يقدِّم علي الشدوي في روايته "سماء فوق أفريقيا" (طوى للنشر والإعلام؛ مؤسسة الانتشار العربي ـ 2007) تجربةً كيانية لبطل روايته المُوفَد إلى دولة جيبوتي؛ خبيراً تربويّا رسالتُهُ مساعدة الطلاب على التعلّم والمدرسين على التعلِيم، لكن هذه الرّسالة تظلّ ناقصةً ومشوبة بالخلل، إذا لم يفعل المكان الآخر ـ بأرضه وناسه ـ فعلَهُ عبر رسالة موازية يكشف فيها ماهيّتَهُ ووجودَهُ؛ ما يحجبه السطح ويبالغ في تمويهه ليقولَ أنّ المرئيَّ هو حدُّ الحقيقة، فيما هو الغشاء الحاجز الذي ينبغي قَشْعُه وإزالته؛ اتّصالاً بروح المكان، وتجاوزا لإغراء الفسيفساء إلى النوّاة التي صنعتْ كلَّ هذا.
"اللامرئي" هو الرسالة الموازية، والمُضمَرة التي حرّكتْ البطل خلف سطورها؛ يقرأ ويعيش ويستكشف؛ ينبش الثّاوي وراء الصورة. غير أنّ هذا المسعى ذو طبيعة مزدوجة، فاللامرئي لا يخصّ الآخر وحده فقط، بل يبقى منفتحاً ليشمل الذّات أيضاً. عندما تبحث عن الآخر وفيه. إنما أنت تبحث عن جانبك المطمور، الغائبِ عن البصر المشغول بآنيّته وحدوده.
عبرَ ركوبِهِ حافلةً تنقله إلى حي بلبلة بمدينة جيبوتي، يروي السّارد مشاهداته داخل الحافلة وخارجها، وعن الحي البائس المُشادَة منازله من الحصائر المعدنيّة وصفائح الزيت الفارغة؛ مشاهدات تَرسم بتفحُّص حالاتٍ وأوضاعا إنسانيّة لمقيمين ولاجئين يرزحون تحت ظروف متشابكة قاهرة من الفقر والمرض، وتداعيات حروب القارة التي تلد سديمَ اللاجئين والمُشوّهين والأعراف المرتبطة بها والناشئة عنها. تلك المشاهدات لا ترد وصفاً ماسحاً، لكنها تعكس خبرةً وتجربةً تنفذان، مع التدقيق، إلى الجوهر الذي يتجاور فيه الجميلُ والمُرِيع. ولأن الكاتب لا يبتغي الوصفَ ولا الحكاية؛ فقد مارسَ التوقفَ والتقطيعَ (المونتاج) والتحليلَ الخاطِف، نائساً بين ما يراه السارد وتنضجه المعرفة، وبين ما يحدث في داخله من تحوّلاتٍ هي مجمل الأثر وخلاصة التجربة. لأجل ذلك كان الانتباهُ مشعلَهُ الذي يجوس على ضوئه بين الناس والحي، ولسان حاله يقول " هذه اللوحة التي ينظر إليها كثيرون ولا يراها إلا قلّة" كما كتبَ ماريو بارغاس يوسا في روايته "امتداح الخالة".
ونذكر هنا للتدليل، الجامع، الرّجلَ ذا الأذن المقطوعة الذي صاحبَهُ في الحافلة وتقاطَعَ معه على مَدار الرواية. فقد سرقَ بيتَ أحد الفرنسيين، فاكتشفَ الحرّاسُ أمرَهُ، فأطاروا أذنه كإجراء متّبع مع اللصوص، وعوضاً عن الأذن المقطوعة وفراغ مكانها رُسِمَ وشمٌ يحاكي الأذنَ الحقيقية وأخذ الرّجل يتعامل معها وكأنها موجودة. إن منظر الرجل بوشمه البديل يُدْخِلُ السّاردَ في حالة تأمّل ممتدّة، لا تنقطع، عن حضور الشيء وغيابه؛ المثول والفراغ: أبعدَني فراغ الأذن عن حقيقة الأجساد البشرية، وأدخَلَنِي فخَّ الوهم الفارغ بوجود الأشياء بعد زوالها (...) لا شيء تتعثر فيه عيناي كفضاء مفتوح (...) فراغٌ يحسّه الإنسان ويشعر به من الأعماق). يظلّ مشعلُ الانتباه مُرَكّزاً على الوشم وعلى حركات الرّجل؛ متابعة استكشافية تعمل مثل رغبة في حكِّ موضعٍ من الجسد لا تطاله اليد. إنها رغبة في اصطياد معنى لا يتصل بالرجل بقدر اتصاله بالذات. منحتْهُ تلك الحركات "معرفةً بكل الأعضاء البشرية غير المرئية": (وبدأت أشعر وكأنني أدركها قبل أن تخلق، في لحظة كانت الأذن موجودة وفي لحظة أخرى اختفت. حضورها كان مقتضبا في ذاكرتي حتى بدا مثل برقٍ، وحين اختفت مخلّفة الفراغ (...) شعرتُ بأنني غدوتُ وهماً).
مع الوشم يتعرّف السارد على وَهْمِ حضوره الشخصي في المكان، وانفكاك قدرته عن الارتباط والمبادرة شأنَ الرجل نفسه ذي الأذن المقطوعة الذي يباشر حياته بإقدام وجرأة، لا يوقفه قلق ولا خجل ولا خزي من منظره؛ يطلب الوِصال ويحاول أن ينالَه. ذلك أنّه حظي بنعمة النسيان؛ ترمِّم شكلَه وتعيده سويِّاً ساعيا خلف ما يريد.
مع النّبش وراء الأذن المقطوعة ومع حدّة الانتباه، نكتشف "لامرئي" السارد؛ ذاتَهُ العائمة فوق سطح المكان: وَهْمَ حضوره وضعفَ توقيعه في مجرى الأحداث والشخصيات، تسانده ضراوة ذاكرة لا تفسح مجالاً للنسيان الذي يبدو على تضاد مع الانتباه، ولعلّ هذا ما يفسّر فشله في إقامة اتّصال جسدي مع فتاة حي بلبة. وهذا العجز الجسدي مجاز إلى عجز أشمل يشير إلى وهن القدرة على الاتصال والارتباط، بخاصّة إذا علمنا حياده الوجداني قبالة مشاهداته بمعنى وجود ثغرة وفجوة؛ نقصٍ يجعل مجال رؤيته مشطوباً في جهةٍ ما ومُضبّباً بنقاط عمياء، لا يستطيع وحدَهُ تجليتها، لذا تصبح الفتاة هي الحلقة التي تصله بالمكان وعابريه، وهي العين تنفذ به إلى الجانب الموارَب والمستعصي من "حياةٍ" لا يتمكن من دخولها والاستقرار فيها، وذلك عندما جعلها تحطّ على كتفيه وتصف له عبر النافذة العالية للصندقة التي تحتويهما: (لم يكن أمامي إلا أن أترك روحي محمولة في جسدها كحطام سعيد (...) فتحتُ عيني على أنهما عينا الفتاة...). إن الحطام الذي اكتشفه مع الفتاة، طالَعَهُ في المرآة حاملاً التحوّلَ الذي أصابه من الداخل منعكسا على صورته في الخارج (ص78) وأضحى أشبه بـ " جثّة في كتلة من الجليد": (جثّة سليمة في الظاهر، لكنها مهدّدة بالتفكك، ما إن يذوب الغلاف الذي يحميها). وأحسب أن الغلاف شرع في الذّوبان لحظة ارتطامه بعجزه وبحقيقة وجوده "العابر" بيدٍ فارغة ذات ظلٍّ ثقيل، لا تحسن الانتشال ولا الاستجابةَ للهياكل البشرية إذْ تعلن خصاصتها وتحاصره بمرآة العجز.
انشقَّ الغلافُ، ولا مبرّرَ للبقاء: (الآن أنا طفلٌ أطفو نحو نهايتي).
21-1-09