتْهُ عائشةُ الأمُّ مع رحيلِها وما من أثرٍ يقتفيهِ. ذابَ الأثرُ بتلاشي رائحتِها، مضتْ معها "ذخيرةُ الذكرى" (نص "قبر عائشة" في تمارين الوحش ص١٤٨؛ نص "العائلة" في كتبتْنا البنات ص٢٣).
الشاعر، وحيداً، في الظلال، صحبةَ حزنِهِ؛ وَشْمِهِ أمام أبواب الذكرى الموصدة: (نشفَ الطينُ في زفرةٍ واحدةٍ،/ مالت نوافذ،/ أنَّبتْنا الأبوابُ/ وأغلقتْنا عنها - كتبتْنا البنات، ص٣٣).