درس أسعد عرابي ناقدا و رساما

فاروق يوسف
(العراق/السويد)

1

أسعد عرابي يكفي أن تقرأ مقطعا مما يكتب أسعد عرابي في الصحافة اليومية حتى تكتشف أن الرجل مسكون بروح المعلم. فهو يدرك أن مهمة الناقد الفني في مجتمع أمي بصريا مثل المجتمع العربي إنما هي مزيج من التذوق الجمالي والتوضيح المعرفي. لذلك تغص مقالاته بالإشارات التاريخية، التي لا تهدف إلى الأرشفة المحايدة بل إلى استحضار المراحل التي اجتازها الفن ليكون كما هو عليه اليوم. يصل عرابي بنا إلى النتائج الغامضة التي انتهي اليها فن اليوم بعد مشقة وجهد تخفيهما براعته في السرد الممتع. ومن المؤكد أن درايته الشاسعة بتحولات الفن العالمي تسبب لحرفته رساما نوعا من القلق الخلاق، وهو قلق لا يخلو من الخلخلة، وهو ما يبدي عرابي إزاءه موقفا حذرا بالرغم من ايجابيته. فابن المدرسة السورية (لبناني الولادة والانتماء) لا يزال يقاوم الناقد فيه بروح المنقب في أسباب أصالته الشخصية. وفي كل الأحوال فان ما يقوله عرابي عن الفن لا ينفصل عن هدفه الشخصي في تفحص الأعمال الفنية، في صفتها فنا خالصا. ولهذا السبب لم يعلق بتلك النصوص التي يكتبها غبار الأدب كما يحدث معنا جميعا. حين يكتب، يستخرج عرابي عاطفته من نزعة التماهي مع العمل الفني من جهة كونه صنيعا جماليا تكمن مغامرته في قيام عناصر البناء الفني بتنظيم فوضي الروح. وهو القانون الذي يحكم صنيعه الفني الخاص قدر ما يستطيع. ومع ذلك فان ما يكتبه لا يحتكم لذائقته رساما فهو يدرك أن حدود مسؤوليته ناقدا تتخطي عتبة محاولته الشخصية للخلاص عن طريق الرسم. مأزق من هذا النوع لا أظنه يجعل المرء سعيدا. ولهذا تطل الحكمة برأسها من كل سطر يكتبه عرابي، وهي حكمة تضعنا في قلب مختبر فكري واسع، في إمكان قلة من العارفين بأسرار الجمال، يقف في مقدمتهم عرابي نفسه، أن يتحركوا فيه بخفة وحرية. بالنسبة إليه لا شيء في تاريخ الفن قد حدث صدفة وبطريقة مجانية أو نتيجة سلوك عشوائي، ومظاهر الفوضى لا تخدعه. لذلك فانه ينشغل ببنية الأثر الفني أولا ولا يتماهى مع المعاني المتعددة التي يطرحها ذلك الأثر، إنه يبحث في اللوحة عن الرسم وفي التمثال عن النحت. ربما جعله حرصه هذا علي التمييز بين الأثر الفني وبين معاني ذلك الأثر الأكثر قدرة بين نقاد الفن العرب علي التمييز الأخلاقي (جماليا) بين الفن وبين اللافن.

2

لا اعتقد أن درايته الواسعة بأحوال الفن العالمي تقيم في مكان فيما رسومه تقيم في مكان آخر. صحيح أن أسعد عرابي لا يزال مخلصا لجذوره الراسخة في أعماق المدرسة السورية الحديثة، غير أننا لا نجازف حين نقول أنه جر تلك الجذور معه إلي باريس، حيث يقيم منذ ثلاثين سنة. وهو في حركته الذاهبة إلى أمام وفي استنفار استفهامي دائم إنما جلب لتلك المدرسة مصدر اغناء وحيوية أسعفها بهواء نقي مضاف في اللحظات الحرجة. حين تجولت بين رسومه في بينالي الشارقة (حدث ذلك لمناسبة تكريمه عام 1999) أعادتني تلك الرسوم إلي الوشائج المشتركة التي تجمع عرابي برفيق دربه فاتح المدرس، غير أن رسومه التي تسني لي أن أشاهدها منتصف هذا العام قد فكت ارتباطها بتلك الوشائج المتينة، أو أنها علي الأقل ذهبت بها إلي الحافات النزقة من وهمها. لقد رأيت عرابي آخر هذه المرة. في رسومه استعادات تعبيرية لما أنجزه فنانو جماعة (كوبرا) غير أنها استعادات تسعي إلى التفوق علي ما قدمه أولئك الفاتحون عن طريق حلول تقنية ومن ثم جمالية جديدة. لم تعد توازنات المشهد (الدمشقي) لتشغله وتعيق نظره، بل حل محلها نداء وحشي فالت يجعل قلقه سطح اللوحة طريا باستمرار، كما لو أن الرسام انتهي منه لتوه. يرسم عرابي كائنات مستلهمة من شعوره بالعزلة، وهي كائنات تجد مصدرها في الفكر الأسطوري لبلاد ما بين النهرين. كائنات تركيبية تشبهنا إلي حد كبير، وضائعة مثلنا، لكن بشعور متأنق بالكبرياء، شبيه بشعورنا المرتبك أيضا.

3

هنالك معادلة لا تجيد الإمساك بطرفيها إلا أقلية شقية: أن تكون ناقدا ومبدعا في الوقت نفسه. وفي المسافة بين هذين الطرفين لجأ الكثيرون إلي المكان الذي يجعلهم أوفر حظا من السعادة والراحة. عرابي اختار الشقاء إلى الأبد، كما يبدو. ولكن هل من الضروري أن يستلهم الرسام أحلام الناقد الذي يرقد معه علي نفس السرير؟ في رسومه الأخيرة التي اطلعت عليها في مرسمه الباريسي شعرت أن الرسام لدي عرابي يتلصص أحيانا علي الناقد. لا يخفي عرابي إعجابه ناقدا برسامين بعينهم، سيزان يقف في المقدمة، بونار وكارل أبل وآخرون تهدينا إليهم مقالاته النقدية وكتبه في النقد الفني. وهو لذلك يجد أن من حقه رساما أن يستفيد من تجارب الفنانين الذين استوعب دروسهم الجمالية نقديا. وكما أرى فان عرابي حين يرسم إنما يرفع كأسه تحية لكل الأرواح النقية التي تنعم وحده بالإنصات إلى حفيف مشيتها. ويمكنني أن أفهم لماذا يردد عرابي وهو في هذه الحالة مقولة ماتيس: حتى نقتنص جوهر التصوير علينا قص لساننا. حين التقيته في باريس حاولت أن أقبض علي الرسام في غياب الناقد، لكن عرابي في لحظات ضعفه كان قويا، إذ انه وهو يعرض رسومه لم يخف قدرته علي نقدها، في صفتها انجازا لآخر. هل يعني هذا فشل لقائنا الباريسي، حيث كان تكرارا للقائاتنا السابقة في مؤتمرات كان عرابي يحضرها ناقدا؟ ما لم يكن عرابي راغبا فيه حدث فعلا. لقد أسعدني أن أرى في عينيه وهو يعرض لوحاته الكثير من الاستفهام، كان استفهاما لم تستطع قدرته علي أن يتماسك نقديا علي إخفائه. كان عرابي بحكم خبرته النقدية يعرف أن عريه الروحي أمامي واقعة لا يمكن تجنبها. لذلك كان في كل التفاتة منه فنانا حقيقيا يبحث عن خشبة الخلاص، كلمة تعبر عن ثقة يحتاجها الفنان في اللحظات العصيبة. لقد هالني فعلا أن يبتكر الناقد الكبير لحظة تواضع مثالية تهبني القدرة علي الحكم علي ما أنجزه رسام صامت لا تفصلني عنه إلا خطوات.

القدس العربي
2006/08/29

أقرأ أيضاً: