فاروق يوسف
(العراق/السويد)

فاروق يوسفسأكون قليلا بعد أن انقطعت أوتار القيثارة. سومر تبكي. بعين يابانية كان فنسنت ينظر. هل كان الرسام الهولندي يبكي؟ اهل الناصرية أحياء ولم ير المسنون منهم شبح رجل ذاهب لالتقاط زهرة عباد الشمس. ‘شمس قمر’ كان اسمها في النهار الذي تلفت إلى صدر المرأة التي تود لو كانت طائرا مائيا.
المرأة التي تشاركني حيرتي. سأناديك من خلال ثقوب القارب. أنت هنا. هل صرت أنا هناك؟ في الفردوس تأخذ الخرافة هيأة شجرة مذنبة. تذكرت أني قد أخفيت حبة دوائي في فم الأفعى. أتراها تتذكرني لو عدت إليها باعتباري جملة ناقصة؟ لذلك كنت قليلا، مع العشب في قطرة مطر وهمية، في الصباح مع لمعة شمس لا تُرى إلا باعتبارها أثرا من نهار مضى. أعدُ السعادة بأن أركب حصانها الوحشي، الشاة بأن أتنفس ثغاءها المتألم. هذا فجر فضي لم يمر على الأرض من قبل. كانت الضفادع نائمة وأنا أضعت مفتاح بيتي. لدي ما أقوله للصوص. ألا يمكن أن تكون الخارطة التي رسمتها بيدي مربكة؟ سأخسر دفء محبة اللصوص من أجل أن أربح البرد الذي تركته في بيتي. تضحك السلحفاة. لك عنق زرافة. الخيانة في الحنجرة وليس على اليد سوى أن تسلم الرسالة. كان المفتاح رسالتي. في الهور، تحت الماء الصامت هناك أصابعي تلمس زعنفة شاردة. ‘لقد دخنت الاف السجائر من أجل لاشيء’ أقول لها. المنسية مثل رماد الموقد تبوح لي بسرها ‘افتح يديك من أجل أن تكون حرا. روحك لن تكون آمنة إلا بعد أن تمنع أصابعك من اللعب بالأثر. هناك بلاد صامتة. ألا تصدق أنك نائم على الطريق؟’ كانت هناك فتاة جالسة على المصطبة تنتظر. قلت لنفسي ‘هي ذي المرأة الموعودة’ جلست إلى جوارها وكلمتها. لم تكن سوى فتاة ضائعة تنتظر عشيقا لن يأتي قبل القطار الذي سيأخذها إلى بيت عائلتها. قالت لي بمرارة ‘سأكون هناك مرة أخرى. تصور شقائي’. ساكون شقيا بغرامك.

‘هل أضعت ساعتك؟’
‘في قلبي ساعة الله’

يضحك مني الله. مني تنبعث السعادة. المرأة الوحيدة التي تنتظر عشيقا لن يأتي كانت سعيدة بسببي. حين يصل القطار اعتذر منها لأن عشيقها لم يصل. كان رجلا سيئا. قلت لها ‘لم أكن في الماضي إلا رجلا سيئا مثل صديقك تماما’ صارت تضحك وهي تضع قدمها في القطار. حقيبتها سبقتها. تراجعت وأنا ألوح لها. فجأة قفزت من القطار وأحتضنتني. صارت تقبلني وهي تصرخ ‘لم تكن سيئا مثله. سأتذكرك’ كنت مستسلما مثل تمثال. حين انسحبت في طريقها الى القطار، تذكرت أني لم أقبلها. صرخت بحروف لم أكن اتوقع أنها ستشكل كلمة. التفت إلي فاتجهت إليها مسرعا واحتضنتها وقبلتها وأنا أصرخ ‘أنت عائلتي’. ارتبكت الفتاة. كانت قبل تلك اللحظة فتاة منسية. قلت لها ‘أثرك لا يُنسى’ صارت تضحك وتربت بيدها على رأسي. انسحبت بهدوء وهي تبعث لي بقبلاتها. تحرك القطار. كانت تلك الفتاة تنظر إلي من خلال النافذة بإشفاق. المجنون الذي شق طريقه إلى عطر الوردة وصار يوزعه بين الدراويش الذين لحقوا به. ‘لديك يدي التي قبلتها. أصابعها لا تزال طرية. وزع تلك الأصابع بين المريدين’ من أين تنبعث موسيقى الباروك إذن؟ كان كارايان يقود الفرقة السمفونية في فيينا. لم اكن باروكيا يومها. بعد ثلاثين سنة صرت كذلك.
‘لقد تبعتني الى الحانة إذن’ يقول كارايان.

لم أخبره بأنني قد فوجئت بوجوده هنا. نظرت إلى الأرض باعتذار التلميذ. أومأ لي برضا وصار يحدثني عن الخيط الرفيع الذي يفصل بين عصا المايسترو والجملة الموسيقية التي تأتي من مكان مجهول. أحيانا تسقط النغمة على الأرض. لن يجرؤ أحد على التقاطها. حين رأيتها وقد كانت محاطة بالمدعوين قلت له ‘سأعود إليك’ مشيت بين الزحام وعيني لا تفارقها. الفتاة السومرية هناك. عيناها كرزتان تلمعان ويدها تمسك بشالها المرمي على كتف وردي. صنع أجدادها من عمائمهم السوداء فستان سهرتها. يهمس فنسنت في أذني ‘لو أني رأيتها قبلك لكنت قد رسمت موناليزا يابانية’ لن أقول له ‘الهند أقرب من اليابان’ كان نعاسها هنديا. تصفر طيور الماء حين تمر من فوقها من غير أن يوقظها ذلك الصفير. كنت أمشي بقدمي أوزة عراقية، محمولا بصيحات المحتفلين. أكانوا يحتفلون بها أم بكارايان؟ التفت إلى حيث تركت معلم الموسيقى النمساوي فلا أراه. فجأة أرى يده وهي تؤمىء لي بفرح. في معبده يمتزج الكهنة بالمصلين ويغرق القداس بمياه الأناشيد الرعوية. النساء من حوله يصنعن حقلا شاسعا من التأوهات. يحب كارايان النساء مثلما تحبه الموسيقى. أتقدم بطيئا إلى هدفي. الفتاة السومرية، ابنة الكاهن الذي عرف الماء بزرقته، تبتسم لي. أنا نهارها المنسي بين قصبتين. حين امتد ذراعاها إلي أدركت أن الأرض التي كانت تحت قدمي لم تكن إلا مرجا وأن الحفلة كلها قد أقامتها العصافير من أجل أن تشهد لقاءنا. اختفى كاريان ونساؤه. اختفت قبيلة الرجال التي كانت تحيط ب(تسواهن) وبرزت وحدها، باعتبارها الكلمة التي تمس شفتي بعطرها. كنت أجلس في حقل الذرة وحيدا، باعتباري فنسنت، فيما الغربان تحلق عاليا.
كادت اللوحة أن تكتمل لولا أن النهار كان قصيرا.

أرسم من الفؤاد الذي كان فارغا. أقودك إلى منفاي. كسرة الخبز اليابسة لا تزال على المنضدة. هناك مرآة وحيدة تضحك. أمر من خلالها لأتأكد من أنني لا أزال موجودا. ألا يكفي أني قد تذكرتك؟ يوم تحل القيامة ينسى المرء أبويه وصاحبته وبنيه. تضحك. لا نزال أحياء. مَن يقول؟ المزحة تتسلق الجبل بقدمي كردي عجوز. سيكون عزيزا علي أن أفارق اللحظة التي اخترعت فيها تلك المرأة. أتشبث بالعشب الذي مشت عليه. سأكون طريقك. أشبك غصنا بغصن لأرى شعرك منسدلا على البحيرة. تلك الأسماك تعرفك. ترقص على وقع خطواتك. ‘صرت رومانسيا أكثر مما يجب’ تنظر إلي فاحصة النظر بعينين قلقتين. تسألني ‘هل ترى الحروف واضحة؟’ أجيبها ‘بعضها’. هل يحتاج المرء إلى رؤية الحروف ليقرأ؟ لم أسألها. كان هناك ضباب في الأسفل. أنصت إلى دعاء الأفعى. اعيديه. مرة يطير النغم بفرشاتي ومرة أخرى يهبط بسلة فواكهي إلى البئر. لن أتأخر إلا قليلا. كنت قد ذهبت إلى حافظ القاضي لأحجز تذكرة ذهاب إلى الاردن. تخيلت وادي رم. استلقيت. كانت المرأة اليمنية قد نامت. كنت حارسا، تشتعل النار بين ثنيات جسده. حين تشرق الشمس لن يجدوا مني شيئا. نامت مثل حمامة. مطمئنة بين سطرين من القداس. ‘بترا لا تزال بعيدة. وأنا أحلم’ قالت ومضت إلى الغياب.
خرجت من الخيمة إلى الليل.

سأرسم شرقا نائما. ربما تكون المرأة اليمنية النائمة واحدة من اختراعاتي. يعني الشرق حضارة مدثرة بالعاطفة. تلك المرأة التي لا يوحي سلوكها بالجنس هي واحدة من آلهات الحب. حين عدت مع الفجر إلى الخيمة كانت المرأة اليمنية قد استيقظت. مسحت عينيها بيدها وقالت مبتسمة ‘هل عدتَ من الحرب؟’ واحتضنتني. سقطنا على الأرض مثل جملتين موسيقيتين نستهما عصا المايسترو. ‘لن يلتقطنا أحد’ قلت لها فقالت ‘ولا الشيطان’.

القدس العربي- May 17, 2013

أقرأ أيضاً: