لا تفتأ الكتابة الجديدة، في السعودية، تقدِّمُ تجاربَ طازجة نديّة؛ تمتلك صوتَها وأدواتها الشعرية على نحوٍ نافذٍ في عصب الحرف، بما يمثّل إضافة ثمينةً وشرفةً عالية تشهدان على حضورٍ يلمعُ بالجِدّة ويمسُّ الروح. ومن هؤلاء الشاعر عبدالله حمدان الناصر في كتابه الأول "جثث في ثياب الخروج" (دار الفارابي، بيروت ـ 2012).
تطرحُ "جثثٌ في ثياب الخروج" ـ في غالبِ نصوصها ـ تجربةً الداخلِ المسكون بحالة حبٍّ متوتّرة نالَها عطبٌ؛ جرحٌ لا يكفّ عن الجريان بدمه يخضّب السطور. تطهيرٌ مستمر.. تظهيرٌ دائب يصبّ من تنويعاتِ الحالة العاطفيّة وينشبك بأفقٍ منذورٍ لوجودٍ تالف؛ سجّلَ هشاشتَه وتلاشيه مرّة بعد مرّة (هكذا أفترشُ حافّةَ الليل/ مدليّاً أخمصين في هواءٍ جارح/ ظهري أربعٌ وعشرون خزانةً/ كلما فتحتُ خزانةً/ سالتْ عصافيرُ كسيحة).. (آنَ ينامُ الآن/ يفتحُ صدره/ يخرِجُ بقجةً/ ينغشُ فيها دودٌ عظيم). يحتشدُ الداخلُ بأسرارِ تَذَرّيهِ تحت وقْعِ التجربة التي صيّرْتْهُ ذئبا يركض في براري العزلة ناثراً زجاجة القلب؛ يمشي على كِسَرِ وجعه، مادّاً خطمه يعوي في سماء الوحشة.
إن المسافة المتروكة بين اثنين الغارقة كأنما في أبدٍ؛ هي الفخُّ الذي لا تنجو منه الطرائد. تظلُّ تحومُ وتعاود مصروعةً بالغواية؛ بحبلِها الذي يتعذّرُ الإفلات منه شأنَ كتابٍ مُشرَبٍ بالسمّ يتسلّل ببطءٍ قاتل عبر قارئٍ شغوف، يقبل على وليمة القراءة تشغله أطايبُها عن الموت الساري، حيث المتعة رفيقةُ النهايات؛ تُطلَب ويُذهَبُ إليها (.. الكتابُ المسمومُ الذي أقرأُ بلهفةٍ/ كي يتسرّب الموتُ إلى قلبِ العاشق/ وعلى شفتيْهِ ابتسامةُ الزهو). ولا أدلّ على تلك المسافة من نص "ثقاب في عينه" حيث الانتظار وعذابُهُ وتهلكتًهُ أيضا؛ حيث "الأعرج" الذي (سقطتْ من حلمٍ عليه امرأةٌ/ فانكسَر) فأصبحتْ حياتُهُ كلّها في عهدة امرأة الحلم، يربّي الأمل بإلحاح ويفتحُ قلبَهُ جهةَ البحر لعلّها تأتي؛ تلوّح له وحدَه بيدها الغائبة المشتهاة والحاضرة المحفورة في عينه. ليس هو إلاها، بها يُعرَفُ ويتعيّن (لا يعرفونه إلا من عينه/ من اليدِ التي في عينه تلمع).. (اليد التي تربّتْ في سواده/ وملّحتْ عينه). بقيت تلك اليدُ مركوزةً، فرّتْ من صاحبتها وعلقتْ به ينتظرُ تتمّتَها من خلال الموانئ وجموع النساء؛ فلا يبينُ لها أثر غيرُ اشتدادِ الوعد والتمسّك به رغم محاولة نزعِ اليد وإعادة الذات إلى سويّتها عبر التخلص من انغراس امرأة الحلم فيه (يدٌ فجأةً بكتْ في عينه/ وذهّبتْها/ غسلها مرارا وصَوْبَنَها ذاك الصباح/ وما امّحتْ).
المرأةُ البعيدةُ الدانية؛ المتلامحة مثل سراب الصحراء والمغوية مثل ندّاهةٍ تجذب إلى الغرق (المرأة التي سقطت فوقي من سماءٍ سابعة/ كيف لا تريدني أن أنكسر) بما يعني التشظي قبالتها ورسْمَ شارة العجز عن الاكتمال بها، فتشهر الشفاه عطشها إلى "اليد الصغيرة"؛ مجازه الناقص وحلمه المؤجّل، إذْ تتكرّر اليد في أكثر من نصٍّ مرفوقةً باليأس وبالصمت وبالموت؛ اندحار الأمل وانعدام جسر التواصل والخاتمة المروّعة (ترفُّ يدك الصغيرةُ على الكتاب/ فترنُّ أساورُكِ/ وتلمع في سهوبِ روحي/ مع رعاة اليأس).. (وبدأبِ سجينٍ أبديّ/ أشرعُ في حفر نفقٍ طويل/ مهتدياً سنواتٍ ببياض يديك/ ومتشمّماً نورَ أظفارك/.../ أظفارك التي ستخرجني/ من القبر يوما/ جثّةً عمياء).
على شفير الهلاك تنكتب نصوص "جثث في ثياب الخروج" بحضور ضدّيْن في الإطار. العلاقة المرسومة في عناية النهاية التي تربط الجرفَ بالهاوية ربطاً محكما. أيُّ إشرافٍ وتشوّفٍ يصدر عن العاشق إنما هو استحثاثٌ لإطباقة الفخ، كما يجسّده نصٌّ قصير في النهاية؛ تلك الشظيّة التي تعرف طريقها جيدا إلى كعب العاشق:
من محلّ الورد
المقابل للمقبرة
يشتري ورداً
لا يعرفُ لمن
وينتظر.