فاروق يوسف

فاروق يوسف لعل زيارة مشغل الكرافيك الذي أنشأه الرسام البحريني عبدالجبار الغضبان (ومعه رفيق دربه عباس يوسف) تعد طقساً ضرورياً لا بد من المرور به من أجل أن تكتمل الرحلة الى البحرين. فالغضبان الذي عُرف بصفته المهنية معلماً حاذقاً لفن الحفر الطباعي كان قد نجح في أن يهب ذلك المكان الصغير صورة الفخ الجمالي الذي يشعر المرء حين الدخول إليه بأنه يجتاز دروب متاهة مترامية الأطراف. وكما يبدو لي فإن فكرة النسخة الأصلية بما تنطوي عليه من تناقض واضح بين فكرتي الأصل والنسخ هي في حد ذاتها واحدة من مفردات تلك المتاهة. لقد تماهى الرسام البحريني مع ذلك المبدأ الكرافيكي في علاقته بنسائه، اللواتي صرن مع الوقت علامته المميزة في الرسم. كل واحدة منهن نسخة أصلية وإن أتخذ ظهور بعضهن ملمحاً أيقونياً غير مقصود.

هذه المرة كانت ماكنة الطباعة صامتة. حين عرض الغضبان أمامي رسومه التي انجزها في الأشهر القليلة الماضية من أجل معرضه المقبل (في قاعة الرواق) تأكدت من أن تلك الماكنة لم تطلق صوتاً منذ زمن طويل. صار الرسام يتسلى في استحضار نسخ بشرية من أصل مجهول. أصل لا يعدنا بالظهور خالصاً، ذلك لانه انتهى إلى أن يكون أجزاء متناثرة تلقفتها أجساد متعددة. لا يتكرر وجه بعينه، وترى الساق مرة واحدة. تمر الاصابع على رقبة مشرئبة لتنساها حين تنتقل إلى ركبتين تذكران بالأمومة في أقصى لحظات حنانها. من هناك تهبط إلى القدمين عبر ساقين هما الأكثر تهييجاً لحساسية الألوان. الملهمات لا يتشابهن غير أن الوعاء الذي يقبض على شذراتهن يكاد يكون واحداً.

«هذه لم تكتمل بعد» قلت له في محاولة لاستفزازه، فالرسام لا يعرض على الآخرين سوى أعمال مكتملة. اقترحت عليه أن يعود إليها. قلت له: «ينقصها شيء من بهجة ألوانك. الفتنة التي تذكر بك» نظر إلي بيأس كما لو أن الملهمة خانته بغيابها. في رسوم الغضبان لا يخطئ المرء الطريق إلى رؤية فرصة لقاء مضــــاع. لا يخفي الرسام علينا أنه لا يهب موديله إلا دقائق قليلة مــــن التأمل، بعدها يبدأ العذاب. محاولة الرسام في الصعود إلى الأصل والارتقاء بالنسخة إلى المستوى الذي يجعل منها مرآة. هنا بالضبط يكون على الخيال أن يسعى إلى الشبه. عملية مقلوبة تعيد إلى الواقع كرامته من خلال استعادته خياليا. يقول لي: «جربت أن أكون رساماً واقعياً» فكرته عن الواقع لا تمت إلى الواقع المرئي بصلة. الرسام هنا يود أن يكون موجوداً، وأن يتأكد من وجوده من خلال رسومه. واقعـــيــــة تفيض مكراً. ولأن الرسام متأكد من أن الواقع لن يكون ضحية في كل الأحوال فانه يختاره حقلاً لتجاربه الخيالية.

فلو قلنا ان عبدالجبار الغضبان لا يرسم إلا نساء، يكون تعبيرنا غير دقيق وناقصاً. لقد صار الرسم والمرأة بالنسبة لهذا الرسام ومنذ زمن طويل شيئاً واحداً وهما يقودان إلى منطقة توقع وخيال واحدة. لا تخلو لوحة منه من إمرأة ما، إمرأة مجهولة، غير أن تلك المرأة لا بد أن تشير إلى واقعة هي بمثابة سبب لوجودها. هذه العلاقة هي ما صار الرسام يتشبث من خلالها بالواقعية. وهي واقعية مرتجلة. يمكنها أن تكون تعبيراً عن أية وجهة نظر يكون الواقع موضوعها من غير أن تخضع لقوانين ذلك الواقع.

كان الغضبان دائماً رساماً لذائذياً. يسحره وقع خطى الفاتنة التي اختفت وتركت الهواء معبئا بعطرها. أنوثة كامنة تتجسد بعبقريتها من خلال فيض من الحكايات. هناك حكايات كثيرة يختزلها الهام الرسام كما لو أنه يقدم لنا خلاصات الزهور. هذا رسام يقدس مقتنياته الخيالية. لقد فتح أمامهن أبواب الواقع، بل صار هو من أجلهن رهينة ذلك الواقع. لذلك لا يسعه سوى أن يكون في خدمتهن في كل لحظة.

«الجمال باق يا عزيزي» يقول لي وهو يقصد ما لم يصل إليه. لا يرغب في الوصف. رسومه هي الأخرى لا تصف. علينا أن نتخيل أحوالنا. كل امرأة يرسمها الغضبان هي مفترق طريق. لن يكلمها الرسام. سيكون الحوار صامتاً. المرأة التي تستسلم لنزعته التعبيرية ستظل صامتة. فهي تعرف انها قد تحولت إلى فكرة. غير أنها لن تكون فكرة طارئة. الغضبان لا يمل من مقتنياته الجمالية بسرعة. لا يستهلكها مثل علكة بل يتذوقها مثل حلوى. غذاء آخرته وهو يعرف أن الطريق لا تزال طويلة.

«إذاً لن تكملها» قلت مستفزاً. نظر إلي كما لو أنه لم يرني من قبل وقال: «ما الذي تنتظره منها. لقد ذهبت إلى الماضي». امرأته لن تكون موجودة بعد هذا الحوار. هو ذا الرسام يظهر قويا وهو يودع واحدة من نسائه. في لحظة ما أحبها، غير أنه الآن يودعها من غير أية علامة إشفاق تبدو على وجهه. يُظهر الرسام قوة تجعله يتفوق على رسومه وهو ما لا أصدقه. على الأقل بالنسبة لهذا الرسام. نساء الغضبان هن خليلاته في حياة لم يعشها في الواقع. هن اللواتي وهبن حياته الواقعية معنى مغايراً. هو الذي جلبهن من مواقع خفية من خياله صار ينظر إليهن بحسد. المترفات كما لو أنهن لم يعشن لحظة شقاء واحدة، يستدرجن خالقهن إلى لحظة خفاء مصيري: لمَ لا تترك مكانك لتكون معنا كائناً خيالياً مثلما أنت في طبيعتك. حينها يلتفت عبدالجبار مرتبكاً خشية أن يكون أمره قد افتضح. هذا الرسام هو صنيعة نسائه المتخيلات.

الحياة- الإثنين
07 مارس 2011

أقرأ أيضاً: