"المهنة: رسّام". كانت الجملة تمرّ عابرة، متفَقاً على معناها سلفاً. فالرسّام هو الشخص الذي يتقن صناعة اللوحات. جورج براك لم يتخطّ تلك الجملة في تعريفه للرسّام. ولكن ما الذي تعنيه صناعة اللوحات؟
تمتد مساحة ذلك المفهوم من القيام بتقليد صورة الطبيعة كما تراها العين إلى محاولة تمثل حيويتها والعمل مثلها، بمعنى تقليد أفعالها (اسلوبها في الوجود). رسم العصفور غير محاولة رسم زقزقته. ولكن في الحالين فإن الرسم انتهى إلى أن ينتج طبيعة مجاورة للطبيعة الأصلية. هناك قواسم مشتركة بين الطبيعتين بالضرورة، غير أن تلك القواسم لن تكون دائمة، ما دام الانفصال قد حقق لكل طرف منهما حريته في الوصول إلى نتائج شكلية غير متوقعة، وفي الأخص بالنسبة الى الرسم، حيث لم تعد الفكرة المثالية عن الكمال الجمالي ملزمة في كثير من الأحوال. في عصر الحداثة ومنذ بدء المحاولة في السنوات الأولى من القرن العشرين، بدا واضحاً ان الرسم قد وقع في غرام انفصاله، وصار ينتج قوانين جديدة لجمال مختلف. أسلوب عيش منفرد على السطح التصويري بدأه بابلو بيكاسو على هيئة استنتاجات شكلية تمتزج فيها النظرة الهندسية بخرافة المعنى الذي تنطوي عليه الأشكال المنتجة وهي أشكال مستعارة من حكاية بصرية واقعية. سيكون علينا دائماً أن نتوقف قليلا أمام لوحة فتيات أفينيون (1907) كونها قد مثّلت لحظة قطيعة صارمة مع الماضي التصويري، بالرغم من أنها دخلت في ما بعد تاريخ الفن باعتبارها واحدة من أهم الروائع الفنية. هي مفارقة عجيبة، من خلالها تم رصد الاهمية الاستثنائية التي ينطوي عليها استقلال الرسم عن الطبيعة. سيكون المجال مفتوحاً أمام النقص ليكون منافساً للكمال في محاولة القبض على وظيفة مستقلة للرسم، تبعد عنه شبهة التقليد الحرفي للطبيعة ولأفعالها على حد سواء.
أصوات النبات
في الكثير من الحالات لم يعد الكمال مطلوباً من أجل الشعور باللذة التي يوفرها الجمال. وإذا ما كان كاندينسكي قد استعان بالموسيقى للوصول إلى نوع من التجريدية التعبيرية، فإن محاولته تلك قد فتحت الباب على مصراعيه للهرب من الانسجام المثالي الذي تقدم الطبيعة نموذجه. هرب كاندينسكي إلى عالم الأصوات، وهو عالم لا يستقر على حال جمالية في عينها.
غير أن الشعرة التي تصل بين الطبيعة والرسم لم تنقطع نهائياً.
وقع هنري ماتيس تحت تأثيرات الطبيعة غير المباشرة من خلال استعاراته البليغة للزخارف النباتية، وهو ما قاده في مرحلة متأخرة من حياته إلى أن يكرس فضاء لوحاته كاملاً لمعالجات شكلية تبدو غارقة في تلذذها الطبيعي. خلت رسومه من ذكر للعالم إلا في ما يتعلق بحياة النبات. كما لو أن الرسام الفرنسي قد اختار أن يقدّم خلاصة لنصف قرن من الانطباعية، من غير أن يمر بها. "أهذا ما أراد أن يقوله كلود مونيه؟" الوقع ذاته، وإن بدا ماتيس أقرب إلى لغة التجريد من سلفه الانطباعي. في الحقيقة فإن ماتيس كان قريباً أكثر من لغة الرسم، وقد استقلت تلك اللغة عن الطبيعة، فيما كان مونيه لا يزال غارقاً في المتاهة البصرية التي تتضمنها مفردات الطبيعة وهي تتغير. غير أن الطبيعة لم تُحرَم من الرسامين الذين كانوا يجدون فيها ملاذاً آمناً لعواطفهم المثالية.
هوكني: خيال جمال مشرد
كان ديفيد هوكني نموذجاً صريحاً لذلك النوع. لم تنقطع الطبيعة عن الظهور في رسوم هذا الرسام الحسي في كل مراحله الاسلوبية. في النهاية اضطر إلى اظهار حماسته البصرية في معرض كبير خصصه للمشاهد الطبيعية عام 2008. كان هوكني مدرسياً في ذلك المعرض، غير أن لمساته أضفت على رسومه خيال جمال مشرد. تذكّر عودة هوكني إلى الطبيعة المباشرة باللحظات التي كان يستسلم بيكاسو فيها للأسلوب الاغريقي في الرسم. كانت الكلاسيكية تريح حواس الرسام الاسباني من عناء البحث وشقاء التجربة الذاتية. لم يكن هوكني صاحب مرويات طبيعية مثلما هي حال بوسان على سبيل المثال. طوال خمسين سنة من الرسم حرص الرسام البريطاني على أن يروي يومياته من خلال الرسم، فكان رساماً شعبياً من طراز راق.
هل خسر الرسام جزءاً من موقعه النخبوي حين قرر أن يهبط إلى مستوى العيش المباشر؟ أقصد ما جرى مع فناني البوب، البريطاني ومن ثم الأميركي لاحقا. كما أرى فإن فناني اميركا الشعبيين قد أزاحوا بنسب متفاوتة عن الرسم قشرة كبريائه وغروره. محوا هالته وجعلوه يذرع الشوارع مشردا. باسكيا كان مثالاً صارخاً لتلك النزعة التدميرية. بسبب نوع نادر من الضجر صار في إمكان رسّامي الشوارع الذين يلوّثون جدران المدينة برسومهم الصبيانية أن يذهبوا إلى المتاحف. كان ذلك حدثاً مريراً، لكنه وقع بطريقة احتفالية. ما فعله الرسامون الشعبيون شكّل في ما بعد أساساً في التحول العظيم الذي شهده معنى وظيفة أن يكون المرء رساماً. لقد تبدل المفهوم من غير أن ندري ومن غير أي تخطيط مسبق.
القياس يتدهور
الآن لو وضعنا لوحة من كيث هارنغ إلى جانب لوحة من فرنسيس بيكون، أيكون في إمكاننا أن نتخيل أنهما تنتميان إلى نوع فني واحد اسمه الرسم؟
من الصعب الحكم بالإيجاب.
الحرفة صارت مختلفة. ربما لو ظهر هارنغ في اربعينات أو خمسينات القرن العشرين لما عدّه أحد رساماً، ولشعر الجميع انه لا يستحق حتى السخرية. يومها بالتأكيد كان هناك ألوف من هواة الرسم، هم أكثر موهبة منه، لم يحظ ايٌّ واحد منهم بأيّ اهتمام يذكر، لا لشيء إلا لان نتاجهم الفني كان أقل من المستوى. وكانت هناك أدوات لقياس ذلك المستوى. أدوات افرزها المفهوم المكرس للرسم. منتصف القرن التاسع عشر استبعدت أعمال الانطباعيين من العرض في المعرض الجماعي الرئيسي لأنها كانت من وجهة نظر المنظّمين أقل من المستوى. وكان المستوى مستلهماً من رسوم ديفيد وتلميذه أنغر.
ظهر هارنغ في ثمانينات القرن الماضي ليملأ فراغاً، حين تغيرت أدوات القياس بتأثير من الضربات التي تلقّاها الرسم من قبل فنّاني البوب. لم يعد غنى السطح التقني مهماً ولا ضرورياً. لنقل الحقيقة: لم تكن هناك أدوات لقياس درجة موهبة الرسام. غير أن غياب تلك الأدوات ارتبط بتغير جوهري شهدته المؤسسة الراعية للفن. لقد شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين ما يمكن أن يسمّى بإعادة انتاج وتعريف المؤسسة الفنية، وفقاً لمصالح الجهات المالية المسيطرة (الممولة والداعمة). لم يعد تقويم الفن حكراً على نقاد الفن ومؤرخيه والمهتمين بشؤونه. صارت هناك جهات قوية تفرض ما تراه مناسباً لذائقتها ولما ترغب في أن يؤديه الرسم من وظائف بصرية. وكما يبدو لي فإن حساب الجدوى الاقتصادية صار يتم بطريقة تنتقص من قدر الخبرة المتراكمة وتعلي من شأن الشعور الموقت والعابر.
تحييد الرسم
صار المطلوب أن تتدهور قدرات الرسام التقنية وخياله في الوقت نفسه، لينتهي زمن الرسم الصعب وتذهب الموهبة إلى مكان آخر، تحلّ فيه بلاغة العاطفة محل خيال الموهبة. أيعقل أن تكون اصابة هارنغ بالايدز وموته المبكر باباً لشهرته العريضة ومن ثم خلوده؟ لقد رأيتُ رسومه معروضة في اولى قاعات متحف هامبورغر في برلين، قبل كيفر وتومبلي وبويز ووارهول. لا أصدّق ان البشرية صارت تقدم شفقتها على المرضى على تمسكها بخرافة الفن.
كل خبير في الفن يمكنه أن يقرر أن هارنغ لم يكن رسّاماً. فالفتى لا يمتلك خيالاً. انه ابن الكومكس (القصص المصورة)، وتبدو تأثيرات روي ليختنشتاين واضحة على رسومه الساذجة. لن أصدّق المقولة التي تسوّقه على أساس أنه ممثل عصر الاستهلاك الذي نعيشه. كان هناك ريتشارد سيرا بأعماله النحتية التي تزن اطناناً من الحديد. وكان هناك ايضا الاسباني تشيلدا. مع ذلك فإن هارنغ لم يكن الكذبة الأولى. أيعقل أن هناك جهة ما في الأرض يمكن أن تكون مستفيدة من موت الرسم؟
يمكننا أن نتخيل ذلك.
لقد تمت إعادة تسويق الذات البشرية. اصبح الوعي بطريقة أو بأخرى تحت السيطرة. لمَ لا يكون الشكل هو الآخر تحت السيطرة؟ بالنسبة الى دعاة العولمة فإن الشكل هو الآخر ينبغي ازاحته عن جذوره. ولأن الرسم يرعى الأشكال فقد انصبّ عليه اهتمامهم. كانوا أذكياء حين لم يطلبوا سوى تحييده. فكرة هي أشبه بتحييد الأمل. كانت رسوم هارنغ سوقية، غير أنها وبالضبط حين تبنّتها المتاحف بعد موت رسّامها صارت أشبه بالنبوءة.
الرسّام يبدّل مهنته.
ملحق النهار
2012-03-17