ذهبت إلى (ابو ظبي) مدعوا من قبل مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، التي أسستها السيدة هدى الخميس كانو قبل سنوات، لتقيم من خلالها سنويا مهرجان أبو ظبي للثقافة والفنون.
كان محمد غني حكمت (1929 ــ 2011) النحات العراقي هو موضوع الندوة الاستذكارية التي شاركني فيها حازم الدلي وادارتها الاعلامية ليلى الشيخلي. ومثل أية ندوة استذكارية فقد اختلط التوجه النقدي بالحديث الاجتماعي، وهو أمر محير ومربك من شأن الاسترسال فيه أن يُغلب القيمة الاجتماعية للفنان المحتفى به على القيم الفنية التي انطوت عليها تجربته الفنية. بالنسبة لفنان مثل محمد غني فقد مثلت تلك القيم ركائز لهوية النحت المعاصر في العراق. لذلك حاولت أثناء الندوة أن أزيح ما أمكنني ذلك الالتباس لأنتصر لمحمد غني الفنان والمعلم، مؤجلا الحديث عن صفاته الإنسانية إلى وقت آخر.
وكما أرى فإن ندوة استذكارية من هذا النوع، اضافة إلى أنها تمثل لفتة وفاء لفنان وهب حياته كلها لفنه، فكان نموذجا مثاليا للفنان المحترف الذي توزعت شخصيته بين الخالق الملهم والصانع المتقن، فإنها تعيدنا إلى الثوابت الفنية التي صارت تهتز في عالمنا العربي في ظل غلبة سياق الاحتفالات الاستعراضية المؤقتة، التي صارت ادارتها وبالأخص في البلدان الخليجية احتكارا غربيا، حيث صار مديرو تلك الحفلات وخبراؤها ومساعدوهم المتنفذون يتم استيرادهم من الغرب، وإن عصفت رغبة التغيير فمن اليابان (بينالي الشارقة في دورته القادمة على سبيل المثال).
يستحق محمد غني حكمت أن يختفى به، لانه كان ظاهرة استثنائية في تاريخ فن النحت المعاصر في الوطن العربي. فبسبب غزارة نتاجه الفني صار علينا أن نستدرك ونقول ان هذا الفنان كان يعيش حياته مثلما يفعل الناس العاديون. كان يأكل ويشرب ويلتقي اصدقاءه ويسهر ويحب ويتنزه ويسافر وقد يطبخ طعامه بنفسه. ومثلما قلت في الندوة فقد كان حكمت ينتمي إلى القلة السعيدة من الفنانين، حين استطاع أن ينجز كل ما حلم فيه، ويرى منحوتاته تملأ شوارع وساحات بغداد، المدينة التي عشقها، وتنشق رائحة هوائها السري بين صفحات كتاب لياليها. كانت شهرزاد ملهمته الأولى، فلم يقتصر تأثير حكاياتها على السرد، بل وأيضا على تقنية الكتابة، حيث استل النحات ذلك النغم الخفي الذي يفتح الأبواب بين الحكاية والحكاية التي تليها، مستعينا بهذيان الزخرفة العربية. وهو ما نراه جليا على سطوح منحوتاته التي بدت تجريدية، بالرغم من انها لا تخفي ميلها التشخيصي.
وإذا ما كان الحاضرون في الندوة قد أبدوا رغبة في تسييس سلوك الفنان وتاريخه، سلبا وايجابا، من خلال تأويل منحوتاته سياسيا، وهي محاولة حاولت جاهدا أن أبين ما أخترقتها من أخطاء نتيجة الرغبة في اضفاء صفات تكريمية على فنان، لم يكن هو كما عرفته يحبذ أن يكون ممن يتسمون بها. فمحمد غني لم يكن يعنى بالشأن السياسي، في مساحته الضيقة (الحزبية مثلا). كان فكره السياسي إنسانيا عاما، بما يسمح للجمال بالتغلغل في مختلف الاوساط الاجتماعية، بدءا من الانصاب التي هي ملك بصري لعامة الناس وانتهاء بأبواب البيوت ومطارقها واسيجة الحدائق، التي هي في الجزء الحميمي منها ملك للأثرياء. اما بالنسبة للعلاقة بنظام الحكم، فلم يكن حكمت مصدرا لأي نوع من أنواع سوء الفهم. كان الرجل في حقيقته عاشق مدينة ذهبية متخيلة يتمنى الجميع الانتساب إليها والمشي في شوارعها. كان مناضلا لا يتخطى فكره النضالي عتبة الفن.
كما قلت كان محمد غني شهرزادي النزعة. بالنسبة له كانت تلك الصفة قد قررت المستوى الذي تصل به علاقته ببلده العراق وبمدينته بغداد، وبالأخص على المستوى الاسلوبي، حيث تكاد تأثيرات النحتين السومري والآشوري أن تكون شبه غائبة في تجربته. كان الرجل عباسيا، ولو قيض للعصر العباسي أن يكتشف النحت لكان محمد غني هو النحات الاكثر تمثيلا لروح ذلك العصر. حتى وهو يستعير عباءة بلزاك ليلبسها للمتنبي وهي العباءة التي استعارها رودان من العباءة العربية، فقد كان محمد غني قريبا من روح العبارة التي استلهمها المتنبي من طبيعة عصره المتغير (على قلق كأن الريح تحتي). كان محمد غني عراقيا، بالمعنى الذي يستجيب لعروبة ذلك المفهوم. ولا ينفع أن تجابه خرافة الفنان، التي هي جزء أساسي من خزانته الخيالية، بخرافة متخيلة هي الأخرى، تهدف إلى الاعلاء من شأن هوية عراقية لم يكن الفنان نفسه في صدد التفكير بعزلتها.
بعد الموت صار ذلك الفنان ملك التاريخ وعلينا أن لا نخطىء الذهاب إليه عبر طرق تخترعها أفكارنا، فقد لا تؤدي تلك الطرق إليه. لنعترف أن محمد غني خلق كل معجزاته الصغيرة في ظل مختلف الانظمة السياسية في العراق، ولكن ما أنجزه في ظل حكم حزب البعث الذي استمر خمسا وثلاثين سنة كان الاهم. ومع ذلك لم يكن الرجل بعثيا أو محسوبا على السلطة. أفي ذلك نوع من التناقض؟ أبداً. لم يقمعه البعثيون، لأنه كان يحلم ببغداد، عاصمة الكون التي تضم الجميع. ألم تزين منحوتاته كنيسة في بغداد؟ ربما كان محمد غني نموذجا مترفعا للفنان غير السياسي، غير أن علاقته ببغداد كانت تجسيدا لصيرورة سياسية ــ تاريخية عنوانها التسامح والتراضي الذي يضع الاديان والطوائف والاعراق تحت عبارة واحدة: العراق الوحيد وما من عراق آخر. كان محمد غني عراقيا بعمق تأثره بالفكر والمصير العروبي، الذي تصوره اختراعا عراقيا، بسبب شغفه بألف ليلة وليلة.
كنت أثناء الندوة أفكر في محمد غني نفسه. ألم يكن سعيدا ونحن نتكلم عنه بسعادة؟
2012-06-29